الفصل الأول

الفلسفة في أمريكا

(١) وليم جيمس (١٨٤٢–١٩١٠)

فلسفته أثر لفلسفة عصره الغالب عليها الكنطية والتطور، وصورة لمزاجه وتجربته، كان والده هنري جيمس قسيسًا بروتستانتيًّا ومن أتباع سويدنبورج الإشراقي السويدي الذي تهكم عليه كنط (٩٥ج) فتأثر هو بهذه الناحية، وتابع دراسات علمية وفلسفية في معاهد وجماعات أمريكية وأوربية إلى أن حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة هارڤارد (١٨٧٠) فعين بعد ذلك بقليل أستاذًا للفسيولوجيا والتشريح بها، فكان أستاذًا ممتازًا، ثم عين بها أيضًا أستاذًا لعلم النفس فبرز فيه أيما تبريز، ثم اتجه إلى الفلسفة فألقى فيها الدروس ونشر الكتب وكان أشهر أركان «البراجماتزم» أي المذهب العملي.

كان كتابه الأول «مبادئ علم النفس» (١٧٩٠) فجاء كتابًا كبير القدر بتحليله الدقيق العميق وأسلوبه الخلاب وأكسبه شهرة واسعة وجعل منه أحد واضعي علم النفس المعاصر، ثم توالت كتبه على هذا الترتيب: «موجز علم النفس» (١٨٩٢)، و«إرادة الاعتقاد» (١٨٩٧)، و«أنحاء التجربة الدينية» (١٩٠٢)، و«البراجماتزم» (١٩٠٧)، و«كون متكثر» (١٩٠٩) يعارض فيه الأحادية أو وحدة الوجود، ونشر له بعد وفاته: «بعض مسائل الفلسفة» (١٩١١) أو «محاولات في التجريبية البحتة» (١٩١٢).

أثره في علم النفس أنه ينكر على مذهب الترابط أو التداعي تأليف الوجدان من ظواهر منفصلة ويبين أن الظواهر الوجدانية تجري في تيار متصل، وأن الوجدان شيء يمتنع رده إلى الظواهر الفيزيقية أو الفسيولوجية، وأن حالاته نوعان: حالات يدل عليها بأسماء كقولنا تعقل وتخيل وإحساس وإرادة، وحالات متعدية كالعطف والاستدراك تؤلف التيار الوجداني نفسه، وعلى ذلك يجب اعتبار الدماغ «آلة نقل» تصل بالجسم قوى وجدانية مباينة للقوى الجسمية، ويجب الاعتراف بأن أعم قانون في علم النفس هو قانون المنفعة، فإن أفعالنا التلقائية مرتبة بالطبع لخيرنا، وكذلك المراكز الدماغية العليا في مجاوبتها على التأثيرات، ولا شك أن جيمس بهذا الموقف قلب علم النفس رأسًا على عقب، وشق الطريق إلى مذاهب فلسفية «حيوية» منها مذهبه هو الذي سنعرضه، على أن هذا الموقف لم يمنعه من اعتبار الانفعال النفسي (كالخوف والغضب والسرور والحزن وما إليها) مجرد الإحساس بالحالة الفسيولوجية الناشئة عن إدراك الموضوع، وبينما يعتقد الذوق العام أننا إذ نرى الذئب نخاف فنهرب، يقول جيمس إننا إذ نرى الذئب نهرب فنخاف ويستشهد على ذلك بأننا نوجد الانفعال بإيجاد الحالة الفسيولوجية، ونلطف الانفعال أو نزيله بالسيطرة على الحالة الفسيولوجية، وهذا صحيح ولكنه لا يؤيد النظرية، فإن إرادة الإيجاد والسيطرة فعل نفسي، وإذا كان للحالة الفسيولوجية دخل كبير في الانفعال النفسي فإن هذا الانفعال ظاهرة قائمة بذاتها، ولولا ذلك لكانت الحركة الفسيولوجية غير مفهومة إذ أن الانفعال النفسي هو الذي يبعثها، ولقد كان أرسطو أصدق تحليلًا للانفعال حين قال إنه ظاهرة واحدة نفسية وفسيولوجية معًا تنبعث تارة من جانب النفس وطورًا من جانب الجسم المتحدين اتحادًا جوهريًّا.

أما البراجماتزم فمذهب يضع «العمل» مبدأ مطلقًا، وإن كانت هذه الكلمة قديمة ومستعملة بمعانٍ مختلفة إلا أن المعنى المعروف لها الآن ورد في مقال مشهور للفيلسوف الأمريكي تشارلس ساندرر بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)١ بعنوان «كيف نوضح أفكارنا» (١٨٧٨) حيث يذكر القاعدة الآتية للتحقق من دلالة المعاني التي نستخدمها فيقول: «إن تصورنا لموضوع ما هو تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر»، وهذا يعني أن علامة الحقيقة أو معيارها العمل المنتج لا الحكم العقلي، وأن العمل مبدأ مطلق كما قلنا، بحيث يلزم من ذلك أنه حر كل الحرية وأن لا شيء يعترضه، سواء العمل المادي والخلقي والعقلي أو التصور، فيلزم أن العالم مرن نستطيع التأثير فيه وتشكيله، وأن تصوراتنا فروض أو وسائل لهذا التأثير والتشكيل، والمذهب العملي يقوم على هذا الأساس، ويعتمد على التجربة الوجدانية الخالصة ويقتصر عليها، وهذه هي التجريبية البحتة: radical empiricism وتبدو التجربة الوجدانية متنوعة متغيرة، فهو مذهب «كثري» pluralistic يتصور «الكون متكثرًا» فيعارض الأحادية والجبرية، ويدع مستقبل العالم معلقًا يحتمل إمكانيات عدة يتوقف تحقيقها على فعل الكائنات التي تقرر مصيره، وبناء على هذه المقدمات يعرض وليم جيمس البراجماتزم على أنه نظرية في ماهية الحقيقة ومنهج لحسم الخلافات الفلسفية.

الحقيقة على نوعين؛ لأن موضوع التصور إما أن يكون شيئًا خارجيًّا أو منهاجًا عمليًّا لإرضاء حاجة نفسية؛ ففي الحالة الأولى «الفكرة الحقة عن موضوع ما هي التي تحدونا إلى إتيان أفعال تقودنا إلى ذلك الموضوع»، وفي الحالة الثانية «القضية الحقة هي التي يستتبع تسليمها نتائج مرضية» أي محققة لمطالبنا؛ ففي الحالتين ليست الحقيقة تصورًا مطابقًا لشيء كما يعتقد عامة الناس، ولكنها التصور الذي يؤدي بنا إلى الإحساس بشيء أو إلى تحقيق غرض، وفي الحالتين الخطأ هو الإخفاق، وبعبارة أخرى الحقيقة هي التصور الذي نسيغه ونحققه فنجعله صادقًا بتصديقنا إياه، فهي ليست خاصية ملازمة للتصور كما يعتقدون، ولكنها «حادث» يعرض للتصور فيجعله حقيقيًّا أو يكسبه حقيقة بالعمل الذي يحققه، أو (على حد قول برجسون في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب «البراجماتزم») «الحقيقة اختراع (شيء جديد) لا اكتشاف (شيء سبق وجوده)، وليس يعني هذا أنها تحكم وتعسف، بل يعني أنه كما أن الاختراع الصناعي إنما يتقدم بفضل فائدته العملية فقط، كذلك القضية الصادقة هي التي تزيد في سلطاتنا على الأشياء، ونحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما تخترع الأجهزة الصناعية لتستخدم القوى الطبيعية»؛ فالقضايا المنطقية والرياضية والطبيعية، والمعاني المجردة كالجوهر والعلة والجنس والنوع والزمان والمكان وما إليها، مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها: «فمثلًا دوران الأرض لا يستند على تجربة بمعنى الكلمة، ولكنه فرض مفيد في تصور الظواهر، وهو أكثر فائدة من فرض دوران الشمس»، فالحقائق المقبولة الآن عند عامة العقول كانت في البداية مخترعات لاستخدام التجربة، ثم تأصلت في العقل بمر الزمن، وهي على كل حال «بطاقات» لا تدل على شيء في الواقع، وإنما تنحصر قيمتها في إنتاجها، قال كنط إن الحقيقة تابعة لتركيب العقل، ويضيف المذهب العملي إلى هذا القول (أو هو على الأقل يتضمن) أن تركيب العقل نتيجة إقدام بعض العقول الفردية» أي العقول التي اخترعت المعاني والمبادئ، والمذهب العملي أوسع نطاقًا من المذهب الواقعي، فإنه يمتد إلى كل حقيقة، حتى إلى ما يسمونه حقيقة مطلقة، فيستوعب العلم والميتافيزيقا من حيث هما موضوع عمل (برجسون في الموضع المذكور).

والبراجماتزم من حيث هو منهج يحسب المناظرات الفلسفية التي لم يفد فيها للآن الجدل النظري ولا يرجى أن تحسم بغير هذا المنهج، فالجدل ما يزال قائمًا في هل العالم وحدة أم كثرة، وهل هو يخضع للجبر أم يتسع للحرية، وهل هو مادي أم روحي، إلى غير ذلك من المسائل، والمنهج العملي يؤوِّل كل واحدة منها بحسب ما يترتب عليها من نتائج في العمل ومن فرق في حياة الإنسان، أما إذا لم ينتج فرق عملي فيحكم بأن القضيتين المتقابلتين ترجعان إلى واحد وأن الجدل فيهما عبث إذ لو كان بينهما فرق لنشأ عنه فرق في الحياة، فالمنهج العملي اتجاه أو موقف مؤداه تحويل النظر عن الأوليات والمبادئ إلى الغايات والنتائج، خذ مثلًا المادية والروحية فإننا لا نرى فرقًا بينهما من جهة الماضي، إذ أن المؤمن يبين أن الله خلق العالم، ويبين المادي أن العالم تكون بفعل القوى الطبيعية، ولما كان العالم قائمًا ولا يمكن استعادة التجربة التي أحدثته للتحقق منها أكانت خلقًا أم تكوينًا طبيعيًّا، كانت المسألة ممتنعة الحل، ولما كانت الحجج تتعادل قوة فنحن نحكم بأن لا فرق بين النظريتين، أما إذا نظرنا إلى العالم من جهة أن له مستقبلًا وأن لم يتم بعد، فإن الاختيار بين المادية والروحية ينقلب أمرًا غاية في الخطورة؛ ذلك بأن منافعنا ليست فقط حسية، ولكن لنا منافع عليا ترجع إلى حاجتنا العميقة لنظام خلقي دائم، والنهاية التي يتنبأ العلم بأن الأشياء ستبلغ إليها بعد تطورها الآلي هي فناء القوة وهي العدم، وليس للمادية غير هذه النتيجة، فنحن نأخذ عليها أنها لا تكفل لنا منافعنا العليا، على حين أن لفكرة الله أفضلية عملية كبرى إذ معناها أن العالم قد يهلك بالنار أو بالجليد دون أن ينالنا أذى لثقتنا بأن الله سيرعى منافعنا العليا على كل حال ويوفر لأمانينا وسائل إرضائها في عالم باقٍ، فالمذهب الروحي صادق بهذا المعنى وبهذا المقدار، كذلك نصنع في جسم الجدل القائم بين أنصار الحرية وخصومها، فنقول إن الاعتقاد بالحرية مصدر قوة وإقدام لأنه يتضمن إمكان البلوغ إلى الكمال، بينما المذهب الآلي يقول إن العالم خاضع للضرورة وإن فكرة الإمكان ناشئة من جهل الإنسان بأسباب أفعاله، فمعاني النفس والله والحرية ملأى بالمواعيد من جهة العمل، ولكنها تنقلب ألفاظًا جوفاء إذا نظرنا إليها مجردة؛ وإذن فليس لها من معنى غير معناها العملي.

والتجربة الدينية تؤيد المعتقدات الميتافيزيقية، يظن العلماء أن ليس هناك سوى تجربة واحدة هي التجربة الظاهرة التي يعولون عليها، والواقع أن العلم بعيد عن التجربة وأنه يبتعد عنها كلما تقدم، فإنه يضحي بها ويستعيض عنها بمعانٍ تبسطها وتزعم تفسيرها فيتجه إلى الآلية التي ترد الكيفيات المحسوسة إلى الحركة، بل يرد إلى الحركة الفكر نفسه، إن هناك نوعين آخرين من التجربة، هما التجربة النفسية والتجربة الدينية، وكلتاهما مؤكدة واجبة الاحترام، وقد رأينا أن للتجربة النفسية خصائص ذاتية مباينة لخصائص الجسم المتصلة به ولخصائص سائر الأجسام، أما التجربة الدينية على اختلاف صورها فلها خاصيتان مشتركتان بين هذه الصور: إحداهما قلق من الألم أو الشر، والأخرى شعور بالنجاة من الألم أو الشر بفضل «قوة عليا» تشهد بفعلها في حياة النفس نتائجه الحسنة، وكان جيمس قد انتابته وهو في التاسعة والعشرين أزمة حادة من النورستانيا، فشفي منها بقبوله فكرتي العون الإلهي والحرية الكفيلة بتغيير مصير الإنسان، وآمن بالتجربة الدينية، وقادته دراستها إلى أنها أغنى وأعمق من التجربة العلمية، وأنها تفسر إذا سلمنا أننا نشارك مشاركة لا شعورية في موجود أعظم منَّا نستطيع أن نسميه الله أو الألوهية، وأنها تدخلنا بالفعل في عالم تتصل فيه الأرواح وتتفاعل، لا من خارج وبوساطة ألفاظ وإشارات، بل من داخل وبدون واسطة؛ لأنها شعور قوي غير منازع بحضور إلهي يمنحنا ما لم تكن لتوفره لنا جهودنا واستدلالاتنا وعلى هذه التجربة تقوم العقائد الثلاث التي ترجع إليها الحياة الدينية: عقيدة أن العالم المنظور جزء من عالم غير منظور يمده بكل قيمته، وعقيدة أن غاية الإنسان الاتحاد بهذا العالم غير المنظور، وعقيدة أن الصلاة أي المشاركة مع الألوهية فعل له أثره بالضرورة.

ألا تكون التجربة الدينية حالة مرضية هي عبارة عن اضطراب عصبي واختلال التوازن الجسمي؟ كلا، فإنما يحكم على الشجرة بثمرها، وليست تفقد الحقيقة العلمية شيئًا من قيمتها متى كان المكتشف لها مرهف الإحساس حاد المزاج، وليس بغض من قيمة العبقرية وأثرها في تقدم الإنسانية اقترانها بحالات مرضية، وثمرة التجربة الدينية القداسة، أي الفقر الإرادي والمحبة والإيثار، وهذه فضائل جد نفيسة للأفراد والجماعات، وليس خصب هذه التجربة هو السبب الوحيد الذي يحملنا على اعتبارها صادقة، بل هناك أيضًا اتفاقها مع وقائع التجربة النفسية، فإن هذه التجربة تدلنا على أن تحت المجال الضيق للشعور منطقة عميقة تستمر فيها الحياة الباطنة، وأن من هذا التيار السفلي تطفر عواطف وإلهامات فجائية تبدو في الشعور، أجل يمكن تفسير ظواهر ما تحت الشعور في الحالات المرضية بأحوال الجسم، ولكن هناك نوعًا عاليًا مما تحت الشعور يرفع النفس فوق الحياة الجسمية إلى حياة روحية ممتنعة على العقل والإرادة.

إن الفنان العبقري لا يشعر أنه صاحب آياته، ولكنه يميل إلى إضافتها إلى إله يستحوذ عليه ويوحي إليه، فيمكن أن نفترض أن في المنطقة اللا شعورية يتم الاتصال بيننا وبين الله وبين سائر النفوس، وعلى هذا يلوح أن خصائص التجربة الصادقة تجتمع للتجربة الدينية؛ فإنها تقوم على حدس أصيل، وإن لها آثارًا نافعة، وإنها بما تحت الشعور تتصل بطائفة من الظواهر معلومة، على أن الشك يظل ممكنًا إذ أن التجربة الدينية تجربة شاذة فردية غير قابلة للتحقيق بملاحظة نزيهة، وقد نستطيع رفع الشك إذا استطعنا الخروج من الذاتية وإبراز حالات يكون فيها التصور هو الفعال، لا الاعتقاد بالتصور، أي إذا استطعنا وصل التجربة الدينية، ليس فقط بالتجربة النفسية، بل أيضًا بالتجربة الفيزيقية والمضي من فكرة عالم الأرواح وتفاعلها إلى ظاهرة فيزيقية محسوسة من الجميع مثل الإحساس عن بعد، والتعاطف عن بعد، وحضور الأرواح، والرؤيا وقت الوفاة، وما إلى ذلك من الشواهد.

والإله الذي نقبل منه المدد والعزاء ليس إلهًا مفارقًا ولا إلهًا متحدًا بالعالم، إن الإله المفارق الكامل الثابت لا يدخل في علاقة مع الإنسان، وإذا بدت الأحادية مقربة بين الله والإنسان فليس الأمر كذلك في الحقيقة؛ إذ أنها تميز بين الله بما هو لا متناهٍ والله بما هو صانع الطبيعة، أي بين الوحدة الميتافيزيقية للوجود وكثرة الموجودات المتناهية، يضاف إلى ذلك أنها تعتبر هذه الموجودات مجرد ظواهر لا حقيقة لها في أنفسها بينما تدلنا التجربة على أنها حقيقة وأنها متصلة بحياة عليا، إنما الإله الذي يحتاجه كل منَّا، فيتصوره البعض معزيًا مقويًا، والبعض منذرًا معاقبًا، تبعًا لحالتهم وحاجتهم، فهو إلهٌ متناهٍ نحن أجزاء منه باطنة، وهو نفسه جزء من العالم، وبين كماله الخلقي ونقصنا درجات من الكمال متمثلة في أرواح أخرى، وفي القول بإله متناهٍ تفسير يسير لإمكان الشر، وحافز لميل الحرية نحو الخير كي نعاون الله على تحقيق مصائر الكون، أما صفاته فيجب أن نغفل الصفات النظرية المعروفة من وجود بالذات وروحانية وبساطة وما أشبهها؛ لأنها عديمة الفائدة ومن ثمة عديمة المعنى، وأن نقتصر على الصفات الخلقية بسبب فائدتها، مثل القداسة والعدالة والعلم فإنها تبعث فينا الخوف، ومثل القدرة والخيرية فإنهما تبعثان فينا الرجاء.

هذا المذهب يثير مشكلات كثيرة، لقد كانت نظرة جيمس إلى علم النفس نظرة صادقة فأعلن أن الحياة النفسية أصيلة وأنها حياة متصلة متدفقة وأن رائدها المنفعة، لكنه جعل منها ومن منافعها مركز الكون وصورته، فاعتبر الكون مرنًا مثلها قابلًا للتشكل بحيث يصير تعريف الحقيقة أنها مطابقة الأشياء لمنفعتنا لا مطابقة الفكر للأشياء، وبحيث ينعكس موقف سبنسر وجميع أصحاب التطور السابقين فيقال إن التطور نتيجة فعل الكائن الحي (وبالأخص الإنسان) في الطبيعة لا نتيجة فعل الطبيعة في الكائن الحي، وإن الحقائق مخترعات شكلت الأشياء وتأصلت في العقول لا أنها آثار الأشياء في العقول، وقد وجد جيمس مثالًا على رأيه وتأييدًا له في بناء النظرية العلمية للعهد الأخير إذ أنها تبدو في شكلها الرياضي وكأنها محض اختراع حتى ليفسر العلماء المسألة الواحدة بنظريات مختلفة ولا يجدون في ذلك حرجًا لاتفاقهم على أن كل الغرض من النظرية استخدام الطبيعة ليس غير، ولكن هذا لا يصدق إلا على نظريات علم الطبيعة لبساطة المادة وكثرة الإمكانات في تنوع الحركة، أما في علم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع حيث الموضوع أخص وأعقد، فلا بد من ملاحظة الأشياء أنفسها لأجل معرفتها، وأيَّما كان نصيب الاختراع في النظريات الطبيعية فلا جدال في أن واضعيها يراعون الظواهر ويحرصون على أن تتفق معها، والظواهر أمور حقيقة وليست اختراعًا، بل إن نجاح النظرية معناه امتحانها بشيء مستقل عنها، وإلا لنجحت أية نظرية وأفادت في العمل أية وسيلة فالحقيقة مطابقة الفكر للوجود، أما العمل فإنه يبين الحقيقة ولا يكونها.

والأمر واضح أيضًا في المسائل الخلقية التي تصدر الآراء فيها عن نزعتين، إحداهما النزعة الحسية والأخرى النزعة الروحية، فتحتمل عملين: أحدهما اللذة والأخر الواجب؛ فأي عمل يقصدون وأية منفعة يريدون؟ إنهم يجيبون: المنفعة العليا! فنسألهم: بأي حق ترتبون المنافع وتخضعون بعضها لبعض وأنتم تزدرون النظر وتنكرون أن يكون للأشياء حقائق وقيم؟ وما قيمة المنافع العليا بإزاء المنافع السفلى ونحن نعيش في عالم مادي والمادية مغايرة للفضيلة، فلا الطبيعة فاضلة أو مطابقة للفضيلة بالذات، ولا الفضيلة موجهة بالذات للنجاح في وسط الطبيعة، والموت في أخر الأمر واقف بالمرصاد قد يبدد المنافع جميعًا؟ وليس بصحيح أن المادية مثبطة للعزيمة؛ فإنها خليقة أن تنفخ في صدر المؤمن بها أعظم النشاط وأجرأ الإقدام لكي ينتهب من متاع الدنيا ما وسعه الانتهاب، وإذا كانت صحيحًا أن فكرة الله والخلود منشطة، فعلى شرط أن يكون الله موجودًا وأن يكون إيماننا به معقولًا، أما إذا لم يكن شيء من هذا فالفكرة وهم خادع وخيبة مرة، والأخذ بها وقوع في دور لعل كتب المنطق لم تذكر أبدع منه، إذ أنها تريدنا على أن نعتقد بالله وبالخلود لأن هذا الاعتقاد مفيد، والفائدة المرجوة منه لا تتحقق إلا بوجود الله والخلود، على أن جيمس يقول إن التجربة الدينية تدلنا على وجود الله، ونحن نسلم بهذه التجربة، ونرى من المستحيل استبعاد التصوف جملة من التاريخ الإنساني كما يريد كثيرون من «العقليين» غير أننا نرى من جهة أخرى وجوب التمييز بين التجارب، فإن منها الصادق ومنها الكاذب، وجيمس لا يدل على محك للتمييز، بل يقبل كل تجربة، ويعد استحضار الأرواح تجربة قاطعة، ثم نقول: إذا كانت المعتقدات الميتافيزيقية ثابتة بالتجربة فما وجه الحاجة إلى البراجماتزم؟ إن التجربة تقطع قول كل منكر وتغني عن المحاجة، فعجز المذهب ينقض صدره، أما قول جيمس إن الإله اللا متناهي الثابت الكامل لا يدخل في علاقة مع الإنسان، فراجع إلى اعتقاده أن هذه العلاقة تستلزم تغيرًا في الله، والواقع أن الإله المتناهي ليس إلهًا بمعنى الكلمة لأنه ليس العلة الأولى، وأنه ما دام الله لا متناهيًا بالضرورة فيجب القول بأن ليس له سوى فعل واحد يتضمن جميع المفعولات فلا تجري التغير فيه بل في المخلوقات.

(٢) جوزيا رويس (١٨٥٥–١٩١٦)

تلقَّى الفلسفة عن لوتزي وتشارلس بيرس ووليم جيمس، وعين أستاذًا بجامعة هارفارد سنة ١٨٩٢، ونشر كتبًا كثيرة أهمها: «الوجهة الدينية للفلسفة» (١٨٨٥) و«روح الفلسفة الحديثة» (١٨٩٦) و«العالم والفرد» (١٩٠٠–١٩٠٢).

مذهبه يعتبر هجلية جديدة، فإنه يقبل الآحادية، ولكنه يقبل الفردية أيضًا، ويحاول التوفيق بينهما، فيقول من الجهة الواحدة إن طبيعة الفكر تقتضي المطلق، إذ أن الفعل الأساسي للفكر هو الحكم، ولا قيمة للحكم إلا إذا افترضنا فكرًا أكمل من فكرنا حاصلًا على موضوع الحكم ومنزهًا عن التساؤل والشك اللذين يستدعيان الحكم، فلا حقيقة إلا إذا كان هناك أنا واحد يتضمن كل فكر وكل موضوع، ويقول من جهة أخرى عن مذهب المطلق يعتمد على مقتضيات العقل هذه لكي ينكر يقين الحياة العملية، بأفعالها وآلامها، على حين أن ليس للفكرة من قيمة عملية إلا إذا كانت متشخصة تمام التشخيص مباينة لكل فكرة أخرى، وأن الكلية علامة النقص (على ما أبدى الحسيون وأعادوا)، فالمطلق كلي ناقص يتكامل على الدوام بأن يترجم عن ذاته بأفراد يصنع كل منهم مصيره بحرية، فحياة هذا الأنا المطلق قائمة في معرفة الأفراد الذين يحققونه على التوالي، وهذا يعني أن رويس يؤلِّه المجتمع، ثم يجعل منه موضوع دين يفرض على كل فرد الإخلاص التام للجماعة، مع محاولته الإبقاء على الاستقلال الفردي.

(٣) جون ديوي (١٨٥٩)

أستاذ بجامعة كولومبيا، بدأ بأن كان هجليًّا فرأى مثل هجل أن قلق الفكر الحديث ناشئ من التعارض بين المثل الأعلى والواقع، أو بين الروح والطبيعة، فأراد أن يحقق الوحدة الروحية خيرًا مما فعل هجل، وكان كثير التأليف، كتب في الميتافيزيقا وفلسفة العلوم والمنطق وعلم النفس وعلم الجمال والدين، وأهم كتبه: «دراسات في النظرية المنطقية» (١٩٠٣) و«كيف تفكر» (١٩١٠) و«محاولات في المنطق التجريبي» (١٩١٦) و«العقل الخالق» (١٩١٧) و«الطبيعة الإنسانية والسلوك» (١٩٢٢) و«طلب اليقين» (١٩٢٩).

أصل التعارض بين المثالية والمادية أو بين الروح والطبيعة أن المثالية تعتبر المعرفة تأمل معانٍ فترى في العلم الطبيعي تركيبًا عقليًّا وترد المادة إلى الروح دون أن تبين كيف ولمَ تجزأ الروح المطلق إلى محسوس ومعقول وإلى وجدان محدود ووجدان كلي، على حين أن المادية تعتبر المعرفة مجرد ظاهرة عارضة فترد الروح إلى المادة دون أن تبين كيف تنبعث هذه الظاهرة ولمَ يبدو في الوجدان عالم من القيم متمايز من عالم الموجودات، فكل من المذهبين يقسم العالم إلى أجزاء ثم يحاول التوحيد بينها فيحاول عبثًا، أما إذا اعتبرنا المعرفة آلة أو وظيفة تظهر في الكائن الحي عندما يصادف عقبة، وتقوم في جهده لتذليل العقبات، بدت الفكرة فرضًا في سبيل العمل، وكانت الفكرة الحقة هي التي ترشدنا حقًّا، فالقول بأن الطبيعة معقولة ليس مبدأ نظريًّا ولكنه اعتقاد يتيح للنشاط المعقول أن يغير الطبيعة، فمذهب ديوي ضرب من البراجماتزم، وقد دعي Instrumentalism وFonctionatism لاعتباره المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، وقد كان ديوي داعية قوي التأثير إلى الإيمان بفاعلية الفكر وبالروح الديمقراطية، وهو في كل هذا ماضٍ مع العقلية الأمريكية المتجهة إلى العمل والحرية.
١  تخرج في جامعة هارفارد (١٨٦٢–١٨٦٣) وعلم فيها وقتًا قصيرًا، نشر «دراسات في المنطق» (١٨٨٣) ومقالات كثيرة جمعت ونشرت بعد وفاته، ونشر معها كتاب عنوانه «المنطق الكبير» كان الكتاب الوحيد الذي أثمه، تأثر بكنط مع افتراقه عنه في حلول المسائل، وتأثر بدروين وكان قد وصل من جهته إلي مثل آرائه، وأخذ بقسط كبير من العلم التجريبي فاكتسب دقة في التدليل ظاهرة في جميع كتاباته، وعني عناية خاصة ببيان موضوعية العلم ومنهجه، كان تأثيره عميقًا في الفلاسفة الأمريكيين الثلاثة المذكورين في هذا الفصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤