الفصل السابع

جوتفريد فيلهلم ليبنتز

١٦٤٦–١٧١٦

(١) حياته ومصنفاته

ولد بليبزج لأب قانوني وأستاذ للأخلاق بجامعة المدينة، ومنذ حداثته أخذ يقرأ في مكتبة أبيه، فقرأ أولًا قصصًا وتواريخ، ثم كتبًا علمية وفلسفية، والتحق بالجامعة فدرس الفلسفة القديمة بنوع خاص على أستاذ أرسطوطالي هو (توماسيوس) ودرس الفلاسفة المدرسين فوجد عندهم على حد قوله “تبرًا مخبوءًا يأنف المحدثون أن ينقبوا عنه» وأعجب بالقديس توما الإكويني، وكانت رسالته للبكالوريا (١٦٦٣) في المسألة المدرسية المشهورة «مبدأ للتشخيص»، ثم قصد إلى جامعة بينا فدرس بها الرياضيات على رياضي فيلسوف هو (فيجل) فإلى جامعة أندورف حيث درس القانون وحصل على الدكتوراه برسالة موضوعها «مشكلات القانون» فإلى نورمبرج حيث انضم إلى جمعية «روزنكريتز» نسبة إلى مؤسسها «روزنكرتيز» (١٣٧٨) وكانت معنية بالعلوم الخفية، فقرأ كتب الكيميائيين وعين كاتبًا للجمعية وظل طول حياته شغوفًا بتجارب الكيمياء.

وقصد إلى ميانس، وكان قد أهدى إلى أميرها سنة ١٦٦٧ رسالة يطبق فيها الفلسفة على القانون ليجعله علمًا مضبوطًا واضحًا، وكان قد وضع رسائل أخرى قانونية، فعينه الأمير سنة ١٦٧٠ مستشارًا بالمجلس الأعلى رغم حداثة سنه، فاشتغل بمشروعات لإصلاح العلم القانوني ومجموعات القوانين، وبالفلسفة والعلم الطبيعي، وبدا له أن يقترح على ملك فرنسا لويس الرابع عشر فتح مصر وتدمير القوة التركية بحجة القضاء على أعداء الثقافة الحديثة، وهو يرمي إلى صرف ملك فرنسا عن ألمانيا التي كانت قد عانت الأهوال من بطش جيوشه، فأرسله الأمير إلى باريس لتلك الغاية (١٦٧٢) ولكنه لم يوفق إلى تحقيقها، فذهب إلى لندن ومكث بها الثلاثة الأشهر الأولى من سنة ١٦٧٣ فتعرف إلى علمائها، ثم عاد إلى باريس فكان مقامه بها كثير الخصب إذ درس الرياضيات على علمائها وفي مصنفات بسكال، ودرس الفلسفة الديكارتية، وقرأ الرسالة اللاهوتية السياسية لسبينوزا، وصنع آلة حاسبة حاكى بها بسكال وجاوزه بأن زاد على الجمع والطرح الضرب والقسمة، بل استخرج بعض الجذور، واستكشف حساب الفوارق (١٦٧٦)، وكتب بهذا الكشف إلى أحد علماء لندن هو (أولدنبرج) فجاءه الرد بأن نيوتن وصل إلى نظرية أعم، فعكف ليبنتز على توسيع نظريته حتى أبلغها إلى ما يعادل نظرية نيوتن، فقام بين المكتشفين نقاش حادٌّ على السبق لأيهما كان، وقد كان لنيوتن إذ يرجع أكتشافه إلى سنة ١٦٦٥، غير أن كلًّا منهما اتجه في اكتشافه وجهة خاصة واتخذ سيرًا خاصًّا، وكان اكتشاف ليبنتز أكثر خصبًا والاثنان مدينان لبحوث الرياضيين السابقين.

توفي أمير ميانس، وعرض على ليبنتز منصب أمين مكتبة دوق هانوفر (١٦٧٦) فقبله وغادر باريس إلى لندن حيث أمضى أسبوعًا وتعرف إلى الرياضي كولنز صديق نيوتن، ومنها قصد إلى أمستردام حيث لقي سبينوزا ودارت بينهما أحاديث فلسفية واطَّلَعَ على كتاب «الأخلاق»، وفي آخر ديسمبر انتهى إلى هانوفر، فأقام بها عظيم القدر متصلًا بجميع الأحداث الأوربية الكبرى، مؤلفًا في تاريخ ألمانيا وفي الفلسفة، محاولًا التوحيد بين الكاثوليكية والبروتستانتية، ثم التوحيد بين الكنائس البروتستانتية المختلفة، مستأنفًا تحريضه على السلطنة العثمانية، ولكن عند بطرس الأكبر قيصر روسيا، وعارضًا عليه مشروعًا واسعًا لإصلاح بلاده، غير أن الحكم تغير في هانوفر، فتضاءل نفوذ ليبنتز رويدًا رويدًا حتى انمحى، وانتابه المرض فألزمه مقعده، وكان الشعب — وكان بعض رجال البلاط — يعتبرونه زنديقًا؛ فإنه على تشبعه بالفكرة الدينية لم يكن يمارس العبادات إلا فيما ندر، وتدلنا مساعيه للتوحيد بين الكنائس على أنه كان أكثر تعلقًا بالدين الطبيعي منه بالدين المنزل، فإنه كان يطلب إلى الكنائس النزول عن بعض العقائد أو تعديل بعضها الآخر كأنها عديمة القيمة في ذاتها، ولما حضرته الوفاة أبى أن يستدعي أحدًا من رجال الدين، فلم يمش وراء نعشه سوى كاتبه، ودفن «كقاطع طريق لا كرجل كان زينة وطنه»، ولم تؤبِّنه جمعية العلوم ببرلين، التي صارت أكاديمية برلين فيما بعد، وكان هو مؤسسها ورئيسها الأول (١٧٠٠)، ولم تؤبِّنه الجمعية الملكية بلندن، وكانت ناقمة عليه مناقشته نيوتن، وانفردت بتأبينه أكاديمية العلوم بباريس بلسان كاتبها الدائم فونتنل١ في خطاب مشهور (١٧١٧).
لم يتم بعد إحصاء كتبه ورسائله إلى علماء عصره لوفرتها وتفرقها، والمطبوع منها لا يذكر إلى جانب المخطوط، ولكن يمكن أن يقال إن الكتب المطبوعة هي الأهم لأنها المتأخرة التامة، وإن الكتب السابقة عبارة عن محاولات، وكان معظم كتابته بالفرنسية واللاتينية لأن الألمانية لم تكن شائعة في أوربا، وأهم ما يهم الفلسفة الكتب الآتية: «تأملات في المعرفة والحقيقة والمعاني» (١٦٨٤)، و«مقال في ما بعد الطبيعة» (١٦٨٦) عرض فيه مذهبه لأول مرة، و«مذهب جديد في الطبيعة واتصال الجواهر» (١٦٩٥)، هو عرض ثانٍ للمذهب، ولما ظهر كتاب جون لوك «محاولة في الفهم الإنساني» (١٦٩٠) بعث إليه بملاحظات (١٦٩٦) عاد إليها وألَّف كتابًا ضخمًا أسماه «محاولات جديدة في الفهم الإنساني» (١٧٠١–١٧٠٩) وتعقب فيه بالنقد كتاب لوك فصلًا فصلًا، ولكن لوك كان قد توفي، فرأى ليبنتز أن يحتفظ بكتابه، فلم ينشر إلا بعد وفاته بنصف قرن (١٧٦٥)، وكانت تلميذته ملكا بروسيا طلبت إليه أن يرد على بيل٢ في العلاقة بين الشر والحرية من جهة وعدالة الله وقدرته من جهة أخرى، فدوَّن كتابًا آخر ضخمًا أسماه «محاولات في العدالة الإلهية» (١٧١٠) ودلَّ على لفظ العدالة الإلهية بلفظ مركب من اليونانية هو Théodicée فبقي هذا اللفظ للدلالة على الإلهيات الطبيعية، وأخيرًا عرض مذهبه مرة ثالثة في رسالة قصيرة لأحد الأمراء بعنوان «المونادولوجيا» (١٧١٤)، وهذه الكتب هي التي يرجع إليها بنوع خاص لبيان فلسفته.

(٢) منهجه

عرف ليبنتز منهجه ومذهبه في عبارة مأثورة تدلنا على سعة ثقافته وعمق تفكيره، قال: «لقد تأثرت بمذهب جديد، ومنذ ذلك الحين أظنني أرى وجهًا جديدًا لباطن الأشياء، هذا المذهب يبدو جامعًا أفلاطون إلى ديمقريطس، وأرسطو إلى ديكارت، والمدرسيين إلى المحدثين، واللاهوت والأخلاق إلى العقل، ويلوح أنه يأخذ الأفضل من كل صوب، ثم يمضي إلى أبعد مما مضوا للآن، وإذا التفتنا إلى آثار الحقيقة هذه عند القدماء استخرجنا التبر من التراب، والماس من المنجم، والنور من الظلمات، وأقمنا فلسفة دائمة»، هذه الفلسفة تضم طرفًا من كل مذهب، وتوفِّق بين الأضداد توفيقًا مبتكرًا، والأضداد كثيرة: الكلي والجزئي، الممكن والموجود، المنطقي والميتافيزيقي، والرياضي والطبيعي، الآلية والغائية، المادة والروح، الحس والعقل، تضامن الأشياء وفاعلية كل منها، ترابط العلل والحرية الإنسانية، العناية الإلهية والشر، الفلسفة والدين، لقد بانت هذه الأضداد متنافرة متباعدة حتى لم ير من سبيل أمام الفكر سوى الاختيار بينها والميل إلى جانب دون آخر، غير أن «كثرة الفرق على حق في كثير مما تثبت، لا في ما تنفي» ويدلنا التاريخ على تعاون متصل بين الأجيال، فقد حصل الشرقيون على أفكار جميلة جليلة في الإلهيات، واكتشف اليونان المنهج الاستدلالي وشكل العلم، ونبذ آباء الكنيسة ما كان رديئًا في الفلسفة اليونانية، وحاول المدرسيون أن يستخدموا لصالح المسيحية ما كان معقولًا في فلسفة الوثنيين، وجاءت فلسفة ديكارت بمثابة الرواق المؤدي إلى الحقيقة.

وقد برزت هذه النزعة عند ليبنتز مذ كان يدرس الرياضيات بجامعة يينا إذ استوقفته التأليفات الرياضية، فخطر له أن يبحث عن قوانين تأليفات مماثلة لأجل الفلسفة، يعني أن يستخلص المعاني البسيطة الأولية ويرمز لها بإشارات تكون بمثابة ألف باء الفكر، ثم يعين جميع التأليفات الممكنة لهذه الأوليات ويرمز لها بإشارات، وذلك على مثال تعيين الأضرب الممكنة للقياس الاقتراني، وحينئذٍ يستطاع بالحساب وحده البرهنة على صدق أي قضية، بل الاهتداء إلى قضايا جديدة، وتكوين «لغة كلية» من الإشارات جميعًا أو «علم الخصائص الكلي» يكون في آنٍ واحد منطقًا ودائرة معارف وأجرومية، وقد وضع ليبنتز في ذلك «رسالة في فن التأليف» (١٦٦٦) تحتوي على أصول اختراعه حساب الفوارق، وشغل طول حياته بمشروع لغة فلسفية دون أن يصل إلى نتائج مفيدة.

على أنه سيظل يعتبر المعرفة الحقة البرهان اللمي كما هو بادٍ في الرياضيات ولا يتيسر هذا البرهان إلا بتحليل المركب إلى العناصر البسيطة لاتخاذها مبادئ، فما هي مبادئ الفلسفة؟ لقد اقتصر سبينوزا على مبدأ عدم التناقض، ولكن هذا المبدأ يهيمن على الرياضيات والممكنات المعقولة، ولا يفيد في تفسير تحقيق ممكناتٍ معينة دون غيرها، فلا بُد من مبدأٍ آخر لتعليل الوجود الواقعي، هو مبدأ السبب الكافي، أي إن ما يوجد فإنما يوجد عن سبب كافٍ، وهذا مبدأ خاص بالفلسفة (ولا بد أن يكون هذا الفرق بين الممكن والواجب هو الذي صرف ليبنتز عن وضع أصول اللغة الفلسفية الكلية)، وإلى مبدأ السبب الكافي يرجع مبدآن آخران هما صيغتان جزئيتان له: أحدهما مبدأ الاتصال، ومؤادَّه أن الانتقال متصل في الطبيعة بلا طفرة، بحيث لا تنشأ الحركة من السكون مباشرة ولا تنتهي إليه مباشرة، بل تبدأ بحركة أدق، وتنتهي إلى حركة أدق، بحيث لا نفرغ من عبور أي خط قبل أن نعبر خطًّا أصغر، وهذا المبدأ مثال بارز لتأثير الرياضية في الفلسفة، فإن ترجمة فلسفية للانهاية الرياضية، وله شأن كبير في مذهب ليبنتز كما سنرى، والمبدأ الجزئي الآخر يسمى مبدأ اللا متمايزات، ومؤداه أن شيئين جزئيين لا يمكن أن يتشابها تمام المشابهة وإلا لم يتمايزا، بل يجب أن يفترقا بفارق كيفي ذاتي مطلق فوق افتراقهما بالعدد.

ومن شأن مبدأ اللا متمايزات أن يجعلنا نفرق بين المعنى الواضح الذي يسمح بتمييز شيء من آخر، ويقابله المعنى الغامض، وبين المعنى المميز الذي هو معرفة تفاصيل الشيء، وإذا كان الشيء مركبًا، معرفة خصائص كل جزء من أجزائه، ويقابله المعنى المختلط؛ وعلى ذلك يمكن أن يكون المعنى واضحًا دون أن يكون متميزًا، فمعنى اللون مثلًا واضح جدًّا، ولكني حين أتصوره لا أتبين عناصر اللون، والعلامات الجبرية واضحة، ولكني لا أتصور مدلولاتها فالمعنى المتميز دون سواه يعبر عن باطن الشيء ويستحق اسم المعرفة الميتافيزيقية، وكان ديكارت قد جعل من «الوضوح» علامة الحقيقة، واعتبر التميز مصاحبًا له بالطبع، إن لم يعتبره مرادفًا له، ولكن يجب أن نضع بينهما الفرق الحاسم المتقدم، وأن نضع نوعين من المعرفة لم يميز بينهما ديكارت، وهما المعرفة الرمزية أو العمياء وهي واضحة ولكنها مختلطة، والمعرفة الحدسية وهي وحدها المتميزة إطلاقًا، وستتبين هذه المبادئ والقواعد بما في المذهب من تطبيقات لها.

(٣) نقد المذهب الآلي

يخبرنا لبينتز أنه أخذ أول أمرة بنظرية الصور الجوهرية كما قال بها أرسطو والمدرسيون، ثم بدا له أن هذه الصور لا توجد إلا في العقل، ولا تصلح مبادئ لتفسير الأشياء، فانتقل إلى الآلية، فلما فحص عن أسسها وعن قوانين الحركة، وجد الآلية ناقصة، فعاد إلى الصور الجوهرية، ولكن على نحو خاصٍّ به، وهو يبين نقص المذهب الآلي بنقد صورتيه المعروفتين، وهما نظرية ديكارت ونظرية ديموقريطس، الأولى تعتبر المادة متصلة ويمكن تسميتها بالآلية الهندسية، والأخرى تعتبر المادة منفصلة ويمكن تسميتها بالآلية الحسابية.

يرى ديكارت أن الامتداد ماهية الجسم، ويجعل من الجسم شيئًا منفعلًا فحسب، ولكن هذا الرأي لا يفسر «قصور» الجسم أي مقاومة المادة للحركة، فإن الجسم الكبير أصعب تحريكًا من الصغير، والجسم المتحرك لا يحرك إذا حرك آخر ساكنًا إلا ويفقد بعض حركته من جراء مقاومة الآخر، ثم إن هذا الراي لا يفسر بين الجسم المتحرك معتبرًا في نقطة من خط سيره وبين الجسم الساكن إذ لا يمكن إثبات اتصال الحركة إلا بوساطة فكرة القوة أو الميل، ولولا هذه الفكرة لعادت الحركة عبارة عن سلسلة سكونات، وكيف يستطيع ديكارت أن يفترض بقاء كمية الحركة هي هي في الطبيعة مع قوله بانتقال من الحركة إلى السكون وبالعكس، فإن مثل هذا الانتقال عبارة عن تلاشي حركة وخلق أخرى، وعلى ذلك تقوم ماهية الجسم في القوة، وهي علة الحركة، وتظل باقية حتى ولو وقفت الحركة: «إنها ما في الحالة الراهنة يحمل تغيرًا مستقبلًا»، وفكرة القوة فكرة ميتافيزيقة تجاوز نطاق العلم الطبيعي ونطاق الآلية.

أما ديموقريطس فيقول بجواهر فردة يفصل بينها خلاء، ولكن الجوهر الفرد لا يمكن أن يكون وحده بمعنى الكلمة أي جوهرًا حقًّا، فإن كل جسم مهما افترضناه صغيرًا فهو ممتدٌّ، وكل امتداد فهو منقسم أي إنه مجموع جواهر، وإذن فالمادة كثرة بحتة، وما الجواهر الفردية المادية إلا أثر لضعف مخيلتنا التي تحب أن تسكن وتتعجل الوصول إلى نهاية في التقسيم والتحليل، والكثرة كثرة وحدات بمعنى الكلمة، وليس من وحدة بمعنى الكلمة إلا وحدة الموجود اللا مادي غير المنقسم، فيجب القول بأن الكثرة تقوم في وحدات لا مادية، في «جواهر فردة صورية» أو «نقط ميتافيزيقية»، وهي محكمة أي غير منقسمة، ووجودية في نفس الوقت، فهي وسط بين الجوهر الفرد المادي الذي هو وجودي وغير محكم، وبين النقطة الرياضية التي هي محكمة وغير وجودية؛ وبذا نبلغ إلى الميتافيزيقا من هذه الناحية أيضًا، نبلغ إلى فكرة الوحدة الصورية فنحصل على فكرة متميزة عن وجود الجسم بعد أن بلغنا إلى فكرة القوة وحصلنا على فكرة متميزة عن ماهية الجسم، فنكون قد بلغنا بامتحان صورتي الآلية إلى نتيجة واحدة هي أن الموجود وحده قوة.

ولنا أن نقول إن ليبنتز على صواب في نقده للمذهب الآلي وفي ثبات القوة والوحدة للجسم، وأنه على خطأ في نفي الامتداد، وإنما كانت مهمة نظرية الصورة الجوهرية عند أرسطو تفسير القوة والوحدة في الجسم مع بقاء الامتداد، ولكن ليبنتز اعتقد أن قبول الامتداد للقسمة إلى غير نهاية معناه أن الامتداد منقسم بالفعل إلى غير نهاية، وهذا غلط وقع فيه زينون الأيلي وانخدع به كثير من الفلاسفة من بعده، وعلى هذا الأساس بنى ليبنتز فلسفته، فلمنضِ معه إلى غايتها.

(٤) الجوهر أو المونادا

الجوهر الواحد بوحدة تامة خليق باسم مطابق له، وهذا ما حمل ليبنتز بعد أن قال «الجوهر» على أن يقول «مونادا» (١٦٩٦)، واللفظ يوناني الأصل معناه الوحدة، وقد أخذه عن جوردانو برونو أو أحد الكيميائيين من معاصريه، وكان قد ظهر بلندن سنة ١٦٧٢ كتاب لطبيب فيلسوف اسمه فرنسيس جليسون، فيه نظرية مماثلة لنظرية ليبنتز، فهل عرفه أثناء إقامته بلندن وتأثَّر به؟ لا ندري، ومهما يكن من هذه النقطة، فإن المونادا عنده قوة متجهة إلى الفعل بذاتها، حاصلة على التلقائية، فلا تفعل بتحريك محرك مغاير كما هو الحال في المادة في رأي أرسطو والمدرسيين وديموقريطس وديكارت، فإن التأثير الخارجي اصطدام جزء بجزء وليس للموناد أجزاء، وهذه القوة وسط بين القوة والفعل كما عرفهما أرسطو، مثلها مثل حبل مشدود إلى جسم ثقيل، أو قوس مشدودة، هي فعل كامن، وجهد مستمر يتجه إلى الفعل التام، فحالاتها كلها باطنة، يتولَّد بعضها من بعض بحيث يكون حاضرها حافظًا لماضيها مثقلًا بمستقبلها، ويلزم من ذلك أنها حياة ونزوع — وبذا تقوم قوتها — وأنها حاصلة على ضرب من الإدراك — وبذا تقوم وحدتها — وأنه يجب من ثمة تصورها على مثال النفس، والنفس هي القوة الوحيدة التي ندركها في ذاتها، كما يجب القول بأن كل مونادا فهي حاصلة على خصائص ذاتية تتشخص بها تبعًا لمبدأ اللا متمايزات، وإلا لم تتمايز فيها بينها، وهكذا نتصور من باطن، أي بالانعكاس على نفسنا، ما قادنا إليه تحليل الظواهر الخارجية، ونعلم أن الآلية والميتافيزيقا على حق كل في دائرة: الآلية هي الظاهر والسطح، والمونادا هي الباطن والصميم. فكل ما يحدث آليًّا وميتافيزيقيًّا معًا، وليس في الطبيعة جماد أو قصور، بل كل موجود فهو حي، وليس بين الموجودات من تفاوت في الحياة إلا بالدرجة، تبعًا لمبدأ الاتصال الذي يستبعد الانتقال الفجائي، وهذا التفاوت بالدرجة هو بحسب درجة تميز الإدراك والدرجات أربع هي: مطلق الحي أي ما يسمي جمادًا والنبات، فالحيوان، فالإنسان، فأرواح بعضها فوق بعض إلى غير نهاية، والفرق بين ما يسمى جسمًا وبين الموجود المقول إنه ذو نفس، أن الجهد والفعل في هذا يحفظان في الشعور والذاكرة، في حين أن الشعور والذاكرة لا يواجدان في ذاك إلا حال الفعل: «فكل جسم روح مؤقت، أي عادم الذاكرة».

ولما كانت المونادات بسيطة فيمتنع أن تبدأ ابتداءً طبيعيًّا وأن تنتهي انتهاءً طبيعيًّا، فإن الكون والفساد الطبيعيين يقومان في تركيب أجزاء وانحلال أجزاء.

وعلى ذلك فبداية المونادات خلق بالضرورة، ونهايتها إعدام، غير أن الله لا يعدم مخلوقًا، فالمونادات خالدة، وما يبدو للحسِّ كونًا وفسادًا عبارة عن نمو يجعل الحي منظورًا، ونقصان إلى ما لا نهاية يجعله غير منظور، وليست تصل النفس الإنسانية في خلودها إلى سعادة مطلقة، ولكنها تتدرج في الكمال والسعادة إلى غير نهاية، كما يقضي مبدأ الاتصال، وتبعًا لهذا المبدأ أيضًا يجب التسليم بأن المونادات لا متناهية العدد، يدل على ذلك من الجهة الواحدة أن المادة منقسمة إلى غير نهاية وأن تركيبها يستلزم من ثمة عناصر لا متناهية، ومن الجهة الأخرى أن المونادات محاكيات للذات الإلهية، والذات الإلهية تحاكي على أوجه لا متناهية، فهناك عدد لا متناهٍ من درجات الوجود.

ماذا تدرك المونادات؟ إنها تدرك العالم أجمع لأنها محاكيات للذات الإلهية كما تقدم، وكل منها مرآة للوجود لأنه لما كانت الأشياء متصلة فليس يمكن إدراك جزء دون إدراك الكل، غير أن كل مونادا تدرك العالم من وجهة خاصة بها، فإن لها مجال إدراك متميز ولا تدرك ما يجاوزه إلا إدراكًا مختلطًا، بحيث يقابل الإدراكات المتميزة في مونادا معينة إدراكات مختلطة في المونادات الأخرى، والعكس بالعكس، والإدراك المتميز في مونادا معينة هو «نشر» الإدراك المختلط المقابل له وجلاؤه، والإدارك المختلط «طي» الإدراك المتميز أو إجماله، فالإدراك يحتمل درجات بحسب مبلغ تميزه، تحت الإدراك المتميز والمعلوم بالشعور aperception يوجد إدراك ضعيف غير واقع في الشعور perception لم يعده الديكارتيون شيئًا مذكورًا ولكنه موجود حقًّا، يدل على وجوده أولًا أن النفس لا يمكن أن تكون غير فاعلة وقتًا ما، ولما كان الإدراك فعلها كانت تدرك دائمًا بالضرورة، ولكننا لا نشعر دائمًا أننا ندرك، فيلزم أن يكون فينا إدراكات غير مشعور بها، ثانيًا أن هناك ظواهر لا تعلل بغير التسليم بمثل هذه الإدراكات: كصوت الأمواج، فإنه صوت مجموعي يتضمن الأصوات الصغيرة المؤلف منها، وكالأفعال التي تبدو غير معقولة، فإنها تعلل بإحساسات ضعيفة غير مشعور بها آتية من داخل الجسم أو من الخارج، وهذا يدل على أن شيئًا واحدًا بعينه يمكن أن يتصور على أنحاء لا متناهية من حيث إن هناك درجات لا متناهية في التصور المتميز، ويدل على أن عدد المونادات لا متناهٍ.
لما كانت المونادات مستقلة بعضها عن بعضها تتغير من الداخل فتتولد حالاتها بعضها من بعض، كما سبق القول، وجب تفسير توافق حالاتها، ولا يفسر هذا التوافق إلا بافتراض خالق منسق (وهذا دليل أني على وجود الله) والقول بأن الله لما خلق النفس والجسم (أي ما يبدو جسمًا) وضع فيهما قوانيهما بحيث يتوافقان، أي إن الجسم يوجد معدًّا بذاته للفعل في الوقت الذي تريد النفس وعلى النحو الذي تريد، وأن النفس تحصل بذاتها على الإدراكات المقابلة لاستعداد جسمها، فيتلاقى الفعلان بموجب «تناسق سابق» مثلهما مثل ساعتين وفق الصانع وبينهما فظلَّتا متوافقتين دون تفاعل، وقد يقال: إذا كان كل شيء يجري في النفس كأن ليس هناك سوى النفس والله، فلِمَ قرن الله الجسم بالنفس؟ أليس الجسم عديم الفائدة؟ فيجيب ليبنتز أن هذا الاعتراض صادر من مبدأ الاقتصاد في العمل moindre action وهو مبدأ سليم، ولكن هناك مبدأ آخر هو مبدأ الأحسن أو مبدأ العلل الغائية، وبمقتضاه وجب أن يخلق الله أكبر عدد من الجواهر الممكنة، وأن يجعل تغيرات النفس مقابلة لشيء في الخارج، على أنه يمكن القول إن الجواهر تتفاعل، بشرط أن يقصد بذلك تأثير معنوي باطن شبيه بالتأثير الحقيقي من حيث المعلولات، فيكون معنى الفعل والانفعال أن المونادا تفعل من حيث هي حاصلة على كمال، وأنها تنفعل من حيث هي ناقصة، أو أن مونادا معينة هي أكمل من أخرى متى كان فيها علة ما يجري في الأخرى، أي متي كانت حاصلة على أفكار متميزة هي في الأخرى مختلطة.

هكذا رأى ليبنتز أن يحل مسألة اتحاد النفس والجسم وتفاعلهما، وكانت قد شغلت ديكارت فذهب إلى أن النفس تتلقى حركات الجسم فتعدل اتجاه هذه الحركات (إذ كان مفهومًا عنده أن كمية الحركة في العالم باقية كما هي وأن النفس من ثمة لا تخلق حركة)، ولكن ليبنتز يعترض عليه بأنه إذا كان من غير المعقول أن تعطي النفس الجسم حركة، فمن غير المعقول أن تستطيع التغير في اتجاه الحركة أو إنقاصها، وذهب مالبرانش إلى أن الله هو الذي يُحدث ما يقع للنفس والجسم من حركات بعضها بمناسبة بعض، وليبنتز يتفق معه في إنكار تفاعل الجواهر، ويوجه إلى رأيه انتقادين فيقول: إنه يُرجع الظواهر إلى علة عامة بدل أن يعين عللها القريبة، وإنه يلجأ إلى الله لجوء اليائس أي إلى معجزة متصلة، على حين أن نظرية سبق التناسق إن لجأت إلى الله، فالله فيها علة مباشرة للجواهر فحسب لا للظواهر، إذ أنه يخلق جواهر فاعلة بالطبع بموجب قوانين ذاتية ولا يحل هو محلها بمعجزة متصلة، وهنا نلمس أهمية مسألة اتحاد النفس والجسم، وتطورها من ديكارت إلى ليبنتز بعد مالبرانش وسبينوزا، وأثرها في تفاعل الموجودات إجمالًا، بل في مبدأ العلية نفسه، إذ أننا لو أنكرنا تفاعل الموجودات وهو ماثل للعيان لم يبق لدينا ما يختم الاعتقاد بالعلية.

كيف يفسر تصورنا لعالم خارجي في هذه الفلسفة؟ من البين أن العالم لا يمكن أن يكون فيها إلا ظاهريًّا أي مجموعة ظواهر من حيث إن المونادات جميعًا أن يكون فيها إلا ظاهريًّا أي مجموعة ظواهر من حيث إن المونادات جميعًا لا مادية، فالمادية هي الموجود منظورًا إليه من خارج، هي إحالة النسبة الميتافيزيقية بين وسيلة وغاية نسبة كمية بين أجزاء؛ ذلك بأنه يوجد في كل مونادا إدراك مختلط إلى جانب الإدراك المتميز، وهذا الإدراك المختلط لما بين الأشياء من نسب منطقية هو الذي يعطيها في نظرنا ظاهرة أشياء قاتمة في المكان والزمان، والجسم مجموعة مونادات ترأسها مونادا مركزية هي بالإضافة إليه كنفسنا بالإضافة إلى جسمنا، أو هو مجموعة إدراكات مختلطة، ومن من إدراك متميز إلا وينطوي على إدراكات دنيا لا نهاية لها، وما الجسم الآلي آخر الأمر إلا صنع الفكر يؤلف بين إدراكاته، فليس للجسم وحدة حقة، وإنما وحدته آتية من إدراكنا، فهو موجود خيالي أو ظاهري، فالنفس وحدة الجسم، والجسم وجهة نظر النفس، وما المكان إلا «نظام الأوضاع» ينشأ حين ندرك عدة ظواهر في وقت واحد، وما الزمان إلا «نظام المواقف المتعاقبة»، فليس المكان والزمان شيئين متمايزين من المونادات وسابقين عليها، كما يتوهم نيوتن وأتباعه، ولكن إذا كان العالم الخارجي ظاهريًّا، فما الفرق بينه وبين رؤى الأحلام؟ الفرق أن الإحساس أقوى وأدق من الرؤيا، وأن الأجسام التي تبدو فيها المونادات هي ظواهر لها أصل ومرتبطة بعضها ببعض بعلاقات ثابتة أو قوانين كلية تسمح لنا بتوقع ظاهرة بعد أخرى فيتحقق توقعنا، بينما صور الأحلام مجرد ظواهر لا أصل لها، على أن اليقين بهذه العلامات أدبي لا ميتافزيقي.

التمييز بين الظواهر الحادثة والقوانين الكلية يثير مسألة أصل المعرفة وقيمتها، يريد لوك أن تكون جميع معارفنا وليدة التجربة، ولكن في النفس معارف ليست آتية عن طريق الحواس، هي المبادئ الضرورية والحقائق الكلية، إننا نطبق عفوًا مبادئ لا ندركها إدراكًا صريحًا إلا فيما بعد، وننكر التناقض ولو لم نسمع قط بمبدأ عدم التناقض، وعلى هذا لا تكون النفس لوحًا مصقولًا، بل تكون حاصلة على معارف غريزية أو فطرية، يعترض لوك قائلًا: لا إدراك بدون شعور، فتكون المبادئ الغريزية معارف غير معروفة، وهذا خلف، ولكن ليس من البين بذاته أن لا إدراك بدون شعور، إن بين القوة الصرف والفعل التام حالة وسطى هي حالة الكمون تسمح لنا بالقول بأن المبادئ موجودة في النفس ولو لم يصاحبها شعور، كعروق الرخام ترسم ملامح التمثال قبل تحققه، فإذا قلنا مع لوك «ليس» في العقل شيء إلا وقد سبق في الحس وجب أن نستدرك فنقول «إلا العقل نفسه»، على أن طبيعة المونادا تقضي بأن تكون جميع معارفنا باطنة، إذ ليس للمونادا نوافذ تنفذ منها صور الأشياء، وليست المونادا كالشمع تنطبع عليها صور الأشياء، إنها موجود متميز متشخص، فلا يمكن اعتبارها خالية بادئ ذي بدء، والإ لم تتميز من غيرها، تبعًا لمبدأ اللا متمايزات، إن وجودها المتميز يجب أن يقوم في شيء باطن هو مجموع استعداداتها للفعل، فالمونادا تتدرج باطِّرَادٍ من إدراكات غامضة إلى إدراكات واضحة فإلى إدراكات متميزة، بهذا المعنى يصح القول بأن التجربة شرط ظهور الكامنات في النفس وتطبيقها، كما هو الحال عند أفلاطون، أي بمعنى أن التجربة مجموع المعارف الحادثة العارضة للنفس من ذاتها، بينما نعني بالعقل مجموع المبادئ الضرورية والحقائق الكلية اللازمة منها.

ومتى كانت المونادا مشتملة منذ الأصل على استعدادات للفعل، كما يقضي مبدأ اللا متمايزات ويقضي سبق التناسق، لزم أن جميع أفعالها صادرة عنها، وأن هذا معنى الحرية، إن وجود الإرادة في حال توازن تام تفعل بعده بحرية، وجود غير معقول وغير ممكن، أما أنه غير معقول فلأن مبدأ اللا متمايزات يحول دون المساواة التامة في الطبيعة، فالفوارق موجودة ولو لم نشعر بها، وفي النفس إدراكات كثيرة غير مشعور بها، وأما أن التوازن التام غير ممكن، فلأن نتيجة عدم الفعل، لا الفعل من حيث إن الفاعل لا يجد سببًا يميل به إلى جهة دون أخرى، كما يروى عن حمار بوريدان.٣ فالحرية «جبرية نفسية» خاضعة لمبدأ السبب الكافي الذي يعني أن الفعل المختار هو الأحسن، وهو سبب أدنى يحتل مكانًا وسطًا بين الحرية العمياء التي نجدها عند ديكارت والجبر الذي نجده عند سبينوزا، لا مجال عند ديكارت لغير الحادث، ولا مجال عند سبينوزا لغير الضروري، ولكن القضية الضرورية هي التي محمولها متضمن في مفهوم موضوعها، أو التي ترد إلى مثل هذه القضية، فنقيضها يتضمن تناقضًا، والقضية الممكنة أو التجريبية هي التي لا يتضمن نقيضها تناقضًا ولا ضرورة لها، فالفعل الحر فعل ممكن من بين أفعال أخرى ممكنة، وما الشعور بالحرية الذي يعتمد عليه ديكارت إلا عدم الشعور بأسباب الفعل، وكثيرًا ما تكون هذه الأسباب دقيقة غير مشعور بها، مثلنا في ذلك مثل الإبرة الممغنطة، لو كان لها شعور لتوهمت أنها حرة في اتجاهها صوب الشمال، لعدم إدراكها الحركات غير المحسوسة في المادة المغناطيسية.
الحقيقة أن لا فرق بين الإمكان الذي يقول به ليبنتز وبين الضرورة التي يقول بها سبينوزا، فإن ممكنًا واحدًا بعينه من بين الممكنات كان محتومًا بمقتضى مبدأ اللا متمايزات ومبدأ سبق التناسق، فيكون حكمه حكم الضروري، وليبنتز يقول: «من الثابت أن لكل حمل بمعنى الكلمة أساسًا في طبيعة الأشياء، وحين لا يكون محمول القضية متضمنًا صراحة في الموضوع، يجب أن يكون كامنًا فيه، إذ أن طبيعة الجوهر الشخصي أو الموجود التام هي أن تكون فكرته تامة بحيث تكفي لأن نفهم منها ونستنبط جميع محمولات الموضوع المضافة إليه هذه الفكرة»،٤ فهو يضع المحمولات العرضية والمحمولات الذاتية على قدم المساواة، ولا يحسب حسابًا للقوة التي هي إلى الضدين، لأنه رمى إلى المعقولية الكلية وأراد أن تكون كل قضية صادقة قابلة لبرهنة قياسية، وبهذا الاعتبار تتحول القضية الممكنة إلى ضرورية ما دام صدقها يلزم من إدراك حديها، وما جدوى قول ليبنتز إن الحدين الأولين لا يجتمعان إلا بتحليل لا نهاية له غير ميسور إلا للعقل الإلهي، ما داما يجتمعان على كل حال؟ إن ليبنتز يقف نفس موقف سبينوزا؛ ففكرة الجوهر عندهما واحدة، وهي أن الجوهر ينطوي على كل ما يحتم أن يقع له، مع هذا الفارق وهو أن الجوهر الأوحد عند سبينوزا يتجزأ عند لبينتز إلى عدد لا متناهٍ من الجواهر الجزئية كل منها يمثل الوجود أجمع، دون أن يبرر ليبنتز خروجه من الأنا إلى جواهر أخرى، وما حاجته إليها والأنا حاوٍ لجميع التصورات؟ أجل إنه يقول إن المونادا تصادف عقبات تعوق تصورها، فتضيفها إلى مونادات أخرى، ولكن المونادات لا تتفاعل، فلم لا يقول بمونادا واحدة تحاول أن تستوضح جميع وجهات الوجود؟ ولو أنه التزم التصورية لكان اقتصر على جوهر واحد هو الأنا المتصور، وهكذا سيفعل مواطنه فختي.

(٥) الله

فوق المونادات المتناهية توجد المونادا العظمى اللا متناهية أو الله، ووجود الله ثابت بأدلة إنية ودليل لمي، أما الأدلة الإنية فثلاثة: الأول سبق التناسق، وقد مر الكلام عنه، الثاني يؤخذ من اعتبارات المونادات ماهيات، ومؤدَّاه أن مبدأ الاتصال يأبى الانتقال الفجائي، وإذن فليست تنتقل المونادات من العدم إلى الوجود انتقالًا فجائيًّا، ولكن الممكنات موجودات لا متناهية في الصغر، موجودة في ذات هي الذات الإلهية، وتحاول أن تتحقق، وتتعارض في محاولاتها، فلا بد من علة ترفع العائق من سبيل البعض الذي يتحقق، إذ ليس بصحيح ما زعمه سبينوزا من أن جميع الممكنات تتحقق، فإنها متعارضة متنافرة لا تلتئم في نظام واحد، وحتى لو سلمنا بتحقيقها جميعًا للزم أنها تتصارع وأن بعضها يتغلب فيبقى الغالب فقط، والدليل يؤخذ من المتجانسات التي لا يلحقا تعارض؛ ذلك بأن مبادئ الأشياء الحادثة، وهي الزمان والمكان والمادة، متجانسة تحتمل كل تعيين فليست تقتضي المادة بذاتها الحركة دون السكون، ولا حركة معينة دون أخرى، فلا بد من علة تختار وتحقق، وتكون موجودًا ضروريًّا ينطوي على علة وجوده.

وأما الدليل اللمي فهو دليل القديس أنسلم على هذه الصورة: يجب التمهيد له ببيان أن الله ممكن، أي إن فكرة الله لا تتضمن تناقضًا، فيصير الدليل هكذا: «إن الله واجب بموجب ماهيته، فإذا كان الله ممكنًا، كان موجودًا»، والله ممكن، فإن الموجود اللا متناهي، وليس يوجد فيه ولا خارجًا عنه ما يحد من ماهيته، أما فيه فصفات لا متناهية مؤتلفة في بساطة تامة، ولا تناقض إلا في المركب من عناصر متنافرة، وأما خارجًا عنه فليس يوجد شيء مكافئ له، ففكرة الله لا تتضمن تناقضًا، فالله ممكن، والممكن — كما سبق القول — يقتضي الوجود أو يميل بذاته إلى الوجود بقدر ما فيه من كمال، ولما كان الله غير متناهٍ، فليس يعترض ميله إلى الوجود شيء مغاير له، كما تتعارض الماهيات المتناهية؛ لذا يذهب ميله بذاته إلى الوجود، فالممكن الذي هو الله موجود بمحض كونه ممكنًا، والإمكان والوجود شيء واحد فيه.

الله خالق المونادات: «إن الله، إذ يدير، إن جاز هذا التعبير، على جميع الجهات وجميع الأنحاء النظام الكلي للظواهر الذي يرى من الخير أن يحدثه ليعلن مجده، وإذ ينظر إلى جميع وجوه العالم على جميع الأنحاء الممكنة، من حيث أن ليس هناك من علاقة تغيب عن علمه الكلي، فنتيجة كل نظرة إلى العالم من جهة معينة جوهر يعبر عن العالم طبقًا لهذه النظرة»، والله حافظ المونادات، لقد ظن ديكارت أن ليس بين آنات الزمان ارتباط ضروري، فاعتبر الحفظ خلقًا متجددًا، ولكن ينقل المخلوق من الإمكان إلى الوجود والحفظ يحفظ عليه الوجود المستمر؛ لأن المخلوق متعلق بالعلية الإلهية على الدوام، والله هو العلة الوحيدة (كما هو الحال عند مالبرانش وسبينوزا) من حيث إن المونادات لا تتفاعل، وأن فعلها «نشر المطوي فيها، فالاتجاه واحد عند الفلاسفة الثلاثة، وهو اتجاه إلى وحدة الوجود.

هل كان الخلق فعلًا ضروريًّا؟ رأى سبينوزا أنه ليس يمكن أن تصدر أفعال الله اعتسافًا فأخضعها للضرورة، ورأى ديكارت أن ليس يمكن أن يكون الله خاضعًا للضرورة فأطلق له الحرية، ولكن يجب التمييز بين الحقائق الضرورية والحقائق الممكنة، أما الأولى فليست تابعة للإرادة الإلهية، إذ لو كانت العدالة (مثلًا) وضعت اعتسافًا ومن غير سبب لما بدت في ذلك طبيعة الله وحكمته، ولما كان هناك ما يلزمه بالعدالة من حيث إنه يستطيع أن يغيرها، وأما القضايا الممكنة فتابعة للضرورة الأدبية التي تقوم في اختيار الأحسن، وهي وسط بين الضرورة المطلقة والحرية المطلقة، نتبينها في إراداتنا تميل بها ولا تضطرها، وهي الضرورة الخاصة بمبدأ السبب الكافي، والممكنات، وإن كان كل منها على حدة ممكنًا في ذاته، ليست ممكنة كلها بعضها مع بعض، ومن بين التأليفات الممكنة التي لا تحصى، يوجد بالضرورة التأليف الذي يحقق أكبر كمية من الماهية أو الإمكان، وهو هذا العالم الذي هو خير العوالم الممكنة، فخلقه الله من حيث إن الله لا يفعل شيئًا إلا بمقتضى حكمته الفائقة، فالتفاؤل لازم من حكمة الله وخيريته.

وماذا نقول في الشر إذن؟ يجب التمييز بين أنواع ثلاثة للشر: الشر الميتافيزيقي وهو النقص بالإجمال، والشر الطبيعي وهو الألم، والشر الخلقي وهو الخطيئة، فأما الشر الميتافيزيقي فلا محيص عنه، إذ أن النقص والحد والعدم ملازمة للموجود المتناهي، ولكن إذا ذكرنا أن الله لم يخلق أي مخلوق إلا وقد لحظ مكانه في الكل، وأنه خلق خير العوالم الممكنة، لزم أن كل مخلوق فهو حاصل في كل آنٍ على ما يحق له من كمال بالإضافة إلى الكل، وإنما تبدو لنا الأشياء أقل كمالًا مما كان يمكن أن يكون، لأننا لا ندركها إلا مفرقة وهذا خطأ وقع فيه بيل، وثمة خطأ آخر وقع فيه، هو اعتبار الله علة الشر، وقد قلنا إن الشر الميتافيزيقي حد وعدم، وليس يقتضي العدم علة، وأما الشر الطبيعي أو الألم فيفسر بأنه نتيجة للشر الميتافيزيقي أو للشر الخلقي، آتية من أن لنا جسمًا، وهذا خير، وأن الأجسام الطبيعية مترابطة، وهذا خير أيضًا، وأن الخطيئة تستحق العقاب، على أن الألم قد يكون إنذارًا باجتناب ضرر، أو وسيلة لاكتساب ثواب، فيكون سببًا للخير، وعلى كل حال ليست الشرور من الكثرة والخطورة على ما يقوله المتشائمون، إنها لتعد كمية مهملة بالقياس إلى الخيرات في الحياة الإنسانية وفي جملة العالم، ويمكن التغلب عليها بالعقل والمران، وأما الشر الخلقي فعلته القريبة حرية الإنسان التي هي في ذاتها خير عظيم، فهو ليس محتومًا، وليس يريده الله بإرادة سابقة، بل إنما يسمع به كجزء من العالم الذي هو خير العوالم الممكنة، من حيث إن الله لا يقرر خلق الاشياء مفردة، فما على الإنسان إلا أن يحسن استعمال الحرية، وما منحنا الحرية إلا لنحسن استعمالها، هذا إلى أن الشر الخلقي نفسه قد يكون سببًا لخير أعظم، فلولا خيانة يهوذا لما كان المسيح صلب وخلص البشر، فالخير والتناسق والنظام صفات ظاهرة في مملكة الطبيعة، وهي أظهر وأعظم في مملكة النعمة أو مدينة الله التي تضم الأرواح العاقلة الأخلاقية، في مملكة النعمة الله ملك أو بالأحرى أب، وفي مملكة الطبيعة الله صانع يدبر بقوانين آلية، فالتفاؤل يؤخذ بنوع خاص من اعتبار النظام الخلقي ومملكة النعمة.

(٦) الأخلاق والدين

يتبين النظام الخلقي من جملة إدراكاتنا المتميزة، فإنها هي المطابقة لطبيعتها وطبيعة الوجود، فواجبنا أن نتوقف عن العمل بناء على إدراكاتنا المختلطة، فما الخطيئة إلا الفعل الصادر عن إدراك ناقص، وواجبنا أن نروض النفس على العمل بناء على إدراك متميز، بل إن واجبنا الأول العمل على اكتساب الإدراكات المتميزة أي القواعد الكلية، فإننا بذلك نحقق كمال عقلنا الذي هو ماهيتنا ونحصل على سعادتنا الحقة التي هي الغبطة العقلية، والإدراك المتميز يبعث على العمل، وكلما تعمقناه وجلوناه زاد تعلقنا بالخير، في حين أن الجهل سبب انحرافنا عن الطريق القويم، وأن مجرد ترديد القواعد الكلية عقيم لا يثير فينا ميلًا إليها، وكلما اتسع مجال إدراكنا المتميز قوي شعورنا بعلاقتنا بإخواننا في الإنسانية وبالله، ومن ثمة كلما ازددنا كمالًا اغتبطنا بخير الآخرين وكمالهم وأحببناهم، إذ أن المحبة هي الاغتباط بسعادة الغير، وتجد المحبة موضوعها الأقصى في الله الموجود الفائق الكمال، فهو خيرنا وكمالنا، وباغتباطنا بكماله نكمل نفوسنا، وهذه ماهية الدين الطبيعي.

أما الأديان الوضعية فتقليد للتقوى الحقة مفيد للجمهور، طقوسها تقليد للأفعال الفاضلة، وعقائدها ظل الحقيقة، وبالرغم من هذا النقص هي ممدوحة إذا عاونت على الارتفاع من الحياة الحسية إلى الحياة الروحية، ومذمومة إذا صرفت عن هذه الغاية، ومن هذه الوجهة خير الديانات الوضعية هي المسيحية، وليس بصحيح أن عقائدها معارضة للعقل.

بهذه الآراء يتابع ليبنتز العقلية الحديثة ولا يزيد عليها شيئًا، ولكنه يعد زعيمًا اتصل أثره إلى اليوم في نواحٍ أخرى؛ فهو قد بيَّن المذهب العقلي تبيينًا منطقيًّا ومضى معه إلى نتائجه المحتومة، وأهمها نظريته في الحرية، فكان أشد استمساكًا من ديكارت بمبدئهما المشترك وأدق تطبيقًا له، وهو أعظم مؤسسي المنطق الرياضي الذي تقدم في عصرنا تقدمًا كبيرًا، وهو مؤسس الروحية التصورية على نحو أكثر جرأةً ووضوحًا من مالبرانش، وإلى فلسفته ترجع النظرية الفيزيقية العصرية المسماة دينامزم، أي نظرية الطاقة، والتي ترد الأجسام إلى «مراكز قوة» أو كهرباء.

١  فونتنل (١٦٥٧–١٧٥٧) أشهر طائفة من المثقفين تجاهلوا ميتافيزيقا ديكارت وأخذوا بعلمه الآلي وقاعدته القائلة: «لا أسلم إلا ما يبدو لي جليًّا»، واستخدموها أداة لنقد الدين، فمهدوا لفلسفة القرن الثامن عشر، له كتاب بعنوان «أحاديث في كثرة العوالم» (١٦٨٦) يستدل بنظرية كوبرنك على غرور الإنسان القديم الذي وضع نفسه في مركز الكون، ويذهب إلي أن علمنا نسبي، وكتاب «تاريخ النبوءات» ينكرها جميعًا، ويبرز وجوه شبه بين المسيحية والوثنية تحمل علي تطبيق انتقاداتنا للوثنية على المسيحية، ورسالة في «أصل الأساطير» تردها إلى جهل الإنسانية الأولى وتخيلها الخوارق، وترى في هذا التاريخ تاريخ أخطاء العقل الإنساني.
٢  بيير بيل (١٦٤٧–١٧٠٦)، أعجبه من ديكارت إعلانه الحق في التفكير بحرية دون الرجوع لغير المعاني الجلية، جمع معلومات كثيرة استخدمها لبيان بطلان دعوى التوفيق بالعقل بين الآراء الآنسانية، وقال بالشك ونقد المذاهب، وتشكك في المعجزات وسائر العقائد، ولم يَرَ علاقة ضرورية بين الأخلاق والدين، وأنكر حرية الاختيار، وأشاد بالتسامح الذي هو في الحقيقة عدم المبالاة بالدين، وحشد الاعتراضات المستمدة من وجود الشر في العالم فأنكر العناية الإلهية، مؤلفه المشهور «المعجم التاريخي النقدي» (١٦٩٧) يعد كنانة نقاد الدين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
٣  انظر كتابنا «تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط» ص٢٤٩.
٤  «مقال في ما بعد الطبيعة» فقرة ١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤