الفصل العاشر

أخلاق

(١) إدوارد فون هارتمان (١٨٤٢–١٩٠٦)

كتب كثيرة في الأخلاق وفلسفة الدين وغير ذلك من المسائل الفلسفية والاجتماعية وتاريخ الميتافيزيقا، ولكنه معروف خاصة بكتاب نشره في السابعة والعشرين بعنوان «فلسفة اللا شعوري» (١٨٦٩) يجمع فيها بين «إدارة» شوبنهور و«مثال» هجل في «مطلق» متجانس لا شعوري، إن في الكائنات الحية وظائف وغرائز تفترض عقلًا أوسع من عقلنا وأمضى عزمًا، وهو مع ذلك لا شعوري، فالحياة تكشف لنا عن لا شعور عاقل مريد يرشده المثال الهجلي، وقد يوجد شعور في الذرات أيضًا إذ لا تلازم بين الشعوري والنفس، على ما يشهد به الإلهام الفني وتطبيق المقولات كما بيَّن كنط، وكلاهما لا شعوري؛ فالموجودات مظاهر لا شعور مطلق أو مطلق لا شعوري أراد أن يتحقق فأوجد العالم، وجاء العالم خير العوالم الممكنة يتألف من مراتب يتزايد فيها الشعور من أسفل إلى أعلى، ولكن الشر فيه يربى على الخير إلى حد بالغ حتى ليستحب العدم دونه، فالمثل الأعلى والغاية القصوى لتطور المطلق — طبقًا لمذهب التشاؤم — يجب أن يكون عدم العالم وعدم اللا شعوري نفسه، وإنما يتحقق العدم بنمو الشعور في المطلق، أي في مظاهره على اختلافها وبخاصة في الإنسان، فيزداد الإحساس بالشقاء الكلي فتؤثر الموجودات عدم الوجود، وهكذا يتحطم العالم الذي يعتبره شوبنهور باقيًا أبدًا فيؤيد الشر، على أن هارتمان يستدرك قائلًا أن ليس هناك ما يضمن أن يبقى العالم محطمًا إذ من الممكن أن تعود الإرادة الكامنة فتستيقظ!

(٢) فريدريخ نيتشي (١٨٤٤–١٩٠٠)

أديب مطبوع حشر في زمرة الفلاسفة لأنه فكر وكتب في الإنسان ومصيره والأخلاق وقيمتها، وفكر تفكير الأديب وكتب كتابة الأديب أو النبي الملهم، ثم لا نستطيع أن نقول إنه مبتكر مذهبه فقد أخذ أركانه عن شوبنهور وڤاجنر، فلا يبقى له إلا الأسلوب الذي عبر به عن هذا المذهب، كان ابن قسيس وحفيد قسيس وأراد أن يصير قسيسًا فكان في حداثته مستمسكًا بالدين، ثم خرج على الدين والأخلاق بمنتهى الشدة وصار علمًا من أعلام الفكر، توفر على الدراسات اليونانية واللاتينية في المدرسة أولًا ثم في جامعتي بون وليبزج (١٨٦٤–١٨٦٩)، وقبل الفراغ من الدراسة نشر مقالات في إحدى المجلات لفتت إليه الأنظار بجامعة بال، فعرضت عليه التدريس فيها، فحصل على إجازاته العلمية وقصد إليها، ولكي يعين فيها اضطر للنزول عن جنسيته والتجنس بالجنسية السويسرية، فلما نشبت الحرب بين ألمانيا وفرنسا (١٨٧٠) كان بمعزل عنها، وكان عاطفًا على فرنسا أم الثقافة مشفقًا عليها وعلى الثقافة من البربرية البروسية، ولكنه خجل من قعوده فطلب إلى السلطة السويسرية الترخيص له بالخدمة في عداد الممرضين فأجيب إلى طلبه، ولم يكن بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك لأن سويسرا كانت محايدة، وبدلته الحرب رجلًا آخر وجعلت منه ألمانيًّا فخورًا بألمانيا، يمجد الحرب لأنها تبعث القوة في الإنسان وتوجهه إلى الجمال والواجب، ولكنه أصيب بالدوسنطاريا والدفتريا؛ وصادف المرض في بدنه استعدادًا وراثيًّا فأوهنه سنين عديدة حتى اضطره إلى الانقطاع عن التدريس فاعتزل منصبه في ١٨٧٩ وبعد عشر سنين انتهى به المرض إلى الشلل الكلي، فظل على هذه الحال عشر سنين حتى وافته منيته، وقد قالت أخته إن السبب الرئيسي في مرضه الأخير إدمان الكلورال استجلابًا للنوم.

وهو في ليبزج وقع له كتاب شوبنهور «العالم كإرادة وتصور» فأعجب به واعتنق المذهب ودعا صاحبه «أباه»، ومنذ ذلك الحين أقبل على الفلسفة إذ وجد أنها تنظر في الإنسان والعالم مباشرة بينما الأدب يظهرنا على العالم والإنسان خلال الكتب، وما إن دب فيه المرض حتى ثار عليه وعلى تشاؤم شوبنهور واعتنق مبدأ «الحياة» فكان المرض شاحذًا لإرادته موحيًا إليه بالشجاعة دافعًا به إلى توكيد حياته بالرغم ممَّا كان ينتابه طول حياته من آلام في الرأس والعينين والمعدة، وقد قال في ذلك: «لم يستطع أي ألم ولا ينبغي أن يستطيع أن يحملني على أن أشهد زورًا في حق الحياة كما تبدو لي!» وكان يتقبل الألم كامتحان ورياضة روحية، وينكر على المريض أن يكون متشائمًا، وقد قال: «إن حياتي عبء ثقيل، ولقد كنت تخلصت منها منذ زمن طويل لو لم أَرَ أني وأنا في حالة الألم والحرمان هذه كنت أقوم بأكثر الملاحظات والتجارب فائدة في الميدان الروحي والخلقي، إن الشره إلى العلم يرتفع بي إلى أعمال أنتصر فيها على كل ألم وكل يأس» وهذه ناحية تثير العطف عليه وتقوم عذرًا له، ومنذ ذلك الحين انحصر تفكيره في نقطتين: إحداهما نقد القيم الأخلاقية والدينية، والأخرى قلب هذه القيم أو عكسها بوضع «إرادة القوة» في المحل الأول.

ومن بال قصد إلى رتشارد ڤاجنر، فإذا بهما متفقان على الإعجاب بشوبنهور، وتوثقت الصلة بينهما، ثم فصمها نيتشي وقد حاول أن يثني صديقه العظيم عن تشاؤمه فلم يفلح، وهو مدين له بفكرة من أهم أفكاره، وقد وجدها في كتيب مخطوط بعنوان «الدولة والدين» يقول فيه ڤاجنر إنه كان اشتراكيًّا، لا بمعنى أنه كان يريد المساواة بين جميع الناس، بل كان يريد أن يراهم محورين من الأعمال الدنيئة يرتفعون إلى فهم الفن، ولكنه أدرك أنه أخطأ وأن العامة لا ترتفع إلى المستوى الذي كان ينشده، وأن المسألة التي يتعين حلها هي هذه: كيف نقود العامة إلى أن يخدموا ثقافة مقضيًّا عليهم أن يجهلوها، وإلى أن يخدموها بإخلاص ونشاط حتى التضحية بالحياة؟ إن جميع الموجودات تخدم غايات الطبيعة، فكيف تحصل منهم الطبيعة على الاستمساك بالحياة وخدمة غاياتها؟ إنها تحصل منهم على هذا الغرض بخداعهم؛ وذلك أنها تضع فيهم الأمل في سعادة دائمة ترجأ دائمًا، وتضع فيهم غرائز تضطر أدنى البهائم إلى أعمال شاقة وتضحيات طويلة، كذلك يجب تعهد المجتمع بخدع تستبقي كيانه، أهم هذه الخدع الوطنية، فإنها تكفل بقاء الدولة والملك، ولكنها لا تكفي لضمان ثقافة عالية، إنها تفسر الإنسانية وتعمل على نمو القسوة والبغض وضيق العقل، فثمة خدعة أخرى تصبح ضرورية هي الخدعة الدينية؛ فإن العقائد ترمز إلى الوحدة الوثيقة والمحبة العامة، ويجب على الملك أن يؤيدها في شعبه، فإذا تشبع الساذج بهاتين الخدعتين استطاع أن يحيا حياة سعيدة شريفة، بيد أن حياة الأمير ومشيريه أعظم شأنًا وأكثر خطرًا، إنهم ينشرون الخدع، فهم إذن يعلمون قيمتها، ويعلمون أن الحياة في الحقيقة تراجيدية، وأن الرجل العظيم يجد نفسه كل يوم تقريبًا في الحالة التي ييأس فيها الرجل العادي من الحياة ويلجأ إلى الانتحار، فالأمير والصفوة المحيطة به يرغبون لأنفسهم خدعة مريحة يمالئونها على أنفسهم، هذه الخدعة هي الفن، والفن ينقذهم بأن يلطف من آلامهم ويزيد في شجاعتهم، هذه خلاصة رسالة ڤاجنر، وقد رأى نيتشي أن روح شوبنهور ظاهر فيها، وسوف ينسج على منوالها أو يؤيدها بشواهد من تاريخ الثقافة اليونانية.

فعل ذلك في أول كتاب هام له، وهو «نشأة التراجيديا»، ظهر هذا الكتاب في آخر يوم من سنة ١٨٧١، ولما أعيد طبعه بعد خمس عشرة سنة أضاف نيتشي إلى العنوان السابق عنوانًا ثانيًا هو «اليونانية والتشاؤم» لزيادة إيضاح موضوعه، وهو يذهب فيه إلى أن قدماء اليونان مروا بعهدين متعارضين: كان العهد الأول في القرنين السابع والسادس، فكان اليونان مليئين حياة أصيلة وقوة ساذجة، يداخلهم شعور تراجيدي وتشاؤم، وتداخلهم شجاعة تدفعهم إلى قبول الحياة ومخاطرها؛ إذ كانوا يعتقدون — كما يعتقد الأوربيون الآن — بالقوى الطبيعية، وبأن واجب الإنسان أن يخلق لنفسه فضائله وآلهته، فازدهرت التراجيديا تدور كلها على توكيد الإنسان لقوته في مغالبة القدر وتنطق بالحكمة القوية والشعر الغنائي، ولكن التراجيديا سقطت فجأة بعد سوفوكليس كأن كارثة قضت عليها، بخلاف سائر الفنون التي جاء انحطاطها بطيئًا تدريجيًّا؛ ذلك بأن سقراط بدأ العهد الثاني، سقراط ابن الشعب ابن أثينا، ذلك الرجل الفقير الدميم الساخر، الذي هدم بتهكمه المعتقدات الساذجة التي كانت قوة الأجداد، وحمل التراجيديا، فاضطرب أوريبيدس، وعدل أفلاطون عن شعره التمثيلي وفرض على الناس — جريًا مع أستاذه — خدعة كانت مجهولة لدى القدماء هي فكرة طبيعية معقولة يدركها العقل الإنساني ويدرك أنها مصدر النظام، فالتخريج السقراطي والدعة الأفلاطونية يحملان طابع الانحطاط، وما نتحدث عنه من فرح اليونان وصفائهم إنما كان ثمرة عصور الاستعباد، هذا بينما كان القدامى مشغوفين بالمجد والفن، وكانوا يعلنون أن العمل اليدوي شيء مخجل وأنه يستحيل على المغني بتحصيل رزقه أن يصير فنانًا، فاصطنعوا الرق لكي ييسروا لأقلية من البشر «الأولمبيين» أن يتوفروا على الفن، فالرق ضروري للفن والثقافة، وأصل الرق القوة الحربية التي هي الحق الأول، وما من حق إلا وهو في جوهره اغتصاب وامتلاك، فالحرب ضرورية للدولة كضرورة الرق للمجتمع، هذه الأفكار ستظل أركان مذهبه، وسيعرب عنها في صور مختلفة، فقد كان كثير الكتابة، وأهم كتبه من الناحية المذهبية: «هكذا قال زاردشت» (١٨٨٣–١٨٩١) و«ما وراء الخير والشر» (١٨٨٦) و«أصل الأخلاق» (١٨٨٧)، وكان يجد مشقة كبيرة في طبعها إذ كان قراؤه قليلين وكان أصدقاؤه أنفسهم قليلي التقدير لكتاباته وكانت الجرائد والمجلات لا تذكرها، فكان الناشرون يقبلون بعضها بعد إلحاح، ويرفضون بعضها الآخر فيضطر هو إلى تدبير نفقات الطبع.

يتألف مذهبه من قسمين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، القسم السلبي نقد عنيف للقيم الأخلاقية ولثقافة القرن التاسع شعر أو حضارته وهو يلخص في كلمة «العدمية الأوربية»، يقول إن كل ثقافة هي تفترض «جدول قيم» أي عددًا من الخيرات تعتبر أعظم الخيرات ويتجه إليها المجتمع اتجاهه إلى مثل عليا، وهذا الجدول يجيء دائمًا صورة لخلق الناس الذين يصطفونه بل صورة لمزاجهم البدني ومن هنا نشأت ثقافتان كبيرتان: إحداهما ثقافة المنحطين المستضعفين، والأخرى ثقافة الأقوياء السادة، وجميع القيم التي اصطنعتها حضارتنا ترجع إلى ثقافة المنحطين وتعود بأصلها إلى الشعب اليهودي الذي هو شعب عبيد، وتتلخص في فوز المسيحية وانتشار عقائدها؛ فإن المسيحية تؤيد حياة آجلة تنسي البشر الحياة العاجلة التي هي الحياة الحقة، وتؤكد وجود إله خالق يحاسب النفس الخالدة، وهذا قول يعارضه العلم ولكنه ضروري لعقيدة الحياة الأخرى، وتؤكد بنوع خاص عقيدة الخطيئة الصادرة عن إرادة حرة، والحرية وهم، وتأمر بالتكفير عن الخطيئة بالصبر والتسليم والطاعة والاتضاع، وكل أولئك مظاهر ضعف وانحطاط يبديها القساوسة فضائل ليحتفظوا بسيادتهم على جمهور المساكين، حتى العلماء المحدثون الذين يرفضون المسيحية يحترمون هذه القيم، خذ سبنسر مثلًا تجده ينكر العناية الإلهية ثم يؤمن بالتقدم المحتوم وبالتوافق الضروري بين أفعال الطبيعة والنزعات الإنسانية، فيستبقي الانسجامات المسيحية في عالم خلو من الله، وخذ فلاسفة وعلماء كثيرين تجدهم يقنعون بأن يضعوا «العلم» موضع الله ثم يمجدون الحرية والديمقراطية ويسوغون طلب الثراء والرخاء، وكل أولئك علامات انحطاط كانحطاط الإيمان الديني سواء بسواء، فيجب تحطيم جدول القيم هذا إذ أنه لا يلائم سوى المساكين.

والقسم الإيجابي يبين ثقافة السادة، أي مجموعة من المعتقدات والأخلاق يسمو بها الإنسان القوي، والمبدأ المهيمن على هذه المعتقدات والأخلاق هو توكيد القوة والقوة موجودة وليست بحاجة إلى التسويغ، قال شوبنهور إن كل موجود يتوق إلى البقاء، وإن الحياة إرادة حياة، ولكن هذا قليل: يجب أن تقول إن الحياة تتوق دائمًا إلى الازدهار والانتشار ولو بالطغيان على الغير وبسط سلطانها عليه، وأنها من ثمة مبدأ حماسة وفتح، فإرادة القوة هي الاسم الحقيقي لإرادة الحياة، وكل إرادة قوة فهي تذهب إلى حدها الأقصى لأن الحياة لا تزدهر إلا بإخضاع ما حولها، ومتى وضعنا هذا المبدأ انقلبت القيم المتعارفة رأسًا على عقب، و«قلب القيم» يلزم ضرورة؛ ذلك بأن إرادة القوة فردية، فهي تحب ذاتها وتقسو على الغير، بل تقسو على نفسها إذ ترى في المخاطرة والألم ضرورة لها، يقول زاردشت: «يجب أن تحب السلم كوسيلة لحرب جديدة، وتحب السلم القصير أكثر من الطويل … لقد صنعت الحرب والشجاعة من عظائم الأمور أكثر ممَّا صنعته محبة القريب»، والبطل الذي يقهر نفسه ويقهر الغير لا يطلب سعادة شخصية، وإنما هو يخدم غاية تعلو عليه هي إيجاد «الإنسان الأعلى» أي صنف من الناس قوي، بينما الشفقة التي تقول بها المسيحية ويقول بها شوبنهور تستبقي الإنسانية في حال الضعف والمهانة بل تزيدها ضعفًا ومهانة، فكما أن التطور الحيوي تقدم حتى وصل إلى الإنسان الراهن، فكذلك يجب أن يذهب إلى أبعد منه، إن الإنسان الراهن حبل مشدود بين الحيوان الأعجم والإنسان الأعلى، حبل مشدود فوق الهاوية، فمذهب التطور يحتم قبول الحياة ويخلع عليها معنى ويعين لها غاية، هذه الغاية هي الحالة التي يبلغ إليها الإنسان حين ينبذ الجدول الراهن للقيم والمثل الأعلى المسيحي والديمقراطي المرعي في أوربا لعصرنا الحاضر، ويعود إلى جدول القيم الذي كان مرعيًّا عند الأمم الشريفة التي خلقت قيمها ولم تتلقَّ قيمًا من خارج، والإنسان الأعلى المنتظر سيفيد من مكتشفات العلم للسيادة على الطبيعة نفسها، غير أنه يجب أن يتوقع آلامًا شديدة في صراعه المستمر ضد الضعفاء الذين يستخدمهم، فقد يستطيعون أحيانًا بفضل عددهم أو دهائهم أن يقهروه، وعلى ذلك يكون شعاره «الحياة الخطرة»، ولما كانت غايته الفوز فإنه يأبى كل شفقة على المساكين، ولما كان يلخص الإنسانية في شخصه فإنه يسودها وهو مطمئن الضمير، ويجد في الفوز غبطته العظمى، وأخيرًا يثبت مصيره إلى الأبد بقبوله أن يعود فيحيا حياة البطولة هذه إلى غير نهاية وفقًا لنظرية الدور السرمدي.١
فلسفته هذه صورة نفسه القلقة وثقافته الرومانتية وتجربته المؤلمة، وهو يعرضها على أنها رسالة ووحي، ولا يقصد إلى إقناعنا بل إلى تعليمنا كيف نستكشف أنفسنا فنجد فيها إرادة القوة، وإذا أردنا أن نلخصها قلنا إنها صيحة بالإنسان أن «كن ما أنت دون ضعف وإلى النهاية»، وهذا ما دفعه إلى نقد شوبنهور نقدًا لاذعًا وإلى فصم صلته بفاجنر حين أدرك اختلافه معهما في معنى الحياة والغاية منها، والشبه كبير بين هذه النظرية وبين النظرية السوفسطائية التي يعرضها أفلاطون في محاورة «غورغياس» مع هذا الفارق وهو أن «الإنسان الأعلى» يحل محل «الطاغية» وأن الحيوية النفسية تحل محل الشهوة البدنية، ولو أن نيتشي أنعم النظر في هذه المحاورة الخالدة لرأى بأي قوة يعرض أفلاطون هذه النظرية وبأي قوة يفندها وبأي قوة يجلو مبادئ الأخلاق،٢ ليست القوة بذاتها غاية وليس لها بذاتها قيمة، ولكن قيمتها ترجع إلى قيمة الموضوع أو الغرض الذي تخدمه، فإذا كان هذا الموضوع هو اللائق بالإنسان بما هو إنسان كانت القوة المبذولة في سبيله خيرة ممدوحة، وإذا كان معارضًا لماهية الإنسان كانت القوة تمردًا أحمق، ولو أن نيتشي دقَّق في تحليله لأدرك جمال الحلم والوداعة، وأنهما عبارة عن المضي مع طبيعة الإنسان العاقلة إلى النهاية، بل لأدرك أنهما يتطلبان من القوة أكثر ممَّا يبذل في الغضب والقسوة، فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة، على حين أن كظم الغيظ أصعب من إعلانه وأن الصفح أصعب من الانتقام، وهذا هو الخلاف الدائم بين الحسية والعقلية، بين مذهب لا يرى في الإنسان سوى أنه حيوان راقٍ فيأخذ بأخلاق الوثنية القائمة على اعتبار القوة والمقسمة البشر إلى قوي وضعيف، وبين مذهب يلحظ روحانية الإنسان قبل حيوانيته فيرسم له أخلاق العدالة والمحبة، فلم يأتِ نيتشي بشيء جديد من الوجهة الفلسفية، وكل الجديد عنده ذلك الضجيج الذي يقال له أدب.

(٣) حاشية في الفلسفة الإيطالية

لم نخصص للفلسفة الإيطالية مقالة أو فصلًا لأنها في الحق لا تعدو أن تكون صدى لفلسفات معروفة، ففي أوائل القرن ساد في إيطاليا ضرب من التخير يجمع بين لوك وجساندي من جهة وبين ديكارت وكنط من جهة أخرى، ثم برزت معارضة ضعفية من جانب روما تيوزي (١٧٦١–١٨٣٥) الذي حاول أن يتخذ لنفسه موقفًا وسطًا بين الجنسية والتصورية، ومن جانب جالوبي (١٧٧٠–١٨٤٦) الذي يتخذ من «الأنا» أساسًا للموضوعية ويزعم أنه يلطف تصورية كنط ويصححها.

ثم ظهرت طائفة من أتباع مالبرانش دعوا بالوجوديين ontologistes أشهرهم روسميني (١٧٩٧–١٨٥٥) يذهب إلى أن معنى الوجود حاصل بالطبع في كل إنسان، وأنه يحقق على أرفع وجه خصائص المعنى المجرد التي هي الكلية واللا نهاية والضرورة والدوام، وأن هذه الخصائص تمنع من الاعتقاد بأن المعاني المجردة تفسر بالإحساس ليس غير، وتحمل على الصعود إلى موجود حاصل بالذات على هذه الخصائص، وهو الله، فمعنى الوجود صورة الله في النفس، ويذكر في هذه الطائفة أيضًا جيوبرتي (١٨٠١–١٨٥٢).

ثم طائفة من الهجليين تأخذ من المذهب نزعته الأحادية وتعتبره بنوع خاص مبدأ تأويل التاريخ وتركيب لسياسة عملية، أشهر رجالها: سباڤنتا (١٨١٧–١٨٨٣) وبنديتو كروتشي (ولد سنة ١٨٦٦ وكان وزيرًا للمعارف في الحكومة الفاشية سنتي ١٩٢٠–١٩٢١) وجيوفاني جنتيلي (ولد سنة ١٨٧٥ وكان وزيرًا للمعارف ١٩٢٢–١٩٢٤).

وكذلك طائفة من الكنطيين يذكر منهم بارزلوني (١٨٤٤–١٩١٧) وكانتوني (١٨٤٠–١٩٠٦).

هذا فضلًا عن «المدرسية الجديدة» التي تعرض مذهب القديس توما الأكوبني وتعارض بينه وبين المذاهب الحديثة، ويمثلها بخاصة سانسفرينو (توفي ١٨٧٠) وليبراتوري (١٨١٠–١٨٩٢).

١  هذه النظرية معروفة في الثقافة اليونانية، ونتيجتها استبعاد كل أمل في نعيم مقيم، أرضيًّا كان أو سماويًّا، واعتبار الإنسان شبحًا ضئيلًا في طبيعة عمياء، وكان شوبنهور يرى في العودة الدائمة وتجدد الألم إلي غير نهاية سببًا للتشاؤم والزهد، وكان نيتشي قد فزع من هذه الفكرة في أول الأمر وحياته مفعمة بالآلام، ثم حسبها قانونًا طبيعيًّا واعتزم تأييدها بدراسات علمية، ولكنه لم يستطع تحقيق هذا العزم واكتفى بأن اعتنقها على أنها الفكرة الوحيدة الخليقة بأن تقابل إرادة الحياة في الإنسان الأعلى، والتي تمثل أقصى حد يقترب فيه عالم الصيرورة من عالم الدوام من حيث إن الآن الذي يتحدد إلي ما لا نهاية لا يعتبر لحظة عابرة بل يكتسب قيمة غير متناهية، وإذا كانت هذه النظرية تحرمنا كل أمل فقد كان نيتشي يرى أنها تملؤنا شرفًا وحماسة، فكان يفرضها على نفسه كما يفرض الزاهد على نفسه الحرمان والموت، ولكنها في الواقع معارضة لفكرة الإنسان الأعلى إذ أنها تعني تكرار الحياة كما هي، على حين أن فكرة الإنسان الأعلى ترمز إلى تقدم حقيقي وإلى إمكان التحرر من الاتفاق والقدر، فتجعل الحياة مستحبة والنجاة ممكنة، على أنه قد لا ينبغي أن نطلب من أديب مثل نيتشي كثيرًا من الدقة المنطقية.
٢  لخصنا المحاورة في «تاريخ الفلسفة اليونانية» ص ٩٣–٩٥ من الطبعة الثانية، القاهرة ١٩٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤