الفصل الرابع

المعتزلة

لا أريد تلك الفرقة الإسلامية المعروفة من فرق المتكلمين، وإنما أريد أسرةً مصريةً بائسةً كنتُ أُنسِيتُ أمرَها، حتى كان هذا الوباء الذي ألمَّ بمصر، فذكرتها ذكرًا متصلًا ملحًّا، وحاولت أن أخلص من التفكير فيها فلم أستطع، فأردت أن أتسلَّى عن ذكراها بالتحدُّث عنها، لعل هذا التحدُّث أن يُخرِجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف للعبء، وتفريج للكرب، وشفاء لبعض ما في النفس. والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد مهما يكن أيدًا قويًّا، فكيف إذا لم يكن له حظ من قوة أو أيد!

وأردت أن أهدي حديث هذه الأسرة البائسة إلى المترفين المنعمين في الأرض، لا لأبغض إليهم الترف بل لأزيِّنه في قلوبهم، ولا لأصرفهم عن النعيم بل لأرغِّبهم فيه ترغيبًا وأدفعهم إليه دفعًا، فقد تحدَّث الحكماء منذ الزمن الأول بأن الرجل الحازم خليق ألَّا ينظر إلى الذين يتفوقون عليه، فتملأ قلبَه الحسرةُ ويثقل نفسَه الهمُّ، وأن ينظر إلى من دونه من الناس فيعرف ما أتيح له من حسن الحظ، ويحمد رفق الله به، ورعاية الله له، وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك من أجل ذلك بما قُسم له من الخير، ويستمتع من أجل ذلك بما قُدِّر له من النعيم. وأنا أبعد الناس عن التفكير في أن أزهِّد المترفين في ترفهم وأرغِّب المنعمين عن نعيمهم؛ لأني أعلم من جهة أني لن أبلغ من ذلك شيئًا إن أردته مهما أُنفِق من الجهد، ومهما أبرع في تدبيج القول وتنميق الحديث، ولأني أعلم من جهة أخرى أن ترف المترفين إنما يأتيهم بحكم القضاء المكتوب والقدر المحتوم، وليس من سبيلٍ إلى تغيير القضاء، أو تبديل القدر، أو إلغاء سُنَّة الله في الناس؛ فالله قد خلق الناس على ما نراهم من هذه الفرقة فيما بينهم، يترف بعضهم حتى يطغيه الترف، وينعم حتى يبطره النعيم، ويحرم بعضهم حتى يضيق به الحرمان، ويشقى حتى يمجه الشقاء … ولأني أكره بعد هذا وذاك أن أكون كالثعلب الذي حاول أن يصيب العنب، فلما لم يُتَحْ له ذلك عاب العنب وزعم أنه فجٌّ بغيض!

وقد خطر لي أن أتَّخِذ لهذا الحديث عنوانًا آخَر، هو «أم تمام» لا أريد به زوجَ شاعرنا العظيم، وإنما أريد به زعيمةَ هذه الأسرة المصرية البائسة، فقد كانت تكنى بأكبر أبنائها. وخطر لي أن أهدي حديث هذه الأم وبنيها الثلاثة إلى البائسين المعذَّبِين الذين مسَّهم الضر قبل الوباء، وألَحَّ عليهم بعد الوباء، حين تخطف الموت أبناءهم وآباءهم وأخواتهم وعائليهم، وتركهم نهبًا للشقاء لا يدرون كيف يتَّقُونه، ولا كيف يحتملونه، ولا كيف يخلصون منه، لا لأبغض إليهم حياتهم البائسة وعيشهم النكد، فما ينبغي أن تبغض إلى البائس بؤسه، ولا أن تكره إليه شقاءه، وإنما ينبغي أن تحبِّب إليه البؤس ليتحمله وليزيد منه إن استطاع، وأن تزيِّن في قلبه الشقاء ليصبر عليه ويمعن فيه إنْ وجد إلى الإمعان فيه سبيلًا، فالبؤس قضاء محتوم على البائسين، كما أن النعيم قضاء محتوم على المنعمين، والشقاء قدَر مقدور على الأشقياء، كما أن السعادة قدَر مقدور على السعداء. والرجل الحازم العازم الحكيم خليقٌ أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدَر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشر غير ساخط عليه. ولأمرٍ ما وُصِف الشرقيون بأنهم أصحاب إذعان للقضاء، واستسلام للقدر، ورضا بالمكروه، فَلْنصدِّق على أقل تقدير قولَ الغرب عنَّا وظنه بنا ورأيه فينا؛ ليصطنع المترفون الشجاعة ليحتملوا الترف، وليصطنع البائسون الشجاعة ليحتملوا البؤس، وليصبر أصحاب الثراء على محنتهم بالثراء، وأصحاب الحرمان على فتنتهم بالحرمان، حتى ينتهي أولئك وهؤلاء إلى الموطن الذي لا يكون فيه ثراء ولا حرمان، والذي لا يكون فيه فقر ولا غنى، والذي لا يكون فيه يُسْر ولا عُسْر، والذي تتحقق فيه المساواة بين الناس جميعًا حين يصيرون إلى تراب كما خُلِقوا من تراب.

ومهما يكن من شيء فقد تردَّدْتُ بين هذين العنوانين: المعتزلة، وأم تمام، كما تردَّدْتُ في إهداء هذا الحديث بين المترفين والبائسين، ثم آثَرْتُ آخِر الأمر أن أخَيِّر القارئ بين العنوانين، وأن أهدي الحديث إلى الفريقين؛ ففي حديث هذه الأسرة ما يرضي المنعمين والمعذَّبين جميعًا، وأي مطمع للكاتب أجلُّ شأنًا وأعظم خطرًا من أن يُرضِي قرَّاءه على ما يكون بينهم من اختلاف! وفي حديث هذه الأسرة البائسة ما يسخط المنعمين والمعذَّبين جميعًا، وما قيمة الكاتب إذا لم يسخط قرَّاءه على ما يكون بينهم من الاختلاف! وأنا أريد دائمًا أن أكون كاتبًا ذا خطر، فأرضي قرَّائي وأسخطهم، وأسرُّ قرائي وأسوءهم، وأعجب قرائي حتى يكلفوا بي أشد الكلف، وأغيظهم حتى يمقتوني أعظم المقت، وأنا زعيم للمترفين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة ما يحبِّب إليهم ترفهم، فيعضون عليه بالنواجذ كما يقال، ويرضون عني كل الرضا؛ وبأن أصوِّر لهم هذا الترف منكرًا بشعًا، ومذممًا بغيضًا، فيسخطون عليَّ أشد السخط. وأنا زعيم للمعذَّبين بأن يجدوا في حديث هذه الأسرة البائسة ما يعلِّمهم الصبر على المكروه فيرضون عني، وما يلقى في قلوبهم أن حياتهم لا تطاق، وأن من حقهم أن يخرجوا منها إلى حياة ألين جانبًا وأرق ملمسًا، وأن ليس لهم سبيل إلى هذا الخروج، فيضيقون بي أشد الضيق، وأبلغ بذلك كل ما أريد، وهو أن أرضي القراء وأغيظهم مهما يكن بينهم من التفاوت والاختلاف، فأنا لا أريد إلا هذا، ولا أفكِّر إلا فيه، وما الذي يعنيني من أن يترف المترفون حتى يقتلهم الترف، ومن أن يشقى الأشقياء حتى يهلكهم الشقاء! لا يعنيني من ذلك شيء؛ لأني رجل من أهل العصر الذي أعيش فيه، وأخَصُّ ما يمتاز به هذا العصر الذي أعيش فيه الأثرةُ وحبُّ النفس، فأنا رجل أثر لا أحب إلا نفسي، ولا أفكر إلا فيها، ولا أعنى إلا بها، وأنا رجل كاتب لا يعنيني إلا أن أملك على القرَّاء أمرهم بما أثير في قلوبهم من رضًا وسخط، وبما أشيع في ضمائرهم من حب وبغض، ولست أزدري شيئًا كما أزدري إلقاء الدروس في الأخلاق، ولست أنفر من شيء كما أنفر من ترغيب الأغنياء في العطف على الفقراء، ومن تشجيع الأشقياء على احتمال الشقاء. ما أنا وهذا كله؟ إن الناس من حولي لا يذوقون للتضامن طعمًا، ولا يعرفون للتعاطف قدرًا، لا يحفل بعضهم ببعض، ولا يفكِّر بعضهم في بعض، ولا يأسى بعضهم لآلام بعض، فما لي أحمِّل نفسي من الأعباء ما لا يريد الناس من حولي أن يحتملوا؟ وما لي أدفع نفسي إلى هذا الشذوذ الذي لا خير فيه، ولا خير لأحد فيه؟ وما لي لا أسير سيرة الجيل، ولا أعيش عيشة المعاصرين، ولا أنتفع بقول أبي العلاء:

وَلَمَّا رَأَيْتُ الْجَهْلَ فِي النَّاسِ فَاشِيًا
تَجَاهَلْتُ حَتَّى قِيلَ إِنِّي جَاهِلُ

الأثرة — يا سيدي — هي الأساس المتين الذي يقوم عليه نظامنا الاجتماعي البديع، الذي نفتديه بأنفسنا، ونحميه بما نملك وما لا نملك من جهد، فمَن أراد الدفاع عن هذا النظام وحياطته وصيانته من أن يعبث به العابثون، أو أن تمسه الخطوب بما لا يحب وبما لا نحب، فَلْيكن أَثِرًا إلى أبعد غايات الأَثَرَة، محبًّا لنفسه إلى أقصى آماد حب النفس، لا يحفل بالناس إلا بمقدار ما يهيئون له من الخير، وما يحققونه له من المنفعة، وما يبلِّغونه من الآراب، فإذا بَعُدَ الأمل بينه وبينهم، أو خفيت عليه أسرار الصلات التي تجعله محتاجًا إليهم وتجعلهم محتاجين إليه، فلا عليه من أن ينكرهم إنكارًا ويزدريهم ازدراء، ويمضي في طريقه مستمتعًا بطيبات الحياة، غير ملقٍ بالًا إلى ما يكتنفهم من الهول، وما يصبُّ عليهم من الهم، وما يسلط عليهم من الكوارث والنكبات.

كذلك نعيش وكذلك يجب أن نعيش. وأيسر انحراف عن هذا اللون من ألوان العيش، وعن هذا النظام من نظم الحياة، خليق أن يجشمنا أهوالًا، ويحملنا همومًا ثقالًا. وكيف تستقيم حياتنا إذا عني أصحاب الترف المترف والثراء العريض بأصحاب البؤس البائس والعذاب الأليم، فذادوا عنهم بعض ما يثقلهم من البؤس، ورفعوا عنهم بعض ما يضنيهم من العذاب، وشغلهم ذلك عن الاستمتاع بلذَّاتهم والانتفاع بهذه الثمرات الحلوة المرة السائغة الفجة، التي تأتيهم من بؤس البائسين وعذاب المعذَّبين، وشغَلَهم ذلك عن أن يجمعوا إلى سخف الحديث حين يرتفع الضحى، وإلى سخف المتاع حين يُقبِل المساء، وإلى اللهو واللعب حين يتقدَّم الليل، وإلى النوم الثقيل حين يهم الصباح بالإشراق؟ إذن تفقد الحياة بهجتها، وتفقد الدنيا زينتها، ويصبح العيش المصري كله نكدًا كدرًا منغصًا، لا صفو فيه ولا عفو ولا جمال. حسب الأشقياء أن تعطف عليهم ألسنتنا، وتنأى عنهم قلوبنا، وأن نرثي لهم بالقول ونقسو عليهم بالفعل، ونخلي بينهم وبين أحداث الزمان ونوائب الأيام، تجرِّعهم الآلام غصصًا، وتعلِّمهم كيف يكون استعذاب العذاب المر، وإساغة الشر الذي لا يُسَاغ. وأقول هذا كله جادًّا لا عابثًا، فالله قادر على أن يمس الأرض بجناح من رحمته، فيتيح لأهلها جميعًا ما يتمنَّون من الترف والثراء والنعيم، والله قادر على أن يمس الأرض بجناح من نقمته، فيفرض على أهلها ما يكرهون من البؤس والشقاء والعذاب، وما دام الله لم يجعل الناس جميعًا سعداء، ولم يجعلهم جميعًا أشقياء، وإنما قسَّم حظوظهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، فليس لنا وليس علينا إلا أن نريح أنفسنا، وأن يريح بعضنا بعضًا من اللوم والنكير والتثريب، وأن يرضى كلٌّ منا بما قُسم له من الحظ، وأن يحقِّق السعيد إرادة الله في الأرض فينعم بالسعادة كأقصى ما يستطيع، وأن يحقِّق الشقي إرادة الله فيغرق في الشقاء إلى كتفيه أو إلى أذنيه، أو إلى شعر رأسه إن شاء!

وقد يظن القارئ أني قد أسرفت في البُعْد عن هذه الأسرة المعتزلة، وعن حديث أم تمام، ولكنه يخطئ أشد الخطأ إن ظنَّ بي هذا الإسراف، وهَبْه يصيب كل الصواب حين يظن بي هذا الإسراف، فليس يعنيني من خطئه أو صوابه شيء، وإنما الذي يعنيني هو أني أنا لا أعتقد أني أطلت المقامات أو انحرفت عن موضوع الحديث، فقد قلت إن هذا الوباء الذي ألَمَّ بمصر أذكرني من أمر هذه الأسرة المعتزلة ما كنتُ ناسيًا، ثم ألحَّ عليَّ ذِكْرها إلحاحًا شديدًا. وأكبر الظن أني لم أذكر هذه الأسرة البائسة ذكرًا متصلًا ملحًّا، ليقف منها عقلي وقلبي موقف الناظر لها المحدِّق فيها، دون أن يثير ذلك في العقل بعض الخواطر، ودون أن يثير ذلك في القلب بعض العواطف، ودون أن يشيع ذلك في الضمير بعض الحزن. والكتَّاب البارعون في الفن يؤخِّرون خواطر عقولهم وعواطف قلوبهم وأحزان ضمائرهم إلى آخِر الحديث، يجعلون من هذا كله عِبرةً لمَن يريد أن يعتبر، وموعظةً لمَن يريد أن يتَّعِظ، فيجعلون من أنفسهم أساتذةً في الأخلاق، ومصلحين لنظم الاجتماع، ويرضون عن أنفسهم بعد ذلك كل الرضا، ويجهلون أن القارئ أشدُّ منهم مكرًا وأبلغ منهم دهاء، وأنه يقرأ أول الحديث لما قد يجد فيه من تسلية، أو لما قد يلتمس فيه من تسلية، ويترك آخِر الحديث لأنه يضيق بدروس الوعظ والإرشاد والإصلاح أشد الضيق.

ومن الكتَّاب البارعين مَن يشيعون خواطر عقولهم، وعواطف قلوبهم، وأحزان ضمائرهم في حديثهم كله منذ يبدءونه إلى حيث يفرغون منه، يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعبر، فيخدعون بذلك بعضَ القرَّاء عن أنفسهم، ولكنهم لا يخدعون القرَّاء جميعًا، فلا يكاد الأذكياء منهم يقرءون حتى يستكشفوا مُكْر الكاتب ويعرفوا حيلته، فيقرءون على كره أو يزورُّون عن القرَّاء ازورارًا. فأما أنا فقد قلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أعلِّم جاهلًا، ولا أريد أن أعِظَ غافلًا ولا أن أنبِّه ذاهلًا، فلستُ من هذا كله في شيء؛ لأني واثق بأن القرَّاء جميعًا علماء لا يمكن أن يرقى إليهم الجهل، أذكياء لا يمكن أن تسعى إليهم الغفلة، متنبِّهون لا يمكن أن يعرض لهم الذهول، وقلت وما زلت أقول: إني لا أريد أن أخدع أحدًا عن نفسه؛ لأني لا أسيء الظن بالقراء، ولا أنظر إليهم على أنهم أطفال يجب أن يلهوا عن الدواء بهذه الأغشية التي تجنبهم مرارته وكراهته، فكيف وأنا لا أقدِّم إليهم دواء؛ لأني لست طبيبًا، ولأنهم ليسوا مرضى، ولأني راضٍ عن حياتنا التي نحياها كل الرضا، مطمئن إليها كل الاطمئنان، معجَب بها أعظم الإعجاب، لا أريد أن أغيِّر منها قليلًا ولا كثيرًا، ولا أحب أن يتغيَّر منها قليل أو كثير. وأول هذا الحديث يدل فيما أظن دلالةً واضحةً على أني من المحافظين المتشددين في المحافظة، ومن أصحاب اليمين الذين لا يضيقون بأحد كما يضيقون بأصحاب الشمال.

ومن أجل هذا كله اخترت أن أتحدث إلى القرَّاء في هذا المقال عن أم تمام وأسرتها المعتزلة؛ لأن أم تمام كانت تصوِّر المحافظة الميامنة أبرع تصوير وأصدقه وأقواه؛ فهي كانت من أهل الصعيد الأعلى، وأهل الصعيد محافظون كما يعمل القراء، لم يفسدهم العلم، ولم تنحرف بهم المعرفة عن الطريق القصد، ولم تعلِّمهم الحضارة وما كثر فيها من البدع أن في الأرض جورًا يجب أن يرتفع عنها، وأن في السماء عدلًا يحب أن يهبط إلى الأرض ليملأها أمنًا ودعة ورضًا، وإنما هم قوم يعيشون على فطرتهم، ويرسلون نفوسهم على سجاياها. رأَوا الأرض ملعبًا لقليل من ملائكة العدل وكثير من شياطين الجور، فأحبوا أولئك وألفوا هؤلاء، ولم يطلبوا من أولئك ولا هؤلاء إلى أن يمضوا فيما استأنفوا من لعب، فإنْ مسَّهم من هذا اللعب خير نعموا به، وإنْ مسَّهم منه شرٌّ شقوا به، غير منكرين ولا معترضين ولا محاولين تغييرًا ولا تبديلًا، ويقال إن الكاتب يختار أشخاصه على صورته، وقد يقتطعهم من نفسه اقتطاعًا، ولولا أن أم تمام كانت غارقة في البؤس والشقاء، ومسرفة في الدمامة والقبح، لقلتُ إني اقتطعتها من نفسي اقتطاعًا، ولكني لست غارقًا في البؤس والشقاء، والحمد لله على كل حال. وسيرى القارئ أن صورة أم تمام ليست مني في شيء، فيدله ذلك من غير شك على أني لم أخترعها ولم أبتدعها، وعلى أن خيالي الضعيف الكليل ليس له في حياتها ولا في حياة أسرتها أثر ما، وإنما هي حقيقة واقعة خلقها الله الذي يخلق الحقائق كلها، والذي يقسم بين الناس حظوظهم من الجمال والقبح، كما يقسم بينهم حظوظهم من السعادة والشقاء.

وقد كانت أم تمام هذه غريبةَ الأطوار من كلِّ جوانبها، حتى إني لا أستطيع أن أختار الطور الذي أبدأ به من أطورها. وربما كان الخير أن أعرض عليك صورةً ضئيلةً حقيرةً للبيت الضئيل الحقير الذي كانت تعيش مع أبنائها فيه.

فقد كان هذا البيت أشبه شيء بالبقعة القذرة التي تفسد جمال الثوب الجميل النقي، كان ضيقًا في الفضاء أشد الضيق، منخفضًا إلى الأرض أشد الانخفاض، قد أُقِيم من هذا الطين الساذج الذي يخلطه الفلاحون بشيء من التبن والقش ويسوونه تسوية مقاربة، ويسمونه في مصر الوسطى «بالطوف»، ثم يجمعون بعض هذه الأطواف إلى بعض حول قطعة من الأرض، يرفعونها في الجو شيئًا، ويمدُّونها في الفضاء شيئًا، ويلقون عليها طائفةً من سعف النخيل أو من قصب الذرة، ويتخذون لها بابًا من خشب رقيق، فتصبح بيتًا يأوون إليه ويتقون فيه برد الشتاء وحر الصيف ومطر السماء، إنْ كان من الممكن لمثل هذا البناء المهلهل أن يقي الذين يأوون إليه بردًا أو حرًّا أو مطرًا. وكان بيت أم تمام هذا الصغير الحقير يقوم بين دارين ضخمتين فخمتين، أو قُلْ بين فنائين واسعين لهاتين الدارين، وفي كل فناء من هذين الفناءين قامت أشجار وشجيرات، بحيث هَمَّ كل فناء منهما أن يكون حديثة تقوم أمام الدار، ولكنه لم يبلغ أن يكون حديقة، فكان شيئًا بين الفناء المهمل والحديقة التي يمنحها الناس شيئًا من عناية، ويجدون فيها شيئًا من راحة وروح. ولم أدرِ كيف قام هذا البيت الحقير الصغير بين هاتين الدارين العظيمتين، وقد سألتُ الناسَ من حولي عن هذا، كما سألتهم عن مقدم أم تمام وبنيها إلى القرية وإقامتها في هذا البيت، فلم أجد عند أحد منهم جوابًا؛ لأنهم كانوا جميعًا طارئين على القرية، دعتهم إليها الدائرة السنية، ولأن القرية نفسها كانت طائرة على المكان، أنشأتها فيه الدائرة السنية، فلم يكونوا يعرفون من أمر جيرانهم ولا من أمر قريتهم إلا قليلًا أو أقل من القليل. وكانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئًا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالًا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يئن بعدُ، فقد ينبغي أن تعرف قبل ذلك أم تمام هذه، أو أن ترى صورتها على أقل تقدير، فصورتها خليقة أن تُرسَم؛ كانت أم تمام قصيرةً مسرفةً في القصر، منحنيةً مسرفةً في الانحناء، همَّتْ قامتها أن ترتفع في الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقت لتلتصق بالأرض التصاقًا؛ وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذي القامة المعتدلة والقد المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خيلت إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة، وكان مشيها بطيئًا رفيقًا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخف عنها قوة الدفع، فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلًا ضئيلًا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل يستحيل إذا تكلَّمَتْ إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميز حروفه إلا في مشقة وجهد. وكان يعيش معها في بيتها ذاك الصغير الحقير غلامَانِ، كاد أحدهما أن يبلغ العشرين، وهو تمَّام، وجاوز الآخَر الخامسة عشرة قليلًا، وهو أبو العلاء. وكان تمام وأخوه يعملان في البناء، يحاول تمام أن يكون بنَّاءً، ويحمل أخوه الطين والماء وغيرها من الأدوات التي تتصل بعمل البنَّائين، ويصيب الغلامان من هذا العمل الذي يتصل أحيانًا وينقطع أحيانًا أخرى، ما يتيح لأسرتهما قوتًا يقيم الأود ولا يكاد.

وكانت لأم تمام بنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، وهي سعدى التي كان الجمال والدمامة يختصمان على وجهها وجسمها كله اختصامًا شديدًا؛ يريد الجمال أن يستخلصها لنفسه مستعينًا بقوة الصبا والشباب، ويريد القُبْح أن يؤثر بها نفسه مستعينًا بالبؤس وما يستتبعه من الحرمان، وكانت الصبيَّة بين هذين الخصمين أشبه شيء بالكرة يتقاذفها اللاعبان. ولم يعرف أحد لهذه الأسرة زعيمًا، بل لم يعرف أحد كيف هبطت الأسرة من أعلى الصعيد إلى هذه القرية من قرى مصر الوسطى، وإنما كان الناس يتحدثون بأن أم تمام قد نهضت وحيدة أو كالوحيدة تنشئ بنيها الثلاثة، وقد لقيت في ذلك جهدًا جهيدًا وعناء شديدًا، لم تهبط بهم من صعيدها الأعلى إلى قريتنا تلك إلا متنقِّلَةً بين المدن والقرى، تقيم في هذه المدينة سنةً أو أقل أو أكثر، وتقيم في هذه القرية أشهرًا، وفي هذه القرية أسابيع، وفي هذه القرية أيامًا قليلة أو كثيرة، حتى انتهت إلى قريتنا تلك، فأقامت فيها وأطالت المقام.

ولم يكن اسم أم تمام أقل غرابة من كُنْيتها، بل لم يكن أقل من جسمها، فأنت إن أردت أن تنطق به كما كان الناس ينطقون به في القرية قلتَ «ست أبوها»، وإن أردتَ أن تنطق به على أصول اللغة الفصحى، قلتَ «سيدة أبيها» أو «ست أبيها»، كما كان الناس ينطقون في بعض عصورنا القديمة. وكان هذا الاسم يقع من آذاننا موقعًا غريبًا، وكنَّا ننطق به على أنه لَيُّ كلمة واحدة لا كلمتان، وكنَّا نسأل أنفسنا عن معنى هذا اللفظ الغريب.

ولم تحاول أم تمام قطُّ، ولم يحاول أحدٌ من بنيها قطُّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة الملجئة تضطرهم إلى ذلك اضطرارًا؛ فقد كانوا يحتاجون إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أودهم، وكانت أم تمام تحتاج أحيانًا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها في بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تتلقط من هذه الطريق روث البقر والجاموس، تقطعه قطعًا متقاربة، وتجففه على سقف بيتها، وتتخذ منه وقودًا لتطبخ إن أتيح لها أن تطبخ، وتبيع فضله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القرش، توسع بذلك على نفسها وعلى بنيها، ولم يخطر فيما أعلم لأحد من الموسرين، ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يبروا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم في أكثر الظن قد همُّوا أن يبروا هؤلاء الناس، فردُّوا برَّهُم عليهم في شيء من التعفف الذي لا يُحَبُّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم في الرزق.

وأمثال أم تمام في القرى يوسعن على أنفسهن وعلى أبنائهن وأزواجهن أحيانًا بالعمل في دور الموسرين والأغنياء، يكسبن من هذا العمل قوت أنفسهن، وفضلًا من خير يحملنه إلى البيوت، فيأكل الجائع ويكتسي العريان ويذوق المحروم شيئًا من طيبات الحياة، ولكن أم تمام لم تحاول شيئًا من ذلك ولم تفكِّر فيه، وكأنها قد حرَّجت على ابنَيْها أن يحاولا بعض ما يحاول الشباب الفقراء من الاتصال بشباب الأغنياء وأصحاب السعة، فلم يكن الغلامَان يشاركان في لعب ولا في جد. وربما رآهما الراءون وقد جلس كلٌّ منهما إلى أخيه يخططان في الأرض أو يلعبان لعبة «الطاب»، وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة غريبة ثقيلة سمجة، ليست منهم وليسوا منها في كل شيء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس في إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو — إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيًا — فيشتمل على شيء من شماتة. كانوا يرون هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة في بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل، وكانوا يرون هذين الغلامين وقد بليت ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُستَر، ورقعت حتى ملَّتِ الترقيع، وكانوا يرون الصَّبِيَّة سعدى في أسمالها البالية، فيرحمون هذا الصبا النضر في هذا الغشاء المبتذل. ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناس عيشًا أرق رقةً وألين لينًا.

أما أم تمام فلم يرها أحدٌ قطُّ إلا ملتفة في شقتها السوداء تتدحرج على الأرض حين تشرق الشمس ساعية إلى الطريق العامة، وتتدحرج على الأرض حين يترفع الضحى أو ينتصف النهار، حاملة ما جمعت من روث، وربما رآها الراءون متبذلة على سقف بيتها تقطع الروث وتسويه، فرأَوا منظرًا بشعًا وشكلًا مخيفًا.

ويقبل الوباء ولما يبلغ هذا القرن من عمره سنتين، ويلمُّ الوباء بالقرية فيما يلمُّ به من المدن والقرى، ويفجع الناس في أنفسهم وأبنائهم وذوي قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام في طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنَيْها في أقل من خمسة أيام، وهي مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هي مقيمة في بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يلم الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذا طال انتظار أم تمام له في غير طائل، نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيَّرَتْ من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَتْ تبديلًا، فهي لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصَّبِيَّة وتحرِّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هي مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفين إلى البيوت.

كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة في شقتها السوداء، مطرقة بجسمها كلها إلى الأرض، فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب، وترفع رأسها في تكلُّف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها، ثم تلتفت إلى يمين وإلى شمال تجذب الهواء بأنفها جذبًا، كأنما تحاول أن تتنسَّم رائحة خفية ضئيلة، وقد كانت بالفعل تتنسَّم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شمال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا في دار من هذه الدور التي ألمَّ بها الموت وقام فيها المأتم يندبن ويبكين، وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئًا ولا تلقي إلى أحد سمعًا، وإنما تقصد المأتم الباكيات، وتجلس حين ينتهي بها المجلس، لا ترفع صوتًا بإعوال، ولا تخفض صوتًا بنحيب، لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من هؤلاء النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها، كأنها قطعة من صخر قد سُويت على عجل ونُحِتت في غير نظام، وفاض من عينيها دمع غزيز غير منقطع، كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التي يتفجر عنها الصخر في الجبال، حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء في هذه الدار تركتها إلى دار أخرى، ثم إلى دار ثالثة، وما تزال كذلك حتى ينقضي النهار، لا تكلم أحدًا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين كانوا يكلمونها رجع الحديث.

أكانت تبكي ابنيها؟ أم كانت تبكي أبناء تلك الأسرة التي كانت تلمُّ بها؟ أم كانت تبكي صرعى الوباء جميعًا؟ أم كانت تبكي نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد قطُّ أن يعرف من ذلك قليلًا ولا كثيرًا، لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هي أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يسفر الصبح، وتسفح دموعها في منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وابنتها حين يقبل الليل. وتنجلي غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أيامًا وأيامًا، فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت، فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت.

ويراها بعض أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضحى، وأخذت بيد ابنتها، وجعلتا تسعيان في بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: هذه أم تمام قد ملت البطالة، وسئمت السكون وشقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله. ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتي نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتنع على الموت امتناعًا، قد رأوا أم تمام تغرق نفسها وابنتها في القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة، وسبقوه هم إلى الصبية، وقد دفن أهل الخير أم تمام، وآووا سعدى في هذه الدار أيامًا وفي تلك الدار أيامًا، ولكن سعدى خرجت من الماء بلهاء ليس لها حظ من عقل ولا نصيب من صواب، فهي ثقيلة على الذين يُئوُونها، بغيضة إلى الذين يضيِّفونها، وما هي إلا أسابيع حتى تلفظها الدور والبيوت، وإذا هي مشردة تسعى ما استطاعت السعي، وتسكن حين تضطر إلى السكون، تراها في هذا الشارع من شوارع القرية مصبحة، وفي هذا الزقاق من أزقتها ممسية، وتراها بين ذلك في الطريق العامة تسعى سعيًا رفيقًا كأنها السلحفاة، أو تعدو عدوًا سريعًا كأنها الأرنب. وقد تراها أحيانًا جالسة على شاطئ القناة تنظر إلى الماء كأنها تريد أن تغوص فيه، أو تنظر إلى السماء كأنها تريد أن ترقى إليها. وعرف الناس سعدى البلهاء، ونسي الناس أم تمام، وجعل الناس ينظرون إلى سعدى البلهاء كما ينظر أهل الريف إلى أمثالها؛ يعطفون عليها حينًا ويضحكون منها أحيانًا، يرثون لها مرة ويقسون عليها مرات.

وسعدى البلهاء على ذلك تعيش وتشب، ويستدير جسمها، ويستقيم قدها، ويسخر البؤس منها فيلقي على وجهها مسحة من جمال، وهي على ذلك حمقاء خرقاء لا تحسن أن تعمل، ولا تحسن أن تقول، ولا تستقر في مكان، وإنما هي متنقلة بين القرى، تُرَى في هذه القرية يومًا وفي تلك القرية يومًا آخر، وقد تُرَى في هذه القرية مصبحة، وفي القرية المجاورة من قرب أو من بعد ممسية، ولكن أهل القرية يرونها ذات يوم فيرون منظرًا عجبًا من شأنه أن يمزِّق القلوب حزنًا ويفرق النفوس حسرة وأذى، يرون هذا المنظر المؤذي البشع البغيض، فلا يثير في نفوسهم رحمةً ولا يجري ألسنتهم بكلمة رثاء، وإنما ينظرون ثم يتضاحكون ثم يتبادلون هذه الألفاظ الغليظة التي تصوِّر سخرية أهل الريف؛ لأنهم يرون سعدى البلهاء تسعى وبطنها يسعى بين يديها، قد عبث بها غول من أغوال الطريق فوضع في أحشائها جنينًا، وهي بلهاء لا تفرِّق بين الغول والرجل، ولا بين الملك والشيطان، ولا تعرف ما يراد بها، ولا تعرف ما تريد إنْ كان لمثلها أن تريد.

أين مضت سعدى بهذا الجنين الذي كانت تحمله في أحشائها؟ أأتيح لهذا الجنين أن يرى النور أم لم يُتَحْ له أن يراه؟ ما خطبه وما خطب أمه؟ لن أحدثك من أمرهما بشيء لأني لم أعرف من أمرهما شيئًا، وإنما حدثتك بما وقف عنده علمي، فقد ارتحلت عن القرية قبل أن تبلغني أنباء الجنين وأمه البلهاء، ثم شُغِلت عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأنسيت أم تمام وابنيها، وتقلَّبْتُ فيما شاء الله أن أتقلب فيه من شئون الحياة خمسة وأربعين عامًا. ثم أعود إلى مصر بعد غيبة عنها قصيرة أو طويلة، فأجد فيها الوباء، وما هي إلا أن أذكر أم تمام وابنتها سعدى البلهاء، وما هي إلا أن أسأل نفسي أيمكن أن يجد الوباء الحديث ما وجد الوباء القديم من حال أم تمام وأشباه أم تمام؟

يقال إن شئون مصر قد تغيَّرَتْ، وإن حياة مصر قد صلحت فيما يقرب من نصف قرن، ولكن شئون مصر التي تغيَّرَتْ، وحياة مصر التي صلحت، لم تمنع الوباء من أن يجدِّد عهده بزيارة مصر، فمَن يدري! لعل تغيُّر الشئون وصلاح الأحوال ورقي النظام الاجتماعي والسياسي، لا يمنع من أن توجد في قرية من قرى مصر العليا أو من قرى مصر السفلى، أو قريبًا جدًّا من القاهرة، أسرة معتزلة كأسرة تمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤