الفصل الأول

بلا ندم

في اليوم الذي سبق وقوع الكارثة، انتاب آيريس كار للمرة الأولى في حياتها واجسُ خطر. كانت قد اعتادت أن تكون في كنف زمرة من الناس تدعوهم — في إطراءٍ عفوي — «أصدقاءها». لكونها يتيمةً ذات مال وجمال، دائمًا ما كان يحيط بها لفيفٌ من الناس. كانوا يفكرون عوضًا عنها — أو بالأحرى، كانت هي تُوافقهم في آرائهم وفي المقابل كانوا هم يصدحون نيابةً عنها — إذ لم يكن صوتها مسموعًا كفاية في المحافل الاجتماعية.

كان وجودهم الدائم حولها يُعطي انطباعًا وهميًّا بأن دائرة معارفها واسعة، لكن في الحقيقة، كانت الوجوه نفسها تتكرر برتابةٍ متعاقبة. كما أنهم جعلوها تتذوق حلاوة الشهرة؛ فقد ظهرت صورتها في الصحف المصورة عندما عرض عليها أحد المُصورين الشهرة، بعد إعلان خطبتها على أحد أفراد زمرتها في الصحف.

كان ذلك يعني ذيوع صيتها.

ثم بعد ذلك بوقتٍ ليس بطويل، فُسخت الخطبة برضا الطرفين، وقد كانت تلك فرصةً ذهبية لالتقاط صورة أخرى؛ وهذا يعني مزيدًا من الشهرة. كانت أمها، التي تُوفيت وهي تلدها، لَتبكي أو تبتسم لتلك الومضات المُثيرة للشفقة من بهرج الحياة البشرية، الذي يتعالى فوق الظلمات من تحته كفقاعات غاز المستنقعات.

عندما شعرت آيريس بالخطر للمرة الأولى، حدث ذلك في خِضم عافيتها وسعادتها بعد أن قضت عطلة استشفاء غير تقليدية. بفرحة انتصار المستكشفين الأوائل، نزلت الزمرة بقرية خلَّابة فقيرة لكن بديعة، مُتوارية في مكان متطرف بأحد أرجاء أوروبا، واحتلوها بتدوين أسمائهم في سِجل النُّزلاء.

لقرابة الشهر، احتلوا الفندق الوحيد بها؛ مما تسبَّب في ارتباك لا يخلو من السعادة لصاحب الفندق وطاقم خدمته. تسلقوا الجبال، وسبحوا في البحيرة، ولم يتركوا منحدرًا إلا وتشمَّسوا فوقه. وعندما كانوا يقضون أوقاتًا داخل الفندق، كانوا يملئون الحانة، يعلو صخبهم على صوت المِذياع، ويمنحون بقشيشًا لقاء أي خدمة تافهة. كان المالك يبتسم لهم من وراء صندوق الدفع المكتظ بالنقود، وكان النوادل يمنحونهم معاملةً مميَّزة، وهو ما كان يُثير سخط النزلاء الإنجليزيين الآخرين المُبرَّر.

في نظر هؤلاء الأشخاص الستة، كانت آيريس مجرد واحدة من الزمرة، فتاة من الطبقة شِبه الراقية، مغرورة وأنانية وعديمة النفع. بطبيعة الحال، لم يكن لديهم أي دراية بنظام استرداد النقاط، وهي لفتة كرم كانت تجعلها تتحمل هي الفاتورة بحكم العادة عندما كانت تتغدى هي و«أصدقاؤها»، ولفتة شفقة حقيقية تجاه المآزق التي كانت تتعرض لها.

كانت تنتابها لحظاتٌ قليلة من التبرم وازدراء الذات، لكنها كانت تعي وجود نزعة من الأنفة لديها، دفعتها لأن تنأى بنفسها عن أي ميل للخوض في المجون. في تلك العطلة، سمعت آيريس نداءات الإغواء، إلا أنها لم تُذعن لها.

بعد مدة وجيزة، تراخت قيود العُرف المتساهلة بين أفراد الزمرة؛ إذ لفحت الشمس بشرتهم، واحتسَوا الخمر فذابت الحدود بين المتزوجين منهم. كانت آيريس مُحاطة بأزواج وزوجاتهم من شتى الألوان؛ لذا كانت صدمتها قوية عندما استيقظ حس التملك فجأة بعد فوات الأوان لدى إحدى الزوجات — تُدعى أولجا — واتهمتها بسرقة زوجها.

بجانب بشاعته، أغاظ ذلك المشهد حس العدالة فيها؛ فهي لم تفعل سوى أنها تحمَّلت شكوى رجل أهملته زوجته، وبدا مجرد تُرْس احتياطي في آلة الزواج المفكَّكة. ليس خطؤها أن الرجل فقد صوابه.

ومما زاد الطين بلةً أنه في خضم تلك الأزمة، لم ترَ أي دليل على وفاء حقيقي من أصدقائها، الذين لم يُخفوا استمتاعهم بما نتج عن ذلك من إثارة؛ لذا، كي تُخفف من توترها، قرَّرت ألا تعود إلى إنجلترا معهم، وأن تمكث يومين آخرين وحدها.

في اليوم التالي، كانت لا تزال تشعر بالإرهاق وهي تُرافق زمرتها إلى محطة القطارات الصغيرة البدائية. كانوا قد تأقَّلموا بالفعل على فكرة العودة إلى المدنية، فعادوا لارتداء الملابس الفاخرة، وعاد كل زوج إلى زوجته الشرعية، كإجراء طبيعي لتسهيل التعرف على حقائب السفر والحجوزات.

كان القطار متَّجهًا إلى ترييستي، وهي مدينة موجودة على الخريطة بلا ريب. وكان مكتظًّا بالسياح، الذين كانوا هم أيضًا في طريقهم إلى حيث الطرقات المرصوفة والمضاءة. بعد أن تركوا وراءهم التلال وضوء النجوم، بدأت الزمرة تتفاعل مع الضجيج والعجيج العام، وبدا أن وفاءهم القديم قد عاد إليهم وهم مُلتفون حول آيريس.

«أواثقةٌ أنك لن تملِّي يا عزيزتي؟»

«غيِّري رأيك واصعدي على متن القطار.»

«يجب أن تأتي معنا.»

عندما انطلقت الصافرة، حاولوا أن يجذبوها إلى داخل المقطورة، على حالها ذاك؛ بسروالها القصير، وحذاء التسلق ذي النعل المدبَّب، ووجهٍ تكسوه لمعة برونزية من لفحة الشمس وقد كان خاليًا من مساحيق التجميل. جاهدت بكل ما أوتيت من قوة كي تتحرر من قبضتهم، وبالكاد نجحت في القفز من القطار بينما كان الرصيف قد بدأ يتحرك بمحاذاة النافذة.

وقفت تضحك وتلهث من الجهد الذي بذلته، ولوَّحت خلف القطار المبتعد، حتى اختفى وراء منعطف الخور.

كادت تشعر بالذنب عندما غمرها الارتياح لفراق أصدقائها، لكن مع أنها قضت عطلةً سعيدة، كانت تستقي سعادتها تلك في الأغلب من المصادر البدائية؛ من الشمس والمياه ونسيم الجبل. وهي في أحضان الطبيعة، كانت تكره نوعًا ما تطفلِ البشر.

كانوا جميعًا يُلازم أحدهم الآخر على نحوٍ متقارب وحميمي. في بعض الأحيان كانت تسمع أصواتًا ناشزة — ضحكة عالية حادة لامرأة — أو تلحظ هيئة رجل بَدين يتأهب للقفز في الماء، مع الصيحة المتكررة الطائشة: «يا إلهي!»

صحيح أنها صارت تنظر إلى أصدقائها نظرةً ناقدة، لكنها مع ذلك ظلَّت تسبح مع التيار. على غِرار باقي رفقائها، كانت تُطري بحماسةٍ المناظرَ الطبيعية، فيما كانت تعتبرها أمرًا عاديًّا؛ فازدياد المناظر الطبيعية حُسنًا في مقابل تدنِّي معايير الصحة العامة هو نتيجةٌ طبيعية للسفر إلى الأماكن النائية.

أخيرًا، صارت وحدها في صحبة الجبال والسكون. بالأسفل منها، كانت هناك بحيرة زاهية الخُضرة، تعكس صفحتها البريق المتلألئ لضوء الشمس. وكانت تُظهر معالم قِمم الجبال التي تُغطيها الثلوج على مسافة بعيدة لقاءَ السماء بلونها الأزرق الزهري. على أحد التلال، وقف ركام قلعة قديمة داكنة، لها خمسة أبراج شامخة في السماء، كأصابع مبسوطة ليدٍ شريرة.

كانت الألوان الصاخبة حولها في كل مكان، وكانت أزهار عجيبة تكسو حديقة المحطة، تجمع بين اللونين البرتقالي الناري والأصفر، ولها أوراق مدبَّبة. وفي نقطةٍ أعلى المنحدر، كان الفندق الخشبي الصغير مطليًّا باللونين البني المصفر والقرمزي الزاهي. لقاء الجدار الأخضر للخَوْر، تصاعدت آخر حلقة دخان، فبدت مثل ريشات بيضاء تسبح في الهواء.

بعد أن تبدَّدت، شعرت آيريس أن آخر خيط يربطها بزمرتها قد انقطع، فأرسلت قبلة مازحة في الهواء، ثم التفت ونزلت في المسار المنحدر الحجري. عندما وصلت إلى النهر الذي يصبُّ فيه الجليد، ظلَّت واقفة على الجسر تلتمس الهواء المثلَّج الصاعد من مياهه المتلاطمة الخضراء المشوبة بالبياض.

عندما استرجعت المشهد الذي وقع أمس، أقسمت إنها لا تريد رؤية تلك الزمرة مرةً أخرى؛ فقد ارتبطوا بواقعة تُنافي فكرتها عن الصداقة. كانت تُكنُّ شيئًا من الإعجاب لتلك المدعوَّة أولجا، التي قابلت وفاءها لها بإظهارها الفج للغيرة.

نفضت عن ذهنها تلك الذكرى؛ فهنا، تحت تلك السماء الزرقاء التي لا حدود لها، تتضاءل للغاية قيمة البشر، ولا يصبح لعواطفهم قيمة تُذكر. فما هم إلا محطات عابرة في رحلة المرء من مهده إلى لحده، يتقاطع سبيله معهم ثم يتركهم ويمضي، بلا أسف.

لحظةً تِلو الأخرى، كانت الفجوة بينها وبينهم تتسع. كانوا يتبخرون من حياتها. أيقظت تلك الفكرة بداخلها شعورًا بحرية كانت حديثة عهد بها، وكأن روحها تحرَّرت على يد السكون والوحدة.

لكن بعد عدة ساعات ليست بالطويلة، كانت لتُقايض جميع مباهج الطبيعة مقابل استعادتهم مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤