الفصل الحادي عشر

نقد العقل النظري

(١) المسألة النقدية

ما قيمة معارفنا؟ أو ما النسبة بين معارفنا وبين الوجود؟ تلك هي المسألة المركزية في الفلسفة، والتي يتعين حلها بادئ ذي بدء، لا يرى كنط أن نقد المعرفة يبدأ بالشك المطلق كما هو الحال عند ديكارت؛ فإن لدينا علمين قائمين لا تختلف فيهما العقول هما: الرياضي والطبيعي، على حين أن ثالث العلوم النظرية، وهو ما بعد الطبيعة، موضع خلاف متصل ولو أن في العقل استعدادًا طبيعيًّا له يدفعه إليه دفعًا، وعلى ذلك يكفي أن نتبين السبب في إمكان العلم الرياضي والعلم الطبيعي، أو شرائط العلم الحق، فيبين لنا في نفس الوقت سبب استحالة الحصول على معرفة ميتافيزيقية، ولعنا نجد بعد ذلك تفسيرًا للاستعداد الطبيعي للميتافيزيقيا في غير الناحية النظرية، أي في الناحية الخلقية، ولما كانت المعرفة الحقه تقوم في الحكم، وهو الفعل العقلي الذي يحتمل الصدق أو الكذب، بينما المفردات ليست معرفة بمعنى الكلمة لا تحتمل صدقًا أو كذبًا، كان الواجب علينا أن نستعرض مختلف أحكامنا لنتبين نوع الحكم الذي يعتمد عليه العلم، وننظر في خاصيته وطريقة تأليفه؛ وبذا نكون قد حللنا المسألة.

الأحكام نوعان: أحكام تحليلية وأحكام تركيبية، الأحكام التحليلية هي التي محمولها مستخرج من مفهوم موضوعها، كقولنا: الجسم ممتد، أو: الكل أعظم من الجزء، أي إنها التي تحلل مفهوم الموضوع إلى العناصر المتضمنة فيه ثم ترد إليه هذه العناصر بالإضافة؛ لذا كانت أحكامًا أولية أو قبلية apriori مركبة بدون معونة التجربة، وكانت كلية ضرورية كمبدأ الذاتية الذي تعتمد عليه، وهو المبدأ القائل إن كل ماهية فهي ما هي، ولكن هذه الأحكام تفسيرية بحت، لا يزيدنا محمولها معرفة بالموضوع، فلا جدوى منها، ولا فائدة لها في إقامة العلم، والأحكام التركيبية هي التي يزيد محمولها شيئًا جديدًا على الموضوع، فتوسع معرفتنا بالموضوع، وهي نوعان: أحدهما أحكام تركيبية ذاتية، أو أحكام إحساس مثل قولي: الشمس تسطع وهذا الحجز يسخن، أو: السكر حلو (أعني في مذاقي)، أو: أحمل جسمًا وأحس ثقلًا، هذه أحكام تعبر عن حالة شعورية، فقيمتها ذاتية لا تضطرني إلى اصطناعها دائمًا، ولا تضطر غيري إلى تصديقها؛ لأن الحكم هنا عبارة عن وضع نسبة بين إحساسين في الحال الراهن، والنوع الآخر أحكام موضوعية أو أحكام تجربة، وهي تعبر عن علاقة ضرورية كلية بين الموضوع والمحمول، فلها قيمة بالنسبة إليها معتبرين في نفسهما مستقلين عن الشخص الذي يحسهما، أي إن لها قيمة موضوعية، ولفظ «موضوعي» يعني في لغة كنط ما كان له قيمة كلية مستقلة عن الشخص بما هو شخص، مثل قولي: ضوء الشمس يسخن الحجر، أو: الجسم ثقيل؛ فإن قصدي هنا أن ضوء الشمس علة سخونة الحجر، وأن هذا حق ولو لم أحس هاتين الظاهرتين ولم أوقع النسبة بينهما، وجميع أحكامنا ذاتية أولًا تترجم عن شعورنا وتخضع لقانون التداعي، ثم يصير بعضها موضوعيًّا، والأحكام التي من هذا النوع الأخير أولية كالأحكام التحليلية مع كونها تركيبية، فإنها صادقة دائمًا بالنسبة إليَّ وإلى أي شخص آخر، ولا تتوقف على عدد التجارب ولا على حالة الشخص الذاتية، وهذه الأحكام هي التي تتألف منها العلوم، فالمسألة النقدية تعود إلى هذا: ما السبب في إمكان الأحكام التركيبية الأولية، مع العلم بأن الموضوع والمحمول مستفادان من التجربة، وأن التجربة جزئية متغيرة، وأننا بالرغم من هذا نعتقد بضرورة الحكم وكليته، أجل إننا حاصلون على هذا الاعتقاد، وليس يكفي لتفسيره قول لوك وهيوم إن الرباط بين الظواهر ذهني فحسب، وإن العادة التي تتكون بتكرار التجربة هي التي تجعلنا ننقل الضرورة الذاتية إلى ضرورة موضوعية، ليس يكفي هذا القول لأنَّ شأنه، وقد كشف لنا عن أصل هذا الرباط، أن يبدِّد اعتقادنا بموضوعيته، وهو لا يبدده، فالمطلوب وضع نظرية جديدة في المضوعية باعتبارها رباطًا كليًّا ضروريًّا بين محمول وموضوع متباينين مستفادين من التجربة وكان هيوم قد قال إن مثل هذا الرباط أمر غير معقول.

لنبين قبل ذلك أن العلوم تتألف من أحكام تركيبية أولية، وليكن الحكم الآتي مثالًا على أحكام الهندسة: «الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين»، فالمحمول هنا (وهو «أقرب مسافة») ليس متضمنًا في الموضوع (الذي هو «الخط المستقيم») ولكنهما متخارجان، يرجع الموضوع إلى الكيفية، فإن الاستقامة صفة للخط، ويرجع المحمول إلى الكمية والإضافة، ومع ذلك فالنسبة بينهما ضرورية كلية، أي إن هذا الحكم تركيبي أولي، وليكن الحكم الآتي مثالًا على أحكام الحساب: ٧ + ٥ = ١٢، فلا فكرة ٧ ولا فكرة ٥ تتضمنان فكرة ١٢، وليكن الحكمان الآتيان مثالين على أحكام العلم الطبيعي: أحدهما أنه في جميع تغيرات العالم الذي تظل كمية المادة بدون تغير؛ فإن معنى المادة لا يتضمن معنى عدم تغير الكمية، والحكم الآخر أنه في كل حركة الفعل والانفعال متساويان: فليس يتضمن معنى الحركة معنى المساواة بين الفعل والانفعال.

كيف نحصل على مثل هذه الأحكام؟ أما الأحكام الرياضية فإن خاصيتها التركيبية آتية من تصوير حدودها في المخيلة، فإنني أحصل على الخط المستقيم وعلى النقطتين بفعل الخيال، وأحصل على عدد ١٢ بإضافة الواحد خمس مرات إلى عدد ٧، وأما الاحكام الطبيعية فإن خاصيتها التركيبية آتية من كون حدودها ظواهر مدركة بالحس، أما صفة الأولية في هذين النوعين من الأحكام فآتية من كون الفكر حاصلًا على معانٍ رابطة يطبقها على الحدود، فإذا نظرنا في الأحكام الميتافيزيقية وجدنا حدودها، وهي العالم في جملته والنفس والله، غير محسوسة ولا متخيلة كما هو معلوم، ولا معقولة كما سيتضح فيما بعد، فهي أحكام تركيبية أولية، ولكن التركيب فيها ظاهري فقط، هو تركيب معانٍ صرفة لا تعتمد على مادة في الحس أو في الخيال، فهي لذلك لا تتصف بالموضوعية ولا تستحق أن تدعى علمًا.

فالمعرفة بمعنى الكلمة تتألف من عنصرين: مادة وصورة، بحيث لا توجد المادة في الفكر بدون صورة، وبحيث لا يكون للصورة في نفسها أي معنى لأنَّ وظيفتها الاتحاد بالمادة، المادة موضوع الحدس الحسي، وليس لنا من حدس سواه، والصورة رابطة في الفكر تسمح بتركيب حكم كلي ضروري لأنَّها هي أولية، هناك إذن مادة للفكر أو وجود خارجي، وكنط لا يتابع التصورية المطلقة في إنكار هذا الوجود أو التشكك فيه، وإن يكن مذهبه يمنع من القول به كما سنرى كان بعضهم قد عزا إليه أنه تصوري مطلق بعد ظهور الطبعة الأولى لكتابه، فوضح رأيه في الطبعة الثانية وتوسع في نقد التصويرية المطلقة، وهو يصرح بإن الأحساس انفعال، وأن التخيل فعل، فإذا كنت أحس نفسي منفعلًا فجب أن أعتبر نفسي خاضعًا لتفسير شيء فعال، غير أنه يصرح أيضًا أننا لا ندرك من الشيء إلا انفعالنا به، فيأخذ بنصف تصورية، ويعتبر مهمة نقد المعرفة منحصرة في تبين ما هو آتٍ من خارج وما يضيفه إليه الفكر من عنده، وهذا الذي يضيفه الفكر، أي الصورة في المعرفة، يسميه Transcendental ويعرفه بأنه معنى أو مبدأ ذاتي للفكر، متقدم على التجربة تقدمًا منطقيًّا لا زمنيًّا، ووظيفته جعل التجربة ممكنة، أي تركيب موضوعات محسوسة وأحكام كلية، واستعماله على هذا الوجه مشروع، غير أنه قد يطبق اعتسافًا خارج نطاق التجربة، أي على مطلق الوجود، كما أن من المعاني والمبادئ الذاتية، كمعاني العالم والنفس والله، ما يجاوز بطبيعته حدود التجربة، وفي هاتين الحالتين يتخذ المعنى أو المبدأ قيمة خاصة في حين أنه صورة بحتة، فيسمي كنط هذا الاستعمال Transcendant؛ لذا نترجم اللفظ الأول بالصوري في مقابل المادة الآتية من خارج، ونترجم اللفظ الثاني بالمفارق أو الميتافيزيقي في مقابل التجريبي،١ ويدعو كنط مذهبه بالتصورية الذاتية أو التصورية، ويميز بينه وبين التصورية المطلقة حيث يقول: «إن قضية التصوريين الحقيقين بهذا الاسم، من المدرسة الأيلية إلى الأسقف باركلي، هي أن كل معرفة حسية فهي ظاهرية، وأن الحقيقة لا توجد إلا في معاني العقل؛ لأن العقل عندهم حدسي ومعانيه موضوعات حقة، بينما المبدأ المهيمن على مذهبي التصوري هو أن كل معرفة آتية من العقل الخالص فهي ظاهرة، وأن الحقيقة لا توجد إلا في التجربة؛ لأن العقل عندي صوري ووظيفة معانيه توحيد التجربة».

وقوانا الفكرية ثلاث، أي القوى التي ترد كثرة المادة إلى الوحدة، أو بعبارة أدق مجموعات الصور المتجانسة؛ لأن التصورية تنكر على العقل دعوى النفاذ إلى الجوهر وقواه: القوة الأولى هي الحساسية الصورية، وهي غير الحساسية التجريبية التي تقبل من خارج مادة الإحساس، فإن هذه المادة كيفية صرفة، كاللون والصلابة والطعم والرائحة والحرارة والبرودة، ونحن ندركها في المكان والزمان، فيجب تبيان أن المكان والزمان صورتان ذاتيتان تخلعهما الحساسية الصورية على مدركات الحساسية التجريبية، فترتبها بوساطتهما في علاقات أحياز في المكان وتقارن وتعاقب في الزمان، وتجعل الرياضيات الخالصة أو البحتة ممكنة بأن توفر لها الصورة الفكرية اللازمة للضرورة والكلية، والقوة الثانية الفهم الصوري، وهو غير الفهم المنطقي الذي لا ينظر إلا إلى النسب القائمة على مبدأي الذاتية وعدم التناقض في الأحكام التحليلية، فإن هذه النسب تتناول الممكن فقط، وهناك الموجود بالفعل وله نسب خاصة به، هذه النسب يضعها الفهم الصوري بين مدركات الحساسية فيؤلف أحكامًا كلية ضرورية، فيجعل العلم الطبيعي ممكنًا (ومن هنا يتبين سبب تقديم كنط العلم الرياضي على العلم الطبيعي، فإنه عنده يتضمن شرطي تصور الطبيعيات، وهما المكان والزمان، على حين أن أرسطو يؤخِّره لأنه يرى موضوعاته، وهي الأعداد والأشكال، مكتسبة بتجريدها من المحسوسات المتضمنة أصل معنيي المكان والزمان)، والقوة الثالثة النطق، وهو حاصل على معانٍ ثلاثة يرد إليها جميع المعارف فيحقق الوحدة التامة في الفكر، هذه المعاني هي العالم والنفس والله: العالم يشمل جميع الظواهر الخارجية، والنفس تشمل جميع الظواهر الداخلية، والله علة الطائفتين من الظواهر، فنقد العقل يبين أن هذه المعاني صور بحتة وظيفتها هذا التوحيد، وأنها إذا أخذت كموضوعات وجودية كانت مدعاة لأخطاء أو أغاليط لا حل لها، ومن ثمة أن علم الميتافيزيقا ممتنع، وكتاب «نقد العقل النظري» يأخذ لفظ العقل بمعنى واسع يعادل قولنا القوة الداركة، وينقسم إلى قسمين كبيرين: الحساسية الصورية، والمنطق الصوري، وينقسم هذا القسم الثاني إلى قسمين: التحليل الصوري وموضوعه استكشاف الصور الذاتية للفهم، والجدل الصوري وموضوعه أغاليط النطق.

(٢) الحساسية الصورية

المكان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الظاهرة التي تشمل حواسنا الخمس، والزمان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الباطنة بصفة مباشرة، وإلى قوة الحساسية الظاهرة بصفة غير مباشرة من حيث أن كل إحساس فهو حدث نفسي له موضعه من الزمان، وهنا يثير كنط مسألتين: الأولى هل لهاتين الصورتين وجود في الذهن وهل هما أوليتان؟ ويسمي البرهنة على هذه المسألة بالعرض الميتافيزيقي، والثانية هل هاتان الصورتان موضوعيتان وصالحتان لاكتساب معارف أولية؟ ويسمي البرهنة على هذه المسألة بالعرض الذاتي.

أما المسألة الأولى فيورد عليها كنط ثلاثة أدلة: الدليل الأول أننا لولا هاتان الصورتان لما استطعنا إدراك المحسوسات في المكان والزمان، إذ أننا نتصور الموضوعات متحيزة خارجًا عنها وبعضها إلى جانب بعض، فيرتبها ترتيبًا مكانيًّا، فصورة المكان مفترضة في كل تجربة ظاهرة، ولدينا تصورات حسية متقارنة أو متعاقبة، ونحن نقول إنها تقابل أشياء متقارنة أو متعاقبة، فصورة الزمان مفترضة في التقارن والتعاقب، أي في كل ظاهرة باطنة، الدليل الثاني أننا نستطيع أن نطرد من ذهننا الموضوعات والأحداث التي نضعها في المكان والزمان، ولا نستطيع أن نمحو تصور المكان والزمان، ويعلم كنط أنه يمكن أن يقال إنهما معنيان كليان مجردان من التجربة كمعاني الأجناس والأنواع، فيرد قائلًا إن المعنى المجرد من التجربة ليس كليًّا بمعنى الكلمة، وإنما هو معنى عام يختصر الجزئيات المدركة، وهو لذلك كلي نسبي يحتمل استثناء لاستحالة استيعاب الجزئيات جميعًا، ثم هو أفقر من المعنى الجزئي لأنه يحتفظ ببعض عناصره ويغفل الباقي! ثم إن أفراده هي الموجودة أولًا، وهي متباينة فيما بينها، أما صورتا المكان والزمان فهما من جنس المكان والزمان الجزئيين، ونحن نحصل على أجزائهما بقسمة المكان الواحد والزمان الواحد إلى أجزاء متجانسة، فهما كليان حقًّا حاصلان على «كمية مطلقة» الدليل الثالث أننا نتصور المكان والزمان غير متناهيين، وليس في التجربة سوى مقادير متناهية، وإن قيل إن المعاني العامة غير متناهية هي أيضًا من حيث إننا ندرج تحتها عددًا لا متناهيًا من الأفراد، كان الجواب أن هذه المعاني ليست غير متناهية هي أنفسها، ولكنها مجردة غير معينة وليست، أفرادها متضمنة فيها كتضمن أجزاء المكان والزمان فيهما.

وأما المسألة الثانية فيورد عليها كنط دليلًا بعتبره حاسمًا (وإن يكن أثبته في الطبعة الأولى فقط من «نقد العقل النظري» وذكره في «مقدمة لكل ميتافيزيقيا»: الرياضيات علوم أولية، والمطلوب تفسير إمكانها، الحساب علم الزمان إذ أن العدد يتكون من آنات الزمان المتعاقبة، والهندسة علم المكان، فإذا لم يكن المكان والزمان صورتين أوليتين موضوعيتين، كانت المقادير الرياضية تجريبية، وكانت القضايا الخاصة بها ذات كلية نسبية فحسب، وانهارت الرياضيات الخالصة، ولكنها قائمة، تثبت للأعداد والأشكال علاقات كلية ضرورية، فالنظرية النقدية لازمة.

هذه الأدلة واهية، فالدليل الأول لا ينهض إلا إذا سلمنا لكنط أن الأحساس إحساس بكيفية صرفة لا امتداد لها في ذاتها ولا مدة، وهذا قول لازم من التصورية، ساقط بسقوطها؛ فإننا إذا قلنا إن المحسوس متحيز في مكان، كان إدراك المكان مقارنًا لإدراك المحسوس، ولم تعد هناك ضرورة لا يكون المكان مفارقًا للكيفية سابقًا عليها، وإذا قلنا إن التعاقب قانون الأحداث الظاهرة والباطنة، وإن هذا التعاقب زمان بالقوة يصير زمانًا بالفعل حالما نعده، كان التعاقب أساسًا للزمان، ولم يكن الزمان مفترضًا للتعاقب،٢ والدليل الثاني يعني أن تصور المكان والزمان لازم للمخيلة لأن وظيفتها تصور المحسوس الذي هو في المكان والزمان، ولا يعني أن صورتي المكان والزمان غير مجردتين من التجربة.
إن كنط يفهم التجريد على طريقه الحسيين، ولكن هناك تجريدًا من نوع آخر دل عليه أرسطو، هو استخلاص الخصائص الجوهرية بحدس عقلي، وليس هذا التجريد اختصارًا للجزئيات المدركة فحسب، وإنما هو إدراك للماهية مهما يكن من عدد الجزئيات، والماهية الحاصلة به مثال ونموذج لجميع الجزئيات الممكنة، وهي من ثمة كلية ضرورية لتجردها عن الأعراض المخصصة لكل جزئي والمختلفة بين جزئي وآخر، فلم لا نقول إننا نحصل على معنيي المكان والزمان بتجريد المكان والزمان الجزئيين عمَّا يلابسهما من موضوعات وأعراض؟ والدليل الثالث يعني فقط أن المخيلة تتخيل دائمًا مكانًا وراء مكان وزمانًا وراء زمان، ولا يعني أنها تتخيل، أو أن العقل يتعقل مكانًا وزمانًا غير متناهيين بالفعل، من حيث إن اللا متناهي في المكان والزمان لا يوجد إلا بالقوة، والدليل الرابع قائم على أن كنط لم يفطن إلى أن باستطاعة العقل أن يحيل المحسوس معقولًا بالتجريد، ومن ثمة كليًّا ضروريًّا، وأن التجريد الذي نعنيه أكثر تحقيقًا لموضوعية العلم، لأنه يشتق موضوع العلم من ذات المحسوس، ونظرية كنط تجعل هذا الموضوع شيئًا مغايرًا للمحسوس وذاتيًّا صرفًا، هذه النظرية وليدة عقل اقتبل المذهب الحسي،٣ ثم أخذ يعمل على تصحيحه كي يصون العلم، فلم يجد إلا ان يضيف للذات العارفة ما يطلبه العلم ويأباه المذهب الحسي، وهذا التوفيق المصطنع بين العلم والتجربة هو العيب الأساسي في فلسفة كنط بأكملها كما سنرى.

(٣) التحليل الصوري: تحليل المعاني أو المقولات

قلنا إن القسم الثاني من «نقد العقل النظري» يسمى المنطق الذاتي، وإنه يقسم بدوره إلى تحليل وجدل، الغرض من التحليل تفسير الأحكام العلمية، أي التركيبية الأولية، وهو ينقسم إلى قسمين: تحليل المعاني وتحليل المبادئ، أما تحليل المعاني فيدور على ثلاثة أمور: الأول الفحص عن المعاني الذاتية الرابطة بين الظواهر المعروضة في المكان والزمان ربطًا كليًّا ضروريًّا، ويسميها كنط مقولات، الأمر الثاني بيان أن لهذه المعاني قيمة أولية أو موضوعية بالنسبة إلى الظواهر، ويسمي كنط هذا البيان استنباط المقولات، والأمر الثالث بيان كيف يتم تطبيق المعاني على الظواهر، ويسمي كنط هذا البيان بالرسم الصوري، وأما تحليل المبادئ فمعناه استكشاف قوانين العلم الطبيعي الخالص التي تسمح باستعمال هذه المعاني، وسيتبين كل هذا من التلخيص الآتي.

لأجل الفحص عن المقولات يجب أن نحصي أولًا أنواع الأحكام، فنجد أنها أربعة؛ ذلك أننا إذا نظرنا إلى موضوع الحكم دون مفهوم لم يبقَ لنا إلا كميته أو ما صدقه، وإذا نظرنا إلى المحمول مثل هذه النظرة لم يبقَ إلا أنه كيفية مضافة إلى الموضوع، وإذا اعتبرنا العلاقة بين الموضوع والمحمول كان لنا معنى الإضافة، وإذا اعتبرنا النحو الذي يترابط عليه الموضوع والمحمول كان لنا معنى الجهة، وعلى ذلك تنقسم الأحكام بحسب الكمية والكيفية والإضافة والجهة، ولكل من هذه الأقسام الأربعة ثلاثة أنواع، فنحصل على الجدول الآتي:

جدول الأحكام جدول المقولات
من حيث الكم كلية وحدة مثل: كل الناس مائتون.
جزئية كثرة مثل: بعض الناس فلاسفة.
شخصية جملة مثل: سقراط عالم.
من حيث الكيف موجبة وجود* مثل: الإنسان مائت.
سالبة سلب مثل: ليست النفس مائتة.
معدولة حد مثل: النفس لا مادية.
من حيث الإضافة حملية جوهر مثل: الله عادل.
شرطية (متصلة) علية مثل: إذا كان الله عادلًا فإنه يعاقب الأشرار.
شرطية منفصلة تفاعل مثل: اليونان أو الرومان هم أعظم شعب في العصر القديم.
من حيث الجهة احتمالية إمكان – استحالة مثل: السيارات قد تكون مأهولة.
جبرية وجود – لا وجود الأرض كرية.
يقينية ضرورة – حدوث من الضروري أن يكون الله عادلًا.
لا الوجود الواقعي، بل الوجود المنطقي المدلول عليه بالرابطة، مثل قولنا: المنطق «هو» العلم الذي … وبتعبير آخر: الوجود المقصود هنا هو الإيجاب.
هذا الجدول يستلزم بعض الشرح:
  • (١)

    في كل قسم الحد الأول يعبر عن شرط، والثاني عن مشروط، والثالث عن المعنى الناتج من الجمع بين الاثنين.

  • (٢)

    القسمان الأول والثاني يجب أن يضما معًا من جهة كونهما خاصين بموضوعات الحدس، الكمية خاصة بمقدار الظواهر، والكيفية خاصة بدرجة شدتها؛ فهما تؤلفان المقولات الرياضية، والقسمان الثالث والرابع خاصان بوجود موضوعات الحدس، فهما يؤلفان مقولات الحركة أو التغير أو العلم الطبيعي.

  • (٣)

    القسمة الثلاثية في كل قسم، مع أن مبدأ عدم التناقض يقتضي القسمة الثنائية؛ ذلك لأن الملحوظ هنا هو الوجود، وفي الوجود لا يرتفع الضدان كما يرتفعان في المنطق الصرف، إذ أنه متي تعارضت قوتان حدثت ظاهرة هي صورة أخرى لكمية القوة.

  • (٤)

    مقولات الإضافة تعبر عن علاقة الشيء بالكيفية، وهذه العلاقة إما أن تكون بين جوهر وعرض، فيكون الحكم حمليًّا، أو بين مبدأ ونتيجة، أو علة ومعلول، فيكون الحكم شرطيًّا متصلًا، أو بين الجنس وأنواعه، فيكون الحكم شرطيًّا منفصلًا.

  • (٥)

    لما كان كل حكم تعبيرًا عن نسبة، كانت الإضافة المقولة الكبرى الشاملة لسائر المقولات.

وقد نزيد المسألة إيضاحًا بالمقارنة بين موقف كنط وموقف أرسطو:
  • (١)

    يقول كنط إن القصد الأول واحد عنده وعند أرسطو، وهو وضع جدول شامل للأحكام، غير أن أرسطو وضع جدول الأجناس العليا التي تندرج تحتها جميع الموضوعات والمحمولات، ووضع كنط جدول الوظائف المنطقية أو الروابط أو النسب بين الموضوعات والمحمولات، فأرسطو وجودي يرتب الأشياء وخصائصها، وكنط ذاتي يرتب وظائف العقل.

  • (٢)

    يأخذ كنط على أرسطو أنه جمع مقولاته جمعًا تجريبيًّا بتحليل الكلام الإنساني، وقد يكون هذا صحيحًا ولا يقدح في المقولات أنفسها، ولا يمنع من إمكان ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا جامعًا مانعًا، كما ذكرنا بهذا الصدد في كتابنا «تاريخ الفلسفة اليونانية»، وكنط نفسه لم يستنبط مقولاته استنباطًا حقًّا، ولكنه استخرجها من جدول الأحكام كما تلقاه عن المنطق القديم.

  • (٣)

    ويأخذ كنط على أرسطو أيضًا أن مقولاته ليست متجانسة، فمقولات الزمان والمكان والوضع ترجع إلى التصور الحسي لا إلى العقل، ولكن هذا لا يعد مأخذًا إلا بناء على مذهب كنط الذي يفصل بين الحس والعقل، أما عند أرسطو فاللفظ في الحكم معنى مجرد من المحسوس، فالمقولات كلها معقولة مهما يكن من أصلها الحسي.

  • (٤)

    ويأخذ كنط على أرسطو أيضًا أن ليس لنظريته خاصية معينة؛ فهي نفسية ومنقطية لأن المقولات فيها أنحاء الحكم والتعبير، وهي ميتافيزيقية لأن المقولات فيها منصبَّة على الوجود، ولسنا ندري ما يمنع أن يكون للنظرية خصائص ثلاث من ثلاث وجهات، والفكر والوجود متطابقان في فلسفة أرسطو؟ بل ليس لنظرية كنط خاصية معينة؛ فقد وضع في جدوله الحكم الشخصي لأنه رأي أن هناك فرقًا، من حيث الوجود، بين اعتبار الفرد واعتبار البعض واعتبار الكل، مع أن الموضوع الشخصي معادل للموضوع الكلي في المنطق الصوري؛ لأنه مأخوذ مثله بكل ما صدقه، فهل النظرية منطقية أو ميتافيزيقية؟ كذلك وضع في جدوله الحكم المعدول، مع أن هذا الحكم موجب منطقيًّا فلم يكن هناك داع لتخصيصه بالذكر، إلا أن يكون الملحوظ فيه نوع العلاقة بين المحمول والموضوع، فيكون كنط نظر هنا أيضًا إلى الوجود وهو يضع جدولًا منطقيًّا صرفًا، ثم إن مقولات الجهة ليست صادرة عن نفس المبدأ الصادرة عن سائر المقولات؛ فإن هذه تدل (أو تريد أن تدل) على أنحاء ارتباط المحمولات بالموضوعات، وتلك تريد أن تبين نوع وجود المحمولات للموضوعات، فهي مأخوذة من اعتبار الوجود لا من اعتبار الوظيفة المنطقية فحسب، أي إنها ثلاثة مواقف للعقل بإزاء الحكم، لا ثلاث مقولات.

  • (٥)

    ويظهر التعمل في جدول كنط من أنه أثبت مقولات لكي تم له القسمة الثلاثية ليس غير؛ فإن التفاعل نوع من الفعل وداخل في مقولة العلية، والمقولة الثانية من مقولات الجهة (وجود – لا وجود) تشبه المقولة الأولى من مقولات الكيفية من جهة حدها الأول، وتشبه المقولة الثانية من جهة حدها الثاني، فإن الوجود يعادل الإيجاب، واللا وجود يعادل السلب، بينما مقولات أرسطو متمايزة معينة.

أما استنباط المقولات أو التدليل على موضوعيتها، فيتبين على هذا النحو، بالمقولات نوحد بين الظواهر، إذ نثبت بها بين الظواهر علاقات كلية ضرورية وهذه العلاقات تجعل من الظواهر «موضوعات» بالإضافة إلينا، أي أشياء نعتبرها موجودة وذات قيمة مستقلة عن وجودنا الشخصي، وليس يمكن هذا إلا إذا كانت الظواهر منطوية في وجدان واحد بعينه، «وجدان ذاتي» يظل هو هو ويوحد بينها، على حين أن الوجدان التجريبي أو الحس الباطن يتغير باستمرار، هذا التوحيد هو الفعل الجوهري للفكر، وهذا الفعل مصحوب بشعور عقلي «ذاتي» خالص من كل موضوع يترجم بأنا أفكر؛ وإذن ففي أصل الفكر توجد الوحدة الضرورية للإدراك، وهي الأنا الخالص، الأنا أفكر، الذي هو عين الفهم، والفهم قوة تلقائية وظيفتها الحكم أي الربط بين الظواهر، «الأنا أفكر» صادر عن الوجدان ومصاحب لجميع التصورات، وكيف أقول «أنا» دون أن أثبت بإزائي شيئًا ليس إياي؟ فالذات العارفة تفترض الموضوع المعروف، أي تفترض حدوسًا مرتبطة بعلاقات كلية ضرورية، فإني حينئذٍ أشعر بذاتي، فللمقولات قيمة موضوعية لأنها أحد عاملين يخلقان موضوعات التجربة، والعامل الآخر حدوس الحساسية، وليس للمقولات من قيمة أو معنى دون المادة الآتية من الحس، وليست هي المعارف بالذات كالمعاني الغريزية عند أفلاطون وديكارت وليبنتز، وإنما هي مجرد روابط لتوحيد التجربة، فبدون الحدوس المقولات جوفاء، وبدون المقولات الحدوس عمياء، وهكذا وجد كنط في الوجدان نفسه مبدأ التوافق بين الحس والفهم، ذلك المبدأ الذي وضعه ديكارت والديكارتيون في الله.

كيف تنطبق المقولات على الحدوس؟ إنها لا تنطبق مباشرة، ولكن كل مقولة تقتضي علامة تدل على أنها هي التي يجب تطبيقها دون غيرها، فكل مقولة يقابلها رسم دال على استعمالها المشروع، هذا الرسم تقوم به المخيلة المبدعة، وهي قوة تلقائية تختلف عن المخيلة المستعيدة الخاضعة لقوانين تداعي الصور، فالمخيلة المبدعة، هي الواسطة بين الحساسية والفهم، وهي متوسطة حقًّا إذ أنها تلقائية كالفهم وحسية كالحساسية، وهي تعمل في اللا شعور فتقدم رسومًا تخطيطية للمقولات هي طرائق كلية لتصور المقولات على نحو حسي، ولكي تستطيع أن تخطط مثل هذه الرسوم يجب أن يكون هناك صورة أولية حسية تلائم جميع الظواهر، هذه الصورة هي الزمان، وقد أسلفنا أنها صورة الحساسية بنوعيها، فلكل مقولة رسم يدل عليها على النحو الآتي:
  • أولًا: رسم الكمية العدد أو مقدار الزمان؛ ذلك بأن جميع الظواهر تتعاقب في الزمان، وأن تصور التعاقب يتم بإضافة أجزاء زمانية متساوية، وإضافة آحاد إلى آحاد هي العدد، فرسم الكلي جملة آنات الزمان، ورسم البعضي عدد من الآنات، ورسم الشخص آن واحد.
  • ثانيًا: رسم الكيفية الوجود في الزمان أو مضمون الزمان، من حيث إن كل ظاهرة فهي متضمنة في زمان، وأنها في ذاتها كيفية، فرسم الوجود زمان يشغله حدث متصل، ورسم السلب زمان خلو من الحدث، ورسم الحد زمان فيه حدث غير تام أي فيه إحساس لا يبلغ إلى نهايته.
  • ثالثًا: رسم الإضافة نظام تعاقب الزمان؛ ذلك بأن الظواهر تملأ الزمان على أنحاء متنوعة بعضها يبقى وبعضها يمر، بعضها يتعاقب وبعضها يتقارن، فرسم الجوهر تصور البقاء في الزمان، ورسم العلية تصور التعاقب الراتب في الزمان، ورسم التفاعل أو الاشتراك تصور تقارن أعراض جوهرين في الزمان.
  • رابعًا: رسم الجهة تصور الوجود في جملة الزمان، فإن الظواهر يمكن أن توجد إما في أي زمن كان، وهذا هو الإمكان، أو في زمن معين، وهذا هو الوجود الواقعي، أو في كل زمن، وهذه هي الضرورة، فالرسم الذاتي يعطينا فكرة عن الطريقة التي يمكن أن تطبق بها المقولات على الظواهر بوساطة فعل المخيلة المبدعة في اللا شعور.

هكذا يقول كنط، ولنا على أقواله ملاحظات: فأولًا ليس العدد رسمًا للكمية، ولكنه حقيقة الكمية المتصوَّرة، فإن العدد جمع آحاد موجودة أو مفترضة، وليس يهم كونه يتم في الزمان. ثانيًا ليس الوجود في الزمان رسمًا للكيفية، ولكنه هو أيضًا حقيقة الموضوع المتصور، فإن الظاهرة كيفية بذاتها. ثالثًا ليس نظام تعاقب الزمان مقابلًا لمقولات الإضافة ومحتمًا تطبيقها، فإن البقاء في الزمان قد يتفق للعرض كما يتفق للجوهر، ونحن نستطيع تصور جوهر لا يبقى سوى لحظة واحدة، وتصور التعاقب الراتب لا يدل دائمًا على العلية، بل قد يكون محض تعاقب، وكذلك تصور تقارن أعراض جوهرين لا يدل حتمًا على التفاعل؛ فكيف نميز بين مختلف الحالات؟ رابعًا ليس تصور الوجود في جملة الزمان مقابلًا لمقولات الجهة؛ فليس الإمكان مجرد الوجود في أي زمن كان، وليست الضرورة مجرد الوجود في كل زمن، ولكن لكل منهما تعريفًا قائمًا على ماهية الشيء من حيث هو موجود بذاته أو مفتقر إلى غيره، وكنط لا يلحظ الماهية المعقولة لأنه يجعل من العقل قوة غير مدركة، أما الوجود في زمن معين، فيرجع إلى مقولة الكيفية كما سبق، وعلى ذلك فلكل مقولة في واقع الأمر مفهوم يختلف عن الرسم الخيالي الذي يقال إنه يدل عليه، وهذا المفهوم يدركه العقل، ولكن العقل عند كنط غير مدرك.

والآن وقد تمت نظرية الأحكام التركيبية الأولية، أي نظرية الحساسية والفهم والتطابق بينهما، نستطيع أن نرى مبلغ ما فيها من عبث وتهافت، إن كنط لكي يبرر موضوعية الإحساس، يضع شيئًا خارجيًّا مؤثرًا فينا، فيناقض مذهبه من حيث إن العلية عنده مقولة جوفاء، إن خولتنا الحق في الربط بين الظواهر، فهي لا تخولنا الحق في الخروج من الظواهر إلى أشياء بالذات هي غير معلومة في أنفسها، فلم ينتقل كنط من التصورية إلى الموضوعية كما زعم، ولكي يبرر موضوعية القضايا العلمية يضع المقولات، ولكنه يريدها على أن تكون جوفاء، فيدع القضايا العلمية غير مفهومة، إذ لا التجربة تثبت لها الكلية والضرورة، والتجربة جزئية حادثة، ولا العقل يثبتهما، والعقل يطبق المقولات من غير إدراك خاص، بناء على رسوم خيالية لا تدل في حقيقة الأمر على المقولات، فالنتيجة أن القضية العلمية كاذبة من حيث إن العقل يوقع فيها نسبة بين حدَّين هما بريئان منها، فلم ينتقل كنط من المذهب الحسي إلى المذهب العقلي كما زعم؛ وذلك لأنه لم يصحح المذهب الحسي إلا بمجموعة ألفاظ هي المقولات، فلم يوفَّق إلى تفسير المطابقة بين الحس والعقل، إن هذه المطابقة لا تفسر إلا بنظرية أرسطو في التجريد، حيث تقدم التجربة مادة الحكم، أي الموضوع والمحمول متحدين أو متضامنين، فيحيلهما العقل ماهيتين مجردتين ومن ثَمَّ كليتين ضروريتين، ويدرك النسبة بينهما، ولما كانت فلسفة كنط بأكملها قائمة على نظرية المقولات فقد انهارت بانهيار هذا الأساس، ولن نصادف فيما تبقى سوى أخطاء فوق أخطاء.

(٤) التحليل الصوري: تحليل المبادئ

يقول كنط: على أن الرسوم الخيالية لا تكفي لجعل الظواهر موضوعية، فإن فعلها مقصور على بعث مقولة معينة دون أن يبرر تطبيق هذه المقولة، يبد أنها تجعل من الممكن تأليف أحكام تركيبية أولية هي موضوعية، هذه الأحكام هي مبادئ الفهم الخالص يؤلفها ابتداء بتعيين شروط الرسوم تطبيقًا موضوعيًّا، ومن اليسير الآن أن نستنبط مبادئ العلم الطبيعي الخالص استنباطًا أوليًّا، فإن جدول المقولات يقودنا إلى جدول المبادئ: فلمقولات الكمية مبدأ هو «جميع الحدوس مقادير متصلة» إذ أنها معروضه في المكان والزمان اللذين هما مقداران متصلان، ولمقولات الكيفية مبدأ هو «في كل ظاهرة، الشيء الواقعي (الذي هو موضوع الإحساس) حاصل بالضرورة على كمية شدة أو على درجة»؛ إذ يجب أن يكون للأشياء درجة تأثير على حواسنا لكي تحدث فينا إحساسات، وتختلف الأشياء في هذه الدرجة فتختلف الإحساسات، وهذان المبدآن رياضيان يبرران تطبيق الرياضيات على العلم الطبيعي، ولكل من مقولات الإضافة مبدأ: المبدأ الأول «الجوهر باقٍ في تعاقب الظواهر، وكميته لا تزيد ولا تنقص» إذ لما كان الجوهر لا يتغير من حيث وجوده، فلا يمكن أن تزيد كميته أو تنقص، المبدأ الثاني «جميع التغيرات تقع تبعًا لقانون العلة والمعلول» أي في تعاقب منتظم؛ إذ لو كانت نسبة التعاقب بين الظواهر غير منتظمة، لما كان للنسبة قيمة موضوعية، وما انتظام التعاقب إلا العلية، المبدأ الثالث «جميع الظواهر المدركة معًا في المكان متفاعلة» فإن الشرط الذي يجعل معرفة التقارن موضوعية هو أن يكون شيئان بحيث لا يوجد أحدهما قبل الآخر ولا بعده، فتقارنهما هكذا هو العلامة التي تسمح لنا بتطبيق مقولة التفاعل، ولكل من مقولات الجهة مبدأ: المبدأ الأول «كل ما يتفق والشروط الصورية للتجربة (وهي المكان والزمان والمقولات) فهو ممكن»، المبدأ الثاني «كل ما يتفق والشروط المادية للتجربة فهو موجود في الواقع» أي إن إدراك الشيء، أو إدراك علاقته بشيء مدرك، تبعًا لمبادئ الإضافة، يدل على وجوده الواقعي، المبدأ الثالث «كل ما يتفق مع الوجود الواقعي تبعًا للشروط العامة للتجربة فهو ضروري»، ويلزم من هذا أن ليس في الطبيعة صدفة أو علية عمياء، وإنما كل شيء فيها يتوقف على شروط، ويقع بموجب ضرورة معقولة، ومبادئ الإضافة والجهة تيعن الأشياء بعلاقاتها فيما بينها، أو بعلاقاتها بقوتنا المدركة، فهي مبادئ قوية «دينامية» أي مبادئ الحركة والتغير تقوم عليها القوانين الطبيعية.

والنتيجة التي وصلنا إليها هي أن المقولات والمبادئ تعني أن الطبيعة لكي تكون معلومة لنا، يجب أن تطابق الشروط التي نستطيع أن نتصور وجودها عليها، أو أن شروط الطبيعة تستنبط من شروط الفكر، وهكذا يتجلى لنا الانقلاب الذي أحدثه كنط إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر بدل أن يعتقد الناس جميعًا أن الفكر يدور حول الأشياء، ولكن هل هناك استنباط حقًّا؟ الحق أن كنط رأى العناصر الضرورية للعلم، والموجودة في العلم بالفعل، والتي لا تدرك بالحواس، فاستخلصها وحاول أن يستنبطها فما فعل إلا أن وضعها وضعًا، وما كان الاستنباط إلا محاولة صناعية، وهو يلتمس دليلًا آخر على صحة مذهبه؛ فإنه ينبه على أن التحليل كما عرض للآن، افتراضي ذهب فيه من الأحكام كما هي في الفكر إلى الشروط التي تفسرها، فإذا هو بين أن هذه الشروط إن خولفت، أي إن طبقت المقولات والمبادئ على الأشياء بالذات كما تفعل الميتافيزيقيا، بدل أن تقصر على الظواهر كما تقضي به «التصورية النقدية»، لم يبقَ هناك معرفة بمعنى الكلمة، انقلب الفرض مذهبًا مقررًا، وبعبارة أخرى: إنه يريد أن يقدم على صحة مذهبة برهانًا بالخلف بعد أن قدم البرهان المستقيم، وذلك ما يحاوله في «الجدل الذاتي» حيث ينقد معاني النطق أو معاني الميتافيزيقا، وسوف نرى أن هذا النقد ما هو إلا محاولة صناعية أخرى.

(٥) الجدل الصوري: تعريفه

المسألة الثالثة من مسائل الفلسفة النقدية هي قيمة الميتافيزيقا، ولهذا اللفظ عند كنط معنيان: الواحد أن الميتافيزيقا هي «النقد» أي الفحص عن العناصر الأولية في المعرفة وفي العمل، فمن الجهة الأولى هي ميتافيزيقا الظواهر كما تبدو «نقد العقل النظري» الذي نلخصه في هذا الفصل التالي، والمعنى الثاني أن الميتافيزيقا هي العلم الذي يدعي إدراك موضوعات خارجة عن نطاق التجربة، هذه المتيافيزيقا هي التي يقصد كنط إلى إبطالها هنا؛ لأنها في اعتباره تذهب بغير حق من الأشياء كما تبدو لنا خلال صورنا الفكرية، إلى الأشياء كما هي في أنفسها، فهو يتابع الحسيين في هذه النقطة، ويطبق المبدأ التصوري بكل دقة، فيفترق عن ديكارت ومالبرانش وليبنتز وباركلي في اعتقادهم أن العقل واقع على صور الوجود وذاهب منها إلى أصولها، وكان طبيعيًّا أن يرفض كنط قبول الميتافيزيقا كعلم بالشيء بالذات بعد النتائج التي خرج بها من تحليل الحساسية والفهم، فضلًا عن اعتداده بالواقع من أن الميتافيزيقا ليست مقبولة عند الجميع كالرياضيات والعلم الطبيعي، فإن هذا يدل في عرفه على أنه لو كان لنا حدس عقلي لكانت الميتافيزيقا كالعلمين الآخرين، وهو يرى أن الاعتقاد العام بأن العقل الإنساني يستطيع أن يضع مثل هذا العلم، إنما هو نتيجة وهم قاهر يريد هو أن يبدده في هذا القسم من الكتاب بالكشف عن منشئه وطبيعته.

منشأ الوهم المتيافيزيقي قوة من قوانا الفكرية وأعلاها هي النطق؛ لذا كان هذا الوهم ملازمًا للفكر الإنساني وعسير التبديد، يختلف النطق عن الفهم في أن وظيفة الفهم الحكم، أي الربط بين الظواهر بوساطه المقولات وتركيبها في قضايا، ووظيفة النطق الاستدلال بالأقيسة الثلاثة المعروفة: الاقتراني، والشرطي المتصل، والشرطي المنفصل، إلا أنه يستعمل هذه الوظيفة على نحوين: نحو منطقي، ونحو مفارق، أما النحو المنطقي فيقوم في إدراك حدس (المقدسة الصغرى أو المشروطة) تحت قاعدة (المقدمة الكبرى أو الشرط) بحيث يرد معرفة جزئية إلى معرفة كلية باعتبار هذه شرط تلك، وهكذا الي غير نهاية، وأما النحو المفارق فيتجه على العكس إلى اعتبار سلسلة الشروط جملة تامة، أي إنه يمضي في توحيد المعرفة حتى يبلغ إلى المطلق فيدعي تقديم برهان تام عن الشروط، أو يمضي من الوجود التجريبي، لا إلى وجود يمكن أن يقع في التجربة، بل إلى وجود أخير مجاوز للتجربة بالمرة، ولكن المحقق تحليليًّا هو أن المشروط يفترض شرطًا، فالمبدأ الذي يصعد المنطق بموجبه من مشروط إلى لا مشروط، هو مبدأ تركيبي يجاوز مجال المنطق الصرف، وهو أوَّلي في نفس الوقت إذ أن التجربة لا تعطينا مبدأ أول، وقد مر بنا أن الحكم التركيبي الأولي لا يعد مقبولًا إلا إذا اشتمل على حدس حسي، فاستدلال النطق عبث لا غناء فيه لأنه يركب أقيسة فاسدة مؤلفة من أربعة حدود، إذ تنتقل المعاني كما هي في الفكر (أي من صور بحتة) إلى أشياء بالذات خارجة عن متناول الفكر، فيكون لكل من هذه المعاني مدلولان، الواحد صوري في المقدم، والآخر مادي في التالي.

وطبيعة الوهم الميتافيزيقي أن النطق، لما كان لا يصادف المطلق في التجربة، يخترع معاني يعتبرها المبادئ القصوى، هكذا فعل أفلاطون حين ترك العالم المحسوس وتوغَّل فيما فوقه على أجنحة المثل في خلاء العقل الخالص، فأشبه حمامة تشق الهواء فتحس مقاومة فيخيل إليها أنها تكون أكثر توفيقًا لو طارت في خلاء مطلق، وكما أن النظر في صورة الأحكام كشف لنا عن المقولات أو معاني الفهم، كذلك النظر في صورة الاستدلالات يكشف لنا عن معاني النطق هذه؛ ذلك بأن القياس الاقتراني (وهو يسند محمولًا إلى موضوع، أي كيفية إلى جوهر) متى استخدم في الفحص عن المطلق الذي تنتهي إليه ظواهرنا الوجدانية، وصل إلى موضوع لا يستعمل كمحمول فلا يستند إلى شيء آخر، هذا الموضوع هو معنى الأنا أو النفس كجوهر، والقياس الشرطي المتصل (وهو يعلق مشروطًا على شرطه) متى استخدم في الفحص عن العلة المطلقة للعلل الطبيعية، وصل إلى معنى العالم كجملة العلل أو الشروط، والقياس الشرطي المنفصل (وهو يعارض بين حدين فيضع أحدهما بناء على ارتفاع الآخر) متي استخدم للفحص عن الشرط المطلق لجميع موضوعات الفكر، وصل إلى معنى العلة المطلقة أو الموجود الأعظم وهو الله، فبمراجعة مسائل هذه العلوم وأدلتها، يتبين لنا أن الأدلة سوفسطائية، وأن المسائل وهمية نشأت من اعتقاد أننا ندرك بتلك توحيدًا نهائيًّا.

سوف يتضح الآن مقصد كنط باستخدام هذه الأقيسة الثلاثة، فيتضح مقدار ما بذل من تصنع وافتعال، إننا نرى مسوغًا لوضع النطق كقوة متمايزة من الفهم، فإن معاني النفس والعالم والله تكتسب بتطبيق مقولي الجوهر والعلية على كل ظاهرة قبل النظر إلى جملة الظواهر، وكنط نفسه يذكر بين المقولات مقولة «الجملة» ففكرة «جملة الظواهر» متوفرة للفهم، وفي المقولات الثلاث المذكورة الكفاية، ولكن كنط ورث عن ڤولف هذا التقسيم للميتافيزيقا، وورث فكرة النطق عن الأفلاطونيين، من فلاسفة ومتصوفين، وكانوا يميزون بين قوة استدلالية تضع العلم الطبيعي، وقوة حدسية تدرك الروحيات، دون أن يفطنوا إلى أن علمنا بالروحيات قائم هو أيضًا على تطبيق مبدأ العلية، لا على حدس مباشر، فأراد هو أن يلتمس لكل ذلك أساسًا منطقيًّا.

(٦) الجدل الصوري: نقد علم النفس النظري

يدعي هذا العلم أنه يبرهن على وجود النفس كجوهر قائم بذاته ابتداء من «أنا أفكر»، وأنه يعين ماهية النفس بتطبيق المقولات على «أنا أفكر» فيصل إلى أن النفس بسيطة، وشخصية أي باقية هي هي تحت ما يعرض لها من تغيرات، وخالدة، فهو يرجع إلى أربع مسائل كبرى يركب لها أربعة أقيسة، ولكن هذة الأقيسة أغاليط يشتمل كل منها على أربعة حدود؛ لأنَّ أحد الحدود الثلاثة في الظاهر مأخوذة في الحقيقة بمعنى في إحدى المقدمتين وبمعنى آخر في الأخرى؛ لذا يسمي كنط هذه الأقيسة «أغاليط العقل الخالص».
  • المسألة الأولى: جوهرية النفس، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: «ما لا يتصور إلا كذات، فهو لا يوجد إلا كذات؛ وهو من ثمة جوهر، والموجود المفكر لا يتصور إلا كذات، وإذن فهو لا يوجد إلا كذات أي جوهر»، هذا القياس غلط لأن المقصود بالذات في المقدمة الكبرى هو«الشيء» الذي يتصور كذات، أي الذات التي تدرك كذلك، أو الذات التي هي في الوقت نفسه موضوع إدراك، وفي الصغرى ليس المقصود «شيئًا» من حيث إن قولنا الموجود المفكر أو أنا أفكر لا يتضمن موضوع فكر، بل يعني الشرط الضروري لإمكان الحكم وإحداث وحدة الشعور، فإن «أنا أفكر» هي الصورة التي تجمع الظواهر في فكر واحد بعينه، ذلك بأن ليس لنا حدس بنفسنا كذات مفكرة، وكل ما ندركه هو فكرنا متعلقًا بموضوعات لا مستقلًّا، فإذا طبقنا المقولات على «أنا أفكر» كان هذا التطبيق فعلًا منطقيًّا صرفًا عاطلًا من أية قيمة موضوعية، من حيث إن المقولات لا تطبق تطبيقًا موضوعيًّا إلا على الحدوس الحسية، فلا يسوغ الانتقال من وحدة الفكر كشرط منطقي إلى وحدة جوهر متقوم بذاته.
  • المسألة الثانية: بساطة النفس، تدلل عليها المتيافيزيقا بهذا الأساس: «الموجود الذي يفترض فعله ذاتًا بسيطة هو جوهر بسيط، والنفس موجود يفترض فعله (وهو الفكر) ذاتًا بسيطة (لأن التفكير رد التصورات إلى الوحدة، وهذا ما لا يستطيعه الموجود المركب)؛ وإذن فالنفس جوهر بسيط»، ولكن المراد بلفظ بسيط في الكبرى موجود مدرك بالحدس كموجود بسيط، وفي الصغرى المراد موجود يتراءى لنفسه كأنه موجود بسيط، وبعبارة أخرى: لأجل أن نفكر يكفي أن نعتبر نفسنا ذاتًا بسيطة، وليس من الضروري أن نكون كذلك حقًّا.
  • المسألة الثالثة: شخصية النفس، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: «الحاصل على الشعور بذاته في أوقات مختلفة هو جوهر شخصي، والنفس حاصلة على هذا الشعور، وإذن فإلنفس جوهر شخصي»، ولكن هنا أيضًا ينتقل القياس من الشعور بالذات في أوقات مختلفة، وهو الشرط الصوري أو المنطقي لتصوراتنا كما سبق القول، إلى بقاء الذات هي هي، مع أن هذا التصور المنطقي قد يبقى وتتغير الذات إذا كانت الذوات المتعاقبة تتوارث حالة نفسية واحدة بعينها.
  • المسألة الرابعة: تقوم النفس بذاتها ومن ثمَّة استطاعتها البقاء بعد فناء الجسم، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: «الشيء المعلوم مباشرة له وجود متمايز من وجود الشيء المعلوم بالواسطة، والنفس تعلم ذاتها مباشرة، في حين أن الجسم لا يعلم إلا بوساطه النفس، وإذن فالنفس متمايزة من الجسم»، هذا القياس يذهب من المعرفة إلى الوجود: أنا أعرف الأنا متمايزًا من اللا أنا، ولكن هل تعني هذه المعرفة أن الأنا مستقل حقًّا عن اللا أنا؟ أليس يمكن أن تكون لدى هذه المعرفة وأنا مركب من نفس وجسم؟ وهذا القياس مبني على تمايز النفس والجسم، مع أن الجسم تصور حاصل في الحساسية بتأثير علة مجهولة، وليس التصور شيئًا خارجًا عن الذات المتصورة حتى نقول بإدراك مباشر وإدراك غير مباشر؟ وقد تكون العلة المجهولة روحًا، وقد لا يكون هناك إلا جوهر مشترك هو جسم في صورة المكان وروح في صورة الزمان، ما دام إدراك الشيء بالذات ممتنعًا علينا، فالفلسفة النقدية تخلصنا من مسألة تمايز النفس والجسم وتفسير العلاقة بينهما، وهي مسألة غير قابلة للحل كما يشهد مذهب ديكارت والمذاهب الصادرة عنه، والفلسفة النقدية تخلصنا من المادية، فما دمنا لا نستطيع البرهنة على وجود النفس وحقيقة الخلود، فإننا للسبب عينه ننكر على الماديين إمكان البرهنة على عدم وجود النفس وعدم الخلود.

ذلك نقد كنط لعلم النفس النظري كما يوجد عند ديكارت والديكارتيين بما فيهم ڤولف، وكنط محق في بعض هذا النقد، مبطل في الباقي، إنه محق في قوله إننا لا ندرك النفس مباشرة، أي أن ليس لنا إدراك موضوعه ذات النفس، ولكن كل إدراك فهو واقع على موضوع ومصحوب بالشعور بالذات، وأنه مبطل في دعواه أن هذا الشعور لا يصلح أساسًا للتدليل على وجود النفس وماهيتها، وأن الأدلة السالفة أغاليط، إنه يميز بين الأنا الذاتي أو الصوري والأنا التجريبي، ويقول عن الأول إنه مجرد موضوع منطقي أو مجرد حد في قضية، ويقول عن الثاني إنه ظاهرة خاضعة للمقولات كسائر الظواهر، وأن ليس هناك ما يبرر الخروج من الفكر إلى الوجود، ولكنه هو الذي يلزمنا مذهبه ويحاجنا به كأنه ثابت لا ينقض، إن الشعور بالذات فعل، والفعل وجود، ولا يعقل أن يعقل أن يكون الوجود هنا مقولة الوجود أو الإيجاب، فلفظ الذات مأخوذ بمعنى واحد في المقدمتين، فهذه حالة واحدة على الأقل لا تخضع للشروط العامة التي يزعمها كنط للمعرفة وهي المقولات، وديكارت على حق حين يقول إنه يدرك وجود الأنا المفكر إدراكًا مباشرًا، وإن كان قد أخطأ الحق حين ظن أن الإدراك المباشر واقع على جوهر لا مادي، وقد غلا كنط في الفصل بين الفكر والوجود حتى فصل بينهما في «أنا أفكر»، وفي هذه الملاحظات ما يوضح وجه الحق في المسائل الأولى والثانية والثالثة، أما المسألة الرابعة فالحجة الأولية فيها صائبة، إن معرفتي الأنا متمايزًا من اللا أنا لا تدل بذاتها على أن الاثنين متمايزان في الواقع، وعلى أن الإنسان قد لا يكون مركبًا من نفس وجسم متحدين اتحادًا جوهريًّا، ولكن الحجة الثانية مبنية على مذهب كنط في المعرفة، وليس هذا المذهب ملزمًا كما تقدم، وإذا كان إنكار جوهرية الجسم والنفس يسقط دعوى الماديين، فهو يسقط أيضًا دعوى الروحيين؛ فأي ربح يعود علينا من الفلسفة النقدية؟

(٧) الجدل الصوري: نقد العلم الطبيعي النظري

يقول كنط لأجل تعيين مسائل هذا العلم ينبغي الرجوع إلى المقولات، فما معاني النطق إلا بعض مقولات الفهم مطلقة من قيود التجربة، إن مبدأ الاستدلال هذا هو المشروط، وهذا المشروط سلسلة، فالمقولات التي تنطبق عليه هي التي يكون التركيب فيها سلسلة من الشروط مترتبة بعضها على بعض، فمن حيث الكمية، نجد أن كل حدس فهو مصحوب بمقدارين هما الزمان والمكان، أما الزمان فالظواهر التي فيه تؤلف لذاتها سلسلة، وأما المكان فليس سلسلة لذاته وإنما هو مركب، ولكن إذا اعتبرنا طريقة إدراكنا وجدنا أن له ما نقوم به من تركيب اجزائه هو تركيب متتالٍ؛ ومن ثمة يتم في الزمان ويؤلف سلسلة، والنطق يقتضي أن يكون للعالم بداية في الزمان وحد في المكان حتى يقف عند المطلق، ومن حيث الكيفية أو حقيقة العالم في المكان، نصادف مسألة ما إذا كان المركب في المكان ينقسم إلى أجزاء لا تتجزأ، إذ أن مثل هذه القسمة التامة أو اللا مشروطة هي التي تعتبر عن النطق التفسير الوافي للمركب، ومن حيث الإضافة، نجد أن من بين مقولاتها مقولة العلية وحدها تتضمن علاقة تنال بين حدود، والنطق يطلب عله أولى كشرط مطلق لسلسلة العلل في العالم، ولا تكون العلة أولى، أي خارجة عن سلسلة العلل الطبيعية، إلا إذا كانت حرة، ومن حيث الجهة، نجد أن من بين مقولاتها اثنتين فقط يمكن أن يؤلفا سلسلة، هما مقولتا الضرورة والحدوث، والنطق يسعى إلى إقامة الحادث على الضروري باعتبار الضرورري الشرط المطلق لجملة الموجودات.

فالنطق يعتبر هذه القضايا الأربع موضوعية، بدل أن يعتبرها مجرد تركيب منه، ويسخر الفهم للتدليل عليها، أي لإبطال التسلسل إلى ما لا نهاية في تلك المواضع الأربعة، ولكن الفهم يدلل أيضًا على نقائض هذه القضايا، لأنه بذاته لا يملك إلا أن يرد ظاهرة مشروطة إلى ظاهرة مشروطة، وهكذا إلى غير نهاية، بحيث تبدو القضايا ونقائضها لأزمة على السواء، فنقع في تناقض كما يتبين من الجدول الآتي:

نقائض النطق الخالص
العالم بداية في الزمان، وهو محدود في المكان. ليس العالم بداية ولا حد، ولكنه لا متناهٍ من حيث المكان والزمان.
كل جوهر مركب فهو مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء إلا وهو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة. لا شيء مركبًا في العالم مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء بسيط.
العلية الطبيعية ليست العلية الوحيدة التي ترجع إليها جميع ظواهر العالم، بل من الضروري التسليم أيضًا بعلية حرة لتفسير هذه الظواهر. ليس هناك حرية، ولكن كل شيء في العالم يحدث بموجب قوانين طبيعية.
العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري سواء أكان جزءًا منه أو كان علة مفارقة له. ليس يوجد موجود ضروري سواء في العالم أو خارج العالم باعتباره علته.

فالفهم والنطق متعارضان، وهما مع ذلك يؤلفان عقلنا، ويبدو هذا التعارض واضحًا في القياس التالي: «حين يوجد المشروط توجد سلسلة شروطه بأكملها، والمشروط موجود، وإذن فسلسلة شروطه موجودة»، هذا القياس غلط لأنه يحتوي على أربعة حدود: ففي المقدمة الكبرى الموضوع أي «المشروط» مأخوذ باعتباره موضوعًا معقولًا مستقلًّا عن شروط الحساسية أو الحدس، وهذا هو الحال في القضايا جميعًا، وفي المقدمة الصغرى «المشروط» مأخوذ طبعًا باعتباره العالم الظاهري الماثل في حسِّنا، وهذا هو الحال في نقائص القضايا، فبأي حق نستدل بحد أوسط ذي معنيين وننتقل من الظاهرة إلى الشيء بالذات؟

ونحن نلاحظ أولًا أنه ما دام الغلط ناشئًا من التردد بين معنيين، فليس يصح القول إن العقل متناقض مع نفسه، إلا بمعنى للعقل واسع يشمل الفهم والنطق، وهذا المعنى الذي أراده كنط بعنوان كتابه، فيبقى مبدأ عدم التناقض مصونًا؛ لأن التعارض ههنا واقع بين قوتين مختلفتين لكل منهما وجهة خاصة، ومن شروط التناقض أن يكون الموضوع في المقدمتين واحدًا بعينه، ونلاحظ ثانيًا، أن كنط يلزمنا مذهبه ويريدنا على أن نؤمن معه بقوتين عقليتين متعارضتين ونستدل كاستدلاله، ولكننا نؤمن بعقل واحد ينظر إلى الاشياء نظرة واحدة، وإذا حكمناه في القضايا ونقائضها وجدناه يحكم بأن في كل تقابل إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة، فيرتفع التناقض بالفعل، وها نحن أولاء نورد استدلالات كنط ونعقب عليها بإحقاق قضية وإبطال أخرى.
  • التناقض الأول: القضية: «للعالم بداية في الزمان، وهو متناهٍ أو محدد في المكان»، دليل الشق الأول أنه إذا لم يكن للعالم بداية كانت كل لحظة مسبوقة بزمان غير متناهٍ، وهذا خلف لأن معنى اللا نهاية في الزمان أن هناك سلسلة لا تتم أبدًا، ودليل الشق الثاني انه لو كان العالم لا متناهيًا في المكان لاقتضت الإحاطة به جمع وحداته على التوالي في زمان غير متناهٍ، ولا يمكن عبور الزمان اللا متناهي كما تقدم، نقيض القضية: «ليس للعالم بداية ولا حد، ولكنه لا متناهٍ من حيث الزمان والمكان»، دليل الشق الأول أنه لو كان للعالم بداية لكان تقدمها زمان متجانس، وفي مثل هذا الزمان تتساوي الآنات في عدم احتوائها ما يرجح وجود العالم على عدم وجوده، فلم يكن العالم ليوجد أبدًا، ودليل الشق الثاني أنه لو كان للعالم حد لكان هذا الحد خلاء أي لا شيئًا ولا حدًّا، فلم يكن العالم محدودًا، ونحن نسلم القضية، مع تحفظ على الشق الأول وهو أنه لا يقام على هذا الشق برهان ضروري، كما بيَّنَّا ذلك في الرد على قول أرسطو بقدم العالم، وفي عرض موقف القديس توما الأكويني من هذه المسألة، ثم مع تحفظ على الشق الثاني وهو أن حد العالم لا يتعلق بإمكان إحاطتنا به، كما يذكر كنط، بل بطبيعة المادة فإن للمادة الموجودة بالفعل سطحًا بالضرورة والسطح محدود، على ما يذكر أرسطو، أما نقيض القضية فنقول عن شقه الأول إن في الاستدلال عليه خطأ، إذ أن هذا الاستدلال يعتمد على فكرة أن الزمان شيء متجاس سابق على العالم مستقل عنه، وهذا غير صحيح لأن الزمان وهو عدد الحركة بوجود العالم المتحرك فإذا سلمنا أن العالم لم يوجد «في» الزمان، لم تكن النتيجة المحتومة أنه قديم كما يريد الاستدلال، بل إنه قد يكون قديمًا، وقد يكون حادثًا وجد «مع» الزمان أو أن الزمان وجد معه، ونقول عن الشق الثاني («ليس للعالم حد» إنه إذا كان العالم محدودًا كان حده سطحه الخارجي، كما بينه أرسطو).
  • التناقض الثاني: القضية: “كل جوهر مركب (أي الجوهر المادي) فهو مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء إلا وهو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة»؛ ذلك بأنه لو كانت المادة مركبة إلى غير نهاية، لكان تحليلها يستتبع انعدامها، فلكي تبقى يجب أن يقف التركيب عند حد، أي أن تكون الجواهر المركبة من أجزاء بسيطة، نقيض القضية: «لا شيء مركبًا في العالم مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء بسيط»؛ ذلك بأن التركيب لا يمكن إلا في المكان بحيث يكون عدد أجزاء المركب مساويًا لعدد أجزاء المكان الذي يشغله، ولكن المكان لا يتألف من أجزاء بسيطة بل من أمكنة، والأجزاء الأولى إطلاقًا لمركب ما هي بسيطة، فيلزمنا القول إن البسيط يشغل مكانًا، أي إن البسيط مركب، وهذا خلف، ونحن نرفض القضية، ونحيل القارئ إلى ما قلناه في حجيج زينون الأيلي وردود أرسطو عليها، أما احتجاج كنط بأنه لكي لا تكون المادة مركبة إلى غير نهاية يجب أن يقف التركيب عند أجزاء بسيطة، فيرد عليه بأن إضافة البسيط إلى البسيط لا تنتج الامتداد فيجب وضع الامتداد أصلًا كما يقول الدليل على نقيض القضية، ونحن نسلم بهذا النقيض.
  • التناقض الثالث: القضية: «العلية الطبيعية ليست العلية الوحيدة التي ترجع اليها جميع ظواهر العالم، بل من الضروري التسليم أيضًا بعلية حرة لتفسير هذه الظواهر»؛ ذلك بأن كل ما يحدث بموجب العلية الطبيعية يحدث بعد حادث سابق يعينه، وهكذا إلى غير نهاية، فإذا لم يكن هناك سوى هذه العلية لزم القول بسلسلة لا متناهية من العلل لتعيين كل ظاهرة، ولكن السلسلة اللا متناهية لا تتم أبدًا. فيجب أن تكون سلسلة العلل تامة أي متناهية؛ ومن ثمة يجب التسليم بعلية حرة قادرة على أن تبدأ سلسلة ظواهر تجري حسب القوانين الطبيعية، نقيض القضية: «ليس هناك حرية، ولكن كل شيء في العالم يحدث بحسب قوانين طبيعية»؛ ذلك بأن كل بداية فعل تفترض في العلة حالة لا تكون فيها فاعلة، فإذا صارت إلى حالة هي فيها فاعلة، كان فيها حالتان متعاقبتان لا تربط بينهما علاقة علية، ولكن لكل ظاهرة علة، فالحرية معارضة لقانون العلية، هذا التناقض يتناول مسألة الخلق، ونحن نسلم القضية، ونلاحظ أن الدليل الذي يورده كنط عين الدليل على القضية في التناقض الأول، وأن هذا الدليل يقيم العلية على تناهي سلسلة العلل في الزمان، على حين أن التناهي الذي يحتمه مبدأ العلية هو تناهي عدد العلل المترتبة بالذات أي المتوقف بعضها على بعض آخر، كما بيَّنَّاه في عرض برهنة القديس توما الأكويني على وجود الله، ونحن نرفض نقيض القضية، فإنه يغلط من وجهين: أحدهما أنه يفترض أن الله يشرع في الفعل في وقت ما، وهذا تشخيص للزمان قبل وجوده، والوجه الآخر أنه يفترض في الله انتقالًا من القوة إلى الفعل، وهذا مخالف لماهية الله الذي هو فعل محض، فإن حدوث العالم لا يعني أن الله فعل بعد أن لم يكن فاعلًا، بل إن العالم وجد بعد أن لم يكن موجودًا، فالعلم هو الذي يتغير بموجب إرادة إلهية قديمة، وإذا كان مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة، فإنه لا يقضي بأن كل علة معلولة، إذ أن التسلسل معناه عدم الوصول إلى علة أبدًا ومناقضة مبدأ العلية.
  • التناقض الرابع: القضية: «العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري، سواء أكان هذا الموجود جزءًا من العالم أو علة مفارقة له»؛ ذلك بأن العالم المحسوس سلسلة تغيرات، وكل تغير فله شرط سابق في الزمان، وكل ما كان مشروطًا فهو يفترض جملة شروط بأكملها بحيث يقوم على الضروري، وهذا الضروري يجب أن يكون داخلًا في العالم المحسوس لكي يعين سلسلة التغيرات فيه، ولو كان خارج العالم وخارج الزمان لما أمكن أن يكون أساسًا للوجود الحادث، نقيض القضية: «ليس يوجود موجود ضروري سواء في العالم أو خارج العالم باعتباره علته»، الشق الأول يحتمل فرضين: أحدهما أن الموجود الضروري جزء من العالم فنضع بذلك بداية مطلقة لسلسلة تغيرات العالم خلافًا لقانون العلية، والفرض الآخر أن الموجود الضروري هو سلسلة تغيرات العالم (على ما يذهب إليه سبينوزا وغيره من أصحاب وحدة الوجود) فتكون هذه السلسلة الحادثة في كل حلقة من حلقاتها ضرورية في جملتها، وهذا خلف، والشق الثاني يلزمنا القول بأن هذه العلة المفارقة تبدأ سلسلة على التغيرات في العالم، وأنها في الزمان؛ ومن ثمَّةَ أنها جزء من العالم، وهذا مخالف للمفروض، التدليل على هذا التناقض شبيه بالتدليل على التناقض الثالث، وهو على كل حال أخص بالعلم الإلهي منه بالعلم الطبيعي، ولكن طوائف المقولات أربع، فيجب أن يكون هناك أربعة تناقضات … ونحن نسلم أن «العالم المحسوس يتعلق بموجود ضرروي» لا للزوم بداية زمنية كما يذكر كنط، بل للزوم بداية وجودية ومنطقية، كما يذكر القديس توما الأكويني، ونرفض القول بأن الموجود الضروي جزء من العالم، إذ لو كان كذلك لما كان علة مطلقة أما نقيض القضية «ليس يوجد موجود ضروري» فنرفضه، إذ ليس يدلل عليه بتنافر بداية مطلقة مع مبدأ العلية، وقد بينَّا على العكس أن مبدأ العلية يقتضي بداية مطلقة، وليس يلزمنا مذهب سبينوزا، ويعتبر رد كنط عليه ردًّا صحيحًا، وليس يلزم أن تكون العلة الأولى في الزمان جزءًا من العالم لكي تبدأ سلسلة الظواهر الطبيعية، إذ ليس فعلها حركة مادية.
تلك هي المتتنقاضات المشهورة عن كنط، ولسنا نعلل شهرته بها إلا بأن الناس يذكرون الحديث قبل القديم، فقد وردت كلها عند زينون الأيلي، وعند أفلاطون في محاورة «بارمنيدس» على الخصوص، وعند أرسطو في ردوده على حجج زينون وفي محاولة محاولة التدليل على قدم العالم، وعند فيلسوف إنجليزي اسمه Arthur Collier نشر سنة ١٧١٣ كتابًا بعنوان «المفتاح الكلي» يصدر فيه عن مالبرانش ويدعي التدليل على تناقض فكرة العالم الخارجي بإمكان التدليل على القضايا الآتية ونقائضها على السواء: العالم لا متناهي الامتداد ومتناهيه، المادة منقسمة إلى غير نهاية وهناك أجزاء لا تتجزأ، الحركة ضرورية وفي نفسه الوقت ممتنعة التصور، جمع كنط إذن هذه التناقضات جمعًا ووضعها هذا الوضع المسرحي ليبين عبث العقل، فاعتقد كثيرون من بعده بناء على شهادته أن العقل عابث، غير أنه لم يرضَ أن يتركنا في حيرتنا بإزائها، فزعم أنَّ لها حلًّا، وحلًّا مرضيًا جدًّا؛ ذلك أن القضيتين الأولى والثانية ونقيضيهما كاذبة على السواء لأنها جميعًا تذكر العالم كأنه شيء بالذات وهو ليس كذلك في حدسنا، فلا نستطيع أن نعلم إن كان متناهيًا أو غير متناهٍ، وإن كانت المادة مركبة من أجزاء بسيطة أو ليست مركبة، أما القضيتان الثالثة والرابعة ونقيضاهما فيمكن أن تكون صادقة على السواء، ولكن من وجهين: فيصدق النقيضان بالإضافة إلى العالم كما هو ماثل في حدسنا، وتصدق القضيتان بالإضافة إلى العالم معتبرًا كشيء بالذات، فقد يكون هناك أشياء بالذات، ومن الممكن تصوُّر عالم معقول وإن لم ندرك كنهه، وفي هذه الحالة نتصور إمكان علية حرة تكون العلية الطبيعية معلولها، ونتصور موجودًا ضروريًّا تكون الموجودات الحادثة متعلقة به، فما إن نجد — وسوف يجد كنط — مسوغا للإيمان بعالم معقول، حتى يصبح لدينا الإيمان بهاتين القضيتين، وهكذا يبقى الباب مفتوحًا أمام الأخلاق والدين، ولكن بِمَ يجيب كنط على قائل كشوبنهور إن النقائض هي الصادقة لأنها مطابقة لصور إدراكنا التي تقضي بأن لكل مشروط شرطًا، بينما القضايا كاذبة لأنها وليدة ضعف المخيلة التي تهن دون التسلسل إلى غير نهاية فتتحمل الأسباب لتضع له حدًّا؟ وبِمَ يجيب إذا قلنا له أن العالم المعقول إن وجد كان خاضعًا لمبدأ العلية كالعالم المحسوس فلا تكون فيه حرية، كما يقول الدليل على نقيض القضية الثالثة، ولا يكون فيه موجود ضروري، على ما جاء في الدليل الثالث على نقيض القضية الرابعة، لقد قال كنط إن حله للمتناقضات «قد يبدو دقيقًا غامضًا للغاية» وإنه لكذلك حقًّا.

(٨) الجدل الصوري: نقد العلم الإلهي النظري

هذا العلم يدعي التدليل على وجود موجود ضروري كعلة أولى للعالم، ويمكن رد أدلته إلى ثلاثة: الأول يستنبط وجود الموجود الضروري بمجر تحليل معناه، وهذا هو الدليل الوجودي (والتسمية لكنط)، والدليل الثاني يذهب من التجربة بالإجمال، أي من موجود حادث أيًّا كان، إلى علة أولى هي موجود ضروري وهذا هو الدليل الطبيعي، والدليل الثالث يذهب من تجربة معينة هي تركيب العالم ونظامه إلى علة أولى لهذا التركيب، وهذا هو الدليل الطبيعي الإلهي (وترجع هذه التسمية إلى الفيلسوف الإنجليزي دورهام، في كتاب عنوانه «الإلهيات الطبيعية» Physico-Theology صدر سنة ١٧١٣ وصادف إقبالًا كبيرًا)، ويتلخص نقد كنط لهذه الأدلة في إبطال الأول، ثم بيان أن الدليلين الآخرين يعتمدان عليه وأنهما إذن باطلان مثله، فيخرج بهذه النتيجة وهي أنه يستحيل إقامة دليل عقلي على وجود الله، فيصدقه كثيرون ويتناقلون انتقاداته على علاتها.

الدليل الوجودي يعتمد على تعريف الله بأنه الموجود الكامل، وكنط يسلم هذا التعريف لأنه يعتقد أن فكرة الله أصيلة في العقل كما سبق القول، ولكنه يقول إن الدليل عقيم لأن الوجود المثبت فيه وجود متصور، وإن الوجود ليس محمولًا ذاتيًّا تختلف الماهية بوجوده لها أو عدمه، وإنما تحقق الماهية، فمعنى المثلث لا يتغير، سواء وجد مثلث أو لم يوجد، والماهية هي هي بالإضافة إلى مئة ريال متصورة ومئة ريال عينية، فبأي حق يضاف الوجود إلى معنى الموجود الكامل؟ وهذا النقد لا يخرج عن نقد الراهب جونيلون ونقد القديس توما الأكويني للقديس أنسلم، ونحن نسلم عجز هذا الدليل، فلننظر في الدليلين الآخرين.

الدليل الطبيعي يذهب من حدوث العالم أو أي شيء فيه، كوجودي أنا على الأقل، وينتهي إلى موجود ضروري، فيعترض كنط بأن هذا الموجود الضروري ليس حتمًا الموجود الكامل أو الله، بل قد يكون المادة أو العالم، وأن نتيجة الدليل تعدل عند أصحابه هذه القضية: الكامل ضروري، وهذا قول الدليل الوجودي الذي هو غلط، ولكن كنط واهم هنا، الدليل الوجودي غلط لأنه يمضي من المعنى إلى الوجود العيني، أما الدليل الطبيعي فليس غلطًا لأنه يذهب من الموجود إلى الموجود، ويقول إن الضروري كامل لا إن الكامل ضروري، وإنما نصل إلى موجود ضروري لأن العلة الأولى يجب أن تكون موجودة بذاتها، أي أن يكون وجودها عين ماهيتها، وإلا لم تكن هي العلة الأولى، وإنما نقضي بأن الضروري كامل لنفس هذا السبب فهذه القضية ليست مقدمة كما هو الحال في الدليل الوجودي، ولكنها نتيجة مبرهنة، ويكرر كنط الأقوال التي أيَّدَ بها نقيض القضية في التناقض الرابع، وأهمها أن مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة لا بأن للعلل علة أولى، ثم يقول: إن مسألة العلية هاوية يتردى فيها العقل، وإن العقل ليضطرب إذا اعتبر أن الإله الذي يقول به كعلة أولى لا يستطيع أن يجيب إذا ساله نفسه: «أنا الموجود منذ الأزل من أين أنا؟»، إن الكمال المطلق لا يمحو مسألة العلية ولا يحلها، نقول بل إنه يحلها ويمحوها، سأل موسى قائلًا: «ما اسمك؟» فكان الجواب: «أنا الموجود» ولا جواب إلا هذا، وقد بينَّا أن فهم كنط لمبدأ العلية ينتقض هذا المبدأ، إذ أن عدم الوقوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصول إلى علة بمعنى الكلمة، أي علة غير معلولة، وترك السلسلة معلقة.

الدليل الطبيعي الإلهي يستنتج وجود الله من نظام العالم بحجة أن النظام لا يمكن أن يكون وليد الاتفاق أو العلية المادية، يقول كنط: هذا الدليل جميل مشهور لدى الجمهور، وهو جدير بأن يذكر دائمًا باحترام، إذ عليه اعتمد الناس دائمًا للاعتقاد بوجود الله، غير أن له عيوبًا خطيرة، فأولًا هو يشبه غائية الطبيعة، إن كانت حقيقية، بغائية الفن، مع أن بينهما هذا الفارق: في الفن المادة والصورة متغايرتان، فالمادة بحاجة لمن يطبعها بالصورة، إما في الطبيعة فلا بد من برهان خاص على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام، ثانيًا إذا سلمنا بهذا الشبه كان كل ما نصل إليه هو أن صورة العالم هي الحادثة دون مادته، بحيث يؤدي بنا الدليل إلى إله مصور للعالم لا إلى إله خالق لمادته، ثالثًا لما كانت تجربتنا محدودة، وكان في العالم نقائص، فإن هذا الدليل يؤدي بنا إلى أن هذا الإله المصور حاصل على عقل كبير من غير شك لكن لا على عقل غير متناهٍ، لضرورة التناسب بين العلة والمعلول، وأصحاب الدليل يدعون مع ذلك أنهم يصلون إلى الله الموجود الكامل، فهم هنا أيضًا ينتقلون دون أن يشعروا من العلة الضرورية لنظام العالم، على افتراضها خالقة هذا العالم، إلى الموجود الكامل، وهذا ما يفعله الدليل الطبيعي الذي يستند إلى الدليل الوجودي الذي هو غلط، وكنط واهم هنا أيضًا: فأولًا إن البرهان على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام برهان ميسور متى لاحظنا أن النظام تأليف الكثير لتحقيق غاية، وأن الغاية معقولة قبل تحقيقها، وأن المادة غير عاقلة، ثانيًا نسلم بأن الدليل لا يذهب بذاته إلى الإله الخالق، وأن كل ما ينتجه أن لنظام العالم علة عاقلة، وإنما تعددت الأدلة على وجود الله لتعدد وجهات الإمكان في الطبيعة، كل وجهة تؤدي إلى مبدأ أولي من جنسها، وتؤدي الوجهات جميعًا إلى المعنى التام لله، على أن الدليل يؤدي إلى إله خالق إذا لاحظنا أن النظام في الطبيعة ليس نتيجة تركيب أجزاء مادية متجانسة كما يريد المذهب الآلي، ولكنه صادر عن ماهيات أشياء موجودات واحدة بوحدة حقيقية، بحيث إن إيجادها على صورة معينة هو في الواقع ايجاد المادة والصورة معًا، ثالثًا إن الدليل يؤدي بنا إلى أن منظم العالم موجود غير متناهٍ إذا فهمنا النظام على النحو المتقدم ووجدناه يعدل الخلق، إذا أن الخلق أو منح الوجود لا يكون إلا عن الموجود بالذات، أما إذا وقفنا عند موجود متناهٍ عادت المسألة فقلنا إن هذا الموجود معلول يقتضي علة، ويمتنع التسلسل، فتنتهي إلى علة أولي هي بالضرورة موجود كامل لا متناهٍ، وليس بصحيح أن هذا الدليل يعتمد على الدليل الوجودي، فقد بيَّنَّا أن الانتقال من الضروري إلى الكامل غير الانتقال من الكامل إلى الضروري؛ وبذا تتبدد اعتراضات كنط.

خلاصة «الجدل الصوري» أن لا سبيل إلى إقامة ميتافيزيقا نظرية، وهذا ما كان كنط قد بلغ إليه شيئًا فشيئًا وأعلنه في رسائل متتالية، بحيث يبدو هذا القسم من «نقد العقل النظري» عرضًا جديدًا لتلك الرسائل، أجل إن «الحساسية والتحليل» يؤلفان صلب المذهب ويظهران التغاير بين الظواهر والجوهر وامتناع تجاوزنا نطاق التجربة، ولكن الجدل كان لازمًا لتفسير وهم الميتافيزيقا واستحالة العلم الذي لا يستند إلى الحس، وفي الوقت نفسه للكشف عن «حاجات» جوهرية في الفكر الإنساني لا يكشف عنها تحليل التجربة، فليس يرمي «الجدل الصوري» إلى أن موضوعات الميتافيزيقا غير موجودة، بل إلى أن ليس باستطاعة عقلنا إدراك وجودها وماهيتها، فإن قيل: وعلى أي شيء تقام الأخلاق؟ كان جواب كنط أنها تقوم بذاتها، وهذا عنده آمن لها، إذ أن النطق الذي يدعي التدليل على النفس والحرية والله، يدعي أيضًا التدليل على المادية والجبرية والإلحاد فيصبح تعليق الأخلاق عليه خطرًا كبيرًا عليها، وإذن فإنكار الميتافيزيقا بالمرة أصلح للأخلاق، ولا سيما أن الجدل يبين أن فكرات الله والنفس والحرية ضرورية في العقل، وأن الأدلة عليها لازمة من قوانين العقل، فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك، عند كنط الواسطة موجودة، وهي الأخلاق كما سنرى، فالجدل الصوري يمهد للانتقال من نقد العقل النظري إلى نقد العقل العلمي.

١  لفظ Transcendental من وضع المدرسيين يدلون به على بعض معانٍ تسمو أو تعلو على مقولات أرسطو وتلائم جميع الموجودات، وهي الوجود ولواحقه الواحد والحق والخير والقوة والفعل وغيرها، ولكن كنط صرفه إلى المعنى المذكور فوق فجعله صفة للصور أو المعاني والمبادئ التي يعتبرها خاصة بالفكر وحده والتي يدعوها باطنة أو ذاتية متى طبقت في حدود التجربة؛ لذا أدَّينا هذا المعنى بقولنا صوري، أما لفظ Trascendant فقد استعمله المدرسيون وكثيرون غيرهم إلى أيامنا للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفارقته لها، واستعمله كنط بمعنى المفارقة والسمو من حيث الوجود ومن حيث المعرفة أيضًا أي حين تطلق الصور الفكرية إلي ما بعد التجربة؛ لذا أدينا هذا المعنى بقولنا مفارق ومفارقة، انظر أيضًا: A. Lalande, Vocabulaire de la philosophie.
٢  انظر في كتابنا «تاريخ الفلسفة اليونانية» ما يقوله أرسطو في حقيقة المكان والزمان، وفي طريقة إدراكنا لهما، وفي التجريد، وفي اللا متناهي.
٣  اقتبل كنط المذهب الحسي إلى حد من السذاجة بعيد، فإنه يقول إن علم الطبيعة يمكن أن يكون علمًا بمعنى الكلمة لأن الثبات الضروري للعلم ممكن من المكان، علي حين أن علم النفس لا يمكن أن يصير علمًا لعدم توفر الثبات في الزمان، إنه لم يَرَ أن ثبات العلم أتٍ من ثبات الماهيات التي ينظر مهما يكن حظها من الزمان والمكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤