الفصل الخامس

توماس ريد

١٧١٠–١٧٩٦

(١) حياته ومصنفاته

نبغ في هذا القرن لفيف من المفكرين الأسكوتلنديين أخذوا على أنفسهم الدفاع عن الأخلاق والدين بالرجوع إلى الضمير وعواطفه الطبيعية، فتألف منهم ما يسمى الأسكوتلندية، ذكرنا بعضهم في الفصل الثاني من هذه المقالة، وتوماس ريد أهمهم لأنه عرض للفلسفة في جملتها، وعالج مسألة المعرفة وهي المسألة الأساسية فيها، تخرج في جامعة أبردين، وعين قسيسًا، ثم عين أستاذًا بتلك الجامعة، فأستاذًا بجامعة جلاسكو، كان على مذهب لوك وباركلي، فلما قرأ كتاب هيوم في الطبيعة الإنسانية هالته النتائج التي انتهى إليها، وعول على معارضة الشك بيقين «الذوق العام» commou sense، له ثلاثة كتب مذكورة: الأول «بحث في الفكر الإنساني على مبادئ الذوق العام» (١٧٦٣) والثاني «محاولات في القوى العقلية» (١٧٨٥) والثالث «محاولات في القوى الفاعلية» (١٧٨٨)، وهذان الكتابان تفصيل الكتاب الأول.

(٢) مذهبه

«محال أن نفسر السبب الذي من أجله نوقن بمدركات حواسنا وشعورنا وسائر قوانا … إن هذا اليقين قاهر، إنه صوت الطبيعة، وعبثًا نحاول معارضته، وإذا أردنا أن ننفذ إلى أبعد منه ونطلب إلى كل قوة من قوانا السبب الذي يبرر ثقتنا بها، وأن نعلق هذه الثقة إلى أن تبديه، فيخشى أن تسوقنا هذه الحكمة المسرفة إلى الجنون، وأن نعدم بالمرة ضوء الذوق العام لأننا لم نرد الخضوع للحال المشترك بين بني الإنسان»، الذوق العام منحه خالصة من الله لا يكتسب بالتربية، فإنه قوة إدراك البديهيات، وبه نتعلم الاستدلال وقواعده أي استنباط النتائج الصحيحة من البديهيات.

يتشكك لوك وباركلي وهيوم في وجود أشياء خارجية، وما ذلك إلا لأنهم اعتقدوا أننا حين نعرف إنما نعرف معنى أو صورة، فوضعوا واسطة بين العارف والمعروف، ووجدوا أنفسهم مضطرين لإقامة البرهان على وجود شيء مقابل للصورة أو المعنى، وهذا موقف ينطوي على جرثومه الشك، ويرد عليه أولًا بنتائجه السيئة، ثم بالرجوع إلى الذوق العام، فما من أحد يعتقد أنه يرى صور الأشياء ولكن يعتقدون أنهم يرون الأشياء أنفسها، وفينا ميل طبيعي للاعتقاد بأن الروابط بين الظواهر المدركة ستظل هي هي في المستقبل، وعلى هذا الأساس تقوم العلوم، وكل ذي عقل سليم يقبله، وإن وجد من لا يقبله فهو جدير أن يدخل البيمارستان، إن تعاقب الليل والنهار قديم في تجربتنا، وما من أحد يعتبر الليل معلول النهار أو النهار معلول الليل، الحقائق التجريبية هي التي يحتمل يقيننا بها الزيادة والنقصان، فالطبيب مثلًا يزداد اقتناعًا بفاعلية دوائه كلما ازداد نجاحه حتى يتحول تخمينه الأول إلى يقين، أما المبادئ العقلية فاليقين بها ثابت منذ الأصل لا تزيد فيه التجربة ولا تنقص منه، وعلى ذلك ليست هذه المبادئ آتية من التجربة.

وتشكك هيوم في وجود الأنا وقصر معرفتنا على الظواهر الباطنة: ولكننا ننتقل من الظواهر الباطنة إلى موجود نسميه أنا بموجب مبدأ عقلي غريزي الذاكرة، تدلنا على بقاء الأنا هو هو، ويدلنا الذوق العام على أن هذه الذاكرة تقتضي وجودًا متصلًا. «ليست شكلًا ولا فعلًا ولا عاطفة، ولكني موجود يحس ويعمل ويفكر»، «أحوالي الباطنة تتغير في كل لحظة، ولكن الأنا متصل الوجود وهو المحل المشترك للأحوال المتعاقبة»، وقال هيوم أن ليس أغمض من فكرة القوة، ولكنها تدرك ضرورة من شعورنا بأنفسنا، فإننا نجد في أنفسنا قدرة فاعلية هي الإرادة، وإذا كنا لا نشعر بقوانا أنفسها فإننا نشعر بالأفعال التي تتم عنها، وكل فعل فهو يفترض قدرة في الفاعل، وافتراض شيء يفعل دون أن يكون حاصلًا على قدرة الفعل خلف ظاهر.

على أن ريد يقف عند حد النقد، ويعرض معتقداتنا على أنها بديهية طبيعية دون محاولة تفسيرها، فهو يسلم بلا مناقشة جميع المبادئ المقبولة عند جميع الناس (مبادئ العلم الرياضي، والعلم الطبيعي، والأخلاق، وما بعد الطبيعة) «لأنها من الضرورة للسيرة بحيث لا يمكن النزول عنها إلا ونقع في أباطيل لا تحصى نظرية وعملية»، ولكنه لا يصنف هذه المبادئ ولا يعقلها بمبدأ أعلى، بل إنه يقع في شَرَكِ المبدأ التصوري، فما الإدراك الظاهري المباشر عنده إلا «إيحاء ضروري» أو «إشارة طبيعية» إلى الشيء الخارجي، لا صورته، وهو يسائل نفسه قائلًا: «كيف يجعلنا الإحساس نتصور وجود شيء خارجي لا يشبه بحال، ويضطرنا للاعتقاد به؟»، ويجيب بقوله: لا أزعم العلم بذلك، وحين أقول إن الإحساس يوحي بالصورة وبالاعتقاد، لا أقصد إلى تفسير طبيعة ارتباط هذه الحدود، بل إلى التعبير عن واقعة يستطيع الجميع شهودها في الوجدان»، وعنده أن كل الفرق بين الكيفيات الأولية والثانوية هو «أن حواسنا تعطينا فكرة مباشرة متميزة عن الأولى، في حين أن طبيعة الثانية غامنضة نسبية»، وعلى ذلك لا يمحو ريد الواسطة بين العارف والمعروف، بل يقبلها صراحة، وهي الإحساس كإشارة، ويذهب إلى أن ماهيات الأجسام وماهية النفس محجوبة عنا، فيصل إلى النتيجة التي وصل إليها لوك وهيوم وهي استبعاد الميتافيزيقا، بحجة أنها تثير مسائل غير قابل للحل، فجملة القول أنه نظر إلى المسائل من الوجهة النفسية دون الوجهة الميتافيزيقية، فظن أن إثبات الواقع يكفي، ورد الفلسفة إلى علم النفس الوصفي، وقال إن هذا العلم في غنى عن الآراء الميتافيزيقية في طبيعة الجسم والنفس أسوة بالعلوم الطبيعية وكان له أتباع حَذَوْا حذوه فجعلوا علم النفس مستقلًّا عن الفلسفة، وهذا أهم أثر للمدرسة الأسكوتلاندية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤