استغاثة!

كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحًا، وكان الضوء الخافت المنبعث من الموقع يُظهر الجنود كأنهم أشباح فوق رصيف البوغاز، الريح تعصف بشدة وتُصدر أصواتًا مخيفة، تبعث على الرهبة والخوف في القلوب وكأنها عواء مجموعة من الذئاب، وكانت من شدتها تصدم القوارب ببعضها البعض وتُحرِّك الصواري والأشرعة.

على حافة الرصيف وقريبًا من الماء كان يقف المقدِّم «يسري» وإلى جواره الرائد «عباس» يرتديان الزيَّ العسكريَّ الشتوي، وفي يد المقدم «يسري» بطارية إضاءة يعبث بها في اضطراب. بينما وقف الرائد «عباس» متحاملًا على إحدى ساقَيه ومستندًا بذراعه فوق أحد القوارب الشراعية.

الرائد «عباس»: متى وصلَت هذه الإشارة يا أفندم؟

المقدم «يسري»: في الساعة الثانية والربع تمامًا.

الرائد «عباس»: من أين؟ وما مضمونها؟

المقدم «يسري»: من مكتب المخابرات في «بلطيم»، تقول: «هناك سفينة بضائع تحمل اسم «صيدا» جنحَت إلى الشاطئ بالقرب من الموقع رقم ١غرب البوغاز قادمة من «بيروت» إلى «الإسكندرية»، والقبطان يطلب النجدة من الساعة الواحدة؛ حيث إن السفينة مُصابة بعطب في دفَّتها.»

الرائد «عباس»: وكيف جنَحت في المياه الدولية حتى اقتربت من الشاطئ؟

المقدم «يسري»: ليس المهم كيف جنحَت، المهم كيف سنتصرف؟ وماذا يمكن أن نفعل؟ إن أمواج البحر عالية كالجبال والريح شديدة، والإمكانات كما ترى معدومة ليس هنا سوى القوارب الشراعية، وهي لا تستطيع أن تخرج من البوغاز.

الرائد «عباس»: وهل السفينة بعيدة من هنا؟

المقدم «يسري»: على بُعد أربعة كيلومترات من بوغاز البرلس، وكيلومترين اثنين من الشاطئ.

الرائد «عباس»: إنها قريبة جدًّا … إن القبطان الذي يصل إلى هذه المسافة ولا يستطيع أن يصل بها إلى الشاطئ لا يمكن أن يكون على معرفة بفنِّ البحار، ولا يمكن أن يسمَّى حتى نصف بحار …

المقدم «يسري»: وما يدريك … ربما كان يفكِّر في شيء ما، المهم ماذا سنفعل؟

اقترحْ عليَّ … لقد وقعت الكارثة ولا يمكن عملُ أيِّ شيء حتى طلوع الشمس.

في ذلك الصباح استيقظ الناس في قرية برج البرلس فوجدوا شاطئ البحر ممتلئًا بثمار الزيتون والتين والتفاح وألواح الخشب والأقلام وصفائح النشادر وأكياس البلاستيك وأشياء كثيرة.

كانت السفينة تبدو من بعيد كالفريسة الهامدة والبحر الهائج يحطم في جوانبها ويفترسها ويُلقي بما في باطنها إلى الشاطئ وكأنه ينتقم منها. وعلى الشاطئ الغربي امتلأ المكان بالجنود والصيادين الذين ينتظرون خروج بحَّارة السفينة مع الأمواج الهائجة التي تقذف بهم إلى الشاطئ.

إنه مشهد مروِّع؛ الصيادون والجنود يتلقَّفون البحارة واحدًا تلوَ الآخر كأنهم عائدون من معركة مستحيلة، كان النصر فيها بمعجزة فاقَت كلَّ القدرات.

وتقدَّم المقدم «يسري» من أحد البحارة وربَّت على كَتِفه قائلًا: حمدًا لله على السلامة، كم عدد طاقم السفينة؟!

أجاب البحار وهو يرتعد: ستة وثلاثون.

استدار المقدم «يسري» متجهًا إلى الرائد «عباس» الذي يُمسك بين يديه قلمًا وورقًا يدوِّن فيه أسماء البحَّارة وعددهم، وسأله وهو يتحرك نحوه: كم عدد الموجود يا سيادة الرائد؟

نظر الرائد «عباس» في آخر الكشف ثم قال: ثلاثون يا سيادة المقدِّم.

أدار المقدم «يسري» وجهه ناحية البحر الهائج وهو يقول: هناك ستة فوق ظهر البحر، لا بد أن نصنع شيئًا لهم، ولكن كيف؟ لا أدري.

استدار مرة أخرى ناحية الرائد «عباس»، وسأله قائلًا: هل القبطان موجود ضمنهم؟

الرائد: لا … ليس موجودًا ولا مساعده.

المقدم «يسري»: إذن ليس أمامنا إلَّا الانتظار حتى يخرجوا أحياء أو أمواتًا.

الرائد «عباس»: لا يمكن يا سيادة المقدم أن يظلوا أكثر من ذلك؛ فالبرد شديد والبحر كما ترى كالجبال.

المقدم «يسري»: ربما يكونون قد ركبوا قاربًا من قوارب النجاة، أو تعلَّقوا بشيء من السفينة …

الرائد «عباس»: وربما يكونون قد ماتوا.

المقدم «يسري»: لا يجب أن نتعجل في إصدار الأحكام، ويجب أن ننتظر … كانت الساعات تمرُّ عصيبة والأمواج الهادرة كأن بينها وبين السفينة ثأرًا فهي تنتقم منها وتُلقي بأجزاء منها إلى الشاطئ كأنها تريد أن تُرهب الواقفين على الشاطئ.

كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر، الجو شتوي بارد، ولم يبقَ سوى ساعتين على حلول الظلام. وكان المقدِّم «يسري» قد رجع إلى مكتبه في الكتيبة ينتظر مرور الدقائق الثقيلة كالجبال … ينظر في ساعة الحائط، أَزِف وقتُ تغيير الخدمة، مرَّت عشر دقائق بعد الثالثة، وبدأ يظهر من بعيد جنديٌّ من حرس «الهجانة» فوق الجمل وهو يُسرع به ويدخل من البوابة البحرية للكتيبة، يقترب من غرفة قائد الكتيبة، ينزلُ مسرعًا من فوق الجمل ويتقدم إلى غرفة القائد، يدخل ويقدِّم التحية العسكرية للمقدم «يسري».

المقدم «يسري»: ماذا هناك؟

ردَّ الجندي في تلجلج: لقد قذف البحر بثلاث جثث إلى الشاطئ، وبالقرب من الموقع ١ الشرقي يوجد قارب غارق بالقرب من الشاطئ. وقد تحطَّمت بعض أجزائه.

عندئذٍ أمر المقدم «يسري» باستدعاء الحارس من الخارج … وعندما وصل الحارس مسرعًا، قال: أوامرك يا سيادة المقدم.

المقدم في حزم وسرعة: جهِّز السيارة بسرعة.

لم تكد تمضي دقائق قليلة حتى كانت السيارة الجيب العسكرية تقطع الشاطئ إلى مكان الجثث، ونزل الجنود ورفعوا الجثث في السيارة ثم اقترب المقدم وصَعِد فوق إحدى قطع الصخور يدقِّق النظر في القارب المحطَّم ثم رجع إلى السيارة واتجه إلى الكتيبة، وتم إبلاغ مكتب المخابرات للتصرف في أمر هذه الجثث … لكن قبل أن يحلَّ الظلام بدقائق، ألقى البحر بجثتَين أخريَين فوق الشاطئ وتم التعرف عليهما من البحارة.

ولم يكن القبطان ضمن الأموات، ولم يكن كذلك مع الأحياء.

شيء غريب! الأحياء قد خرجوا، والأموات كذلك ألقى بهم البحر … أين ذهب القبطان؟

حتى قوارب النجاة الأربعة خرجت إلى الشاطئ محطَّمة. فأين ذهب القبطان؟ وهل هو حي أم ميت؟

قام المقدم بعمل اللازم فتم إبلاغ مكتب المخابرات وكذلك قيادة قوات حرس الحدود بتقرير مفصَّل من لحظة استغاثة القبطان حتى خروج آخر جثة. لكن بقي السؤال الذي لم تكن له إجابة في التقرير: أين ذهب القبطان؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤