نظرة المؤلف في القصتين

إنَّ الغرض الذي وضعتُه نصبَ عيني، والقصد الذي رميتُ إليه حين شعرت بدافعٍ داخليٍّ يدفعني إلى تأليف القصص كانا: تصوير حياتنا الشعبية، واستخراج دروس قومية واجتماعية منها، بل إني شعرتُ بدافع يدفعني إلى هذا الغرض، وهذا القصد كالدافع الفني الذي حَدَا بي إلى إنشاء قصتَيَّ عيد سيِّدة صَيْدنايا وفاجعة حب؛ أي: إنَّ الغرض والقصد المذكورين لم يكونا هما الدافع الذي حملني على مكابدة الأدب القصصي، ولو كان الأمر كذلك لما وجدتُ مبرِّرًا للإقدام على هذا العمل الشاقِّ واتخاذ هذه الخطوة الخطرة.

بنيتُ القصةَ الأولى على مشاهداتي الشخصية في عيد سيدة صيدنايا المشهور، الذي حضرتُه للمرة الأولى سنة ١٩٣٠، فجاءت قصة بسيطة الموضوع الحيوي، إلَّا أنها دقيقة الموضوع الفني، غنية بمظاهر الحياة الشعبية، ويرى القارئ أني قد انتخبتُ لبطولة هذه القصة شخصًا نادرًا جهزتْه الطبيعةُ بمزاجٍ قويٍّ، وتركَّب فيه خلقٌ خاصٌّ فهو رجل وحده، مستقلٌّ بذاته استقلالًا نفسيًّا يُفرِده عنَّا، حتى إننا كثيرًا ما نُسيء اختباره وفهمه، ولكني لم أجتهد أنْ أجعله رجلًا خارقًا خارجًا عن حدود الرجال الطبيعية، أو شخصًا خياليًّا يستحيل أنْ يُوجَد في عالمنا هذا أو في محيطنا القومي، بل إني اجتهدت كثيرًا في انتقائه من بيئتنا، فهو شخصٌ منَّا وحيٌّ من أحيائنا، وقد عنيت عناية خاصة بوصف المكان والزمان اللذين حدثتْ فيهما القصة، وتصوير المظاهر الشعبية التي رافقتْ حوادثها، فالدروس التي تتضمنها قصة عيد سيدة صيدنايا هي دروس في شخصية أحد أفراد الشعب، وفي مظاهر الشعب العادية، لا في المواضيع النظرية والفلسفية.

أمَّا القصة الثانية فهي ذاتُ موضوعٍ حيويٍّ دقيق، له علاقة كبيرة بحياتنا الاجتماعية وآدابنا القومية، ويتناول موضوعها كبرى قضايا حياتنا الاجتماعية والقومية العصرية: الصراع بين عهد الخمول وعصر التنبُّه والنهوض، العراك بين الأنانية والخير العام، بين المادية الحقيرة والنفسية السامية، بين الحيوانية والإنسانية، بين الرذيلة والفضيلة، وبطلها «سليم» شخص ذو نفسٍ فنية شعرية حسَّاسة إلى الدرجة القصوى، كما بيَّنتُ ذلك في بداءة القصة.

ضمَّنتُ فاجعة حب انتقادَ بعض عاداتنا وتقاليدنا القديمة، ونظرة في بعض نواحي حياتنا الاجتماعية العصرية، وبعض المسائل النفسية والمثالية، وقد تناولتُ فيها — عدا البطل — أشخاصًا آخرين كالسيدة ك. والسيدة و. والسيد ج. وزوجه، والشاب مخائيل والآنسة دعد، واعتنيت كثيرًا في انتقاء هؤلاء الأشخاص مِن مجتمعنا حتى ظهروا بصفات طبيعية لا تكلف ولا خيال فيها، أمَّا الحديث الموسيقي الذي أثبتُّه في صدر القصة فهو درسٌ خاصٌّ قصدتُ أنْ أشرح فيه خلاصة النظرية العصرية الراقية في الموسيقى وأغراضها، وعسى أنْ أكون توفقتُ في ذلك، وأعتقد أنَّ نفسية سليم ودعد تمثل ظاهرة نفسية جديدة في حياتنا الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف عن النفسية البادية في جميع الأشخاص المحيطين بهما.

وقصدي الأول من هذه القصة أنْ أوضح الحالة المادية المسيطرة على عقولنا ونفوسنا، حتى إننا نجْبُن عن مواجهة الحياة الفنية، ونفضل الخمول على المجازفة ببعض راحتنا، ونخاف كثيرًا من الوقوع في صعوبات الحياة ومجابهتها، ولا نشعر أنَّ للإنسان قيمة غير قيمته المادية، بل إننا دائمًا مستعدون لقتل العواطف الحية من أجل تأمين راحة الجسد، ورأيتُ أنْ أُبيِّن فيها إغراق مجموعنا في إهمال فضائل كثيرة ضرورية لارتقاء نفسيتنا وعقليتنا، ولو أدى إهمالها إلى القضاء على كل أمل لنا بحياة حرة راقية، وكل مطلب أعلى تتجه نحوه بصائرنا.

ولا أكتم القارئ خشيتي من أنْ يُنْحِي بعض الكُتَّاب الانتقاديين باللائمة عليَّ؛ لجعلي القصةَ فاجعةً انتصرتْ فيها الحيوانية على الإنسانية والرذيلة على الفضيلة، فعاكست بذلك المبدأ الذي اتَّبَعه شكسبير في قصته الشعرية التي صدَّرتُ فاجعة حبٍّ ببيت منها، وهو المبدأ القائل بضرورة تأييد الفضيلة، وجعلها دائمًا وأبدًا منتصرة، والحقيقة أني أنا نفسي ترددت كثيرًا في بادئ الأمر حتى كدتُ أتبع المبدأ المشار إليه، ولكنني عُدتُ فرجَّحت النظرية التي عملت بها وهي: أنَّ انتصار الفضيلة الدائم في الأدب قد يُقلِّل من أهمية الدعوة إلى نصرتها في الحياة، ولما أنعمتُ النظرَ في ظروف القصة وجدت الأسباب الروائية الخاصة بها، والأمانة للواقع تُوجِب جعلَ الختام على الوجه الذي وضعته، خصوصًا بعد أنْ درست حالة البطل سليم ووجدت أنه سابق زمانه بعَقْدٍ أو عَقْدين من السنين على الأقل، فضلًا عن أنَّ ظروف المحيط والبيئة يجعلان النتيجة التي اخترتها أكثر انطباقًا على الواقع.

أرجو أنْ أكون قد أحسنتُ انتقاء الغاية، وأصبت اختيار السبيل إليها.

المؤلف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤