الفصل التاسع

في واحة جالو

جالو واحة من أهم واحات برقة، وهي على مسافة ٢٤٠ كيلومترًا من أقرب نقطة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط وراء جدابيا، وعلى مسافة ٦٠٠ كيلومتر من الكفرة الواقعة في الجنوب مباشرة، وهي الواحة التي تُخرج أكبر كمية من البلح في جميع تلك الجهات، وفوق هذا فإنها المنفذ الذي تصدر عن طريقه حاصلات واداي ودارفور بعد مرورها بالكفرة.

ويمر بجالو كل ما يُرسل من الجهات الأخرى إلى الكفرة ولقد نعتها السيد البشاري، وهو من كبار شيوخ قبيلة المجابرة فقال: إن الصحراء بحر وجالو ثغر ذلك البحر.

وقد كانت هذه المدينة في أوج عزها منذ نحو ثلاثين عامًا أيام كان المهدي متخذًا الكفرة قصبة للطائفة السنوسية، فكان يرتادها كل أسبوع قوافل مؤلفة من مائتين إلى ثلاثمائة جمل تسير بينها وبين جهات الجنوب، ولكن هذه الحركة كانت قد نزلت إلى العُشر أيام زرتها، غير أنها تزداد ثانية في الصيف أيام موسم البلح، وجالو مؤلفة من قريتين تفصلهما مسافة ميل وهما «العرق» و«اللبه»، وتتناثر أجمات النخيل بين هاتين القريتين وحولهما، ولا يقل عدد نخيل هذه الناحية عن مائة ألف نخلة.

وتقع «أوجلة» على مسافة اثني عشر ميلًا من غرب جالو، وهي الواحة القديمة التي قال عنها هيرودوت: إنها شهيرة ببلحها.

وفي «أوجلة» هذه قبر عبد الله الصحابي الذي اشتُهر بأنه كان كاتب النبي عليه السلام، وهذه القصة مشكوك في صحتها، على أن النبي قد اتخذ كاتبًا اسمه عبد الله الصحابي، وأن هذا الصحابي هبط شمال أفريقيا، وأن هنالك قبرًا لرجل بهذا الاسم في «أوجلة»، وكم من أخبار صحت في الأذهان على أساس أوهى من هذه الشواهد.

ويرون أن السنوسي الكبير وجد جثة سيدي عبد الله الصحابي مدفونة في ناحية بعيد، ورأى في بعض أحلامه روح ذلك الجسد النائي تقول له: «أخرجْ جسدي من مقره وضعه على جمل، وحيثما وقف بي الجمل ابْنِ لي ضريحًا.» وأطاع السنوسي الكبير الأمر وسافر بالجثة حتى وصل أوجلة، وعندها وقف الجمل بغتة، وأبى أن يتقدم في سيره، فأُقِيم ضريح محل وقوف البعير.

ويعتقد الناس أن لمؤسس الطائفة السنوسية، وأعضاء الأسرة السنوسية، وكبار الإخوان، قوة خفية ومعرفة بالغيب، وكان للسيد المهدي قُوًى خفية غريبة يسميها البدو كرامات، وقد أخبرني أحد الإخوان في جغبوب بقصة عنه قال:

جاء المهديَّ أعرابيٌّ جاهل يريد طلب العلم عليه في جغبوب، ولم يكد يفاتح المهدي في أمره حتى تذكر أن موسم البذر قد حلَّ، وأن ليس له مَنْ يتعهد أرضه في غيابه، فرأى الصلاح في السفر إلى بلده، حتى ينتهي من موسم الحصاد، ثم يعود لطلب العلم، وقصد السيد المهدي ليودعه قبل سفره، فدخل غرفته، وأخذ مجلسه، وانتظر حتى يبدأ المهدي الحديث، كما جرت العادة، وتغافل المهدي عنه لحظات، فغلب البدوي النعاس، وأغفى قليلًا ثم استيقظ على صوت المهدي الخافت بقوله له: «الآن هدأ بالك وقرَّت نفسك؛ لأنك تعلم أن الأمور هُيِّئَت لك على ما يرضيك.» وقد هدأ بال البدوي حقًّا؛ لأنه رأى في تلك الغفوة القصيرة حلمًا تمثل له فيه أخوه يحرث الأرض، ويبذر حب الشعير، واستطرد المهدي في حديثه فقال: «انزل علينا ضيفًا وتوفر على الدرس، وأسأل الله أن يهديك سواء السبيل، ولا تخَفْ شيئًا، فقد رأيت كيف سارت أمورك على ما تحب، وأن الله رحيم يلحظنا جميعًا بعين عنايته.» فأقام الرجل بجغبوب ولم يعد إلى بلده إلا أيام الحصاد، وعاد بعد ذلك إلى جغبوب، فأخبر أحد الإخوان تحقيق رؤياه في دار المهدي حين رأى أخاه يبذر الحب في أرضه، وزاد على هذا، أن قطعة الأرض التي رآها تُبذَر في رؤياه، كان يجري فيها العمل في نفس الوقت الذي شاهد فيه الرؤيا.

وأخبرني حاكم جالو بقصة أخرى قال: «كنت مسافرًا مع جماعة من الرفقاء من بنغازي إلى جغبوب لزيارة السيد المهدي، فأخطأنا موضع بئر في الطريق، وشعرنا بضيق شديد لقلة الماء، وأمسى المساء، فالتفت إليَّ أقل رجال القافلة رغبة في زيارة المهدي وقال: «أما وقد أحضرتنا لزيارة ذلك الرجل التقي ذي الكرامات؛ فهلا سألته أن يرسل إلينا ما يبل أوامنا، إن كان من التقوى والصلاح بحيث تقول.» وحدث في تلك الليلة بجغبوب أن السيد المهدي استيقظ من نومه، ونادى عبدين من عبيده وأمرهما أن يقوما في الحال، فيحملا الزاد والماء على خمسة جمال، وأن ينطلقا إلى الصحراء ويأخذا السبيل التي أشار إليها، فلا يقفان حتى يلتقيا بقافلة في الطريق، فمضيا سبيلهما بقافلتنا وقد أشرف رجالها على الهلاك.»

ولا يزال بين رجال الطائفة إخوان قدماء يخشاهم أعضاء الأسرة السنوسية أنفسهم، خوفًا من تأثير قواهم الخفية، ومن بين هؤلاء رجل يعيش في الكفرة، وكان في ماضي أيامه إخوانيًّا في زاوية ببرقة، فأحضر أحد البدو غنمه تستقي من البئر القريبة من الزاوية، فشرد بعضها وأكل الشعير الناجم في قطعة الأرض المجاورة للزاوية، وأنذر الإخواني ذلك الأعرابي أن يقف غنمه عن إتلاف الزرع، فأظهر الطاعة والسهر على قطيعه، ولكنه كان ناويًا في نفسه أن يطلق غنمه على الزرع فتأتي عليه؛ ولذلك أطلقها في غفلة من الإخواني، وخرج هذا من الزاوية فرأى الغنم تفتك بشجيرات الشعير، فصبَّ عليها اللعنة قائلًا: «أهلك اللهُ الغنم التي تأكل زرع الزاوية.» ويقول رواة هذه القصة: إنه لم تخرج شاة واحدة وهي حية من مزرعة الزاوية.

ولا يزال البدو إلى هذه الأيام، يخشون أسرة السنوسيين لا لسلطتهم الزمنية، وإنما للقوة الروحية التي يعتقدون وجودها فيهم؛ فإن السنوسي إذا صبَّ لعنته على أحد، ظل طول عمره خائفًا متوقعًا أن يصيبه مكروه، وقد يتحاشاه إخوانه، بل وأهله، حتى لا ينالهم أذى مما يصيبه.

ومن المسائل المشهورة في هذا الشأن، مسألة رئيس كتبة السيد المهدي الذي يعيش الآن في الكفرة نصف مشلول، وقد زرته فرأيته سعيدًا راضيًا، رغم عجزه عن تحريك جسمه، ثم رأيته مرة أخرى فأنس إليَّ وسألني، وهو يتردد بين الاعتقاد والشك، إن كان بين أدويتي شيء يقيه من مرضه، وترددت في الإجابة عليه؛ لأني لم أرد أن أقطع أمله، ورأى ذلك في عيني، فلم يترك لي الوقت الكافي للرد عليه وقال: «لقد كتب الله عليَّ ما أنا فيه وكان الذنب ذنبي، أمرني السيد المهدي أن أسافر شمالًا فَلَمْ أَقْوَ على عصيان أمره، ولكني أردت أن أخلص من تلك الرحلة بعد أن وصلت الهوَّارى، فكتبت إليه مدعيًا المرض، وجاء رده بإعفائي من إتمام الرحلة، إن كنت صادقًا فيما ادعيت، وفي اليوم التالي أصابني الشلل وَحُمِلت إلى الكفرة ولا أزال بها إلى الآن، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة.»

وقد أخبرني حاكم جالو بقصة أخرى حين كنا نتناقش في الكرامات قال: «قامت عاصفة شديدة في أوجلة أسْفَتْ الرمال حتى غطت قبر السيد عبد الله الصحابي، فأحضر العبيد لرفع الرمال المهيلة عن القبر، وبينما كان الفعلة دائبين في عملهم دخل الحاكم الغرفة التي بها المقام، فنشق رائحة بخور قوية، ونادى أحد العبيد، فسأله: هل أطلق أحد بخورًا؟ فأنكر الرجل، ولا يزال زائر هذه الغرفة في هذه الأيام يشم تلك الرائحة الزكية، وإن لم ينطلق أي بخور في نواحيها.»

وجالو مركز قبيلة المجابرة «البدو» شيوخ تجار صحراء ليبيا وبها بعض رجال قبيلة «زوي»، ولكن أكثرية الألِفين الذين يقيمون فيها من المجابرة، ولهؤلاء ميل غريب للتجارة، فإن الرَّجل منهم يفخر بأن أباه مات فوق سرج جمله، كما يفخر ابن الجندي بأن أباه مات في ميدان القتال.

وكانت العلاقات متوترة أيام إقامتي بجالو بين السلطات الإيطالية وبين السيد إدريس، فمنعوا إرسال البضائع من بنغازي وغيرها من ثغور برقة إلى البلاد الداخلية؛ ولذلك ارتفعت أثمان الحاجيات ارتفاعًا سريعًا في مدن الصحراء كجدابيا وغيرها، وسمع تجار المجابرة من أهل جالو بحالة التجارة في جهات الشمال، وكان معهم بضائع كثيرة من مصر، فلم يترددوا في الاستفادة من هذه الفرصة، وغيروا وجهتهم فساروا شمالًا بدلًا من أن ينحدروا جنوبًا وباعوا بضائعهم في جدابيا فربحوا ربحًا وافرًا، ثم عادوا سراعًا إلى مصر والجنوب يطلبون بضائع أخرى وعادوا بها إلى جالو، فقارنوا بين ارتفاع الأثمان في جدابيا والكفرة، ثم اختاروا منهما أعمرهما سوقًا لتجارتهم.

وأَعْجَبُ ما في الصحراء سرعة انتقال الأخبار من بلد إلى آخر، مع ما هنالك من بعد الشقة بين تلك البلاد؛ فإن المسافة بين جالو وجدابيا خمسة أيام، وبين جالو والكفرة زهاء الخمسة عشر يومًا، ومع أن القوافل تسير بسرعة غير كبيرة، وأحسب أن التعليل الصحيح لهذا، هو أن كل شيء في الصحراء نسبي؛ فالأخبار تسير مع خطو الجمال، وكذلك كل ما عداها.

وإن اشتهر المجابرة بالتفوق على غيرهم في الاشتغال بالتجارة، فإن لقبيلة «زوي» ما يدعو إلى الفخار، والمنافسة بين هاتين القبيلتين كامنة تهيجها الظروف من وقت لآخر.

والزوي محسودون من جميع قبائل برقة؛ لأن منهم علي باشا العابديه، وهو الذي يلي السيد إدريس في المرتبة بين السنوسيين، وعلي باشا هذا جندي ماهر، وكان سندًا قويًّا للسيد إدريس وموضع ثقة عنده.

وقد تناولنا ذات ليلة حديث المنافسة بين زوي وباقي القبائل، وكان ذلك في جالو بعد تناول العشاء، فناقش سيدي صالح وهو من سلالة النبي عليه الصلاة والسلام لا ينتسب لأي قبيلة في برقة — مع رجلي مغيب الزروالي، وهما من قبيلة زوي في شأن تلك المنافسة، وبعد أن سمع منهما الإفراط في مديح قبيلتهما، هز رأسه ثم قال: «قد يكون تاريخ الزوي مجيدًا كما يقول سيدي مغيب، ولكنهم قوم لا يخشون الله.» فانطلق مغيب قائلًا: «والله يا سيدي صالح إنهم يخشون الله ولكنهم لا يخافون الإنسان، والويل لِمَنْ يتعرض لقافلتهم أو يسطو على خيامهم.» ثم التفت إليَّ وقال: «لقد باركنا السيد المهدي؛ إذ هبط علينا في الكفرة قصبتنا ثم اختفى منها.» ولم يقل مات؛ لأن السنوسيين لا يفوهون بكلمة الموت، وإنما يستعملون كلمة اختفى وما ماثلها في التعبير؛ إذ الشائع بينهم أن المهدي لم يمت، وأنه يهيم في نواحي الأرض حتى يعود إلى رجاله أهل الصحراء، وأحب شيوخ السنوسيين إلى الزوي السيد المهدي؛ لأنه نقل مركز حركة الطائفة إلى الكفرة، وبنى فيها قبة المسجد التي هي أجمل مظاهر فخر تلك المدينة.

وقد علمت بعد تجاريب عديدة أن أفراد قبيلة زوي يضمرون العداء للأجانب، فقد وضح لي وأنا المسلم ابن ذلك الرجل التقيِّ العالم بالأزهر الشريف، وموضع ثقة السيد إدريس أنهم لا يرضون إقامتي في الكفرة، وبان لي ذلك جليًّا حين سمعت أن أحدهم تمنى لو أني أفارق الكفرة إلى الأبد بعد مغادرتي لها، على أني بالرغم من معرفتي بهذا النفور، لا أظن أن في استطاعتي أن أجد رجلًا أقدر على قطع الصحراء، وأعلم بطرق السير فيها من أفراد هذه القبيلة التي كَونوا جزءًا من قافلتي، فقد كان الزروالي، وهو مثال الزوي الصحيح، أمتع رفيق لي في السفر وأحق أفراد القافلة باعتمادي وثقتي.

وبدوي برقة يجري في عروقه دم العرب الذين اجتازوا شمال إفريقية في طريقهم إلى الأندلس، وهو بالرغم من اختلاطه برجال القبائل الأخرى، محافظ على كثير من تقاليده العربية القديمة، فجريمة القتل عند السنوسيين تفصل فيها قوانين البدو الخاصة، والعادة أن يتداخل الإخواني في الخصومات ويصلح ذات البين بين المتخاصمين، فيأخذ القاتل وشيخًا من شيوخ قبيلته ويقصد خيام المقتول فينصب خيامه على مقربة منها، ثم يتقدم مع القاتل إلى أفراد أسرة القتيل قائلًا: «معي قاتل رجلكم.» ثم يأخذ بيده ويقول: «هذا قاتل ولدكم، أسلمكم إياه؛ فافعلوا به ما أنتم فاعلون.» فيكون الجواب عادة: «سامحه الله وأنزل عليه عدله ورحمته.» ثم يأخذ الإخواني بعد ذلك في تسوية مقدار الدية، وهي في الغالب: ثلاثة آلاف ريال وعبد يكون معروف الثمن في سوق الرقيق.

ولأقارب القتيل حق الاختيار بين قبض المال أو أخذ قيمته جمالًا وغنمًا وما إليهما من حوائج البدو، فإن آثروا المال قُسِّمَ دفعه على أقساط تجري من سنة إلى ثلاث سنين، واتفق على ذلك وانتهى الأمر، وقد يحدث في أحوال نادرة أو يقع إذا كان طلب الثأر مستحكمًا بين رجال القبيلتين، أن يرفض قبول الدية، ومعنى هذا أن في نية قبيلة القتيل أن تقتل قاتله أو أحد أقاربه أو رأسًا من رءوس قبيلته.

وشبان البدو وعذاراهم مطلقون في الاختلاط بعضهم ببعض، ولا تحجب المرأة إلا في الأسر الكبيرة، ويعرف الشاب موضع أمله في الزواج فيقصد خيامها ويغنيها من شعره، فإن مالت نفسها إليه خرجت وساجلته الغناء من مقولها أو من منقولها، ويقصد الشاب أهلها بعد ذلك ويدفع المهر إن تم الاتفاق، ثم يعود إليها في حفل من أصحابه، ويأخذها إلى داره تحف بهما الفرسان المتخطِّرة، وتدوي فوق رءوسهما طلقات البنادق.

وقد يَفِر الحبيب بحبيبته فينتهي الأمر بين قبيلتيهما بسفك الدماء؛ لأن البدو يعدون الفارَّ بحبيبته سارقًا لها، وعقود الزواج يجريها الإخواني ويتم العقد وفقًا للشرع الإسلامي الشريف، والزواج عند العرب في سن مبكرة تتوقف على نمو البنت، والغالب أن تتزوج البنت في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، ويتزوج الشاب بين السابعة عشرة والعشرين، والقادر من البدو يتزوج اثنتين أو أكثر، ولكن الأولى في هذه الحال تبقى سيدة الدار بيدها أمر تدبيرها، وتُفضل على ضراتها، بما فيهن أقربهن وأَجلُّهن إلى بعلها في كل ما يتعلق بالشئون المنزلية.

وقد سمعت بشبان كثيرين تدلهوا في حب مَنْ لم تصل إليها أيديهم، ورأيت بعيني ضحية من ضحايا الحب، جاءني شاب بدوي يسألني دواءً، وكان نحيلًا منسرح القامة متناسق الأعضاء، فتقدم إليَّ وقال: أريد دواء يهبني الصحة، فسألته ماذا يشكو، فهز رأسه وقال: «الله أعلم.» وكان في هيئته غرابة حيرتني، ولكني خرجت من هذا بإعطائه بعض أقراص مركزة من اللبن، وأمرته أن يتناول منها ثلاثة كل يوم.

وما كاد الشاب يمضي حتى دخل رجل مسن وجلس القرفصاء، ثم قال: «وهبك الله الصحة وجعل الشفاء على يديك، لقد قصدك ابني مستشفيًا وأعطيته الدواء، فهل تدري ما علته، لقد جئتك أشكو عنه بعض ما يحس، إنه يشكو ضعفًا وصداعًا قاسيًا، وإذا جن الليل هجر الناس والتمس الوحدة، وقضى طول ليله خاليًا بالصحراء.» فقلت للشيخ: «لقد أعطيت ابنك ما آمل أن يخفف عنه بعض آلامه.» فأجاب وفي صوته رنة حزن: «الشفاء من عند الله غير أني أعلم الطريق إلى شفائه، ولكن الأقدار كتبت عليه أن لا يبرأ الدهر من دائه، فهو يحب غادة رفض أبواها أن يزوجاها منه.» فقلت له: وَلِمَ لا تسعى في سبيل التوفيق بينهما، وقد عرفت مبعث داء ابنك؟ فأجابني الشيخ: «لقد فات الوقت؛ فإن الفتاة أصبحت زوجًا، وعلم الله أنها تشكو داء ابني على بعد المزار وتنائي الدار.» ثم قام وترك خيمتي ينطق الحزن في عينيه، ويبين الاستسلام في مشيته.

figure
الرمال تغطي النخيل في جالو.

ومن ظريف ما رواه لي أحد الإخوان أنه جاءه فتى وذكر له أنه تدله بحب غانية، كما تدلهت بحبه، ولكن أهلها أبَوْها عليه، وذكر أنه سيعمد وإياها إلى الفرار، وهذا يفتح باب الثأر بين أسرتيهما فأطرق الإخواني قليلًا، وأشار عليه بأن يوعز لحبيبته بالتظاهر بالصرع كل مساء عند غروب الشمس وكان ما أشار به.

وكان هذا الإخواني مشهورًا بين القوم بالدراية في مداواة العلل والأمراض، فجاء أهل الفتاة إليه يطلبون عونه وطبه فعكف يصف لها الوصفات المختلفة، دون أن تبرأ من الصرع بطبيعة الحال، حتى إذا عِيلَ صبرهم قال لهم: لقد ضاقت حيلة الطب بها، ولم يبقَ إلا أن أستمد من حول الله وقوته ما يكون فيه الشفاء، فأعطوني بعض ملابسها أقرأ عليه آيات وأدعية، ثم أتوسدها في رقادي الليلة، وفي الصباح أخبركم بما توصي به الرؤيا، فجاءوه «بعصبتها»، وفي اليوم التالي قال لهم: لقد رأيت حلمًا والله أعلم بما فيه الخير، لقد كُلِّفتُ من الرؤيا أن أطلب منكم أن تعقدوا عقدها على «فلان»، وفي اليوم نفسه سأكتب حجابًا أُلهِمتُ صيغته، فإذا انقضى أسبوع دون أن يصيبها الصرع زوِّجوها منه، وإلا فاحملوه على طلاقها، وهذا سبيل شفائها الوحيد، وإلا بقيت طول عمرها يصيبها الصرع. فأطاع أهلها ما أمرهم به الإخوان وتزوجا.

ولم أستطع في جالو، كما عز عليَّ من قبل في الجغبوب، أن أجد جَمَّالًا في انتظاري، ولكن السبب في الحالين لم يكن واحدًا، ولم تكن حيرتي هذه المرة بحيث ضايقتني كالمرة السالفة، فقد كنت اتفقت على أجر الجَمَّال، وكان صاحبها عمر أبو حليقة، على قدم الاستعداد للمسير عند عودة إبله من مراعيها؛ فإن البدوي العاقل لا يدع جماله تقطع مرحلة بعيدة، من غير أن يشبعها علفًا ناضرًا قبل رحيلها. والمرحلة إلى الكفرة طويلة وخالية من كل مرعى، وتضطر الجمال في قطعها إلى الاكتفاء بالبلح الجاف، والجمَّال يعدُّ البلح الجاف مؤذيًا لكبد جماله فيدعها تأخذ كفايتها من الأعشاب قبل السير.

وكان أبو حليقة قد أرسل إبله إلى مرعى قريب وأمر رعاتها أن يحضروها في اليوم المحدد، ولكن الإبل لم تظهر في الموعد المضروب، وعجبت لذلك في اليوم الأول ثم انشغل بالي في اليوم الثاني، وتملكتني الحيرة في اليوم الثالث خيفة أن تكون الجمال قد أَبِقت من رعاتها، على أن شيئًا من ذلك لم يكن، فقد ظهرت في اليوم الرابع أكمل ما تكون تأهبًا للسير. وكَرَيْتُ خمسة وثلاثين جملًا بأجر باهظ، مع أنه كان في مقدوري أن أشتري الجمل منها بثمن يتراوح بين اثنتي عشر وثمانية عشر جنيهًا، بينما طلب أبو حليقة في الجمل الواحد ثلاثة عشر جنيهًا ونصف جنيه أجرًا عن الشهرين أو الثلاثة الأشهر التي يستغرقها السفر إلى «بشة» في واداي.

وكان تأجير الجمال أوفق لي؛ لأن امتلاكي الإبل يُوقع عليَّ مسئولية سلامتها طول الطريق، ويضطر رجالي إلى الانقطاع لتعهدها مدفوعين بالأمانة والرغبة في نجاح الرحلة، ولكن مرافقة أبي حليقة ورجاله لجماله مهدت سبيل العناية بها، والسهر عليها طول الطريق، فإن أبا حليقة لم يغفل لحظة عن تعهد جماله، فكان يخفف أحمال الضعيف منها أو المريض، وظل مشغولًا بها إلى آخر الرحلة، فلم آبه كثيرًا بما بذلت من مال في سبيل تحقيق رغائبي.

وأعوزتني الرجال كذلك على وجود أولئك الأربعة الذين انقطعوا لخدمتي ورافقوني من القاهرة والسلوم وسيوه؛ وهم: عبد الله، وأحمد، وحمد، وإسماعيل. فضممت إليهم خمسة آخرين وهم: الدليل السنوسي أبو حسن، وسعد الأوجلي، وحمد، وفرج العبد، والسيد محمد الزروالي الذي تفضل السيد إدريس فأمره بمرافقتي إلى الكفرة، وكان مع أبي حليقة ولده وجمَّالان. وزاد على جميع هؤلاء خمسة من قبيلة التبو؛ وهم من العبيد الرحالة «في تيبستي» الواقعة في الشمال الغربي من واداي، وكان عبد الله، والسيد الزروالي، رئيسي القافلة فكان أولهما منوطًا بحراسة الحوائج والمؤن، وثانيهما قائمًا بتعهد الرجال والجمال، والحق أقول: إن هذين الرجلين كانا أصلح رفيقين يصحبهما الإنسان في رحلة صحراوية.

وكنا في حاجة إلى ملابس وبعض أنواع من الأطعمة، وفي عوز شديد إلى أحذية؛ فإن الحذاء البدوي الخالي من الكعب — وهو أصلح الأحذية للسير على الرمال — هو كل ما تصل إليه يد السائح في الصحراء، ولكنه يبلى بسرعة، ويضطر صاحبه إلى رتقه في الطريق، فكان على كل منا أن يجهز الجلود اللازمة لرتق حذائه حتى يصل الكفرة.

ووجدت في جالو صانع أحذية شهير، وهو حميدة الذي كنت لقيته منذ سنتين في الكفرة، فاستدعيته وأعطيته الأحذية التي صنعها لي إذ ذاك، وهي في حاجة ماسة إلى الترقيع، ففرح كثيرًا حين طلبت منه إصلاحها، وكان حميدة رجلًا مهيب الطلعة يصح أن يحسبه رائيه قاضيًا أو عضو مجلس على الأقل، وقد اختلف إلى داري، يعمل في رتق أحذيتي الخمس، وصنع أحذية أخرى لرجالي، وإصلاح سروجنا، وغيرها من الحوائج الجلدية، وكان يسره كثيرًا أن أدعوه للغذاء ثم أقدم له بعد ذلك كوبًا من الشاي، وحدث ذات يوم أن أخذه السعال عند تقديم الشاي إليه، فأظهرت إشفاقي عليه من دائه فنظر إليَّ من وراء كوب الشاي، وقال بصوته الخافت: «إن الشاي الذي تقدمه لي يشفيني من السعال يا سيدي البك، ولا أجد الشفاء في غيره.» ولم تَخْفَ عني هذه الإشارة اللطيفة فأتحفته بقليل منه قبل تركي جالو.

figure
السيد محمد الزروالي الذي رافق الرحَّالة من جالو.

واشتريت ملابس لرجالي وسمنًا وزيتًا وشعيرًا ووقودًا وثماني قِرَب، وأخبرني علي كاجا، وهو عبد السيد إدريس الصفي ووكيله الأمين في جالو، أن سيده أمر بوضع مخازنه تحت تصرفي فشكرته، ولم أمدد يدي إلى شيء، فقد تركتُ مصر مزوَّدًا بكل ما أحتاج إليه وأنا أعرف فوق هذا أن ما لديهم يحتاجون إليه أشد احتياج لتعذر الحصول عليها في الصحراء.

وقضيت في جالو عشرة أيام في إعداد العدة لرحيلي، وفي قبول دعوات مشايخ العرب، وردِّ هذه الدعوات، والانقطاع إلى أشغالي العلمية.

وكانت المآدب التي أُقِيمتْ لي غاية في إظهار كرم البدو، فتناولت عشاء أول يوم في دار السنوسي «قدر بوه» حاكم جالو، وتغذيت في اليوم التالي عند البشاري أكبر تجار المجابرة وأشهرهم، ووقف في خدمتنا مع أبنائه أثناء تناول الطعام كما هي عادة البدو.

وتلقيت الغداء في اليوم الثالث من أعضاء المجلس وشاركني فيه الزروالي وعلي كاجا ومغيب، وجرى لي بعد الغداء حديث مع القاضي عن تاريخ السنوسيين، فأراني خطابات من السنوسي الكبير وابنه المهدي، وجاء العشاء في هذا اليوم من عند الحاج فرحات، وهو من كبار تجار المجابرة أيضًا، وشاركني فيه الحاكم والزروالي وعلي كاجا ومغيب وعبد الله.

وفي اليوم الرابع تناولت عند الحاج علي بلال المجبري غداءً، تقول عنه مفكرتي إنه جيِّد جدًّا «وأنه حضره الجمع المعتاد»، وجاءني العشاء من عند الحاج سعيد وهو من تجار المجابرة أيضًا.

وفي اليوم التالي تغديت بدار الحاج غريبل، وفي المساء وقع لي أهم حادث من حوادث الضيافة التي لقيتها، ووضح لي كرم البدو بأجلى مظاهره حين دعاني فضليات نساء الأسرة السنوسية إلى تناول العشاء.

كان يقيم بجالو نساء كثيرات من الأسرة السنوسية بينهن زوج السيد إدريس وأخته، وقد أرسل إليَّ أولئك السيدات الكريمات بعد وصولي جالو بقليل يدعينني للعشاء، وهذا حادث غير عادي؛ لأن نبيلات الصحراء لا يولمن الولائم للرجال كما تفعل نساء الغرب، وأدركت بطبيعة الحال أني غير مدعو لتناول العشاء مع داعياتي، ولكني قدرت هذا العطف من ناحيتهن فقبلت دعوتهن راضيًا شاكرًا، وجاءني السيد الزروالي والحاكم في الوقت المحدد لمرافقتي إلى دار الضيافة، وكانت دار الحكومة في عهد الأتراك فأدخلنا إلى غرفة فسيحة ينبعث في جوها بخور زكي الرائحة، وينتشر فيها نور ضعيف من سراج نحاسي فاخر، وشموع كثيرة، ويلقي أشعته النديَّة على ما في الغرفة من سجاجيد ثمينة وطنافس حريرية، فيرسل عليها أضواء بهيجة.

وكان القائم بإكرامنا سيدي صالح وهو بعل سيدة من سيدات الأسرة السنوسية، فأشرف على نفر من العبيد قدموا إلينا ما لذ وطاب من طعام وشراب، وبعد أن نلنا من كل ما قُدِّمَ إلينا جريًا على عادة البدو، جاءنا العبيد بطسوت من النحاس فغسلنا أيدينا، ثم تناولنا ثلاثة أكواب الشاي المعتادة، ونُثِرت علينا قطرات الورد وأُطلِق زكي البخور، وبعد ذلك تقدم إليَّ رئيس العبيد باحتشام وهمس في أذني سائلًا إن كنت أحب أن أسمع شيئًا من الأغاني؛ فيدير لي حاكيًا «فونوغراف» ويسمعني بعض أسطوانات لمشاهير مطربي مصر، فأبيت شاكرًا على تلطفه، وربما كنت في ذلك مغضبًا رفقائي، وإنما دفعني إلى الإباء رغبتي في الاستمتاع بوجودي في تلك الغرفة ذات الأثاث الفاخر والجو المعطر، وإطلاق العنان لخيالي، بعيدًا عن صخب المدن وجلبتها في مناحي الصحراء، ومحالي حياتها البدوية والإيناس إلى روحها التي تشيع في نفسي الخالية المنفردة.

وانطبعت ذكرى هذه الليلة الفريدة في خاطري، لما رأيت من جمال المكان وأحسست من بعد عن العالم، وما شعرت به من لذة الاستمتاع بضيافة شريفات البدو اللاتي اختفين عن عيني، وكن ماثلات فيما أظهرن نحوي من دلائل الكرم والرعاية، وحمَّلت رئيس العبيد أجل تحياتي إلى السيدات، وسألته أن يبلغهن تقديري لهذا العطف الشديد، ثم خرجت إلى الصحراء في تلك الليلة البديعة تلعب كف النسيم بثنايا «جردي» فتثير في الجو ما علق به من نشر البخور، وتهيج في خاطري ذكرى تلك الغرفة السحرية التي نعمت فيها بذلك المجلس الشهي.

وأصبح الصباح فأعددت وليمة أرد بها ضيافة مَنْ أكرموني أثناء الأيام الماضية، ولكن غرفتي الحقيرة التي تتناثر فيها أمتعة سفري لم تكن من كمال الاستعداد بحيث تُقارَن بتلك الدار الجميلة التي تناولت فيها عشاء الأمس، غير أن علي كاجا أخذ على نفسه أن يجعل هذه الغرفة صالحة للوليمة بقدر ما تسمح به الظروف، فاستعار من بيت السيد إدريس سراجين بديعين من النحاس، وبعض أبسطة فاخرة، وأضاف إلى ذلك بعض الرياش الأخرى، وخلق من الغرفة بهوًا يليق بإقامة مأدبة. وكان بين ضيوفي: حاكم المدينة، وأعضاء مجلسها، وأخوان سنوسيان، والقاضي، وعلي كاجا، وموسى ضابط المدفعية السنوسية، والسيد الزروالي. ولبست أفخر ثيابي البدوية ثم وقفت في خدمتهم، كما يقف ربُّ الدار البدوي، وقد سألني بعضهم مِمَّنْ زار المدن أن أجلس معهم وأشاركهم الطعام، ولكني أبيت واعدًا أن أفعل ذلك إذا شرفوني بالزيارة في القاهرة، وقد أظهر طاهيَّ أحمدُ حذقًا شديدًا في تنويع ألوان الطعام، فقدَّم شيئًا من الصِّحَاف الأوروبية لم يَسَع ضيوفي معها السكوت عن مدحها والثناء على طاهيها، وكانت وليمتي هذه آخر الولائم فتُرِكتُ بعدها أتناول طعامي خاليًا هادئًا، وقد أراحني ذلك كثيرًا وإن شكرت لضائفِيَّ ما أظهروا نحوي من دلائل الكرم.

وقد اهتممت أثناء إقامتي في جالو بعمل بعض الملاحظات العلمية، فرصدت الشمس والنجوم لمعرفة خطوط الطول والعرض، وواصلت ملاحظة البارومتر والترمومتر؛ لمعرفة ارتفاع المكان ولما رُوجِعت ملاحظاتي في هذا الشأن على الملاحظات البارومترية التي أُخِذت في سيوة في اليوم نفسه، ظهر لي أمر هام؛ وهو أن سطح جالو في هذه الأيام أعلى منه بمقدار ٦٠ مترًا أيام زارها «رولفس» سنة ١٨٧٩، فقد قرر هذا الرحَّالة أن جالو تكاد تكون موازية لسطح البحر ووجدتها أعلى منه بستين مترًا، وكان تغير وجود هذا الفرق واضحًا أمام عيني، فقد رأيت الرمال المتراكمة تتكدس حول جذوع النخيل وعلى جدران المنازل تكاد تغمرها جميعًا.

وكانت نتيجة ذلك أن انتقل بعض سكان المدينة من مساكنهم القديمة وبنوا ديارهم في جهات أكثر ارتفاعًا، وما زاد ارتفاع جالو عن سطح البحر زهاء مائتي قدم في بحر أربع وأربعين سنة إلا تلك الرمال المضطردة التراكم التي تسفيها العواصف، فتعترضها الأشجار والمنازل وتجعلها ركامًا.

وكانت الدار التي أقمت فيها وقيدت بها ملاحظاتي أعلى من بقية دور جالو بزهاء العشرين مترًا، وكنت شديد الحرص في أخذ هذه الملاحظات؛ لأن البدو يسيئون الظن بكل جهاز علمي فما بالك بآلة «التيودوليت» التي ربما ظنوا أني باستعمالها أرسم خريطة لتلك الأصقاع بقصد العودة لغزوها، ولم يَفُتني وقد رآني شيخ من شيوخ البدو وأنا أشتغل بالتيودوليت أن أفسر له بسرعة واهتمام أني أعمل في إعداد إمساكية لشهر رمضان، وكان عبد الله — وليس بالبدوي الساذج — يعينني كثيرًا في سبيل تمهيد ملاحظاتي العلمية، وكان اختصاصيًّا في الاحتيال على تفادي العقبات التي تعترض سبيل أعمالي، مظهرًا في ذلك حذقًا شديدًا في منع سوء التفاهم.

كنت ذات يوم أعمل على مسافة من جالو بعض الملاحظات بواسطة جهازي، فمر بنا أحد سكان المدينة، وسأل عبد الله: ماذا تعمل؟ فقال له: إننا نأخذ صورة لجالو، فقال البدوي: «أتأخذون صورتها على هذا البعد؟!» فأجابه عبد الله على الفور: «إن هذه الآلة تجتذب الصورة فتطير إليها وتنطبع فيها.» فقال البدوي المرتاب: «وكيف يجتذب الصندوق صورة؟!» فهز عبد الله كتفيه وقال: «سَلِ المغناطيس كيف يجذب الحديد؟» وهكذا انتهت هذه المناقشة التي أظهر فيها عبد الله حذقًا ولباقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤