العالم في سلسلة مفاتيح!

عندما حلَّقت بهم الطائرة فوق العاصمة الدانماركية كانت السَّاعة تقترب من الخامسة مساءً. لكن في تمام السَّاعة الثَّامنة، قالت مذيعة الطائرة: إنَّنا سوف نضطر للهبوط في مطار «أورلي» بعض الوقت، وبعد نصف ساعة كانت الطائرة تُحلِّق فوق «باريس»، ثم تأخذ اتجاهها إلى الممر الأرضي في مطار «أورلي». ولقد لاحظ الشياطين شيئًا. إنَّ استعدادات غريبة كانت تبدو على أرض المطار، الذي كان يغرق في الضوء حتى إنَّ «مصباح» قال: يبدو أنَّ الطائرة في مأزق، وأنَّ طاقم الطائرة قد أخفى الموقف عن الرُّكَّاب.

كانت هناك سيَّارة إطفاء وإسعاف، ومجموعة من الملَّاحين الأرضيِّين يقفون ليُوجِّهوا الطائرة التي دارت دورة ثم نزلت، وعندما اصطدمت عجلاتها بالأرض ارتجَّت رجَّة عنيفة حتى إنَّ الرُّكَّاب أُصيبوا بالفزع وصرخت سيدة، وبكى طفل، وبسرعة كان الشَّياطِين يقفون في حالة استعداد لأيِّ شيء يحدث.

مرَّت دقائق ثقيلة، قبل أن تتوقَّف الطائرة نهائيًّا. وقالت مذيعة الطائرة: مرحبًا بكم على أرض فرنسا. لقد حدث عطب في إحدى عجلات الطائرة، وكان من الضَّروري أن نهبط هنا، نرجوكم التَّوجُّه إلى صالة المطار. فأنتم في ضيافة الشَّرِكَةِ.

ضحك «خالد» وهو يقول: بدلًا من أن نكون في حالة إنقاذ للعالم كنَّا في حاجة إلى من ينقذنا، قال ذلك بلغة الشَّياطِين التي لا يفهمها أحد سواهم سواه.

بدأ الركَّاب يغادرون الطائرة. ونزل الشياطين الواحد بعد الآخر، واتجه الجميع إلى صالة المطار.

مضَت لحظات بينما كانوا يحتسُون بعض المشروبات الساخنة، وتردَّد في الصالة صوت المذيع الداخلي يقول: ركَّاب الرحلة المتَّجهة إلى «بون». سوف تكون الطائرة التي تقلهم في انتظارهم بعد نصف ساعة. فهم الشياطين أنَّهم سوف يستقلُّون طائرة أخرى، فهم سوف يمرون بمدينة «بون» الألمانية، ومنها يستمرون في رحلتهم إلى «كوبنهاجن».

كانت صالة المطار مُزدحمة بالركاب، وبالقرب من الشياطين كان يقف رجلان يُدخنان السيجار، ويبدو على ملامحهما الهدوء، كان كلٌّ منهما يُمسك في يده كوبًا من القهوة باللبن، يتصاعد منها بخارها.

قال أحدهما: لقد نقلت صحُفُ الصباح صورة طيبة للأزمة.

لفتت الجملة سمع الشياطين، فالتقت أعينهم، وبدءوا يركزون أسماعهم لحديث الرجلين، فكلمة أزمة تردَّدت اليوم في الصحف التي قرأها الشياطين في الطائرة، لكن الأزمة تكرَّرت في أكثر من حدث … أزمة في السوق الأوروبية المشتركة، أزمة الطاقة، أزمة في دول أمريكا اللاتينية، أزمة الشرق الأوسط، أزمات كثيرة قرأها الشَّياطين.

لم يرد الرجل الآخر، كان أحد الرجلين تبدو عليه الوسامة الشَّديدة، ممتلئ بعض الشيء، يلبس نظارة سوداء، ويُمسك عصا قصيرة في يدِه. أمَّا الرجل الآخر الذي تحدَّث عن الأزمة. فقد كان يبدو مثل عصًا طويلة، رفيع تمامًا، يُمسك في يده سلسلة من المفاتيح الفضِّيَّة، ويبدو صوته وكأنَّه يتحدَّث من أنفه.

ألقى «أحمد» نظرة على سلسلة المفاتيح، محاولًا أن يرى شيئًا محددًا، إلَّا أنَّ تفاصيل السلسلة لم تكن هي واضحة.

جذب الرَّجل الممتلئ نفسًا عميقًا من سيجارة ضخمة، ثم قال بعد أن تخلَّص من الدُّخان الذي ملأ فمه: إنَّ الأزمات تبدو وكأنَّها سيمفونيَّة رقيقة النغمات.

ضحك الرَّجل الرفيع وهو يقول: إنَّ هذا تعبيرٌ جيد أيُّها الصَّديق «روبرتو».

جذبت كلمة الأزمات سمع الشَّياطِين غير أنَّ صوت المذيع الدَّاخِلي قطع عليهم استغراقهم في المراقبة، فقد أعلن: المسافرون إلى «جنيف» يأخذون طريقهم إلى الطائرة، في نفس الوقت تبع صوتَ المذيع صوتُ مذيع آخر يقول: ركَّاب الرحلة ٩١٠ على الطائرة البوينج، المتجِّهة إلى «بون»، يتَّجهون إلى الطائرة. ظلَّ الشَّياطين في أماكِنَهم لا يتحرَّكون، في نفس الوقت الذي تحرَّك فيه «روبرتو» وزميله، في اتجاه باب آخر، حيث تقف الطائرة المتجهة إلى «جنيف».

همس «باسم»: هل يتبعهما أحد؟

مرَّت لحظة، بينما كان الرجلان يندسَّان بين المسافرين، ويكادان يختفيان عن أعين الشَّياطين، فقال «أحمد»: لا داعي. إنَّ مهمَّتنا محددة، ويجب أن نصل إلى «كوبنهاجن».

ردَّ «باسم»: لكن هذه فرصة لا يجب أن تفوَّت الآن!

أخذوا طريقهم إلى طائرتهم. كان «أحمد» برغم ذلك لا يزال يُفكر في «روبرتو» وزميله، لكن كان عليه في نفس الوقت أن يُفكِّر في أنَّ الفرصة الآن، قد لا تكون مضمونة. فربما كانت أحاديث الرَّجلين عن الأزمات مجرَّد أحاديثَ عارِضة، ولذلك فقد صعد سلم الطائرة في نشاط، لا يُعطيه فرصة للتَّردُّد. استقر الشياطين في الطائرة التي ارتفع صوتها بعد دقائق، واستعدُّوا للرَّحيل … كان «خالد» يجلس بجوار «أحمد»، بينما جلس «باسم» بجوار «مصباح».

قال «خالد» ﻟ «أحمد»: إنَّني ما زلت أُفكِّر في تلك الجملة التي قالها «روبرتو»: «إنَّ الأزمات وكأنها سيمفونية رقيقة النغمات.» إنَّ هذه جملة لا يقولها إلَّا عاشق للكوارث، إنَّه يستمتع بالأزمات، وكأنه يستمع إلى سيمفونيَّة!

جذب «أحمد» نَفَسًا عميقًا ملأَ رئتَيه، وكأنَّه يُعطي نفسه فترة للتفكير ثمَّ قال: هذا صحيح! وأظنُّ أنَّهُما من رجال العصابة. لقد فكَّرت في ذلك أيضًا، وسفرهما إلى جنيف يعني أنَّهما سوف يكونان قريبان من مصادر المعلومات. لكن المعروف الآن أنَّ المحادثات بين القوتَين الأعظم متوقفة، وأنَّ هناك أزمة بينهما، نتيجة الرَّسائل المزيَّفة … سكت لحظة ثمَّ ألقى «أحمد» نظرة على الليل خارج الطائرة، كانت السماء صافية. أضاف: وهذا ما جعلني أترك الفرصة، التي أرى أنَّها ليست فرصة طيِّبة.

اهتزَّت الطائرة بفعل دوران محركها، ثمَّ انطلقت على الممر الأسفلتي، في طريقها إلى الفضاء. وعندما استوت في مسارها الجوِّي، هدأ الصَّوت داخلها. لكن الحديث بين «أحمد»، و«خالد» كان لا يزال مُستمرًّا.

قال «أحمد»: لقد كنت أرقب سلسلة المفاتيح في يدِ زميل «روبرتو».

هزَّ «خالد» رأسه علامة أنَّه فهم ماذا يقصد. لقد كان «أحمد» يبحث عن علامة تؤكِّد أنَّهما من رجال عصابة «الجولد فنجر». فغالبًا، يحمل رجال العصابات إشارات تدلُّ على انتمائهم للعصابة. لكن «أحمد» لم يستطع رؤية تفاصيل السلسلة. مرَّت مضيفة الطائرة، تُقدِّم لهم بعض المشروبات، وبينما كانوا يشربونها، استغرق كل منهم في أفكاره.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، عندما سمعوا مذيعة الطائرة، تعلن وصولهم إلى «بون». ألقى «أحمد» نظرة على الليل خارج الطائرة. كانت السماء صافية تمامًا، والنجوم تلمع في وضوح. مرَّت ربع ساعة، ثم بدأت أضواء المطار تلمع، وكأنَّها عقد من النور، أخذت الأضواء تقترب أكثر فأكثر، حتى نزلت الطائرة إلى أرض المطار. وعندما توقَّفت تمامًا، بدأ الركاب يغادرونها. كان الجو برغم الليل المتأخر رائعًا، حتى إنَّ «باسم» علق: إنَّه يُذكِّرني بالقاهرة في الربيع.

انتهوا من إجراءات المطار، ثم خرجوا إلى الطريق. فجأة شعر «أحمد»، بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أنَّ هناك رسالة. استقبلها ثم ابتسم. لقد كانوا يقفون في هذه اللحظة على الرصيف. وكانت هناك سيارات كثيرة، تقف متراصَّة في ساحة واسعة. نقل الرسالة إلى الشَّياطين، الذين ابتسموا هم الآخرين، أخذوا طريقهم إلى الساحة المملوءة بالسيارات، وقصدوا سيارة كانت تحمل رقم ١٨٦٦٠، زرقاء اللون. كانت الرسالة تقول بأنَّهم يَبيتون الليلة في «بون» وأنَّ السيارة رقم ١٨٨٦٠ الزرقاء في انتظارهم. فتح «مصباح»، باب السيارة، دون مفتاح. وعندما أصبحوا داخلها، وضع «خالد» الذي جلس إلى عجلة القيادة يده على زرِّ التَّابلوه، فدار المحرِّك … وفي نفس اللحظة، دقَّ جرس تليفون السيارة، فرفع «أحمد» السماعة. وكان عميل رقم «صفر» هو الذي يتحدَّث. حدَّد لهم فندق «جاتشن» الذي سينزلون فيه الليلة، وتمنَّى لهم قضاء وقتٍ طيبٍ في «بون» عاصمة ألمانيا. أخذوا طريقهم إلى فندق «جاتشن» حيث وجدوا الحجرات في انتظارهم.

لقد كانت المدينة هادئة تمامًا في هذا الوقت المتأخِّر، وكان المارُّون في الشوارع قلة؛ فالمعروف عن الألمان أنَّهم ينامون مبكرًا، كعادة الأوروبيِّين، ويستيقظون مبكرًا أيضًا خصوصًا في أيام العمل. لقد كان اليوم هو الثلاثاء، ولذلك لم يفكر الشياطين في الذهاب إلى أي مكان. وعندما كانوا يأخذون طريقهم إلى المصعد حيث تقع حجراتهم في الدور الثالث كانت الصالة الواسعة خالية تمامًا، إلَّا من بعض موظفي الفندق.

قال «أحمد» وهم يغادرون المصعد في الدور الثالث: إنَّها ليلة راحة. فلا أحد يدري، متى ننام مرة أخرى. ولذلك ما إن دخلوا حجراتهم، حتى أبدلوا ثيابهم، واتجهوا إلى الأسرَّة مباشرة. وكما يفعل الأوروبيون فعل الشياطين؛ فقد استيقظوا مبكرين.

كانت خطوات المارة في الشارع تكاد تصل إليهم، حتى إنَّ «باسم» قال: إنَّهم يدقون الأرض بقوة، وكأنَّهم في طريقهم للحرب!

علَّق «مصباح»: إنَّها فعلًا حرب حقيقية. إنَّهم يغزون العالم بمُنتجاتهم ذات الشهرة الواسعة. وهذه لا تقلُّ عن الحرب!

بسرعة كان الشياطين يُبدِّلون ثيابهم. ودقَّ جرس التليفون فرفع «خالد» السماعة، ومرة أخرى كان عميل رقم «صفر» يتحدَّث، حدَّد لهم موعد الطائرة المتجهة إلى «كوبنهاجن» والتي كان موعدها في الثامنة والنصف.

نظر «خالد» في ساعة يده، ثم قال: أمامنا ساعة واحدة، حتى نكون في المطار.

نزلوا إلى المطعم، حيث تناولوا إفطارهم. وبعد نصف ساعة، كانت السيارة الزرقاء تشق الطريق في اتجاه المطار، وهناك في نفس المكان، ترك الشياطين السيارة، واتجهوا إلى الداخل. في نفس الوقت الذي كان مُذيع المطار يُعلن عن قيام الرحلة المتجهة إلى «كوبنهاجن» … أسرع الشياطين إلى الطائرة التي غادرت المطار بعد ربع ساعة … وكانت الرحلة هادئة.

عندما توقَّفت الطائرة في مطار «كوبنهاجن»، وبدأ الركاب يغادرونها، لفت نظر «أحمد» رجل يمشي أمامه مباشرة. كانت في يد الرجل سلسلة مفاتيح، مشابهة تمامًا لتلك التي كان يُمسكها زميل «روبرتو»، غير أنَّ هذه كانت واضحة التفاصيل. كانت في نهاية السلسلة كرة صغيرة عليها خريطة العالم، وتَقبض عليها يد مضمومة الأصابع. فكَّر «أحمد» بسرعة في معنى هذه الكرة واليد، وقال لنفسه: إنَّها فعلًا تصلح رمزًا لعصابة الإصبع الذهبية! إنَّها تعني القبض على العالم لتدميره.

لم يلفت نظر الشياطين إلى ما رأى. إلَّا أنَّ «خالد» اقترب منه، ولفَت نظره إلى الرجل، فقد كان «خالد» يَمشي بجوار «أحمد».

فكَّر «أحمد»: إنَّ هذه فرصة طيبة، جاءت تعويضًا للفرصة الأخرى. خصوصًا وأنَّنا في «كوبنهاجن»، حيث يوجد المركز الرئيسي للعصابة. استمرَّ خلف الرجل، حتى غادَرَ المطار. فجأة، كان أمام المطار سيارة زرقاء مُشابهة لتلك التي ركبوها في «بون» وكانت تَحمِل نفس الرقم ١٨٦٦٠، كانت مفاجأة للشياطين فأسرعوا نحوها في نفس اللحظة التي اقتربت فيها سيارة ذات زجاج أسود، وتوقَّفت أمام الرجل، فركبها بسرعة. وانطلقت. غير أنَّ الشياطين لم يُضيِّعوا الفرصة، فقد انطلقوا خلفها.

كان الجو رائعًا والحقول الممتدة على مدى البصر تُغطي المساحة بلون أخضر. كانت السيارتان تشقان الطريق في طريقها إلى العاصمة. ولم تكن مسألة لافتة للنظر. فقد كانت عشرات السيارات، تقطع الطريق أيضًا. كان الشياطين قد جعلوا السيارة أمام أعينهم لا تغيب. لكنَّهم في نفس الوقت كانوا يُفكِّرون في المدينة، حيث يكون الزحام، وحيث تكون المتابعة صعبة … وبعد نصف ساعة ظهرت مدينة «كوبنهاجن» وبدأ الزحام.

قال «أحمد»: ينبغي أن تستمر المتابعة … في نفس الوقت، الذي نكون فيه في فندق «آن» … سكت لحظة بينما كانت إشارة مرور قد أوقفت السيارات، ثم أضاف: «خالد» و«باسم»، يستمران في المطاردة، وسوف أتجه و«مصباح» إلى فندق «آن».

وقبل أن يَتغيَّر لون الإشارة إلى اللون الأخضر، كان «أحمد» و«مصباح»، قد غادرا السيارة، وعندما تحرَّكت السيارات ظلَّ الاثنان واقفان يرقبان سيارة حامل الكرة، الذي يُمثِّل بالنسبة لهم فرصة لا تُعوَّض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤