الخاتمة

القصص على آثار العرب في وادي فاليه من سويسرة

قد تقدم في هذا الكتاب بحسب الروايات المتفق عليها والتي يعدها المؤرخون من الحقائق التاريخية أن العرب أغاروا على هذا الوادي واستولوا على معبر سان برنار الكبير، وتغلغلوا في عدة من شعاب الوادي، وأقاموا بها، وكانت لهم وقائع مع الأهلين ومن جملتها إحراقهم دير القديس موريس، ومنذ جئنا إلى سويسرة، وألقينا فيها عصا التسيار، علمنا في أثناء الحديث مع علماء البلاد، ولا سيما الذين يعنون بالآثار التاريخية، أنه يوجد في ذلك الوادي قرى أصل أهلها من العرب أو فيها أناس من سلائل العرب اندمجوا مع سائر الأهالي، وأنهم يعرفون من سحنائهم أنهم عرب، فلما أجمعنا نشر هذا الكتاب، وفيه كل ما تعلق بموضوع إقامة العرب بفرنسة وسويسرة وإيطالية، رأينا حريًا بنا، زيادة في التثبت ونصحًا بالبحث، أن نتوجه بنفسنا إلى هاتيك القرى التي يقال: إن أهلها من أصل عربي، وننقب ما استطعنا عن هذه المسألة بمشافهة أهل الديار ومراجعة ما يمكن العثور عليه من الآثار، وكان طبيبنا في لوزان الدكتور جاك رو١ قد أشار علينا بزيارة دير سان موريس الذي فيه خزانة كتب قيمة ومخطوطات متناهية في العتق، وكتب كتاب توصية لرئيس الدير حتى يضع بين أيدينا من الكتب والمخطوطات ما يوافق موضوعنا، كما أن صديقنا المحامي الدكتور فريدريش من جنيف، وهو من المتخصصين في العلوم التاريخية والأثرية، قد ذكر أنه من جملة تلك القرى قرية اسمها إيزيرابل Iserables وقرية أخرى اسمها فريتوريس Freytorreus وقال: إن القرية الأولى في مكان حصين، محاط بالأوعار، مما يستدل منه على أن العرب لجأوا إلى ذلك المكان واعتصموا به.
ففي ٢٩ يونيو من هذه السنة قصدت إلى سان موريس وهي تبعد عن جنيف بالسكة الحديدية ساعتين وربع ساعة، وذهبت إلى الدير الذي تنتسب إليه القصبة، وهو دير عريق في القدم بناه سيجسموند أمير بورغونية في سنة ٥١٥ للمسيح، ولا يزال معمورًا من ذلك الوقت، فعندما دخلت إلى الدير ناولتهم الكتاب الذي معي من صديقهم الدكتور جاك رو، فاستدعوا لي الراهب المتولي حفظ المكتبة واسمه طونولي Tonoli فجاء وجلس إلي، وتجاذبنا أطراف البحث الذي جئت إلى هناك من أجله، فقال لي: إنه لا يعهد في خزانة كتب الدير مخطوطات فيها شيء يتعلق بغارة العرب على وادي فاله، وأنه يمكن الاطلاع على هذه المسألة في الكتاب الذي يقال له Monumanta Germanica Historica أي مجموع التاريخ الجرماني. ثم قال لي: إلا أنه من المتواتر عند الجميع أن العرب مروا من هنا وأحرقوا هذا الدير، ثم أشار عليَّ بالذهاب إلى بلدة مارتيني Martigni وهي على الخط الحديدي تبعد نحوًا من نصف ساعة عن سان موريس إلى الجنوب، وتقع بعد سان موريس بثلاث محاط، وأن هناك رجلًا محاميًّا يقال له: كوكو Coquoz يقدر أن يدلني على القرى التي يقال: إن من أهلها من هو منحدر من دم عربي، ويقفني على معلومات قد يهمني الاطلاع عليها، وكذلك في مدينة سيون Sion قاعدة مقاطعة فاليه رجل يقال له: الأب ليوماير، متخصص في الأمور التاريخية، وله كتاب عن تاريخ مقاطعة فاليه، فهو أيضًا من الأشخاص الذين قد أجد ضالتي عندهم.
وعلى هذا فقد ذهبت إلى مارتيني وبحثت عن المسيو كوكو، وحدثته بالمقصود من زيارتي له، فدلني على رجل يقال له فيليب فاركه Farquet يقيم بدائرة تخص دير سان برنار، وهو معدود من العلماء، فذهبت واجتمعت بهذا الرجل، فقال لي: إنه لا يعلم شيئًا من جهة تاريخ العرب في وادي فاليه غير ما هو شائع على ألسن الجميع، ولكنه أشار إلى ساحة وراء كنيسة مارتيني وقال لي ونحن ننظر من النافذة: إن هذه الساحة التي أمامنا يقال لها ساحة السرازين Place des Sarrazins ومن هنا يعلم أن العرب سكنوا في مدينة مارتيني هذه، وهو أمر معقول جدًّا؛ لأنه قد ثبت في التاريخ كونهم استولوا على معبر سان برنار المشهور، ومن المعلوم أن مارتيني هي البلدة التي يصعد منها الناس إلى جبل سان برنار الذي فيه الدير القديم، وكل يوم تسير السيارات بالمسافرين بين سان برنار ومارتيني.
وكنت علمت من هؤلاء الأشخاص الذين تحادثت معهم في هذا الموضوع أن قرية إيزرابل هي التي يرجح أن فيها من بقايا العرب، وأنه يوجد أيضًا قرية أخرى تابعة لمدينة سيون يقال لها: إيفولين Evolene هي من هذا القبيل، فسرت بالقطار إلى سيون، واجتمعت بالقسيس الذي يقال له ماير وهو قيم خزانة الكتب التي في مدرسة سيون، فلم أجد هذا الرجل معتقدًا بصحة هذه الروايات، وهو يظن أن العرب مروا ببلاد فاليه غزاة، عابري سبيل، وما عدوا أن أحرقوا دير سان موريس ولا أعلم هل هو معتقد ذلك فعلًا، أم يحاول إنكار وجود آثار للعرب في تلك الديار فقد وجدته من القسيسين المتعصبين في الكثلكة إلى الغاية ولم أجد في كلامه ما ينقض شيئًا من الروايات التي أطبق عليها المؤرخون من كون العرب أوطنوا وادي فاليه وأقاموا بها حقبة وبقيت لهم فيها أعقاب، وهو نفسه أشار عليَّ بمراجعة كتاب بالألماني لمؤلف يقال له فيشر Fischer لكنه يقول: إنه غير واثق برواياته.
فتركت القسيس وركبت سيارة وسرت إلى قرية إيفولان، والمسافة من سيون إليها نحو من ٢٥ كيلو مترًا، وهي في الجبال ليس وراءها عمران، ومنها إلى حدود إيطالية بضع ساعات لا غير، فلما وصلت إلى القرية وجدتها قرية صغيرة ليس فيها أكثر من مائة بيت، أهلها فلاحون، يعيش أكثرهم من الحرث ومن قطع الأخشاب، لكثرة الحراج التي حولهم، فسألت عن شيخ القرية أو عمدتها، كما يقال في مصر، فدلوني على بيت حقير، دخلت إليه فوجدت الرجل، وحادثته في الموضوع فقال لي: إنه يسمع بهذه الروايات كسائر الناس، وأنه ليس عندهم وثائق خطية على شيء من هذا، ثم أشار عليّ بمقابلة القسيس مرشد أهل القرية فسألت عن القسيس فلم أجده، ثم ملت إلى فندق صغير في تلك القرية، يقصد إليه السياح الذين يحبون العزلة في الجبال، فوجدت صاحب الفندق رجلًا على أثارة من علم، وهو من أهل سيون، فقال لي: إن الجميع يسمعون أن أهالي هذه القرية أو بعضهم على الأقل هم من أصل عربي، وأنه في الوادي الآخر الذي وراء وادي إيفولن والذي يقال له أنيفيه Anniviers قرى يقال أيضًا: إن فيها من بقايا العرب الذين أغاروا على وادي فاليه، وسألت هذا الرجل هل يعلم في إيفولين عائلة تعلم نفسها منحدرة من أصل عربي، فأجابني: أما هكذا فلا أعلم وغاية من هناك أنهم يقولون بوجود الدم العربي في هذه القرية، وأن في سحنة بعض أهلها ما يدل على كونهم ليسوا من أصل سويسري.
فغادرت قرية إيفولين، ورجعت إلى سيون، ومنها ركبت القطار وجئت إلى محطة ريد Rid التي منها يمكن الذهاب إلى قرية إيزارابل، فنزلت في ريد، وسألت: هل يوجد طريق معبد إلى إيزارابل؟ فقالوا: لا، ولا سبيل إلى الذهاب إلا على ظهر دابة أو سيرًا على الأقدام، ولما كان وجود مطية يأخذ وقتًا، وكان من عادتي بحسب إشارة الطبيب أن أمشي كل يوم لا أقل من ساعتين، لأجل الرياضة الجسدية، اخترت أن أذهب إلى إيزارابل ماشيًا، ولكنها كانت مرحلة شاقة لأن الطريق إلى إيزارابل إنما هو تصعيد مستمر في عقبة كؤود، يأخذ اجتيازها ساعتين ونصف ساعة فيصل الإنسان إلى تلك القرية التي يجدها في أوعر محل من ذلك الجبل، لولا ذلك الطريق الذي ينفذ إليها لا يكاد الماعز يجد إليها متسلقًا ولا متعلقًا، ولا شك أن العرب إن كانت بقيت منهم بقايا ولاذت بالجبال، طالبة النجاة من أيدي أهل البلاد، لم يكونوا ليجدوا للامتناع خيرًا من ذلك المحل، والقرية في سفح جبل قائم، تشرف على وادٍ عميق الغور، والغابات تحف بها، فلما وصلت إليها سألت شيخها، ويقال له كازيمير تافر Tavre فسألته عما يعلم من قضية انتساب هذه القرية إلى العرب، فقال لي: إن العرب كانوا شنوا الغارة على وادي فاليه، وأحرقوا دير سان موريس، وانتشروا في هذه الأرض ثم انقرضوا كما جاء في التواريخ، وإن كانت لهم أعقاب في هذه البلاد فليس ذلك خاصًّا بقرية إيزارابل، فربما كانت بقايا العرب في عدة قرى، فسألته هل يعلم عائلات تعلم نفسها من أصل عربي، فقال لي: لا، فسألته: هل يوجد عندهم أوراق عتيقة تدل على صحة تلك الروايات؟ فأجابني أن عندهم في خزانة البلدية أوراقًا مكتوبة باللاتينية ترجع إلى سنة ١٢٠٠ مسيحية فما بعدها، وإن هذه الأوراق كلها صكوك بيع وشراء يراجعونها عند وقوع الخلاف على حدود الأراضي، وليس فيها شيء عائد إلى التاريخ، فتركته وجئت إلى ساحة القرية، فوجدت شبان القرية كلهم مجتمعين في مقهى صغير يشربون فيه المرطبات، فسألت عن سبب هذا الاجتماع فقيل لي: إن لشبان القرية جمعية قد جعلت لنفسها علمًا خاصًّا، وإن ذلك اليوم هو يوم الاحتفال بالعلم، فكان لي اجتماعهم هذا فرصة لأجل التفرس في هيئاتهم وسحنهم، فرأيت فيهم سحنًا لا تفترق عن غيرها من خلقة أهل سويسرة، ورأيت أشخاصًا تغلب عليهم السمرة الشديدة، ولا تشبه خلقة الآخرين، وأما من جهة لغتهم فإنهم يتكلمون الإفرنسية ولغة أخرى عامية مشتقة من اللاتينية، وهذه اللهجة العامية غالبة على جميع قرى ذلك الوادي من أوله إلى آخره، ولا يتكلم الأهالي فيما بينهم إلا بها، وقد تختلف لهجة ناحية عن ناحية، ولم يتسع لي الوقت أن أبحث في عاميتهم هذه، ولا سيما في لهجة إيزارابل وإيفولين، لأعلم هل هناك ألفاظ عربية أم لا؟ فإن بحثًا كهذا ليأخذ وقتًا طويلًا لم أكن أملكه، فتركت إيزارابل مكتفيًا بما رأيته وسمعته، وعلمت أن تاريخ العرب في ذلك الوادي لا يمكن أن يؤخذ إلا من بطون الكتب، وما عدا ذلك فهو روايات شائعة متواترة لا شك في أن لها أصلًا ولكن هذا الأصل قد اختفى بكرور الأيام.
ثم إن أحد أصحابي ممن يعنون بتاريخ سويسرة نبهني إلى مطالعة القاموس التاريخي السويسري المسمى Dictionnaire historique et biographique de la Suisse إذ فيه تحت لفظة «سرازين» فصل يتعلق بمقام العرب في سويسرة وجبال الألب، فذهبت إلى خزانة كتب الجامعة في جنيف، وطالعت الفصل المذكور، ولخصت منه ما يلي: في القرن التاسع للمسيح استغاث البابا بالسويسريين والفريزوزينين، لوقاية رومة من غارات العرب، وفي سنة ٨٨٨ جاء عرب من إسبانية واحتلوا فركسيناتوم (مقاطعة الفار في فرنسة) وأغاروا من هناك على الشمال والغرب، وسنة ٩٠٦ اجتازوا جبال الألب الغربية واكتسحوا دير نوفاليز بقرب سوز Suze وفي سنة ٩١٣ كانوا في آكي Acque في بيامونت، وفي سنة ٩٢١ وصلوا إلى جبل سان برنار الكبير، حسبما روى فليودار دورنز Fléodard de Reims وهناك رموا بالحجارة قافلة إنكليزية كانت ذاهبة إلى رومة، وفي سنة ٩٣٦ قطع العرب جبال الألب الريتية Alpes Rhétiennes واكتسحوا أسقفية كوار Coire فاضطر الملك أوتون الأول أن يعوض أسقف كوار مما رزأه به العرب، ومن الوقائع التي لا شك فيها أن العرب نزلوا من جبل سان برنار، ونهبوا دير سان موريس في وادي فاليه، وذلك سنة ٩٤٠ كما روى ذلك أولريك مطران أوغسبورغ، ولا تمكن معرفة ما إذا كانت ثمة علاقة بين حوادث سان برنار وحوادث كوار، وفي سنة ٩٤١ كان هوغ ملك إيطالية في حرب الماركيز بيرانجه الإيفري Berenger D'ivrée والملكة برته صاحبة برغونية التي كان طلقها، فاستمال هوغ العرب واستخدمهم وألقى إليهم بحراسة معابر الألب، ففر بيرانجه من وجههم والتجأ إلى الدوق هرمان الشوابي Hermamnn de Soiab وبلغ من قوة العرب أنهم جعلوا رسومًا على المارة الذين كانوا يقطعون جبال الألب، قاصدين رومة، ويقال: إنهم تقدموا من هناك حتى بلغوا مقاطعة فو Void التي قاعدتها لوزان ومقاطعة جوره، التابعة لنيو شاتال، واستطالوا على دير سان غال Saint Gall وكانت توجد كتابة في كنيسة القديس بطرس في بورغ Bourg محفورة بين سنة ١٠١٩ و١٠٣٨ يستدل منها على الغارات العربية إلى جهة الغرب.
وأما غاراتهم إلى جهة الشمال الشرقي فالروايات عنها لم تحقق بصورة قطعية وكذلك لم يتحقق كونهم تديروا جبال الألب، بصورة ثابتة، وإنما تحقق على وجه ليس فيه مراء أن الملك أوتون مر بكوار سنة ٩٥٢ ومعه «أدليدة» فوجد الدير قد نهبه العرب فعوض الدير مما فقده، وذلك سنة ٩٥٥ وأما في جنوبي الألب فقد طال مقام العرب، ولكن لا نظن صحيحًا أنهم استعمروا وادي ساز Saas سنة ٩٤٠ إلى سنة ٩٦٠ وكذلك ما يقال من احتلالهم بونترازينه Pontresina وأما ما يقال من كون بعض أسماء وادي ساز هي عربية مثل «على العين» Allalin والعين Ein والماجل Almagel ومشابل Mischabel وبالفرين Balfrin ومونتومورو Monto Moro فلم يثبت كون هذه الألفاظ عربية، وفي ٢٣ يوليو سنة ٩٧٣ قبض العرب على الراهب ميول ورفاقه، فثار الناس من أجل هذه الفعلة، واجتمع غليوم كونت آرل، وهاردوين أمير تورينو وربالد كونت بروفانس، وزحفوا إلى العرب من كل جهة واستولوا على فركسينة وانقرض العرب من هناك.
وهذا الفصل من قاموس سويسرة التاريخي عليه إمضاء H. Dübi وهو مأخوذ من بضعة عشر تأليفًا بالإنكليزية والإفرنسية، وأكثرها بالألمانية، وفي رأس هذه التآليف كتاب كيلر Keller الذي ترجمناه وأردفنا به كتاب رينو المستشرق الإفرنسي.

بقي علينا أن نلاحظ على هذا الفصل ارتياب كاتبه في عروبة الألفاظ التي ذكرها فنحن نخالفه في هذا الرأي، ونوافق على رأي كيلر، وهو أن هذه الألفاظ عربية لا ريب فيها وأنه يستحيل أن توجد ثلاثة ألفاظ كهذه مشابهة للألفاظ العربية تصادفًا، وذلك مثل «على العين» و«العين» و«الماجل» فإن هذه كلمات عربية صريحة، وشكل التلفظ بها بحسب رسم حروفها باللغة الإفرنسية يدل على كونها عربية مغربية؛ لأن إخواننا المغاربة والأندلسيين يميلون إلى الكسر في تلفظ الحرف الأول من لفظ عين وما في ضربها من الألفاظ كزيت وجيش وزيد وغيرها، بخلافنا نحن المشارقة فإننا نلفظ كل هذه الألفاظ بفتح أولها، وأما الماجل فقد تقدم أنه حوض الماء، وأن هذه اللفظة كانت تسعمل في مكة لحياض الماء التي فيها، وأما مشابل فيجوز أن تكون من أصل عربي بمعنى مكان الأسود، أو كما قيل من إن هناك جبالًا شبهوها بلبؤة تجر أشبالها كما أنه يجوز أن يكون أصلها لفظة أوربية تشابهت اتفاقًا مع اللفظة العربية، أما الألفاظ الثلاثة الأولى فلا يمكن أن يكون وجودها مجرد اتفاق، لا سيما أنها أسماء لأماكن فيها مياه، وأما بالفرين فقد تكون محرفة عن أصل عربي ويكون أصلها بالفرين تصغير فرن، ويجوز أن تكون لفظة إفرنجية، وأما «مونتومورو» فهو ظاهر ومعناه جبل المغاربة أو العرب، وبالاختصار فرأى كاتب هذا البحث من جهة هذه الألفاظ هو في غير محله.

فهذا ما اخترنا نقله وجمعه من أخبار غارات العرب على فرنسة وإيطالية وسويسرة ممحصًا ممخوضًا معولًا فيه على أوثق المصادر والله تعالى من وراء العلم هو المبدئ المعيد والأول والآخر.

فتح المسلمين لمالطة

قد كان أصل المحور الذي دارت عليه مباحث هذا الكتاب هو غزوات العرب في شمالي جبال البيرانه من فرنسة وإيطالية وسويسرة، ولكن الحديث شجون والتاريخ، إنما هو حديث عن حوادث يثير بعضها بعضًا، وقلما تجد منها حادثة إلا وهي متعلقة بسابقة لها، ولذلك لم يكن حصر الكتاب ضمن الحدود التي ذكرناها، بل تعدى إلى موضوع غزو العرب لجزائر البحر الرومي مثل كورسيكة وسردانية وصقلية والأرض الكبيرة المقابلة لها التي يقال لها كالابرة، وتناول البحث أيضًا جزيرة إقريطش التي يقال لها اليوم: كريد، فأما جزر الباليار فهذه تابعة للأندلس قديمًا وحديثًا، ولذلك أبقينا الكلام عليها إلى الكتاب الذي ننوي وضعه على الأندلس، وقد هيأنا كثيرًا من مواده، وإنما بقيت جزيرة في البحر المتوسط، فاتنا ذكر فتح المسلمين لها، مع كونها ذات ذكر شهير في التاريخ أكبر كثيرًا من جرمها الجغرافي ألا وهي جزيرة مالطة، فأحببنا أن نذكر عنها خلاصة تاريخية في هذا الكتاب، فنقول:

يوجد أرخبيل يقال له: الأرخبيل المالطي مؤلف من جزيرة مالطة وأخواتها غوزو Gozo وكومينو Comino و كومينوتو Cominotto وفلفولا Filfola وصخور أخرى تحاذيها، جاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية المحررة بالإفرنسية أن هذه الجزر كانت في الأعصر القديمة مأهولة بطائفة من طوائف البحر المتوسط، لها آثار تدل عليها، محفوظة في مكان من مالطة يقال له: «الحجر القائم» Hagiar kaim وأول ما عرف التاريخ عنها هو أن الفينيقيين استعمروها قبل القرن العاشر قبل المسيح، واتخذوها قاعدة لسفنهم التجارية، قالت الإنسيكلوبيدية: ولم يتحقق كون اسم مالطة مشتقًا من الفينيقية وإنما تحقق كون جزيرة غوزو أو غولوز Gailos معنى اسمها «سفينة تجارية مستديرة الشكل» وقد استولى القرطاجنيون على مالطة في القرن السابع قبل المسيح، وبقوا فيها أربعة أو خمسة قرون، ثم استولى عليها الرومانيون سنة ٢١٨ قبل الميلاد وبقيت نحوًا من عشرة قرون في أيدي الرومانيين واليونانيين، وفي القرن الأول للمسيح تنصر أهل مالطة عن يد القديس بولس، ولما سقطت السلطنة الرومانية الغربية استولى عليها البيزنطيون، وكانت لهم مركزًا ضروريًّا بعد استيلائهم على شمالي إفريقية.

وقد استولى المسلمون على مالطة سنة ٢٥٦ للهجرة وفق ٨٦٩ و٨٧٠ مسيحية، ولكن هذا الاستيلاء هو الاستيلاء الثابت؛ لأن ابن الأثير يخبرنا أنه في سنة ٢٢١ أرسل إبراهيم بن الأغلب أسطولًا لغزو الجزائر، والأرجح أن مراده بالجزائر هو الأرخبيل الذي من جملته مالطة، وقد كانت غزوات المسلمين لمالطة وصقلية في القرن الثامن للمسيح، وربما كانت مالطة دخلت في حوزة المسلمين قبل سنة ٨٠٠ وكان مقام المسلمين بمالطة أطول وأثبت من مقامهم بصقلية، بدليل كون لغة مالطة عربية.

وقد اختلف العلماء في أصل اللهجة المالطية، فزعم بعضهم أنها من أصل فينيقي، وذهب آخرون إلى أنها لهجة عربية، وهذا رأي الجمهور، فاللغة المالطية عربية تشابه في كثير من الألفاظ لهجات العرب الشرقيين، وفي كثير منها العرب المغاربة وتكثر في لغة مالطة الإمالة، كما يكثر أيضا قلب الألف ياء، فيقولون: «يينا»، بدلا من أنا، ويقلبون القاف همزة، ويستعملون أحيانًا نون الجمع المتكلم قبل المفرد، فيقولون مثلا: إنا نقول له. بدلا من: نحن نقول له، وهذا على نسق أهل المغرب وتختلف اللهجات في نفس مالطة بين المدينة والقرى، وبين مالطة وغوزو، ولا توجد الخاء والغين في مدينة مالطة المسماة «فاليت» وإنما توجد في جزيرة غوزو، ولم يتم البحث حتى الآن عن اللهجات المالطية حتى يعرف ما هو راجع منها إلى العربية الشرقية وما هو راجع إلى العربية الغربية، وقد أثرت الثقافة اللاتينية الإيطالية في اللغة المالطية، ودخلت ألفاظ كثيرة منها في لغة مالطة، ولم يكن للمالطيين حروف يكتبون بها إلى أن قام في القرن الثامن عشر رجل يقال له: «آجيوس سلدانيس» فاعتنى بالبحث عن لغة بلده، ومن ذاك الوقت أخذوا يكتبون لغتهم، واستعملوا الحروف العربية، ثم نهضت عصبة من المالطيين اسمها «عقدة تالكتيبة تالمطي» أي عصبة الكتّاب المالطية ونشرت كتابًا في نحو اللغة المالطية سمته «تعريف الكتب المالطية» وذلك في سنة ١٩٢٤ وجاء في مقدمة هذا الكتاب ذكر أنواع الكتابة المالطية، ثم إن هذه العصبة نشرت مجلة اسمها المالطي في سنة ١٩٢٥ وكان غرضها الأصلي إحياء اللغة المالطية العربية أو ما تعبر عنه بالمالطي الصافي.

ومنذ سنة ١٨٥٠ أخذت مسألة اللغة المالطية شكلًا سياسيًّا، وذلك لأن الإنكليز أحبوا أن يعززوا اللغة المالطية العربية، لعدم رغبتهم في نشر اللغة الإيطالية التي هي لغة الطبقة المثقفة ولغة رجال الكنيسة في مالطة، ومن شاء الاطلاع على آداب اللهجة المالطية فليراجع كتب بونللي L, Bonelli وشتومة H. Stumme.
وقد ترك المسلمون في مالطة، عدا أسماء البلاد واللغة العربية، قطعًا من المسكوكات وعددًا كبيرًا من الآثار الكتابية لا سيما كتابات القبور، وأشهر هذه الكتابة المسماة «ميمونة» تاريخها يوافق سنة ١١٧٣ مسيحية، وقد نُشرت منذ قرن تام، وبحث فيها المستشرقون مثل إيطالينسكي Italenski ولنسي Lance وآماري Amari وغيرهم، وقد وجدوا كتابة أيضا في جزيرة غوزو، وهي محفوظة في متحف مالطة ثم إنه وجدت كتابات نحو العشرين في أثناء الحفريات التي وقعت بين سنة ١٩٢٢ وسنة ١٩٢٥ في محل يقال له: رباطو Rabato بقرب نوتابيل Notabile وهي محفوظة في متحف مربع رومانا Romana على مقربة من مكان الحفريات.

هذا وقد خرجت مالطة من أيدي المسملين سنة ١٠٩٠ مسيحية، فإن النورمنديين استردوها بعد استردادهم لصقلية، ولكن كان المسلمون مأذونًا لهم في الإقامة بهذه الجزيرة إلى سنة ١٢٤٩ ثم إن مالطة من سنة ١٥٣٠ إلى سنة ١٧٩٨ صارت مركزًا لفرسان ماريوحنا أورشليم الذين طردهم الترك من رودس سنة ١٥٢٣ فانتقلوا إلى مالطة وأنشأوا أسطولًا عظيمًا، كانوا يلاقون به أساطيل المسلمين، الترك أو الإفريقيين، وكان يؤتى بألوف من أسارى المسلمين إلى مالطة، ولهذا قصد الأتراك الاستيلاء على مالطة سنة ١٥٦٥، ولكنهم لم يتمكنوا منها، وحاولوا ذلك مرة أخرى في أيام السلطان محمد الرابع، وفي المكتبة العمومية في مالطة وفي متحفها بعض كتابات عربية متعلقة بفن الملاحة، انتهى ما ذكرته الإنسيكلوبيدية الإسلامية عن مالطة، نقلناه باختصار.

ولما كان العلامة الرحلة اللغوي المشهور أحمد فارس الشدياق، صاحب الجوائب قد أقام بمالطة أربع عشرة سنة وكتب عليها كتابًا سماه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» فقد أردنا أن نأخذ من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بغرضنا من جغرافية مالطة وتاريخها وذكر فتح المسلمين لها، فنقول:

قال أحمد فارس: إن تخطيط مالطة هو في ٢٢ درجة وأربع وأربعين دقيقة من الطول، وفي ٢٥ درجة و٥٤ دقيقة من العرض، أما موقعها في الكرة فإن بعض الجغرافيين ألحقوه بإفريقية، بالنظر إلى المكان، وبعضهم ألحقه بجزائر إيطالية بالنظر إلى عادات أهل مالطة وأحوالهم وديانتهم، فأما عرض مالطة فاثنا عشر ميلًا، وطولها عشرون، ودورتها ستون وقاعدتها الآن هي المدنية المسماة فالته “La Valette” فأما في الأعصر السالفة فكانت نوتابيلي، ويقال لها الآن المدينة، وموقعها في وسط الجزيرة في أرفع موضع منها، وكانت الجزيرة منقسمة إلى شطرين: أحدهما يمتد جهة الشرق، والآخر جهة الغرب، والذي بنى فالته كان أحد أمراء الإفرنج وسماها باسمه، وذلك سنة ١٥٧٦ وهي على ربوة بقرب البحر يقال لها: شبراس، قلت: زعم بعض المالطيين أن أصل هذه الكلمة «شبرا الراس» وبعضهم أنها «جبل راس» وعندي أنها شعب الراس، قال في الصحاح: شعب الراس شأنه الذي يضم قبائله. أ.هـ.

وهو كناية عن أصل الشيء ومجتمعه، كما أن قبائل الراس مرجعها إلى الشعب، ويحتمل أنها سميت بشيب الراس لأن أهل مالطة كانوا يناصبون المسلمين الحرب وكل فريق ملاق من فريقه ما يشيب الرأس. أ.هـ.

قلت: تأييدًا لما استشهد به أحمد فارس أقول: جاء في لسان العرب «والشعب شعب الراس وهو شأنه الذي يضم قبائله، وفي الرأس أربع قبائل، وأنشد:

فإن أودى معاوية بن صخر
فبشر شعب رأسك بانصداع أ.هـ.

ثم نقل أحمد فارس عن المؤلف الفرنساوي بوليه أن قاعدة مالطة سميت باسم الأمير لافاليت رئيس طريقة الفرسان، ولد في سنة ١٤٩٤ ومات سنة ١٥٦٨ وكان شهيرًا بالبأس، وأول ما استولى عليه من الجزيرة عند محاصرته المسلمين بها برج «سانت المو» ثم قوي عليهم وأخرجهم منها أ.هـ. قلت: إن هذه الرواية تخالف ما جاء في الإنسيكلوبيدية الإسلامية من كون مالطة خرجت من أيدي المسلمين سنة ١٠٩٠ إذ ينبغي من هذه الرواية أنه كان فيها مسلمون في أواسط القرن السادس عشر للمسيح، وأنه كانت في أيديهم حصون وأبراج، ولولا ذلك ما قيل: إن الأمير لافاليت أخرجهم منها.

وأما اسم مالطة فجاء في كتاب أحمد فارس: إن اليونانيين سموها مليته، واشتهر ذلك سنة ٨٢٨ قبل الميلاد، ومعنى ميليته أو ميليسه في لغة اليونان النحل فحرف المسلمون ذلك وقالوا: مالطة، قال: وزعم قوم أنها سميت باسم ميليته ابنة دوريس، وهو مشتق من ميليت في السريانية، وهو اسم إله، ولا يبعد أن يكون ذلك في اللغة الفينيقية أيضًا، قال: وممن ذكر مالطة من الشعراء الأقدمين أوميروس وأوفيديوس ويفهم من كلام الأول أن القبيلة التي يقال لها: «ألفپا كونس» هم أول من استوطنوا هذه الجزيرة، وكانوا ذوي قوة وبأس، ثم خلفهم الفينيقيون، وهم من جهات صور وصيدا، وذلك سنة ١٥١٩ قبل الميلاد، فلبثوا فيها نحو أربعمائة وخمسين سنة، حتى تغلب عليهم الإغريقيون ثم سلموها للقرطجنيين، وذلك نحو سنة ٥٢٨ قبل الميلاد، ثم جاء من بعدهم الرومانيون سنة ٢٨٣ من التاريخ المذكور، وأعظم ما حدث في أيامهم قدوم ماربولس، وانكسار السفينة به وبمن كان معه، وذلك سنة ٥٨ للميلاد، في موضع يقال له الآن: خليج ماربولس، ومنذ ذلك الوقت تنصر أهل الجزيرة، ثم بعد الرومانيين استولت قبيلة «الفندلس» ثم «القوث» ثم «البليساريون» وألحقوها بحكومة البلاد الشرقية وبقيت كذلك إلى سنة ٧٨٠ فأخذوه في هضم الرعية، فقاموا عليهم وسلموا الجزيرة للمسلمين. أ.هـ. ملخصًا.

قلت: يريد بالقوث أمة القوط الذين كانوا غلبوا على إسبانية، وبالفاندالس الأمة التي كانت أيضًا غلبت على إسبانية وإفريقية، وأما البليساريون فهم قوم بليسار Belisaire وكان من قواد الإمبراطور يوستنيانوس صاحب بيزنطية، ولد سنة ٤٩٠ وفي سنة ٥٣٣ غزا الفندلس في إفريقية، واستولى على قرطاجنة، ثم غزا أيضًا القوط عندما كانوا في إيطالية واستولى على صقلية ونابولي ورومة، ولعله في هذه الغزاة استولى على مالطة، ثم قال أحمد فارس: ذُكر في كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان: إن مالطة فُتحت في أيام أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب، توفي سنة إحدى وستين ومائتين، وإنما لقب بالغرانيق لأنه كان مشغوفًا بالصيد، روي أنه بنى قصرًا في السهلين، لصيد الغرانيق أنفق فيه ثلاثين ألف دينار، فكني بهذه الكنية، فعلى هذا فلا معنى لقول المؤلف (أي المؤلف الذي نقل عنه أحمد فارس): وسلموا الجزيرة للمسلمين. أ.هـ. يريد أحمد فارس أن يقول: إن المسلمين أخذوها فتحًا.

ثم نقل صاحب «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» عن ذلك المؤلف بقية حوادث مالطة، فقال: ثم قام الأمير روجر النورماندي بعدها بمائتي سنة، واسترد الجزيرة وألحقها بصقلية، فبقيت كذلك نحو سبعين سنة، ولما تزوج القيصر هنري السادس قيصر جرمانية ولية عهد صقلية دخلت مالطة في حكومته، وذلك سنة ١٢٦٦ وبقيت كذلك اثنتين وسبعين سنة، وفي أثناء ذلك ولي أخو لويس ملك فرنسة حكم صقلية ومالطة معًا، وبعد سنتين تغلب عليه الأمير بطرس الأراغوني، ثم آل أمرها إلى الملك كرلوس ملك صقلية فولى عليه الفرسان من نظام ماريوحنا برضى الأهلين واتفاق دول أوربا، ثم لما نبغ نابليون واستولى على البلاد سلمت له الجزيرة على أن يرخص للأهلين في التصرف بحقوقهم، إلا أن الفرنسيس لم يلبثوا أن هتكوا بعض السنن القديمة، وانتهكوا حرمة الكنائس، فتحزب عليهم المالطيون تحزبًا لم يخل من سفك دم كثير منهم وتلف أموالهم، إلى أن أتت الإنكليز فسلموها لهم وكان ذلك سنة ١٨٠٠.

قلت (أي قال أحمد فارس): لما دخلها نابليون وجد فيها ألفًا ومائتي مدفع ومائتي ألف رطل من البارود وأربعين ألف بندقية وعدة بوارج و٤٥٠٠ أسير من المسلمين فأطلقهم، وذلك سنة ١٧٩٨.

ثم رجع الشدياق إلى النقل عن المؤلف الذي نقل عنه فقال: إن أخذ المسلمين لمالطة كان من باب المصادفة أولى منه من المغالبة، وعاملوا الأهلين أولًا بالرفق والمياسرة، وقرروا سننهم وأحكامهم، وامتزوجوا بهم للغاية، حتى كأن الجيلين واحد، كما يتبين من بقاء لغتهم فيهم.

قال: أما لغة مالطة فذهب بعضهم إلى أنها عربية فاسدة، وذلك آخرون إلى أنها فينيقية لأن اليونانيين بعد أن فتحوا الجزيرة لم يُخرجوا منها الفينيقيين بل ظلوا فيها آمنين محافظين على لغتهم، وما برحت مستقلة حتى بعد استيلاء الرومانيين عليها وأنها لم تتغير في مدة القرطاجنيين لأن لغة هؤلاء كانت أيضا فينيقية، ومع أن دأب الرومانيين كان حمل الناس على التخلق بأخلاقهم والسلوك بسنتهم أينما ملكوا فلم يجبروا الرعية هنا على التكلم بلغتهم، والدليل على ذلك أن الرومانيين الذين كانوا مع ماربولس سموا المالطيين بربرًا ولم يكن يطلق هذا الاسم إلا على من جهل اللاتينية واليونانية.

قال: ثم بقيت في دولة المسلمين أيضًا ولم تتغير وإنما دخل فيها بعض ألفاظ أجنبية ويؤيد كونها فينيقية مشابهة بعض ألفاظ منها للعربية، نحو بير وصيد، فإنهما في الفينيقية بر وصد وغير هذا كثير مما له لفظ واحد ومعنى واحد في كلتا اللغتين، والحاصل أن مأخذ اللغة المالطية من الفينيقية أرجح من أن يكون من العربية وإن كانت قريبة من هذه أيضًا. أ.هـ.

قال أحمد فارس: قلت: دليله هذا أوهى من بيت العنكبوت فإن البير والصيد ينطق بهما في لغتهم كما في لغتنا سواء ما عدا موافقتهما في تصريف الأفعال والأسماء وفي الضمائر وغير ذلك من أساليب الكلام، ومن الغريب أن المؤلف لا يعرف الفينيقية ولا العربية ولا المالطية، وإن كانت لغته، ويتعرض للحكم والاستدلال، فكيف يحكم على الشيء وهو يجهله وكيف يقول: إن لغة المسلمين بقيت في أهل مالطة لشدة الالتحام الذي كان بين الفريقين ثم يقول الآن: إنها فينيقية لمجرد وجود كلمتين فيها؟ وإنما حمله على هذا بغضه وبغض أهل بلاده للعرب وتبرئة أنفسهم أنهم ليسوا منهم بل من الفينيقيين. أ.هـ.

قلت: لغة مالطة عربية لا شبهة فيها، وإنما ثبتت العربية في مالطة برغم انقراضها من صقلية وسردانية والأندلس وجنوبي فرنسة وجميع البلدان التي احتلها العرب من أوربة، لكون أصل لغة تلك الجزائر والبلدان لاتينيًّا، فلما تقلص ظل العرب عنها رجعت إليها لغتها الأصلية وانقرض العربي منها بالكلية، فأما مالطة فلغتها الأصلية لم تكن لاتينية بل كانت الفينيقية وهي أخت العربية، فلما جاءتهم العربية بعد فتح الإسلام لمالطة كانت كأنها نزلت في وطنها وثبتت فيها ثبوتًا لم يزلزله خروج المسلمين من مالطة كما ذهبت العربية من البلدان الأخرى التي أهلها الأصليون لاتينيون ولغاتها الأصلية لاتينية.

ثم قال أحمد فارس: والظاهر أن المسلمين الذين فتحوا مالطة لم يكونوا من أهل العلم والتمدن، كالذين كانوا في صقلية وغيرها، فإني لم أجد قط فيما قرأت من كتب الأدب والتواريخ قال المالطي، والسيوطي رحمه الله لم يغادر في كتاب الأنساب الذي سماه «لب اللباب» أحدًا من أهل العلم إلا ذكره ما خلا المنسوب إلى مالطة. أ.هـ.

قلت: أتذكر أني قرأت في بعض كتب التراجم، من مؤلفات أهل الأندلس، أسماء رجال منسوبين إلى مالطة، وفي معجم ياقوت يذكر نقلًا عن السلفي: سمعت أبا العباس أحمد بن طالوت البلنسي بالشقر يقول: سمعت أبا القاسم بن رمضان المالطي بها يقول: كان القائد يحيى صاحب مالطة قد صنع له أحد المهندسين صورة تعرف بها أوقات النهار الصنج، فقلت لعبد الله بن السمطي المالطي أجز هذا المصراع:

جارية ترمي الصنج فقال:
بها النفوس تبتهج
كأن من أحكمها
إلى السماء قد عرج
فطالع الأفلاك عن
سر البروج والدرج

وأما قول ياقوت إنها بلدة بالأندلس فليس بمانع من كونه يريد بها هذه الجزيرة المسماة مالطة الواقعة في بحر الروم، فقد جاء في تاج العروس: ومالطة كصاحبة ووقع في التكملة مضبوطًا بفتح اللام والمشهور على الألسنة سكونها بلدة بالأندلس كما نقله الصاغاني وهي مدينة عظيمة في جزيرة من بحر الروم، شديدة الضرر على المسلمين في البحر، يعظمها النصارى تعظيمًا بالغًا وبها وكلاء عظمائهم من كل الجهات، ولقد حكى لي من أسر بها عن زخارفها ومتانة حصونها وتشييد أبراجها وما بها من عدة الحرب ما يقضي بالعجب، جعلها الله دار إسلام بحرمة النبي ، فأنت ترى أن كتَّاب العرب كانوا يجعلون مالطة من الأندلس كما كانوا يجعلون ميورقة ومينورقة وسردانية وغيرها.

ثم نقل أحمد فارس عن المؤلف الذي اعتمد عليه كلامًا عن جزيرة «كوتزو» من أخوات مالطة فقال: إن اسمها جزيرة غورش وإنها بالإفرنجية كوتسو وإن هذه اللفظة يونانية ومعناها مركب مستدير وهي كأنها ذيل انقطع من مالطة وطولها اثنا عشر ميلًا في عرض ستة، وأهلها نحو خمسة عشر ألفًا، وجملة قراها ست، ومدينتها تسمى الربط (كأنه محرف عن الربض) وفيها آثار قلعة قديمة، وبقول الجزيرة وفاكهتها طيبة جدًّا، وكذا عسلها، وزعم بعضهم أن مالطة وغورش وكمونة كانت في الأصل جزيرة واحدة وحدث من الزلازل ما فرقها. أ.هـ.

وأردف أحمد فارس رحمه الله هذا الكلام بقوله: رأيت جزيرة غورش غير مرة، أما اسمها فأظنه محرفًا عن لفظة الهودج، سماها به المسلمون لشدة شبهها به، كما سموا الجزيرتين الأخريين كمونة وفلفلة لصغرهما، إلا أن أهلها ينطقون بها بالغين المعجمة لا بالمهملة كما ينطق بها أهل مالطة.

ثم ذكر أحمد فارس أن أهل مالطة رغمًا من كون لغتهم فرعًا عن العربية فليس منهم من يحسن قراءتها والتكلم بها، وأن هناك دار كتب موقوفة فيها ثلاثة وثلاثون ألف سفر، وليس فيها من الكتب العربية ما تحته طائل، ثم ذكر أن في لغتهم إمالة كثيرة فهم يقولون للتفاح تفيح وللرمان رمين وللبطيخ بتيح بالحاء المهملة وللخيار حيار بالحاء المهملة أيضًا وللإجاص لنجاص وللدلاع دليع وللخبز حبس وللخوخ حوح بالحائين المهملتين، ويقولون: بس بمعنى حسب، ولكن يبدلون سينها زايًا ويكسرون أولها.

ثم قال: إنه لا ينكر أن كثيرًا من الكلام العربي الذي بقي في مالطة مستعمل بطريقة المجاز إما بذكر اللازم وإرادة الملزوم وإما بتخصيص العام وتعميم الخاص كقولهم مثلا «وحلت» للوقوع في الأمر الصعب وأصله الوقوع في الوحل خاصة، ونحو «الطلاب» للمتكفف وهو اسم فاعل للمبالغة من طلب، ونحو «مغلوب» للنحيف وهو اسم مفعول من غلب وهو لازم له غالبًا، وفتيت أي قليل وهو من فتت الشيء إذا كسرته وصغرت جرمه، قال: وإن أهل غورش ينطقون بالأحرف الحلقية على حقها إلا أنهم يكسرون ما قبل الواو الساكن فيقولون مكسور ومفتوح ويضمون ما قبل الألف نحو قُاعد وهلم جرا، ويقولون منكم وعليكم بكسر الكاف وهي لغة ربيعة وقوم من كلب كما في المزهر ويسمى الوكم.

وذكر من اصطلاحاتهم أنهم يعبرون عن الدخول في الفعل بلفظة «سائر» وهي نظير قول أهل الشام ومصر «رايح» فإذا قال المالطي: أنا ساير نسافر فهي كقول الشامي أو المصري: أنا رايح أسافر.

قلت: يظهر أن سائر هذه كانت مستعملة في المغرب وقد نحتوها فبقي منها سين مفتوحة، فيقولون عن شخص مثلًا هو في حال الأكل سيأكل، وأحيانًا يقلبونها تاءً فيقولون تيأكل، ويقولون في المغرب في مثل هذه الحالة كيأكل، وأظن الكاف هنا منحوتة من «كائن» وذلك كما ينحت أهل الشام لفظة «عمال» فبدلًا من أن يقول هو عمال يأكل تجده يقول: «عمياكل» وفي بعض جهات من شمالي لبنان يقلبون الميم نونًا فيقولون: «عنياكل».

ثم ذكر أحمد فارس اصطلاح أهل مالطة على إدخال لفظة «تا» بين المضاف والمضاف إليه، فيقولون مثلًا: «الرجل تالبيت» وذهب أحمد فارس إلى أنها منحوتة من متاع، قال: فإن أهل المغرب يدخلونا كثيرًا في الإضافة ويبتدئون بالميم ساكنة على عادتهم من الابتداء بالساكن وتقصير اللفظ، ومما يؤيد هذا التوجيه أن المالطيين لا ينطقون بالعين إذا وقعت في آخر الكلمة فيقولون مثلًا: تلا وقلا في طلع وقلع، قال أحمد فارس: وقلب العين ألفًا أو همزة هو من أساليب العرب، كما في تفصى وتفصع، وأقنى وأقنع، والشمى والشمع، وتكأكأ وتكعكع، وزقاء الديك وزقاعه، وزأزأ وزعزع، وبدأ وبدع، والخباء والخباع وغيرها، حتى إنهم قلبوها متوسطة كما في تأرض وتعرض، ودأم الحائط ودعمه، انتهى.

قلنا: إن الهمزة والعين من مخرج واحد فلا عجب أن تأتي ألفاظ بالهمزة وبالعين ومعناهما واحد.

ثم قال أحمد فارس: إنهم في مالطة يجعلون الهاء حاء، وأنشد من شعر المالطيين:

المحبوب تا قلبي سافر
ليلي ونهاري نبكيح
جعلنلو بدموعي البحر
وبالتنهيدات تا قلبي الريح

أي: ليلي ونهاري نبكيه، وإبدال الهاء حاء لغة من لغات العرب، قالوا المليه، والمليح، والمده والمدح، وتاه وتاح، إلى آخره.

قال: ومما بقي عندهم من فصيح العربية قولهم دار نادية، وحقها دارندية ولكنها أفصح من قول أهل مصر والشام دار ناطية، ويقولون للداية قابلة، ويقولون للرهان مخاظرة، وللعلية غرفة، ويقولون عن لي بمعنى بدالي، وتجالدوا وهو أفصح من تعاركو، وزفن أي رقص، وبوقال وهي أفصح من قول أهل الشام شربة أو نعارة، ومن فصيح كلامهم يماري أي لا يقنع بالحق، ويشرق بالماء، ويستقصي، وفرصاد للتوت، وسفود، وأهل الشام يقولون سيخ وشيش، ويقولون تقزَّر أي تباعد من الأدناس، وعسلوج للقضيب، وجلوز للبندق الذي يؤكل.

قال: ولكن هذه الألفاظ كلها مستعملة في الغرب وبهذا يترجح أن أصل المالطيين من المغاربة، ولكنه في محل آخر قال: إنه لا شك في كون اللغة المالطية عربية ولكني لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي، فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين والغالب عليها الثانية، غير أن الألفاظ الدينية من الأولى فيقولون مثلًا: القداس والقديس والتقربن والأسقف مما لا يفهمه أهل المغرب. أ.هـ.

قلت: إن في المالطية ألفاظًا واصطلاحات شامية، وقد ورد هذا الرأي في الإنسيكلوبيدية الإفرنسية، ولكن الألفاظ المغربية هي بدون شك أكثر.

وذكر أحمد فارس من أوزان كلام مالطة فاعلة للمصدر، فيقولون عملته بالواقفة أو بالقاعدة، والمصدر على هذا الوزن معروف في العربية قال تعالى: فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ أي من بقاء، وقال تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي كذب، ثم قال: إن بقاء العربية في مالطة لو محرفة مع عدم تقييدها في الكتب دليل على مالها من القوة والتمكن عند من تصل إليهم من الأجيال، ألا ترى أن مالطة قد تعاقبت عليها دول متعددة ودوا لو يحملون أهلها على التكلم بلغاتهم فلم يتهيأ لهم وبقوا محافظين على ما عندهم خلفًا بعد خلف، وهؤلاء الإنكليز يزعمون أن لغتهم ستكون أعم اللغات وما تهيأ لهم أن يعمموها عند المالطيين، ويقال: إن الذي تحصل عند أهل مالطة من العربية مما هو مأنوس الاستعمال وغير مأنوسه يبلغ عشرة آلاف كلمة.

بحث دقيق جليل عن مغازي العرب في أوربة وجزائر البحر المتوسط

بقلم الأستاذ الأفضل السيد عبد العزيز الثعالبي رئيس الحزب الوطني في تونس

كان بلغنا أن لدى الأستاذ الأجل الأفضل السيد عبد العزيز الثعالبي، وثائق ومعلومات لا توجد عند غيره، في موضوع فتوحات العرب في جنوبي أوربة، فاقترحنا عليه كتابة شيء في هذا الموضوع نجعله كالقلادة في جيد تأليفنا هذا، فتفضل علينا حفظه الله ونفع به الإسلام بالخلاصة التالية:

إن أول واضع لخطة الفتوحات الإسلامية في أوربة هو الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه حين ندب أخاه من الرضاع، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لفتح بلاد شمالي إفريقية، ووافته البشائر بفوز جيوشه على جيوش جيجير والي سبيطلة من قبل البيزنطيين، ندب القائدين البحريين الجليلين عبد الله بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين، وكانا على الأسطول، فأمرهما بالمسير إلى الأندلس وكتب لهما وصية سياسية في ذلك، تلك الوصية الخالدة التي يقول فيها: إن القسطنطينية تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتم ما أنتم بسبيله تكونون شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، وقد اتخذ ولاة شمالي إفريقية وقواد أجنادها هذه الوصية نبراسًا لسياستهم الإسلامية التي يسيرون عليها.

وأول أمير شرع في إعداد الوسائل والمعدات لتنفيذ تلك الوصية الأمير حسان بن النعمان، شيخ وزراء الدولة الأموية، بعد أن دان له شمالي إفريقية بالطاعة فقد أنشأ بفناء قرطاجنة دار الصناعة لبناء السفن والأساطيل وصنع الأسلحة، وجلب لها الصناع من قبط مصر، وسار على منهاجه في ذلك مولاه طارق بن زياد بعد أن ولي المغرب، فجاز بجيوشه أرض العدوة، وناجز الأندلسيين سنة ٩٢ ثم تلاهما في ذلك إسماعيل بن أبي المهاجر الذي تقلد إمارة شمالي إفريقية في عهد عمر بن عبد العزيز فأغزى أساطيله جنوبي أوربة سنة ١٠٥ وكانت قيادتها لعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ولم يعد إلا بعد أن أثخن في إيطالية، وهذه الغزوة تعتبر كبشير لإنقاذ الإيطاليين من حكم البيزنطيين الطغاة.

وفي ولاية عبيد الله بن الحبحاب لإفريقية جهز أسطولًا كبيرًا جعل إمارته لقائد جيوشه الموفق حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة الفهري، فغزاها سنة ١٢٣ ونكل فيها بالبيزنطيين أشد تنكيل، ولو لم تحصل ثورة البربر ضد الحكم العربي بسبب تخميس أعشارهم لتملك شطوط إيطاليا وطهرها من حكم البيزنطيين كما فعل ذلك من قبل حسان بن النعمان في شمالي إفريقية.

وفي سنة ٢٠٧، بعد استقرار الدولة الأغلبية جهز زيادة الله الأكبر أسطولًا بإمارة قائده محمد بن عبد الله التميمي لمنازلة سردينية، ثم أعاد عليها الكرة سنة ٢١٢، وكانت إمارة الأسطول والجيوش في هذه المرة لقاضي القضاة الإمام أسد بن الفرات، فملك مازرة وحاصر سركوسة، وحول أسوارها أدركت الإمام الشهادة رضي الله عنه سنة ٢١٣ فتولى القيادة العامة صاحب أسطول الأندلس القائد أصبغ المعروف بفرغلوسن، وبعد أن استقرت الأمور في البلاد المفتوحة قلد زيادة الله إمارة إيطالية لابن أخيه إبراهىم بن عبد الله بن الأغلب، وما زال مواليًا للجهاد حتى فتح بليرم ونابولي.

وفي ولاية أي عقال الأغلب بن إبراهيم استؤنفت حرب التحرير في إيطالية سنة ٢٢٤ وتم فتح صقلية.

وفي ولاية الأمير محمد الأول تقدمت الفتوحات في شطوط إيطالية واستمرت من سنة ٢٣٣ إلى سنة ٢٤٠ ففتحت باتية وقطانية وبشيرة.

وفي ولاية الأمير أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب ندب والي صقلية العباس بن الفضل لغزو قصر الحديد ومدينة شلقودة وجهز الأسطول وأمر عليه أخاه وسيره لفتح جزيرة أقريطش فكان له واقعة مهولة في البحر الرومي مع أسطول بيزنطية.

وفي عهد أبي الغرانيق محمد الثاني بن أحمد بن محمد بن الأغلب قلد خفاجة الولاية على إيطالية وأخرجه سنة ٢٥١ لفتح جنوة ففتحها وتقدم إلى جبال الألب واستمر فاتحًا إلى نهاية سنة ٢٥٢ وفي سنة ٢٥٣ سيرت بيزنطية أسطولًا ضخمًا، لمحاربة المسلمين في شطوط أوربة الجنوبية ومنع جحافلهم من التقدم في فرنسة، فواقعهم خفاجة على شواطئ جنوة وسركوسة وألحق بهم خسارة عظيمة.

وفي سنة ٢٥٥ غزا الأسطول الأغلبي جزيرة مالطة واستولى عليها وألحقها بشمالي إفريقية.

وفي عهد إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب قلد الحسن بن رباح ولاية جنوبي أوربة ونهده إلى الغزو فيما يليها؛ فتقدم إلى مرسيلية وفتح البروفنص فاستنجدت فرنسة بالدولة البيزنطية فسيرت لها أسطولًا مؤلفًا من ١٤٠ مركبًا، فتلقاه الأسطول الإفريقي في عرض البحر الرومي فدارت بينهما معركة مهولة كان الفوز فيها للبيزنطيين بعد أن تحطمت شوانيهم والتجأت بقايا الأسطول الإفريقي إلى بليرم، لكن الجيوش الإسلامية كانت تتوغل في فرنسة واستمرت على ذلك من سنة ٢٦٦ إلى سنة ٢٧٢ فملكت بعض شواطئ الرون واحتلت كولونيا، غير أن عين البيزنطيين لم تنم عن هذه الفواجع، فأعادوا كرة حملتهم البحرية وحاولوا في هذه المرة قطع خطوط الاتصال بين جنوبي أوربة وشمالي إفريقية، فاحتل أسطولهم مدينة سبرية فقاومهم المسلمون مقاومة عنيفة منعتهم من التقدم.

وفي سنة ٢٧٥ جهزت إفريقية أسطولًا عظيمًا لتعقب أسطول البيزنطيين وشل حركتهم عن التقدم في الشطوط، ولم يلبث أن اشتبك العدو وضربه الضربة الحاسمة ومكن سيادة المسلمين في إيطاليا وجانب من فرنسة.

واستمر نجم الإسلام صاعدًا في أوربا بعد هذه الوقعة العظيمة وأمراء الأغالبة لا ينفكون عن تعزيز المسلمين في ولايتهم الأوربية ومراقبة حركات الصليببين مراقبة عنيفة تحبط كل سعي في الانتكاث حتى دان من كان في حوزتهم من النصارى بالإسلام وتذوقوا حلاوة تحريره إياهم من ظلم الأمراء الإقطاعيين، وطغيان الكنيسة الكاثوليكية واستمر ذلك إلى أن ظهرت النبعة الآثمة نبعة الدعوة العبيدية في قبيلة كتامة البربرية من المغرب الأوسط، وقدر لها أن تجتاح الدولة الأغلبية فتعطل الفتح في أوربا وانقلبت جيوش إفريقية مغيرة على العالم الإسلامي لتقويض دولة بعد أخرى وهدم الخلافة العباسية القائمة في المشرق وبسبب ذلك تحولت السياسة الإسلامية تجاه أوربا من الهجوم والتوثب إلى الدفاع والتسليم.

ولم يجن أحد على الإسلام ما جناه عليه هؤلاء العبيديون أو الفاطميون وإليك البيان:

لما تغلب عبيد الله المهدي على إفريقية وزال عنها حكم بني الأغلب كرهت الولايات الإسلامية في أوربا أن تقدم طاعتها للمتغلبين، فأجمع أصحاب الشأن فيها على إعلان الاستقلال حتى يمتنع نقل الجيش من أوربا إلى إفريقية، فبايعوا بالإمارة القائد أحمد بن زيادة الله بن قرهب؛ وبمجرد انعقاد هذه البيعة كتب الأمير إلى المقتدر بالله الخليفة العباسي بالطاعة، فأنفذ إليه المقتدر بالتقليد والخلع والألوية وطوق من الذهب ولما بلغ ذلك عبيد الله المهدي أخذ يسعى في بث الدسائس والفتن بين المسلمين في أوربا، وما زال بهم حتى اختلت الأمور على ابن قرهب فخُلع سنة ٣٠٣ وقُتل بعد أن وصل إلى المهدية؛ وعقب ذلك اجتمع أولو الحل والعقد من المسلمين في دار الإمارة ببليرم فكتبوا إلى المهدي، وذلك بعد أن بلغهم أنه جهز جيشًا لغزو المشرق بقيادة الطاغية البربري القائد حباسة بن يوسف يلتمسون منه تعيين الولاة والقضاة وأن يبقى لهم الجيش يدرأون به الأخطار أمام الأعداء إلى غير ذلك من الشروط التي تضمن لهم الاستقلال الداخلي ولا تجعل بلادهم عرضة للغارة والفتوق، فأبى أن يجيبهم إلى هذه الطلبات العادلة، وأخرج إليهم الجيوش والأساطيل وعين عليهم سعيد بن المضيف فحاصرهم شهورًا، وكانت البلاد ممتنعة عنه فتنحى عنها وأرجل جنود كتامة في أرباض الشواطئ المفتوحة للنهب والسلب، ففعلوا الأفاعيل التي أفزعت النساء والذرية؛ حتى إذا رأى المسلمون أنه لا طاقة لهم بهذا الفزع نزعوا إلى طلب الأمان فأمنهم بلا قيد ولا شرط، وعلى أثر ذلك احتل البلاد وهدم أسوار المدن وجرد حاميتها من السلاح والخيل وفرض المغارم الكثيرة، ونصب سالم بن أبي راشد أميرًا عليها وعززه بجيش من كتامة فكان دأبهم الإفحاش في الظلم وسلب الأموال، فانقبضت النفوس وخارت الهمم عن التوسع حتى طمع فيهم رعاياهم الإيطاليون والفرنسيون.

وفي عهد أبي القاسم بن عبيد الله المهدي عين لولاية أوربا خليل بن إسحاق الطاغية؛ فقضى في الحكم أربعة أعوام ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يسمع بمثله، وجعل المسلمين يفرون أفواجًا أفواجًا إلى البلاد النصرانية ويتنصرون. ويحدثنا عنه المؤرخون أنه لما عاد سنة ٣٢٩ إلى شمالي إفريقية كان يفتخر بمظالمه، فقد حضر مجلسًا من وجوه الدولة العبيدية في قصر الإمارة وكانوا يتباحثون في شئون الدولة، فقال: إني قتلت في إمارتي ألف ألف نسمة، فرد عليه أبو عبد الله المؤدب، وكان من عقلاء الرجال في الدولة الشيعية: «لك يا أبا العباس في قتل نفس واحدة ما يكفيك».

وفي أيام الأمير تميم الملقب بالمعز لدين الله وجه القائد جوهرًا في الغزوة الثانية على مصر سنة ٣٥٧ بعد وفاة صاحبها كافور الإخشيدي فاستولى عليها وبنى له مدينة القاهرة، وفي سنة ٣٦١ رحل المعز إلى المشرق واتخذ القاهرة عاصمة لملكه واستخلف على إفريقية أبا الفتوح يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي مؤسس الدولة الصنهاجية؛ فكان همه ضبط البلاد وتكوين الشعور بالوحدة البربرية، فشعرت الأمم النصرانية المتاخمة للمسلمين في أوربا بسريان هذا الضعف والانحلال في قوة التماسك بالوحدة الإسلامية، فأخذوا يواثبون المسلمين في كل مكان، وما زالوا يجمعون ويؤلبون عليهم إلى أن وافتهم سنة ٣٧٢، فحشدوا قواهم لمناجزة المسلمين في فرنسة، ولما بلغ ذلك أبا الفتوح أمر عامله على جنوبي أوربا أن ينهد لقتالها فتحرك إليهم في جيوش كثيفة ودارت بينهم معارك ارتدت فيها النصرانية على الأعقاب وفاز فيها المسلمون فوزًا عظيمًا، فما كان من الملك روجار النرماندي قائد هذه الحملات الصليبية الأولى إلا أن استنفر الأمم النصرانية لمحاربة الإسلام في أوربا وإفريقية.

وكان النرمنديون نزلوا من شمال فرنسة إلى جنوبها ثم شرعوا يتعقبونهم ويناجزونهم في إيطاليا ويفتكون منهم المدن، مدينة إثر مدينة، حتى ملكوا جميع البلاد الإسلامية في جنوب أوربا، ومما ساعدهم على ذلك تراجع أمر الدولة الصنهاجية أواخر حكم المعز بن باديس إثر الزحفة الهلالية التي سيرها إليهم العبيديون سنة ٤٥٢ من مصر لتقويض معالم شمالي إفريقية.

ولم تقف أطماع النرمنديين على إزالة الحكم الإسلامي من أوربا، بل جنحوا إلى التغلب على المسلمين في مواطنهم الآمنة بإفريقية، فهجموا في سنة ٤٧٦ على المهدية دار المملكة الصنهاجية بأسطول مؤلف من ٣٠٠ مركب عليه ٣٠ ألف مقاتل، وكانت المدينة مفتوحة غير محصنة فتغلبوا عليها وعلى زويلة، وأحدثوا فيها مقتلة ذريعة، وحرقوا وخربوا المعالم المشهورة وأخيرًا صالحهم تميم بن المعز بن باديس على مائة ألف دينار وما انتهبوه من الأموال وسبوه من النساء والذراري.

ولما انتقل الحكم إلى الأمير حسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس سنة ٥١٦ أراد غسل العار الذي لحق الدولة من فعل النرمنديين ورد ما فقدته من الأقطار الواسعة في أوربا، فندب لذلك حليفه الأمير علي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني صاحب العدوتين أن ينهد لقتال النرمنديين؛ فأغزى أسطوله شطوط أوربا الجنوبية، وكان بقيادة أبي عبد الله ميمون، فأثخن فيها قتلًا وسبيًا ورد أمم النصرانية على أعقابها بعد أن هلك من الطرفين عدد لا يحصى، ولم تخمد هذه الكارثة همم النرمانديين وتقعد بهم عن استئناف حملتهم على المهدية، فأعادوا الكرة عليها في أساطيلهم أواخر جمادى الأولى سنة ٥١٧ فتلقاهم آساد العرين في كل مكان وتخطفتهم السيوف حتى أبيدوا عن آخرهم، وغنم المسلمون مراكبهم وأسلحتهم وأموالهم، فكانت وقعة عظيمة أنعشت أرواح المسلمين بعد طول الخمود؛ ولكن الصليبيين لم يكفوا عن متابعة الغارة فأعادوا الكرة على المهدية سنة ٥٤٣ فاحتلوها بعد وقائع مهولة وخرج منها السلطان حسن بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بجملته وحاشيته إلى جزائر بني مزغناي (الجزائر) وجعل الصليبيون المهدية قاعدة لحركتهم الحربية في شمالي إفريقية وشن الغارة منها على ما يليها من الشطوط التي استولوا عليها، وقد مكثوا بها إلى أن أجلاهم عنها أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي في المحرم سنة ٥٥٥ ولولا نجدته لكانت بلادنا اليوم بلادًا نصرانية من غير شبهة. انتهى.

كتابات عربية على القبور الإسلامية في مالطة

بعد أن أتممنا كتابنا المتضمن غزوات العرب في فرنسة وسويسرة وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ومن جملتها جزيرة مالطة اطلعنا على رسالة للمستشرق الإيطالي (إيطوري روسي) Ettore Rossi الذي يعد من أعلم المستشرقين بأحوال مالطة إن لم يكن أعلمهم وهو الذي حرر الفصل المختص بمالطة في الإنسيكلوبيدية الإسلامية واجتمعنا مع الأستاذ المشار إليه في رومة في هذه الأيام الأخيرة وتباحثنا في تاريخ مالطة وكثير مما يتعلق بشؤونها وهو الذي قدم لنا رسالته هذه باللغة الإيطالية فأحببنا أن ننقل ما جاء فيها من الكتابات العربية التي وجدت على القبور الإسلامية في مالطة والتي جمعها إيطوري روسي وصورها بالفوتوغرافية ونشر صورها في الرسالة المذكورة فنحن آثرنا نقلها كما وجدناها في رسالته إتمامًا للفائدة.

ومما جاء في صدر هذه الرسالة أن نزول العرب في مالطة وقع بحسب الرواية المشهورة في سنة ٢٥٦ للهجرة وأنه من المعلوم أن أبا الأغلب إبراهيم غزا جزيرة صقلية سنة ٢٢١ للهجرة أي ٨٣٥–٨٣٦ للمسيح واستولى عليها فغير معقول أن يكون استولى على صقلية وترك مالطة وهي أقرب إلى إفريقية من صقلية فلابد أن يكون استيلاء المسلمين على مالطة وقع قبل سنة ٢٢٦ للهجرة وفق ٨٦٩–٨٧٠ للمسيح.

أما تاريخ استخلاص مالطة من أيدي المسلمين فيذكرون أنه وقع بين سنة ٩٩٢ للمسيح وسنة ١٠٢٥ وذلك بالغارة البيزنطية، ولكن مما لا شك فيه أن المسلمين بعد أن استرجع المسيحيون مالطة بقوا يسكنون الجزيرة نحوًا من مئتي سنة أي إلى سنة ١٢٢٤ بل إلى سنة ١٢٤٩ بحسب رواية العلامة آماري Amari مؤرخ صقلية.
وهذه هي نصوص الكتابات التي وجدت في المقابر الإسلامية في مالطة ننقلها كما وجدناها في الرسالة المذكورة:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وسلم تسليمًا، لله العزة والبقا وعلى خلقه كتب الفنا ولكم في رسول الله أسوة حسنة، هذا قبر ميمونة بنت حسان بن علي الهذلي عرف ابن السوسي توفيت رحمة الله عليها يوم الخميس السادس عشر من شهر شعبان الكائن من سنة تسع وستين وخمسمائة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

انظر بعينيك هل في الأرض من باقي
أو دافع الموت أو للموت من راق
الموت أخرجني قصرا فيا أسفى
لم ينجني منه أبوابي وإغلاق
وصرت رهنا بما قدمت من عمل
محصا علي وما خلفته باقي
يا من رأي القبر أني قد بليت به
والترب غبر أجفاني وآماقي
في مضجعي ومقامي في البلا عبر
وفي نشوري إذا ما جئت خلاقي

أخي فجد وتب.

بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو اللـه أحدٌ اللـه الصمد لم يلد ولم يولد ولم (…) توفي … يوم الأربعا ودخل قبره يوم الخميس من العشر الأو (…).
الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين أدعو ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المـ (…) محمد وآله وسلم تسليمًا إن ربكم الله.
(…) م ثم استوىٰ على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ.
بأمره ألا له (؟).
(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيـ)ـدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا فاز.
(كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركـ)ـم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد.
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. هاذا قبر الشيخ المرحو(م …).
توفي رحمه الله فى العشر الأول من صفر عام ثمانية وسبعيـ(ـن …).
بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر محمد … توفي يوم الثلاثة في ذي الحجة سنة ثلاث و …
(…) الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون (…).
(…) العلي العظيم لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت (…).
(… لقـ)ـد جاكم رسول من أنفسكم رؤوف فإن تولوا لا إله إلا هو عـ(ـليه …).
(…) من شعبان سنة ستة وأربعين وخمسمائة برحمة الله وبرضوانه وصلى الله على محمد (…).
(… أجـ)ـوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة (…).
(…) إن المتقين في جناتٍ ونهرٍ في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ (…).
كل نفس (…).
سلام على أهل القبور (…).
… عنده إلا بإذنه يعلم ما بين (…).
… لعطى محمد
قف بالقبور …
بسم الله الر(حمن …).
هذا قبر (…).
(… زحـ)ـزح عن النار و(…).
(… ا)لا متاع الغرور.
(… الرحيـ)ـم هذا قبر أمة الله بنت أبو القاسم ابن عرو(ة)
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدٌ.
… الله …
إنما تو(فون أجوركم …).
بسم الله الرحمن (الرحيم)
… (إ)براهيم الصمطى.
بسم الله الرحمن الرحيم
… والحـ …
توفي يوم الخميس الثامن من … سنة …
… وخمسمائة
بسم الله الرحمن الرحيم (…)
… لله الله (…)
بسم الله الر(حمن الرحيم …)
… النار وأدخل الجنة …
عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
لا إله
إلا الله
محمد و
رسول الله
بسم الله الرحمن الرحيم اللـه لا إلـٰه إلا هو الحي القيو(م …).
أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا (…).
(…) الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
(…) شربة ولم يأكلوا من كل رطب ويابس.
(… صلى الله …) محمد وآله وسلم تسليما إن … (…)
(…) … إلا له … (…).
(… أجور)كم يوم القيامة فمن زحرج عن النار و(…).
(… و)لا نومٌ له ما في السماوات وما في الأرض (…).
سلام على أهل القبور الدوارس
كأنهم لم يجلسوا فى المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة
ولم يأكلوا ما بين رطب ويابس
هذا قبر
… عبد
العزيز …
ورحم الله من
دعا له بالرحمة

هوامش

(١) Dr Jacques Roux طبيب وجراح شهىر بلوزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤