الفلسفة في ألمانيا
(١) فلسفة الظواهر (فينومنولوچيا)
الجديد في ألمانيا لعهدنا الحاضر مدرسة نشأت من التفكير في أصول العلم، فما برحت هذه المسألة تشغل المفكرين في العصر الحديث، والمذهبان المسيطران على العقول منذ أمد بعيد، وهما التصورية والواقعية، يتَّفقان في تحليل المعرفة إلى طائفتين من العناصر: إحداهما تشمل عناصر محسوسة هي مادة العلم، والأخرى تشمل عناصر هي صورة العلم، وتقول التصورية إنها حاصلة في العقل ابتداء بينما تقول الواقعية إنها ناشئة في الفكر بفعل قوانين التداعي، فتفصل التصورية بين صور المعرفة وبين علم النفس المكتسب بالحس الباطن، وتجعل الواقعية من حالاتنا الباطنة موضوع علم واحد شامل هو علم النفس ينطوي على المنطق كأحد أجزائه، على حين أن علم النفس يقتصر على وصف الحالات الشعورية ويستخلص قوانين واقعية وأن المنطق يفحص عن قواعد التفكير الصحيح ويصل إلى قوانين ضرورية معيارية، فكيف السبيل إلى التمييز بين هذين العلمين وما نوع العلاقة بينهما؟
عالج فانتز برانتانو (١٨٣٨–١٩١٧) هذه المسألة فيمن عالجوها، فكان طليعة المدرسة الجديدة، عالجها على طريقة المدرسية الأرسطوطالية فقد كان قسيسًا كاثوليكيًّا ثم صار أستاذًا بجامعة ڤورتزبورج، كان المدرسيون يميزون بين المطلق وسائر العلوم بقولهم إن موضوعات هذه العلوم مقصودات أول للفكر يتجه إليها أولًا وإن موضوعات المنطق مقصودات ثوانٍ يحصل عليها الفكر برجوعه على نفسه والنظر في مناهج التفكير دون مادته، فقال برانتانو إن ظواهر الشعور تنقسم إلى ثلاث صور هي التصور والحكم وظاهرتا المحبة والكراهية، وإن هذه الصور الثلاث حالات ثلاث للقصد أي للإضافة إلى موضوع مقصود، ومتى كانت الأحكام بينة بأنفسها وصفت بأنها صادقة، ومتى كانت المحبة متجهة إلى موضوع ملائم والكراهية إلى موضوع غير ملائم وصفتا بأنهما على صواب، فعلى الصدق والصواب يمكن إقامة نظرية في الحقيقة والقيمة، ولكل تجربة فكرية وجهان: أحدهما الموضوع (سواء أكان حقيقيًّا أم متخيلًا) وهو طرف إضافة وهدف قصد، والأخر نفسي وهو مجرد «فعل» التصور والحكم والمحبة والكراهية، وعلى «الأفعال» يقوم علم النفس.
وأعظم أركان المدرسة إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨) الأستاذ بجامعة جوتنجن ثم بجامعة فريبورج (الألمانية)، كان رياضيًا أول الأمر، نشر كتابًا في «فلسفة الحساب» (١٨٩١) وقادته الرياضيات إلى الفلسفة كما كان شأن كثيرين من المحدثين، فقد استوقف نظره دقة الرياضيات ومتانتها واتفاق العقول عليها بينما العقول مختلفة على النظريات الفلسفية وعلى منهج معالجتها، فأراد أن يجد للفلسفة أساسًا لا يتطرق إليه الشك ويسمح بإقامتها علمًا بمعنى الكلمة أي برهانيًّا، وتوسل إلى غرضه باصطناع فكرة القصد كما بينها برانتانو، وشرع يبني مذهبه، فنشر كتابًا «في المنطق» في مجلدين (١٩٠٠–١٩٠١) وكتابًا «في الفينومنولوچيا» (١٩١٣) وآخر في نفس الموضوع (١٩٢٨) و«تأملات ديكتارية أو المدخل إلى الفينومنولوچيا» (١٩٣١) وهو مجموعة محاضرات ألقاها في السوربون.
إنه يضع مبدأين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، المبدأ السلبي أنه «يجب التحرر من كل رأي سابق، باعتبار أن ما ليس متبرهنًا ببرهان ضروري فلا قيمة له»، والحالة النفسية المطلوبة هنا تشبه حالة الشك الكلي عند ديكارت مع هذا الفارق وهو أن هوسرل لا يستند مثل ديكارت إلى أسباب للشك فلا ينكر العالم الخارجي ولا يرتاب في وجوده ولكنه يطلب إلى العقل أن «يضع بين قوسين» الوجود الواقعي للأشياء لكي يحصر نظره في خصائصها الجوهرية كما هي ماثلة في الشعور، ومع اعترافه بأن هذا الموقف غير طبيعي وأنه مؤقت يتيح للعقل أن يتناول الموضوع بريئًا من كل واسطة مشوهة فينظر فيه نظرًا صافيًا، والمبدأ الإيجابي يدل على ماهية هذا الموضوع إذ يقول إنه «يجب الذهاب إلى الأشياء أنفسها» أي إلى الأشياء الظاهرة في الشعور ظهورًا بينًا، مثل اللون الأزرق أو الأحمر والصوت والحكم وما إلى ذلك من ماهيات ثابتة مدركة بحدس خاص، هذا على حين أن لوك وسائر الحسيين يصفون كثيرًا من الظواهر بأنها تتكون بالمضاهاة والتأليف، وأن الآليين يعتبرون الإحساسات جملًا لاهتزازات تقع على الأعضاء الحاسة، وأن كنط يعتبر الموضوع المحسوس مركبًا من كيفية آتية من الخارج ومن صورتي المكان والزمان، ويعتبر الحكم مركبًا من موضوعين محسوسين ومن مقولة يطبقها عليهما العقل، إن الماثل في الوجدان ماهيات معينة، وليس للوجدان أي علم بالعناصر أو الاهتزازات التي يقال إنها جملتها، هذه الماهيات هي الظواهر البينة بأنفسها أي «المدركة مباشرة في جميع وجهاتها» وهؤلاء الفلاسفة وأضرابهم يشوهون موضع الفلسفة لصدورهم عن آراء سابقة لا مسوغ لها.