الفصل الأول

فرنسيس بيكون

١٥٦١–١٦٢٦

(١) حياته ومصنفاته

ولد بلندن، وكان أبوه السر نقولا بيكون حامل الخاتم الأكبر في خدمة الملكة إليزابث، دخل جامعة كمبردج في الثالثة عشرة (١٥٧٣) وخرج منها بعد ثلاث سنين دون أن يحصل على إجازة علمية، وفي نفسه ازدراء لما كان يدرس فيها من علوم على مذهب أرسطو والمدرسيين، رحل إلى فرنسا واشتغل مدة في السفارة الإنجليزية بباريس، وتوفي أبوه سنة ١٥٧٩ فعاد إلى وطنه، ولما لم يكن هو الابن الاكبر لم يرث إلا شيئًا ضئيلًا، وأقبل على دراسة القانون، وانتظم في سلك المحاماة سنة ١٥٨٢، وبعد سنتين انتخب عضوًا بمجلس النواب، فكانت خطبه فيه موضع إعجاب عام، وبعد خمس سنين أخذ يعلم بمدرسة الحقوق، ثم عينته الملكة مستشارًا فوق العادة للتاج، فتفانى في مرضاتها حتى لقد غدر غدرًا دنيئًا برجل أحسن إليه ووهبه أرضًا، هو الكونت إسكس، إذ تغيرت عليه الملكة واتهم بالتآمر عليها، فترافع بيكون ضده طالبًا توقيع الحكم الصارم عليه، ولما آل العريش إلى چاك الأول، اصطنع بيكون الملق والدسيسة، ومالأ الملك في استبداده وقضاء مصالحه ومصالح الاسرة المالكة، فبلغ إلى أرقى المناصب القضائية، حتى صار الوزير الأول سنة ١٦١٨، وبارون أوف فيرولام، وفيكونت أوف سانت ألبان سنة ١٦٢١، وفي تلك السنة اتهمه مجلس النواب بالرشوة واختلاس مال الدولة، فاعترف للحال بما عزي إليه، فحكم عليه مجلس اللوردة بغرامة قدرها أربعون ألف جنيه، وبحرمانه من ولاية الوظائف العامة، ومن عضوية البرلمان، ومن الإقامة بالقرب من البلاط، وبفضل رعاية الملك لم يقضِ في السجن سوى بضعة أيام، ولم يؤدِّ الغرامة، ولكنه حاول عبثًا استرداد الاعتبار.

إلى جانب شواغله الدنيوية كان يعالج فكرة عرضت له في الخامسة والعشرين، هي إصلاح العلوم أو إحياؤها بالتعويل على الطريقة الاستقرائية دون الطريقة القياسية، والغريب في أمره أنه كان يتصور العلوم على ما رأى بالجامعة، وظل طول حياته قليل الإلمام بمكتشفات القرن الرابع عشر وعصر النهضة، جاهلًا بالرياضيات وبما اتخذت من شأن في تكوين العلم الطبيعي، بل إنه رمى كوپرنك بالدجل، ولم يدرك أهمية قوانين كپلر وبحوث جليليو، فهو لم يشتغل بالعلم، وإن كان أجرى بعض التجارب فهي لا تذكر، وقد وثق بأمور وجاء بتعليلات غاية في الغرابة، فاعتقد بالسحر الطبيعي وبالكيمياء القديمة والتنجيم، فلم يكن أكثر تقدمًا من سميه روجر بيكون في القرن الثالث عشر، وإنَّما كانت أفكاره في جملتها أفكار العصر الوسيط المنقولة عن الرواقية والأفلاطونية الجديدة؛ لذا نراه يرمي علم عصره بالجمود والغرور، ويتنبأ له بالاضمحلال، ويعتبر نفسه داعية لعلم جديد يزيد في سلطان الإنسان على الطبيعة، والحق أنه نفذ إلى ماهية العلم الاستقرائي، وفطن إلى أغراضه ووسائله، ثم حاول أن يرسم بناءه، فوضع تصنيفًا للعلوم، وفصَّل القول في الطرق التجريبية حتى لم يدع مزيدًا لمستزيد.

صنع ذلك أولًا رسالة بالإنجليزية نشرها سنة ١٦٠٥ بعنوان «في تقدم العلم» ثم وضع باللاتينية كتابًا أسماه «الأورغانون الجديد أو العلامات الصادقة لتأويل الطبيعة» نشره سنة ١٦٢٠، ثم عاد إلى الرسالة الأولى فنقلها إلى اللاتينية وفصلها بعنوان «في كرامة العلوم ونموها» ونشر الكتاب سنة ١٦٢٣، وهي موسوعة علمية تحتوي على طائفة كبيرة من الملاحظات القيمة، ووضع كتابًا في السياسة دعاه «أتلنتس الجديدة» وجعله على نسق «يوتوبيا» و«مدينة الشمس» (٢٠ب)، وله كتب أخرى في هذه الأغراض فقدت كل أهمية بتقدم العلوم، وكتب أدبية وتاريخية وقانونية، ومن هذه الأخيرة كتاب «أحكام القانون» Maxims of the law وضعه سنة ١٥٩٩ تمهيدًا لتنظيم القوانين الإنجليزية.

(٢) تصنيف العلوم

الغرض منه ترتيب العلوم القائمة، وبالأخص الدلالة على العلوم التي لم توجد بعد، وهو يرتبها بحسب قوانا الداركة، ويحصر هذه القوى في ثلاث: الذاكرة وموضوعها التاريخ، والمخيلة وموضوعها الشعر، والعقل وموضوعه الفلسفة.

التاريخ قسمان: تاريخ مدني أي خاص بالإنسان، وتاريخ طبيعي أي خاص بالطبيعة، فالتاريخ المدني ينقسم إلى قسمين: تاريخ كنسي، وتاريخ مدني بمعنى الكلمة ينقسم بحسب الوثائق التي نستخدمها، من مذكرات وعاديات وتراجم وتواريخ سياسية وأدبية وعلمية وفنية، والتاريخ الطبيعي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وصف الظواهر السماوية والأرضية، ووصف المسوخ فإنها تكشف عن القوى الخفية في الحالات العادية، ووصف الفنون فإنها رسائل الإنسان لتغيير مجرى الطبيعة، وهي تستخدم القوى الطبيعية، ويقول بيكون إن القسمين الثاني والثالث لم يوجدا بعد.

أما الشعر فقصصي ووصفي وتمثيلي ورمزي، فإنه عبارة عن تأويل القصص والأساطير، واستخلاص ما تنطوي عليه صورها ورموزها من معانٍ علمية، ومثل هذا التأويل قديم، وكان شائعًا في عصر النهضة.

وأما الفلسفة فتتناول ثلاثة موضوعات: الطبيعة والإنسان والله، وتنقسم الفلسفة الطبيعية إلى: ما بعد الطبيعة أو علم العلل الصورية والغائية، وإلى الطبيعة أو علم العلل الفاعلية والمادية، وهي تنقسم إلى الميكانيكا والسحر، وتنقسم الفلسفة الخاصة بالإنسان إلى ما يتناول الجسم، وما يتناول النفس، علم العقل أو المنطق وعلم الإرادة أو الأخلاق، وما يتناول العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأخيرًا الفلسفة الإلهية أو اللاهوت الطبيعي، يمهد له بعلم الفلسفة الأولى أو علم المبادئ الأولية، مثل أن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات غير متساوية نتجت كميات غير متساوية، وأن الحدين المتفقين مع حد ثالث فهما متفقان، وأن كل شيء يتغير ولكن لا شيء يفنى، وما إلى ذلك، وهذا العلم هو الجذع المشترك بين علوم العقل.

والتاريخ والشعر والفلسفة ثلاث مراحل متتالية يجتازها العقل في تكوين العلوم: التاريخ تجميع المواد، والشعر تنظيم أول للمواد، أو هو تنظيم خيالي وقف عنده القدماء، والفلسفة تركيب عقلي.

فالمبدأ العام لهذا التصنيف ذاتي أي مأخوذ من تعدد قُوانا المدركة، فإن بيكون يظن الواحدة من قوى المعرفة تكفي لعلم واحد، على حين أن العلم الواحد تتضافر في إقامته القوى جميعًا مع تفاوت، ثم إنه يضع القوى في مرتبة واحدة، على حين أن العقل أرقى من الاثنتين الأخريين وأنه يستخدمها كآلتين وهو يجمع في طائفة واحدة بين التاريخ الطبيعي والتاريخ المدني، وليس بينهما اشتراك إلا في اسم التاريخ، وأصل تسمية التاريخ الطبيعي نقل حرفي لكلمة «إستوريا» اليونانية ومعناها «مجموعة مشاهدات» في عنوان كتاب أرسطو «تاريخ الحيوان» على أن بيكون عرف التصنيف الموضوعي، فإن القسم الثالث من تصنيفه يميز بين العلوم بحسب موضوعاتها.

(٣) نقد العقل

لأجل تكوين العقل الجديد لا بد من منطق جديد يضع أصول الاستكشاف، فقد كانت الكشوف العلمية وليدة الاتفاق، وكان المعول على النظر العقلي، فلم يتقدم العلم، إن العقل أداة تجريد وتصنيف ومساواة ومماثلة، إذا ترك يجري على سليقته انقاد لأوهام طبيعية فيه، ومضى في جدل عقيم يقوم في تمييزات لا طائل تحتها، ويتعين حصر هذا الأوهام الطبيعية للاحتزاز منها، ويسميها بيكون «أصنام العقل» idola mentis وهي أربعة أنواع:
  • (١)
    النوع الأول: «أوهام القبيلة» itribus وهي ناشئة من طبيعة الإنسان؛ لذا كانت مشتركة بين جميع أفراده: فنحن ميالون بالطبع إلى تعميم بعض الحالات دون التفات إلى الحالات المعارضة لها، وإلى تحويل المماثلة إلى تشابه وتواطؤ، وإلى أن نفرض في الطبيعة من النظام والاطِّراد أكثر ممَّا هو متحقق فيها، وإلى أن نتصور فعل الطبيعة على مثال الفعل الإنساني، فتتوهم لها غايات وعللًا غائية.
  • (٢)
    النوع الثاني: «أوهام الكهف» sbecus وهي ناشئة من الطبيعة الفردية لكل منَّا، فإن الفردية بمثابة الكهف الأفلاطوني، منه ننظر إلى العالم، وعليه ينعكس نور الطبيعة فيتخذ لونًا خاًّصا، هذه الأوهام صادرة إذن عن الاستعدادات الأصلية وعن التربية والعلاقات الاجتماعية والمطالعات، فمثلًا من الناس من هم أكثر ميلًا إلى الانتباه إلى ما بين الأشياء من تنوع، بينما آخرون أكثر ميلًا إلى البحث عن وجوه الشبه، إلى غير ذلك من الاتجاهات.
  • (٣)
    النوع الثالث: «أوهام السوق» fori وهي الناشئة من الألفاظ، فإن الألفاظ تتكون طبقًا للحاجات العملية والتصورات العامية، فتسيطر على تصوُّرنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة، أو الأشياء غامضة أو متناقضة، وهذا أصل كثير من المناقشات، تدور كلها على مجرد ألفاظ.
  • (٤)
    النوع الرابع «أوهام المسرح» theatri وهي الآتية ممَّا تتخذه النظريات المتوارثة من مقام ونفوذ، وهنا يحمل بيكون على أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الذين يفسرون الأشياء بألفاظ مجردة كما يقول، ولكن يصعب تمييز هذه الطائفة الرابعة من الطائفة الثالثة، فإن بيكون يذكر من بين أسبابها تكوين الطبيعة الفردية والمطالعة والعرف والسلطة.

فليست «الأصنام» أغاليط استدلالية كالتي يذكرها أرسطو، ولكنها عيوب في تركيب العقل تجعلنا نخطئ فهم الحقيقة، ويجب التحرر منها لكي يعود العقل «لوحا مصقولًا» تنطبع عليه الأشياء دون تشويه من جانبنا، وهذه محاولة ضعيفة من بيكون في نقد العقل والتمييز بين ما له وما للأشياء، وهي تمهيد سلبي للمنطق الفطري الذي يصبح في غنى عن المنطق الصناعي ما دامت أسباب الخطأ قد استبعدت، وهكذا سيصنع ديكارت ومالبرانش وسبينوزا للاستغناء عن المنطق القديم.

(٤) المنهج الاستقرائي

هذا المنهج هو القسم الإيجابي من المنطق الجديد، والحاجة إليه ماسة لأن تصور العلم قد تغير، كان العلم القديم يرمي إلى ترتيب الموجودات في أنواع وأجناس، فكان نظريًّا بحتًا، أما العلم الجديد فيرمي إلى أن يتبين في الظواهر المعقدة عناصرها البسيطة وقوانين تركيبها، بغية أن يوجدها بالإرادة، أي أن يؤلف فنونًا عملية، وكان العلم القديم يحاول استكناه «الصورة» أي ماهية الموجود مثل صورة الأسد أو السنديان أو الذهب أو الماء أو الهواء، فكان مجهوده ضائعًا، أما العلم الجديد فيبحث عن «صورة» الكيفية أو ماهيتها، أي عن صور الطبائع المدلول عليها بهذه الألفاظ: كثيف، مخلخل، حار، بارد، ثقيل، خفيف، وما أشبهها من حالات الموجود، سواء أكانت تغيرات في المادة أم حركات، فبيكون يحتفظ بلفظ الصورة الواردة عند أرسطو، ولكنه يعني به شرط وجود كيفية ما، أو هو يعدل عن الصورة الجوهرية إلى شروط وجود الصور العرضية، وكان ذلك شأن قدماء الكيميائيين إذا كانوا يعتقدون إمكان تحويل المعادن بالتأثير في كيفياتها، وبالفعل كان بيكون يأمل أن يتسع نطاق سلطاننا عن الطبيعة باستكشاف صور الكيفيات، إذ أننا حينئذٍ نستطيع أن نولِّد كيفية أو أكثر في جسم غير حاصل عليها فنحوله من الحرارة مثلًا إلى البرودة أو بالعكس، وأن نركب الكيفيات بعضها مع بعض، فنوجد الأشياء أنفسها: نوجد الذهب مثلًا أو أي معدن آخر، فلا يعد بيكون مبتكرًا لهذا العلم الذي ينعته بالجديد.

ولا سبيل إلى استكشاف الصور سوى التجربة، أي التوجه إلى الطبيعة نفسها، إذ ليس يتسني التحكم في الطبيعة واستخدامها في منافعنا إلا بالخضوع لها أولًا، إن الملاحظة تعرض علينا الكيفية التي نبحث عن صورتها مختلطة بكيفيات أخرى، فمهمة الاستقراء استخلاصها باستبعاد أو إسقاط كل ما عداها، وآفة الاستقراء ما ذكر بين «أوهام القبيلة» من الاكتفاء بالحالات التي تلاحظ فيها ظاهرة ما، والاعتقاد بأنها تكفي للعلم بطبيعتها، هذا النوع من الاستقراء يُسمَّى استقراء بمجرد التعداد، ونتفادى هذه الآفة، ونصل إلى العلم بالصور، إذا اتبعنا الطرق الآتية:
  • (١)

    تنويع التجربة بتغيير المواد وكمياتها وخصائصها، وتغيير العلل الفاعلية.

  • (٢)

    «تكرار التجربة» مثل تقطير الكحول الناتج من تقطير أول.

  • (٣)

    «مد التجربة» أي إجراء تجربة على مثال تجربة أخرى مع تعديل في المواد.

  • (٤)

    «نقل التجربة» من الطبيعة إلى الفن، كإيجاد قوس قزح في مسقط ماء، أو من فن إلى آخر، أو من جزء فن إلى جزء آخر.

  • (٥)

    «قلب التجربة» مثل الفحص عمَّا إذا كانت البرودة تنتشر من أعلى إلى أسفل بعد أن نكون عرفنا أن الحرارة تنتشر من أسفل إلى أعلى.

  • (٦)

    «إلغاء التجربة» أي طرد الكيفية المراد دراستها، مثال ذلك وقد لاحظنا أن المغناطيس يجذب الحديد خلال أوساط معينة، أن ننوع هذه الأوساط إلى أن نقع على وسط أو أوساط تلغي الجاذبية.

  • (٧)

    «تطبيق التجربة» أي استخدام التجارب لاستكشاف خاصية نافعة، مثل تعيين مبلغ نقاء الهواء وسلامته في أمكنة مختلفة أو فصول مختلفة بتفاوت سرعة النفس.

  • (٨)

    «جمع التجارب» أي الزيادة في فاعلية مادة ما بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، مثل خفض درجة تجميد الماء بالجمع بين الثلج والنطرون (ملح البارود).

  • (٩)

    «صدف التجربة» أي أن تجرى التجربة لا لتحقيق فكرة معينة، بل لكونها لم تجر بعد، ثم ينظر في النتيجة ماذا تكون؟ مثل أن نحدث في إناء مغلق الاحتراق الذي يحدث عادة في الهواء.

وبعد إجراء التجارب يجب توزيعها في جداول ثلاثة: جدول الحضور وجدول الغياب، وجدول الدرجات.
  • (١)

    ففي جدول الحضور تسجل التجارب التي تبدو فيها الكيفية المطلوبة، فتستبعد الظواهر التي لا توجد في تجارب هذا الجدول.

  • (٢)

    وفي جدول الغياب تسجل التجارب التي لا تبدو فيها الكيفية، والتي تكون أشبه ما يمكن بتجارب جدول الحضور، فتستبعد الظواهر الماثلة في هذا الجدول.

  • (٣)

    وفي جدول الدرجات أو المقارنة تسجل التجارب التي تتغير فيها الكيفية، فتستبعد الظواهر غير المتغيرة، فتكون الصورة المنشودة في الباقي.

هذا الوصف المفصل للمنهج الاستقرائي كان تقدمًا حقيقيًّا بالنسبة للعصر، ولكن بيكون لم يفهم الاستقراء الفهم الحديث، أي على أنه منهج «القانون الطبيعي» أو تعلق ظاهرة بأخرى، بل على أنه منهج يبين «صور» الكيفيات، فيفترق أيضًا عن أفلاطون وأرسطو والمدرسيين، ويقف في مرحلة انتقال بين الفلسفة القديمة والفلسفة الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤