مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها

أهم كتاب وُضع في هذا الموضوع هو كتاب المستشرق الفرنسي الشهير المسيو «رينو»١ الذي عاش في الثلثين الأولين من القرن الماضي، وكتابه يسمى «غارات العرب على فرنسة، ومن فرنسة على سافواي وبيمونت وسويسرة في القرن الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين».٢
فإن جميع المؤرخين الأوربيين ذكروا غارات العرب على فرنسة بعد استيلائهم على إسبانية، وأجمعوا على أن شارل مارتل الذي يسميه العرب: «قارله» هو الذي أنقذ أوربة في وقعة «پواتييه» الشهيرة من الوقوع تحت سلطة العرب، وأنه لولا انهزام العرب في تلك المعركة لكانوا استولوا على أوربة كلها، وربما كانت بأجمعها قد دخلت في الإسلام، ولا نقدر أن نحصي ما جاء في كتب الأوربيين من فرنسيس وألمان وإنكليز وإسبانيول وطليان في هذا الموضوع، ولا نجد لزومًا لهذا الاستقصاء بعد أن قرروه في الجملة، وأجمع عليه مؤرخوهم وأيدت ذلك تواريخنا العربية، وإنما كان غرضنا في هذا الكتاب استقصاء جزئيات هذه الغارات العربية إلى قلب أوربة، والإحاطة بما يتسنى لنا من تفاصيلها، ولم نجد في هذا الباب كتابًا أوعى من كتاب المسيو رينو المذكور؛ لأنه وُضع خاصًّا بتاريخ هذه الغارات، ولأن واضعه هو من أشهر المحققين في المسائل التاريخية والمطلعين حق الاطلاع على اللغة العربية بحيث يمكنه عند كل رواية أن يقابل ما جاء عنها في الكتب اللاتينية القديمة بما جاء في الكتب العربية، وإنك لتجده لا يروي رواية ولا خبرًا إلا ذكر في الحاشية مأخذ تلك الرواية، أو ذلك الخبر مع تعيين المؤلف والمؤلَّف والجزء والصفحة، وأحيانًا خزانة الكتب التي فيها ذلك المؤلف، وقد يورد النصوص بعينها لا سيما إذا كانت من التواريخ التي وضعت في عصر تلك الفتوحات، وكما أنه يستعمل هذه الدقة في الاستشهاد من كتب الإفرنجة فإنه يستعمل الدقة نفسها في الاستشهاد من كتب العرب، ومن أجل ذلك كان أكثر اعتمادنا في تاريخ هذه الوقائع على المستشرق المشار إليه، كما أننا اعتمدنا في تاريخ استيلاء العرب على قسم من شمالي إيطالية ومن أهالي سويسرة عليه أيضًا، وعلى مؤلف آخر من أهالي سويسرة الألمانية اسمه «فرديناند كيللر»٣ سنأتي بتلخيص تأليفه بعد الانتهاء من تلخيص كتاب المسيو رينو، وسنقابل جميع رواياتهم بما لدينا من التواريخ العربية الشهيرة.

قال المسيو رينو في مقدمة كتابه:

جاء وقت كانت فيه فرنسة عرضة لغارات شعب أجنبي كان قد استولى على إسبانية وبلدان أخرى مجاورة لها، وجاء بدين جديد ولسان جديد وأوضاع جديدة، فأصبحت المسألة مسألة هل فرنسة وسائر ممالك أوربة التي لما تخضع لهذا الشعب الجديد تقدر أن تحتفظ بأعز ما يحتفظ به الإنسان من دين ووطن وأوضاع أم لا؟

وكان الناس يتساءلون عن كنه هذه الوقائع التي ترتب عليها احتلال ذلك الشعب لقسم من بلادنا ومن آية جهة وقعت، وأية أحوال أحاطت بها، وهل كان المغيرون كلهم من العرب، أم كانوا من أمم شتى؟ وما كانت نتائج هذه الغارات المتكررة كثيرًا؟ وهل بقي في البلاد منها آثار أم لا؟

ولقد جرى البحث أكثر من مرة عن هذه القضية، ولكن لم يعن أحد فيما يظهر لنا بأن يضع لهذا الموضوع تأليفًا خاصًّا يحيط بجميع الوقائع التي نحن بصددها ويستنبط منها نتائج عامة٤ ولا شك في أن تأليفًا وافيًا بهذا الغرض ينبغي له الجمع بين الروايات الأوربية المسيحية والروايات العربية الإسلامية ليعرف قول الغالب وقول المغلوب معًا.
ومن مدة طويلة كان الناس في أوربة قد لحظوا أن روايات مؤرخي أوربة المسيحية عن هذه الوقائع لم تكن كافية، وأن الزمن الذي قد حصلت فيه هذه الحوادث، وأغار فيه العرب على فرنسة هو أشد الأزمنة على هذه البلاد وأحلكها سوادًا، ففي سنة ٧١٢ عندما بدأت هذه الحملات على فرنسة كانت هذه البلاد مقسمة بين إفرنج الشمال الذين كانوا يملكون «نوستريا»٥ و«أوسترازيا»٦ و«بورغونيا»٧ وبين إفرنج الجنوب الذين كانوا يملكون «أكيتانية»٨ من نهر اللوار إلى جبال البيرانه، وبين بقايا القوط الغربيين٩ الذين كان بقي في أيديهم قسم من مقاطعة «لانغدوق»١٠ وقسم من مقاطعة «بروفانس»١١ وكانت الفوضى قد وقعت في الحكومة والمجتمع، فلذلك لم تأتنا إلا معلومات ضئيلة عن ذلك العهد، ولم تبدأ الأخبار التاريخية تنجلي إلا في أيام «ببين» ابن «شارل مارتل» وفي أيام «شارلمان» بن «ببين»، ولكن في ذلك الوقت كان المسلمون قد نكصوا إلى الوراء، ثم عاد جو فرنسة فاربد ثانية في زمان أولاد لويس الحليم “Le Débonnaire” وجدد العرب غاراتهم على فرنسة أيام كان النورمنديون من جهة، والمجار من جهة أخرى يشنون مثلها ويعيثون في الأرض مفسدين.
ولا نقدر أن نقول: إن تواريخ العرب عن تلك الحوادث كانت مستوفية الشروط، فإن المؤلفين الذين كتبوا عنها جاءوا بعدها بزمن فلم يعاصروها، إلا أن يكون ثمة مؤرخون لم تصل إلينا كتبهم، فقد ذكر العرب أن لموسى بن نصير تاريخًا ألَّفه حفيده، وإن لأحد الشعراء قصيدة في تاريخ طارق بن زياد نظمها بعد عهده بقرنين، ولكن هذه الكتب التي كتبت بعد الحوادث بمدة غير قصيرة لم تكن مستوفية شروط التحقيق، وأكثر الأحيان يروي أصحابها روايات شفهية عن أفواه الرواة١٢ وغير خافٍ أن العرب كانوا في ذلك الدور، دور الحماسة والمجد، لا يفكرون إلا في إعلاء شأن دينهم، فكان لا يهمهم شيء بقدر الشعر والضرب في أودية الخيال.

إذن حكاية العرب لوقائع غارات العرب على فرنسة كانت متأخرة عن زمن حدوثها في القرن التاسع المسيحي، كما أن منها ما لم يتعرض العرب للبحث عنه أصلًا.

ولقد كان في أيدي العرب وسائل لمعرفة أحوال فرنسة الداخلية وما جاورها؛ لأنهم عدا احتلالهم مدة مديدة جانبًا منها كانت صلاتهم مع هذه البلاد مستمرة، وكانت السفراء تختلف بين الفريقين الفينة بعد الفينة، فقد ذكر المسعودي أنه في نواحي سنة ٩٣٩ مسيحية توجه إلى قرطبة مطران جيرون من كتالونية وكان اسمه «غودمار» Godmar وذلك في أيام الخليفة عبد الرحمن الناصر، وألف لولده الحكم المشهور بحبه للعلم تاريخًا لبلاد فرنسة من زمن كلوفيس إلى ذلك العهد١٣ وكانت كتالونية أيام شارلمان خاضعة لمملكة فرنسة، وكان مطران جبرون يعترف بسيادة لويس دوترمير Louis-d’Outremer وعليه نعتقد أن تاريخ فرنسة هذا الذي قال المسعودي: إنه عثر على نسخة منه في مصر تاريخ صحيح، ولكن مع الأسف لم نعلم عن هذا التاريخ شيئًا إلا هذا القليل الذي رواه منه المسعودي.١٤
ومما كان يشق جدًّا على العرب كثرة الأسماء الأعجمية من أسماء الرجال والبقاع التي كانت تعرض لهم، وكانت مجهولة عندهم، ولم يكن من المألوف عندهم وضع الحركات، ثم كان نساخهم كثيري السقط في التنقيط فتبعد اللفظة عن أصلها بعدًا يجعلها مجهولة تمامًا.١٥

وقد كان مما يفيد في هذا الباب المسكوكات التي كان يضربها الفاتحون، إلا أن العرب في إسبانية وفرنسة لم يكونوا إلى القرن العاشر يعرفون سوى مسكوكات قرطبة، فأما مسكوكات ما قبل هذا التاريخ فلم يكن فيها شيء سوى آيات قرآنية، ولم يكن فيها ذكر ملك ولا أمير.

فمن أجل هذا كان من الصعب جدًّا معرفة أخبار العرب في الأدوار الأولى من استيلاهم على إسبانية، وأصعب منه معرفة أخبار استيلائهم على ما استولوا عليه من فرنسة.

ومن الكتب النفيسة في هذا الموضوع تاريخ «استيلاء العرب على إسبانية» الذي ظهر بالإسبانيولية في السنوات الأخيرة لمؤلفه «كوند» Conde الذي كان لديه كتب عربية كثيرة في مكتبة الإسكوريال وغيرها؛ فاستقى بدون شك من منابع غزيرة إلا أنه لم ينتدح له أن ينقح كتابه كما يجب، وربما كان هو نفسه غير ماهر في التمحيص.١٦ وهناك تأليف آخر لم يطلع عليه كوند وهو مجموعة رسائل مفيدة في إيضاح تاريخ إسبانية أيام العرب بقلم «فوستينو بوربون» الذي اطلع على المخطوطات العربية التي في خزانة الأسكوريال، وكان معظم همه تخطئة «تاريخ إسبانية» تأليف «ماسدو» Masdeu.

وفي كتاب فوستينو بوربون هذا شواهد عربية محرفة إلا أنه عنده بصر بالنقد، وإنك لتجد في كلامه على جيوش العرب الفاتحين واختلاف أصولها الذي أدى إلى تنازعها تدقيقات لا يعرفها كوند.

إننا نحن لم نكن في هذا التأليف لنجهل المشكلات التي ستعترضنا في طريقنا، لكننا برغم ذلك وجدنا في استطاعتنا إضافة معلومات جيدة إلى ما تقرر في هذا الباب إلى حد الآن، وفي الغزوات العربية التي لم نجد لها أثر رواية إلا في كتب الأوربيين أمكننا أن نصل إلى أبعد مما وصل إليه «موراتوري»١٧ والدون «بوكه».١٨

ولقد اتبعنا في عملنا هذا الطريقة الآتية، وهي أن نمحص عن الوقائع شهادات المعاصرين أو الذين كانوا في العهد أقرب من غيرهم إليها، ومهما قيل عن النقصان الذي في روايات المؤرخين المسيحيين الذين كانوا في ذلك العهد، فإننا قد وجدنا فيها ما يستحق كثيرًا من الاعتبار بحيث إذا تطابقت مع روايات العرب جزمنا بأن الحقيقة هي هناك، وأما إن لم تطابق روايات هؤلاء روايات أولئك، فإننا ننقل حينئذ ما قاله كلٌّ من الفريقين ونبدي رأينا في ترجيح الأقرب إلى العقل، وأما المنابع التي لم نقدر أن نصل إليها فقد نبهنا عليها وأشرنا إلى أماكنها، وذلك كبعض وقائع رواها كوندي نقلًا عن كتب العرب فقد كان الأحسن أن ننقل تلك النصوص بعينها، ولكننا لم نظفر بها.

وفي آخر كتابنا هذا نذكر الشعوب التي انضمت إلى العرب، وأوشكت بالاتحاد مع العرب أن تُخضع أوربة كلها لشريعة القرآن، فنحن نطلق على الجميع اسم «سارازين» وهي لفظة لم يُجزم إلى الآن في وجه اشتقاقها، أو لفظ «المور» أي المغاربة؛ وذلك لأن العرب جاءوا أولًا إلى المغرب، ومنه دخلوا إلى إسبانية فسموا من أجل هذا مغاربة، وليعلم أنه في أثناء ما كان المسلمون يكتسحون أراضي فرنسة ويجتاحون شمالي إيطالية وبلاد سويسرة كانت منهم عصائب حاكمة في صقلية وجنوبي إيطالية، ولم يكن لغارات هؤلاء صلة بغارات أولئك، ولكن كان لها تأثير بعضها في بعض مما لم تفتنا الإشارة إليه.

ثم إنه في جميع البلاد التي احتلها العرب طويلًا أو قصيرًا كانت بقيت لهم آثار وسرت عنهم أخبار، فهنا كنت ترى قلعة كانوا يعتصمون بها عندما يجتاحون تلك الأرض، وهناك كانت مخاضة نهر أو قنطرة كانوا يأخذون عندها رسمًا على المارين، وهنالك كهف في واد كانوا يضعون فيه الغنائم، وعلى تلك الجبال أبراج متناوحة كانوا يتبادلون منها الإشارات النارية لأجل توحيد حركاتهم، وهلم جرّا، فالآثار والأخبار التي لا ترتكز على دليل وثيق من ذلك العصر نفسه لم نتعرض لها.

ومثل ذلك فعلنا بالقصص التي قصها الرواة الذين لم يعاصروا تلك الحوادث، والتى هي أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصاص المولعين بأخبار الحماسة والمغرمين بأحاديث المجد والرئاسة، ففي القصص التي ترويها الرواة عندنا أغلاط كثيرة؛ منها ما وقع فيه بعض مؤرخي ذلك الوقت مثل تلقيبهم المسلمين «السارازين» بلفظة «بايين» Payens أي: وثنيين، وذلك أن المسيحيين كان من عادتهم أن يسموا جميع الأمم السالفة للنصرانية «وثنيين» وجميع الأمم التي حاربها الإفرنسيس وثنيين، ومن جملة هؤلاء حسبوا المسلمين! ولهذا فقد عزوا إلى هؤلاء آثارًا ومباني وهياكل كانت في الحقيقة هي من عمل غيرهم، وليسوا منها في قبيل ولا دبير.

وكذلك لما كانت شهرة شارلمان قد غلبت شهرة الجميع فإن القُصَّاص نسبوا إلى أيامه حوادث وقعت من قبله، وحوادث أخرى وقعت من بعده، فالوقائع التي جرت في زمان شارل مارتل جعلوها في زمان شارلمان، وما زالوا ينسبون إلى أيام شارلمان غزوات جميع الإفرنج في بلاد المسلمين إلى القرن العاشر بل إلى آخر القرن الحادي عشر أي الزمن الذي استصرخ فيه مسلمو الأندلس يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، فتأمل.

ومن هذا النمط تعمد بعض القصاص والزجالين أن ينحلوا أجداد ممدوحيهم فضل تحرير البلاد وطرد الأعداء، وذلك مثل قصيدة غيليوم ذي الأنف الأصلم الذي ينسب إليه الشاعر إجلاء العرب عن تولوز ونيم وأورانج وغيرها من مدن فرنسة.

ثم إنه كان المجار قد جاءوا من شرقي أوربة وعاثوا في نواحي فرنسة، فاختلط على الناس ما عاثه المجار بما عاثه العرب، بحيث كثيرًا ما كان أولئك القصاص يسمون المجار «سارازين» ويسمون الفاندال «سارازين»، وممن قال بذلك الأب «لوكوانت» P. Lecointe مؤلف التاريخ الإكليريكي في فرنسة والدون «مابيون» Mabillon والأب «باجي» Pagi والدون «فاسيت» Vaissette والدون «بوكه» Bouquet والحقيقة أنه لم يوجد دليل واحد من رواية مرجعها إلى القرن الثامن يدل على كون الفاندال اجتاحوا فرنسة في ذلك العصر، وقد يقال: إن هذه الأقاويل وردت في تواريخ القديس «دنيس» Saint-Denis الشهيرة التي هي الحجة الكبرى عند آبائنا، ولكن تواريخ القديس كتبت في أواسط القرن الثاني عشر، وقد حشر فيها كاتبوها كل الأساطير التي كانت تدور في ذلك الوقت، ولم يزل التاريخ لم يمحص ولم ينفصل عن الأقاصيص إلى القرن السابع عشر.

ولنعد إلى موضوع كتابنا هذا فنقول: ليست المسألة مسألة اجتياح بعض مقاطعات محدودة بل قد بقي جانب كبير من فرنسة ميدانًا لجيوش العرب مدة طويلة، ثم تجاوزوا منها إلى «سافواي» و«بيمونت» و«سويسرة» واحتلوا أمنع الحصون من قلب أوربة، وذلك من خليج «سان تروبيس» إلى بحيرة «كونستانزة» ومن نهر الرون وجبل «جورا» إلى سهول جبل «فرات» و«لومبارديه»، ومما لا جدال فيه أن تذكار الغزوات العربية في هذه الديار لم يكن بدون تأثير في الحملات الصليبية وفي هذه الحركة العامة التي اندرأت بها أوربة على آسية وإفريقية، ووضعت أصحاب الإنجيل في وجه أصحاب القرآن مدة قرون مستطيلة.

لقد فسحنا بهذا الكتاب مجالًا للباحثين في هذا الموضوع بحيث يمكن من يأتي بعدنا أن يأتوا بمعلومات جديدة عنه، ولما كانت الشقة بعيدة بين زمن هذه الوقائع والزمان الحاضر فقد بقيت في كتابنا مواضع كثير مفتقرة إلى الجلاء، ومع هذا فإنْ كنا قد قدرنا أن نلقي بعض الشعاع على هذا القسم الذي هو أغمض قسم من تاريخ فرنسة، فلا يكون ذهب عناؤنا سدى.

ولقد قسمنا كتابنا هذا إلى أربعة أقسام: الأول: ما يتعلق بحملات العرب الزاحفين من الأندلس مخترقين جبال البيرانه١٩ إلى أن طردهم «بيين» القصير من «ناربون» وكل «اللانغدوق» سنة ٧٥٩ مسيحية. الثاني: ما يتعلق بغارات العرب برًّا وبحرًا على «پروفانس» في نواحي ٨٨٩. الثالث: ذكر توغل المسلمين من پروفانس إلى «دوفيني» و«سافواي» و«بييمونت» وسويسرة. الرابع: شكل هذه الغزوات والنتائج التي ترتبت عليها.

انتهى ملخصًا كلام المستشرق الإفرنسي رينو في مقدمة كتابه.

ثم شرع رينو في سرد الوقائع فقال تحت عنوان: «القسم الأول في حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة ٧٥٩ مسيحية».

لما وصف أحد مؤرخي العرب كيفية فتح أبناء ملته لإسبانية، روي عن محمد الكلمات الآتية: «زُوِيَتْ لِي مَشَارِقُ الأَرضِ وَمغَارِبُهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِى مَا زُوِيَ لِي مِنْها».٢٠

وقد كاد يكون هذا هو الواقع، وجاء زمن ظن الناس فيه أن جميع الربع العامر سيعنو لراية النبي ، فإنه ما مضت سنوات قلائل حتى ضرب الإسلام بجرانه على العراق وفارس والشام ومصر وإفريقية إلى سيف الأوقيانوس الأطلنتيكي، ثم من إفريقية أغار العرب على إسبانية وما زالوا يجوسون خلال البلاد إلى أن بلغوا فرنسة، وصارت جميع قارة أوربة تحت خطر استيلائهم، ثم من الجهة الأخرى تجاوزوا سيحون وجيحون وما زالوا يفتحون البلدان حتى ظن أنه لن يقف في وجههم شيء إلا أن كان من الحدود الطبيعية التي للكرة الأرضية.

وكان مركز هذه السلطنة التي لا نهاية لها هو في سورية بمدينة دمشق القديمة، وكانت الرئاسة الروحية والدنيوية في الخلفاء بني أمية. وكان الخليفة يومئذ هو الوليد.٢١
وكان العرب قد وجدوا في إفريقية أمة تسكن جبال الأطلس اسمها البربر اشتهرت بصعوبة المراس، وبحب الحرية والاستقلال، وقاتلت القرطاجنيين والرومانيين من دونهما، وكان بعض هؤلاء البربر يهودًا وبعضهم نصارى وبعضهم وثنيين، وكان لهؤلاء البربر لسان خاص بهم، ومنهم من كان يتكلم بلغة تقرب من العربي والعبري والفينيقي٢٢ فسواء كان هؤلاء البربر بقايا شعوب جاءت من أرض كنعان وفينيقية٢٣ أو كانوا قد رحلوا من اليمن فرارًا من وجه الأحابيش الذين كانوا قد استولوا على بلاد اليمن٢٤ فهذا التشابه في اللغة كان عاملًا كبيرًا في استقرار دولة العرب في إفريقية، وأعان البربر العرب في فتوحاتهم ومغازيهم، وأضف إلى ذلك كون العرب والبربر متشابهين أيضًا في البداوة، وسكنى الوبر، وشظف العيش، وطلب النجعة، وحب القتال، وشن الغارات.

هوامش

(١) Reinaud واسمه جوزيف رينو وُلد سنة ١٧٩٥ وتوفي سنة ١٨٦٧.
(٢) Invasion Des Sarrazins En France et De France en Savoie, en Piémont et dans La Suisse. Pendant les huitième, nenvième et dixième siècles de notre ère.
D’aprés Les auteurs Chréliens et Mahométans. Par M. Reinaud.
Membre de L’institut (Académie royale des inscriptions et belleslettres), conservateur — adjaint des manuscrits orientaux de la bibliothèque Royale, etc.
وهو يعبر عن المسلمين بلفظة «سارازين» التي قيل: إنها أُطلقت على العرب لكونهم غالبًا سمر الألوان أشبه بالحنطة السمراء التي يقال لها: «سارازين». وقيل: بل هي محرفة عن «سرا كنو» التي هي المسلمون بلغة الروم وهذه محرفة عن Scharaka أي شرقي أو «شراقة» أي شرقيين بالجمع، وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن ملك القسطنطينية سأل عنه: هل هو سراكنو؟ أي مسلم.
(٣) Der Einfall der Sarazenen in der Schaweiz nm die mitte des x. Yabrhenderis, Von Dr Ferdinand Keller. Mitheiluugen der autiquarischen Gesellschaft in Zurich.
غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر تأليف الدكتور فرديناند كيللر من مطبوعات جمعية الآثار القديمة في زوريخ.
(٤) على أن رينو يستدرك هنا بقوله: إنه سبقه فيه مؤرخان أحدهما صاحب «خلاصة تاريخية لحروب المسلمين في بلاد الغال» والآخر صاحب «التاريخ العام للقرون الوسطى» قال:
Nous devons cependant Faire mention du “précis Historique des Guerres des Sarrazins dans les Gaules” par M. B … N. C. F. Paris 1810; “l’ Histoire générale du moyen-age”, par M. Desmichels, Paris, 1831, T. II.
(٥) Neustrie بلاد واقعة بين نهر اللوار وبريتانيا الإفرنسية وبحر المانش ونهر الموز.
(٦) Austrasie في شرقي فرنسة قاعدتها متز.
(٧) Bourgogne مقاطعة ذات شأن في شرق فرنسة قاعدتها ديجون كانت مملكة مستقلة ثم صارت دوقية كبيرة، وكانت تجاذب ملك فرنسة الحبل، ولم تخضع تمامًا للتاج إلا سنة ١٤٧٧.
(٨) aquitaine مقاطعة من بلاد الغال القديمة تقع على ضفاف الغارون اليوم.
(٩) Visigoths القوط الغربيون سنة ٤١٢ مسيحية زحفوا على بلاد الغال، واستولوا عليها، وسنة ٤١٨ جعلوا طلوزة قاعدة ملكهم.
(١٠) Languedoc ولاية من جنوبي فرنسة قاعدتها طلوزة أو تولوز.
(١١) Provence كانت مملكة مستقلة لها ملوك ثم أكناد، ثم استلحقها الفرنسيس في زمان كارلس الثامن، وهي الآن تشتمل على بلاد الألب السفلى ومصاب الرون ومقاطعة القار وفوكلوز.
(١٢) يقول رينو في حاشية هذه الجملة ما يلي: ولا نقول شيئًا عن تاريخ «فتح العرب لإسبانية مرتين» لأبي القاسم طريف بن طارق أحد الذين حضروا الوقائع، فإن هذا التاريخ مفتعل وضعه في القرن السادس عشر للمسيح ميكال دولونا Miguel de Luna ترجمان الملك فيليب الثاني.
(١٣) قال رينو في الحاشية على هذه الجملة: «إن اسم غودمار واسم جيرون وجميع هذا المبحث قد تعاورها الحذف والتبديل في أكثر نسخ مروج الذهب للمسعودي التي في الخزانة الملوكية (في باريز)، وإنما اعتمدنا على نسخة كانت تخص المسيو شولز.» أ.هـ.
قلت: وجدنا في مروج الذهب للمسعودي طبعة مصر التي طُبعت بالمطبعة الأزهرية سنة ١٣٠٢ هجرية سرد هذه الرواية كما يلي: وجدت في كتاب وقع إلى الفسطاط بمصر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة أهداه غومار الأسقف بمدينة زهرة من مدن الإفرنجة في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، ولي عهد أبيه عبد الرحمن صاحب الأندلس في هذا الوقت، في عهده: يا أمير المؤمنين إن أول ملوك إفرنجة «فلووزيه» وكان مجوسيًّا فتنصر هو وابنه لذريق وابنه دفشرت، ثم ولي بعده ابنه لذريق، ثم ولي بعده قركمان بن دفشرت، ثم ولي بعه ابنه تنين، ثم ولي بعده نازلة بن تنين وكانت ولايته ستًّا وعشرين سنة، وكان في أيام الحكم صاحب الأندلس، وقد تواقع أولاده ووقع الاختلاف بينهم حتى تفانت الإفرنجة بسببهم، وصار لذريق بن نازلة صاحب ملكهم فملك ثمانيًا وعشرين سنة وستة أشهر، وهو الذي أقبل إلى طرطوشة فحاصرها، ثم ولي بعده ابنه نازلة، وهو الذي تهادى مع محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان محمد يخاطب بالإمام، وكانت ولايته تسعًا وثلاثين سنة وستة أشهر، ثم ولي بعده ابنه لذريق ستة أعوام، ثم وثب عليه قائد الإفرنجة المسمى برشة، وملك إفرنجة فأقام في ملكهم ثماني سنين، وهو الذي صالح المجوس عن المدة سبع سنين بستمائة رطل ذهب وستمائة رطل فضة يؤديها صاحب الإفرنج إليهم، ثم ولي بعده نازلة بن بغربرث أربع سنين، ثم ملك بعد نازلة أخوه ومكث إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ثم ولي بعده لذريق بن نازلة وهو ملك إفرنجة إلى هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، واستوت مملكته عشر سنين إلى هذا التاريخ على حسب ما أتى إلينا من خبره. أ.هـ.
قلت: في الأسماء تحريف كثير عن الأصل، فأما «قلووزيه» فهو كلوفيس، هذا ظاهر، وإما أن له ولدًا اسمه «لذريق» فهذا الاسم بدون شك هو هنا خطأ من النساخ؛ إذ إنه لم يكن لكلوفيس أو قلووزيه ولد يقال له ذريق Rodrigue وإنما كان له ولد اسمه «كلودومير» Clodomir ولعل العرب لفظوها «قلذمير» فجاء النساخ للكتاب وقلبوها إلى لذريق، وأما «دفشرت» بن كلوفيس فهو تحريف أيضًا وأصله بدون شك «شيلدبرت» Cheldebert لأنه اسم أحد أولاد كلوفيس، وأما «تنين» فهو تحريف أيضًا وأصله «تييري» Thierry اسم أحد أبناء كلوفيس الذي كان له أربعة أولاد، هؤلاء الثلاثة، والرابع هو (كلوتير) Clotaire فأما نازلة فنظنه مجرد خطأ من النساخ، وربما كان أصل اللفظة «كلوتر» أو «كلاتر» ولم يحسنوا قراءتها وقلبوا راءها زايًا فابتعدت جدًّا عن أصلها، وأما قول المسعودي عن مؤلف هذا الكتاب إنه غومار مطران زهرة من مدن الإفرنجة، فقد تحققنا أن أصل اسمه غودمار وأنه من جيرون، وإنه كان أسقفًا على «سيريه» Ceret من مدن «روسيون» Roussilon التي هي اليوم من مدن ولاية البيرانه الشرقية من فرنسة، فزهرة تحريف عن «سيريه» أو «سره».
(١٤) غير موجود هذا التاريخ بالإفرنسية ولا بالإسبانية.
(١٥) هذا شأن الفريقين سواء العرب أو الإفرنج عندما يخوض كل فريق في لغة الفريق الآخر، فليس تحريف «شيلدبرت» إلى «دفشرت» إلا من قبيل تحريف ابن رشد إلى «أفرويس».
(١٦) اسم الكتاب Historia de la dominacion de los Arabes en Espana ذكر رينو أنه ظهر ترجمتان لهذا الكتاب بالإفرنسية إحداهما ترجمة ملخصة بقلم المسيو أوديفرة Audiffred في كتابه عن تحقيق تواريخ السنين، والثانية بقلم المسيو «دومارليس» De Marlés قلت: ونحن عندنا ترجمة دومارليس مع حواشيها، وسننقل في بعض الأماكن عنها، ولكن كتاب كوند هذا — والإسبانيول يقولون له: «كوندي» — موصوف بعدم الضبط وكثرة الخطأ، وأكثر من أنحي عليه بالتخطئة المستشرق دوزي الهولاندي الذي يعده الأوربيون أفضل مؤلف عن الأندلس قرأ ودري، وقال قديره Kodeira المستشرق الإسبانيولي الذي يقال إنه من أصل عربي: إنه لم يكن أشأم على تاريخ الأندلس من كتاب كوندي هذا.
(١٧) Muratori واسمه لودوفيكو أنتونيو مؤرخ آثاري طلياني توفي سنة ١٧٥٠.
(١٨) Don Bouquet اسمه مارتين: راهب بنديكتيني مؤرخ بحاثة مشهور وُلد في (آميين) Amiens بفرنسة وتوفي سنة ١٧٥٤.
(١٩) العرب يقولون: جبال البرانس.
(٢٠) ذكر رينو في الحاشية أن هذا الحديث ورد في تاريخ إسبانية للمقري وقال: إن منه مخطوطًا في الخزانة الملوكية وأنه عبارة عن مجموع في عدة أجزاء قد ألَّفه صاحبه في أوائل القرن السابع عشر، ونقل عن كتب لم تصل إلينا، وقد ظهر أن المؤرخ كوندي الإسبانيولي لم يطلع على هذا الكتاب. أ.هـ.
قلت: هذا الكتاب هو «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب للعلامة أحمد بن محمد بن أحمد المقري المغربي التلمساني المالكي الأشعري رحمه الله، وهو من أشهر كتب الأدب والتاريخ في العربية، ألفه صاحبه في سنة ١٠٣٧هـ، وذلك في الشام حيث كان قد ألقى عصا التسيار بعد أن حج البيت الحرام وزار المسجد الأقصى، وقد ذكر في مقدمة الكتاب أن له بالشام تعلقًا من وجوه عديدة؛ أولها: أن الداعي لتأليفه أهل الشام. ثانيها: أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام. ثالثها: أن غالب أهل الأندلس هم من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطنًا مستأنفًا. رابعها: أن غرناطة نزل بها أهل دمشق وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر والدوح والزهر … إلخ.
أما حديث: «زُوِيَتْ لِي مَشَارِقُ الأَرضِ وَمغَارِبُهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِى مَا زُوِيَ لِي مِنْها» فقد رواه مسلم وأحمد والنسائي، وهو مروي عن أبي الربيع العتكي وقتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد (واللفظة لقتيبة): حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله : «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتى أن لا يهلكها بسنة بعامة» (وعلى رواية أخرى: بسنة عامة) وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة»، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها (أو قال: مَن بين أقطارها) حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا». أ.هـ.
(٢١) الوليد بن عبد الملك بن مروان.
(٢٢) استند رينو في ذلك على الجريدة الآسيوية الجديدة نقلًا عن مقدمة ابن خلدون، والأصح أن يكون ابن خلدون تكلم عن ذلك في تاريخه الخاص بالبربر، وهو أحسن تاريخ لهذه الأمة، وقد ترجم إلى الإفرنسية بقلم البارون «دوسلان» De Slane وأعيد طبعه سنة ١٩٢٧ تحت إشراف «بول كازانوفا» من أساتيذ مدرسة فرنسة Collège de France وهو جزءان.
(٢٣) استشهد رينو على هذه الرواية بكلام بروكوب Procope في تاريخ حروب الفندال وبتاريخ لوبو Lebeau الإفرنسي الذي ألف تاريخ دولة بيزنطية Histoire du Bas-empire.
(٢٤) استشهد رينو بكلام ابن خلدون وبتاريخ أهالي إفريقية الشمالية الذي وضعته لجنة من أكاديمية الآثار الكتابية والآداب بفرنسة، ونشر سنة ١٨٣٥ وبغير ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤