الفصل الرابع

المشهد الرابع

نهاية حقبة: القرن الثاني عشر قبل الميلاد

هذه هي اللحظة التي كنا بانتظارها؛ لحظة ذروة أحداث المسرحية والبداية الدرامية لنهاية ثلاثمائة عام وأكثر من الاقتصاد المُعَولَم الذي كان السمة المُميِّزة لحقبة العصر البرونزي المتأخر في منطقتَي إيجه وشرق المتوسط. يتَّسم القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كما سنرى في هذا المشهد الأخير، بحكايات الويلات والدمار أكثر من قصص التجارة والعلاقات الدولية، ومع ذلك يُمكننا أن نبدأ بداية إيجابية فيما يتعلَّق بثانيتهما.

(١) اكتشاف أوغاريت والمينا البيضا

يُقال إن الحظ حليف أصحاب الرُّوح المتأهِّبة، ولكنه في بعض الحالات يُحالف حتى أصحاب الروح غير المتأهِّبة؛ فقد كان اكتشافٌ بالمصادفة من قِبَل مُزارِع، كان على الأرجح غير دارس لطرق علم الآثار، هو ما قاد إلى اكتشاف مدينة ومملكة أوغاريت، الواقعة على ساحل شمال سوريا. في عام ١٩٢٩، جلب الاكتشاف المُبَلَّغ عنه لمقبرة عند خليج المينا البيضا علماء الآثار الفرنسيين إلى المنطقة. سرعان ما كشفت أعمال التنقيب عن أطلال ميناء، يُشار إليه حاليًّا باسم المينا البيضا. بعد ذلك بوقت وجيز، على بعد ثمانمائة متر إلى الداخل، في نطاق تلة حديثة تُدعى رأس شمرا، اكْتُشِفَت العاصمة أوغاريت.1
ومنذ ذلك الحين، تُجرى أعمال التنقيب الفرنسية في كل من أوغاريت والمينا البيضا على نحو شبه مُستمر، أولًا على يد كلود شايفر، من عام ١٩٢٩ وما بعده، ومؤخرًا، على يد مارجريت يون، من ١٩٧٨ إلى ١٩٩٨. منذ عام ١٩٩٩، يُجري فريق سوري فرنسي مشترك عمليات التنقيب.2 كشفت هذه التنقيبات، جميعها، عن بقايا ميناء ومدينة تجارية فاعلة، ونشطة، ومزدهرة، دُمِّرَت فجأة وأصبحت مهجورة بعد وقت وجيز من بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد. عُثِر، بين الأطلال، على مُنتَجات من سائر أنحاء منطقتي شرق المتوسط وإيجه؛ فعلى سبيل المثال، ما زال مخزَن بضائع في المينا البيضا يضمُّ ثمانين جرة تخزين كنعانية. لسوء الحظ، عُثِر على هذه الأشياء في ثلاثينيات القرن الماضي؛ لذا لم تُجرَ تحليلات علمية دقيقة على المحتويات.3

انتُشِل من داخل المنازل الخاصة والقصر الملكي في أوغاريت عددٌ من السجلات الهامة منذ خمسينيات القرن الماضي، التي توثق الأنشطة الاقتصادية للعديد من التجار، بالإضافة إلى العائلة المالكة الأوغاريتية. كُتِبَت الرسائل والعناصر الأخرى الموجودة في هذه السجلات على ألواح طينية، كما كان معتادًا في العصر البرونزي، ولكن في هذه الحالة عُثِر على الألواح منقوشة بلغات مختلفة؛ أحيانًا بالأكادية، وأحيانًا بالحيثية، وأحيانًا بالمصرية، وأحيانًا بلغات أخرى كانت مستخدمة على نطاق أضيق، مثل اللغة الحورية.

إضافة إلى ذلك، كان ثمة لغة أخرى لم يكن الباحثون قد رأوها من قبل. فك العلماء شفرتها بسرعة كبيرة نسبيًّا ويُطلَق عليها حاليًّا اسم اللغة الأوغاريتية. استخدمت هذه اللغة واحدة من أقدم الحروف الأبجدية التي كانت معروفة؛ عدا أنه كان يوجد في الواقع نوعان من الحروف الأبجدية في النصوص، أحدهما يحتوي على اثنين وعشرين رمزًا مثل الأبجدية الفينيقية والآخر على ثمانية رموز إضافية.4
هذه النصوص الأوغاريتية، التي يُوجد منها حاليًّا مجموعة واسعة للغاية لدرجة أنه تولَّد عنها مجال دراسات أكاديمية حديثة على نطاق ضيق يُعرف باسم الدراسات الأوغاريتية، التي لا تشتمل على سجلات ومراسلات التجار والملوك فحسب، بل أيضًا على نماذج للأدب، والميثولوجيا، والتاريخ، والدين، وعناصر أخرى تَنتمي إلى حضارة مزدهرة على وعي بإرثها الخاص. النتيجة هي أن بوسعنا إعادة إنشاء مدينة أوغاريت من أنقاضها وبوسعنا أيضًا، من نصوصها، أن نُعيد تشكيل الحياة اليومية ونظم المعتقدات لسكانها. على سبيل المثال، من الواضح أنهم كانوا يعبدون مجموعة من الآلهة، احتلَّ إيل وبعل مكانة بارزة وسطها. ونعرف أسماء ملوكهم، من أميستامرو الأول ونيقمادو الثاني، الموجودة رسائلهما إلى أمنحتب الثالث وإخناتون في أرشيف العمارنة في مصر، إلى آخر ملوكهم، أمورابي، الذي حكم في العقد الأول من القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وكذلك نعرف أن ملوك أوغاريت تزوجوا أميرات من دولة عمورو المجاورة، وربما أيضًا من مملكة الحيثيين الأكبر حجمًا، في زيجات بين العائلات المالكة بمهور كانت، بكل معنى الكلمة، تليق بملك، رغم أن واحدة على الأقل من هذه الزيجات انتهَت بطلاق مرير استمرَّ أمر مناقشته في أروقة الجهات ذات الصلة لسنوات.5

(٢) الصلات الاقتصادية والتجارية لأوغاريت وتجارها

مارس مواطنو وملوك أوغاريت علاقات تجارية نشطة طوال عمر المدينة. ومن الواضح أنها كانت مركزًا تجاريًّا دوليًّا، حيث كانت سفن من أمم كثيرة تصل إلى مرفأ المينا البيضا. وربما كانت تدين بالولاء لمصر أثناء النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولكنها كانت بالتأكيد تابعة للحيثيين ابتداءً من النصف الثاني من ذلك القرن وما بعده، بعد أن أخضع سابيليوليوما المنطقة، في حوالي ١٣٥٠–١٣٤٠ق.م. تُوثِّق النصوص التي كانت في الموقع، التي نجدها في السجلات المتنوعة، والتي يرجع تاريخ معظمها إلى نصف القرن الأخير من عمر المدينة، الصلات بين أوغاريت وأنظمة حاكمة عديدة أخرى كبيرة وكذلك صغيرة، من بينها مصر، وقبرص، وآشور، والحيثيون، وكركميش، وصور، وبيروت، وعمورو، وماري. ومؤخرًا أُضيفت منطقة إيجه إلى هذه القائمة أيضًا.6
أيضًا تَذكُر الألواح على وجه التحديد تصدير بضائع قابلة للتلف من أوغاريت، تشمل الصوف المصبوغ، والملبوسات المصنوعة من الكتان، والزيت، والرصاص، والنحاس، وأغراضًا من البرونز، خاصةً إلى الآشوريِّين، الموجودين بعيدًا جهة الشرق في بلاد الرافدين، بالإضافة إلى صلات تجارية واسعة النطاق مع بيروت، وصور، وصيدا على الساحل الفينيقي.7 عُثِر على أغراض مستورَدة من منطقة إيجه، ومصر، وقبرص، وبلاد الرافدين في أوغاريت نفسها، بما في ذلك سفن ميسينية، وسيف برونزي منقوش عليه اسم الفرعون المصري مرنبتاح، ومئات الأجزاء من جِرارٍ مصنوعة من المرمر، ومُقتَنَيات ثمينة أخرى.8 وصلت هذه الأغراض، وبضائع أخرى أكثر بساطة، مثل الخمور، وزيت الزيتون، والقمح، إلى أوغاريت عبر جهود تجار مثل سينارانو، الذي التقينا به سابقًا في هذا الكتاب، الذي ذهبَت سفينتُه إلى كريت وعادت أثناء مُنتصَف القرن الرابع عشر قبل الميلاد. نعرف أن الأوغاريتيِّين كانوا ميسورين ماديًّا بما يَكفي لأن يرسلوا إلى الحيثيين جزيةً كل عام، تتألَّف من خمسمائة شيكل من الذهب، وصوف مصبوغ، وملبوسات، بالإضافة إلى كئوس من الذهب والفضة للملك والملكة الحيثيين، والمسئولين الرفيعي المستوى التابعين لهم.9
نعرف حاليًّا بشأن تجار أوغاريتيين كانوا نَشِطين لاحقًا؛ وقت دمار أوغاريت في بداية القرن الثاني عشر ق.م؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى ألواح إضافية، عُثِر على الكثير منها في العقود الأخيرة داخل منازلهم، والتي غيَّر بعضُها من فهمنا للنهاية المحتمَلة للمدينة.10 يُعرَف أحد تلك المنازل باسم «منزل يابنينو»، ويقع بالقرب من الجزء الجنوبي من القصر الملكي. ما يزال المنزل نفسه لم يُنَقَّب فيه تنقيبًا كاملًا، ولكن معروف بالفعل أنه كان يُغطِّي على الأقل مساحة لا تقلُّ عن ألف متر مربع؛ لذا لا بد وأن يابنينو كان تاجرًا ناجحًا إلى حدٍّ معقول. يُعتقَد أن الستين لوحًا أو أكثر التي اكتُشِفَت في أطلال هذا المنزل كانت محفوظة في الطابق الثاني، وتضمُّ وثائق مكتوبة باللغتَين الأكَّادية، والأوغاريتية، واللغة المينوية القبرصية التي لم تُفَك شفرة رموزها بعد، والتي كانت تُستخَدم بصورة رئيسية في جزيرة قبرص ولكنها وُجِدَت أيضًا منقوشة على سفن في تيرنز في البر الرئيسي لليونان. تُوثِّق النصوص المكتوبة على الألواح، بالإضافة إلى الأغراض المستورَدة التي عُثِر عليها داخل المنزل، أن أنشطة يابنينو التجارية تضمَّنت صلات مع قبرص، وساحل الشام جنوبًا، ومصر، ومنطقة إيجه.11
عُثِر على مجموعة أخرى من الألواح داخل المنزل الذي يُطلَق عليه اسم «منزل رابانو»، والذي جرت أعمال تنقيب فيه بين عامي ١٩٥٦ و١٩٥٨. سرعان ما أُجريت الدراسات على الألواح، التي بلغ عددها أكثر من مائتين، ثم نُشِرَت بعد عقد، في عام ١٩٦٨. تُشير الألواح إلى أن رابانو كان ناسخًا ومستشارًا رفيع المستوى لملك أوغاريت، على الأرجح أميستامرو الثاني (حوالي ١٢٦٠–١٢٣٥ق.م). كان رابانو على ما يبدو مشاركًا في بعض المفاوضات الحساسة على أعلى المستويات، كما تُشير محتويات الأرشيف. تتضمن النصوص عددًا من الرسائل المتبادلة بين ملك أوغاريت وملك قبرص (ألشية)، مكتوبة في الفترة الزمنية التي شكَّلت فيها شعوب البحر تهديدًا لكليهما. يوجد أيضًا رسائل متبادلة مع ملك كركميش المُجاوِرة ومع فرعون مصر الأكثر بُعدًا؛ والمجموعة الأخيرة تُعنى بواقعة ما تتعلَّق بالكنعانيين على ساحل الشام.12
إحدى الرسائل تتناول المتاجرة في الزيت بين أوغاريت وقبرص. مُرْسِل هذه الرسالة هو نيقمادو الثالث، ملك أوغاريت قبل الأخير، وأُرْسِلَت إلى ملك ألشية، الذي يدعوه نيقمادو «والدًا» له، مشيرًا إلى نفسه بعبارة «ابنك».13 إذا لم يكن الملك الأوغاريتي قد تزوَّج أميرة قبرصية، وهو الأمر الذي ليس مُستبعَدًا، فيبدو أن استخدام كلمة «والد» يتبع الاصطلاح العام لذلك الوقت في محاولة لإنشاء علاقة أُسرية، بينما يُقرُّ في الوقت نفسه إما بعلوِّ مكانة ملك قبرص عن ملك أوغاريت، وإما بأنه أكبر منه نسبيًّا في العمر. ورَد بالفعل ذكر رسالة أخرى من الرسائل المكتشَفة في هذا المنزل؛ وهي الرسالة التي تصف مجيء سفن العدو إلى أوغاريت، والتي ظنَّ شايفر أنه عُثِر عليها في قَمِين، حيث كان اللوح الطيني المكتوب عليه يُقَسَّى بالحرارة قبل إرساله إلى ملك قبرص. وسنُناقش هذا النص بمزيد من التفصيل أدناه.
بعض أحدث الألواح اكتشافًا هي تلك التي كانت موجودة في منزل يُدعى «منزل أورتينو». اكتُشِف هذا المسكن في البداية بالصدفة في الجزء الجنوبي من الموقع أثناء بناء دُشمة عسكرية حديثة في عام ١٩٧٣. سُمِح للأثريِّين بالحفر في كومة المخلَّفات الناتجة عن حفر الدُّشمة، والذي أدى بالمصادفة إلى تدمير مركز المنزل، وعثروا على عدد من الألواح، التي نُشِرَت محتوياتها كلها حاليًّا. جاءت الألواح الأحدث من عمليات التنقيب المُتَأنية التي أُجريت ما بين عامي ١٩٨٦ و١٩٩٢، والتي نُشِرَت محتوياتها هي الأخرى، ومن عمليات التنقيب التي أُجريت ما بين عامي ١٩٩٤ و٢٠٠٢، والتي يجري دراستها حاليًّا. إجمالًا، يوجد أكثر من ٥٠٠ لوح في هذا الأرشيف — عُثِر على ١٣٤ منها في عام ١٩٩٤ وحده — تتضمن بعض النصوص المكتوبة باللغة الأوغاريتية ولكن أغلبها مكتوب باللغة الأكادية. تشتمل المراسلات على رسائل من ملوك مصر، وقبرص، وخاتي، وآشور، وكركميش، وصيدا، وبيروت، وربما صور.14 أُرْسِل أحد أقدم هذه النصوص من ملك من ملوك آشور، ربما كان توكولتي نينورتا الأول، إلى ملك من ملوك أوغاريت، ربما كان أميستامرو الثاني أو إيبيرانا، وتتعلق بالمعركة التي هزم فيها توكولتي نينورتا والآشوريون توداليا الرابع والحيثيين.15
حسبما أوضح أحد المنقِّبين، تُشير الألواح إلى أن أورتينو كان نشطًا في بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأنه كان يتمتَّع بمكانة اجتماعية عالية. وكان على ما يبدو وكيلًا في شركة تجارية ضخمة يُديرها زوج ابنة الملكة، وكان لهذه الشركة معاملات تجارية مع مدينة إمار في الداخل السوري، وكذلك معاملات مع كركميش المُجاوِرة. وكان أيضًا منخرطًا في مفاوَضات واتفاقات تجارية مع جزيرة قبرص، إلى جانب مشاريع تجارية مع جهات بعيدة أخرى.16 في الواقع، تتَّسم الرسائل الخمس، التي عُثِر عليها في المنزل والتي كانت مرسلة من قبرص، بأهمية فائقة؛ لأنها تتضمَّن، لأول مرة على الإطلاق، اسم ملك من ملوك قبرص في العصر البرونزي؛ وهو رجل يُعْرَف باسم كوشميشوشا. توجد رسالتان من هذا الملك، بالإضافة إلى رسالتَين من حكَّام كبار للجزيرة، ومن المثير للاهتمام أنه توجد رسالة من ناسخ أوغاريتي كان يعيش بالفعل في قبرص في ذلك الوقت. تنضم هذه الرسائل الخمس الآن إلى الأربع رسائل الأخرى المرسلة من ألشية التي كانت قد اكتُشِفَت في وقتٍ سابق في منزل رابانو.17
توجد رسالتان إضافيتان في المنزل تحتويان على إشارات إلى اثنين من «رجال خياوا»، ذُكِر أنهما كان ينتظران، في أرض اللُّكَا (التي عُرِفَت بعد ذلك باسم لِيكية) في جنوب غرب الأناضول، وصول سفينة من أوغاريت. أُرْسِلَت الرسالتان إلى أمورابي، آخر ملوك أوغاريت، من ملك حيثي، ربما يكون سابيليوليوما الثاني، وأحد مسئوليه. هذه هي أول إشارات معروفة لشعب إيجه في السجلات الأوغاريتية؛ لأن «خياوا» ترتبط بلا شك بالكلمة الحيثية «أخياوا»، والتي يَعتبِر معظم الباحثين، كما رأينا سابقًا، أنها تعني الميسينيين ومنطقة إيجه في العصر البرونزي.18
fig11
شكل ٤-١: رسائل ملَكيَّة في أرشيف أورتينو في أوغاريت (الشكل توضيحي وليس شاملًا؛ نقاط التفرُّع تُمثِّل أفرادًا أرسلوا أو تلقَّوا رسالة (رسائل)؛ ورءوس الأسهم/الخطوط تمثل ثنائيات أُرسلَت بينهما الرسالة (الرسائل)؛ وأحجام الدوائر تُمثِّل أعداد الرسائل؛ من إنشاء دي إتش كلاين).
يوجد أيضًا رسالة من مرنبتاح، فرعون مصر، ردًّا على طلب من ملك أوغاريت — إما نيقمادو الثالث وإما أمورابي — لإرسال نحات، حتى يُمكن صنع تمثال للفرعون ونصبه في المدينة، وتحديدًا أمام معبد لبعل. في نفس الوقت الذي يرفض فيه الفرعون الطلب في الرسالة، يورد قائمة طويلة بالأغراض الكمالية التي كانت تُرسَل من مصر إلى أوغاريت. حسبما قال، كانت الأغراض تُحَمَّل في سفينة متجهة إلى أوغاريت، وتضمنت أكثر من مائة من المنسوجات وقِطَع الملابس، بالإضافة إلى أغراض متنوعة أخرى مثل خشب الأبنوس ولويحات من أحجار حمراء، وبيضاء، وزرقاء.19 ومجددًا، ينبغي أن نلاحظ أن كل هذه الأغراض تقريبًا عبارة عن أغراض قابلة للتلف ولن تَبقى في السجل الأثري؛ ولذلك فإنه لشيءٌ طيِّب أنها مذكورة في هذا النَّص؛ وإلا فما كنا سنعرف أبدًا أنها كانت ذات يوم موجودة وكانت تُتَبادَل بين مصر وأوغاريت.
يوجد رسالة أخرى في هذا الأرشيف هي رسالة من رسول/مُمثِّل يُسمى زو أستارتي، تتناول السفينة التي كان قد أبحر على متنِها من أوغاريت. ويذكر أنه تعرض للاحتجاز في الطريق. ويتساءل بعض الباحثين عما إذا كان قد تعرض حتى للاختطاف، ولكنه يكتب فقط قائلًا: «في اليوم السادس كنتُ في البحر. وإذ قادتْني ريح، بلغتُ إقليم صيدا. وحملتني من صيدا إلى إقليم أوسناتو، وفي أوسناتو أنا محتجَز. أرجو أن يعرف أخي هذا … قل للملك: «إذا كانوا قد تلقَّوا الخيول التي أعطاها الملك لرسول بلاد ألشية، فإن زميلًا للرسول سوف يأتي إليكم. أرجو أن يُسلموه تلك الخيول».»20 ليس من الواضح تمامًا السبب وراء «احتجازه» في أوسناتو ولا حتى سبب وجود الرسالة في سجلات أورتينو، إلا أنه من المحتمل أن تجارة الخيول كانت مجالًا تحت حماية الدولة في أوغاريت في ذلك الوقت. تنص رسالة مرسلة، في نفس الفترة الزمنية، من الملك الحيثي توداليا الرابع إلى أميستامرو الثاني، عُثِر عليها في منزل رابانو، على أن ملك أوغاريت يجب ألَّا يسمح بتصدير الخيول إلى مصر عن طريق الرسل/التجار الحيثيين أو المصريين.21

(٣) عمليات تدمير في شمال سوريا

يُشير الدليل النصِّي من سجلات ومنازل متنوعة في أوغاريت إلى أن التجارة والاتصال الدوليين كانا ماضيَين بقوة في المدينة حتى آخر لحظة ممكنة. في الواقع، أورد أحد الباحثين الذين كانوا ينشرون الرسائل المكتشفة في منزل أورتينو منذ عشرين عامًا تقريبًا؛ ملاحظة مفادها أنه لم يكن ثمة ما يشير إلى وجود مشاكل، عدا ذكر سفن العدو في رسالة واحدة، وأنه يبدو أن طرق التجارة ظلَّت مفتوحة حتى النهاية.22 والأمر نفسه ينطبق على إمار، على نهر الفرات بعيدًا جهة الشرق في الداخل السوري، حيث ذُكِر أن «النُّسَّاخ كانوا يَضطلِعون بالأعمال العادية حتى النهاية.»23
على أيِّ حال، دُمِّرَت أوغاريت، على نحو بالغ العنف على ما يبدو، أثناء حكم الملك أمورابي، على الأرجح فيما بين عامي ١١٩٠ و١١٨٥ق.م ولم يُعاوَد استيطانها حتى الحقبة الفارسية، بعد ٦٥٠ عامًا تقريبًا.24 يورد المنقبون في تقريرهم «أدلة على التدمير والنيران في سائر أنحاء المدينة»، بما في ذلك «الجدران المنهارة، والجص المدكوك المحترق، وأكوام الرماد»، بمستوى دمار بلغ مترَين ارتفاعًا في بعض الأماكن. تقول مارجريت يون، أحدث مديرة لعمليات التنقيب، إن الأسقف والشرفات في الأحياء السكنية وُجِدَت منهارة، وأن الجدران في مواضع أخرى كانت «قد تحوَّلت إلى كومة ركام عديمة الشكل.» وتعتقد أن ما تسبَّب في الدمار كان هجومًا من أعداء وليس زلزالًا، كما كان شايفر قد اقترح سابقًا، وأنه كان ثمَّة قتالٌ عنيفٌ في المدينة، بما في ذلك قتال شوارع. يدل على ذلك، حسبما تقول، «وجود العديد من رءوس السهام مُنتشِرة في أنحاء الأطلال المدمَّرة أو المهجورة.» بالإضافة إلى حقيقة أن السكان — ثمانية آلاف تقريبًا — فرُّوا مُسرِعين ولم يَرجِعُوا، ولا حتى من أجل أن يجمعوا الكنوز الثمينة التي دفنها بعضهم قبل أن يُغادِروا.25
ما برح التاريخ الدقيق لوقوع كل هذا يُشكِّل محورًا لنقاشٍ حديث العهد. أكثر الأدلة قطعًا هو رسالة عُثِر عليها في عام ١٩٨٦ داخل منزل أورتينو. أُرسِلَت الرسالة إلى أمورابي، ملك أوغاريت، من المستشار المصري باي الذي نعرف من مصادر مصرية أنه أُعْدِم في العام الخامس للفرعون سبتاح. كان سبتاح هو الفرعون قبل الأخير في الأسرة التاسعة عشرة في مصر، الذي حكم من حوالي ١١٩٥ إلى ١١٨٩ق.م، أي قبل بضع سنوات فحسب من رمسيس الثالث الذي ينتمي إلى الأسرة العشرين؛ لذا يُمكن تحديد تاريخ الرسالة ببعض التيقُّن، وبخاصَّة قبل إعدام باي في ١١٩١ق.م، مما يعني أن تدمير المدينة لا يُمكن أن يكون قد وقع قبل هذا التاريخ؛ ولذلك عادةً ما يُحدَّد تاريخ تدمير المدينة فيما بين عامي ١١٩٠ و١١٨٥ق.م، رغم أنه نظريًّا يُمكن أن يكون قد حدث بعد ذلك.26 أشار مقال نُشِر مؤخرًا إلى أنه يُمكن الآن تأكيد صحة هذا التاريخ، استنادًا إلى ملاحظة فلكية عُثِر عليها على لوح آخر في مدينة أوغاريت. يُسجِّل هذا اللوح كسوف الشمس الذي يُمكِن تحديد تاريخه بالحادي والعشرين من يناير من عام ١١٩٢ق.م، وهو ما يعني أيضًا أن المدينة لا يُمكن أن تكون قد دُمِّرَت قبل هذا التاريخ.27
خلافًا للروايات السابقة الشائعة المتعلِّقة بنهاية أوغاريت،28 من المحتمَل ألا نستطيع الاستعانة بالرسالة الشهيرة من الأرشيف الجنوبي — التي عُثِر عليها في الساحة الخامسة لقصر أوغاريت — لتحديد تاريخ التدمير أو للتعرُّف على هوية المُدمِّرين. كانت هذه هي الرسالة التي اعتقد شايفر أنه عُثِر عليها في قَمِين، قبل إرسالها إلى ملك قبرص. تبدأ الرسالة: «أبي، الآن وصلت سفن العدو. إنهم يُضرمون النار في مدني وأحاقُوا الأذى بالبلد.» وفقًا للتقرير الأصلي، عُثِر على الرسالة في قَمِين، مع أكثر من سبعين لوحًا آخر، حيث وُضِعَت من أجل أن يُقَسَّى اللوح المكتوب عليه بِالحَرارَة. في البداية افترض المنقِّبون وباحثون آخرون أن سفن العدو كانت قد عادت ونهَبَت وخرَّبت المدينة قبل أن يكون مُمكنًا إرسال طلب العون العاجل، وهذه هي القصة التي تكرَّرت مرارًا وتكرارًا في الروايات الأكاديمية والعامة منذ العقود العديدة الماضية. ومع ذلك، تُشير عملية إعادة فحص أجراها مؤخَّرًا باحثون آخرون للموقع الذي عُثِر فيه على الرسالة إلى أنَّها لم يُعْثَر عليها في قمين على أيِّ حال، بل ربما كانت مُخَزَّنة في سلة سقطت من الطابق الثاني بعد أن هجر المبنى سكانُه.29
fig12
شكل ٤-٢: المواقع المدمَّرة في حوالي ١٢٠٠ق.م.
figure

نتيجة لذلك، على الرغم من أنه يُمكن الاستعانة بالرسالة لمناقشة وجود سفن العدو وربما الغزاة، ليس واضحًا إن كان تاريخها يَرجع إلى الأيام الأخيرة لأوغاريت أو إلى فترة قبل ذلك بقليل. وحتى إن كانت تُمثِّل إشارة إلى سفن شعوب البحر، فمن المحتمَل أن تاريخها يرجع إلى الموجة الأولى للغزاة، أولئك الذين هاجَمُوا مصر في عام ١٢٠٧، وليس إلى الموجة الثانية التي قاتلت رمسيس الثالث في ١١٧٧ق.م.

دُمِّر أيضًا موقع إمار في الداخل السوري، الذي كانت أوغاريت على اتصال به، في نفس الوقت تقريبًا، في عام ١١٨٥ق.م، كما نعرف من التاريخ المعطى على وثيقة قانونية عُثِر عليها هناك. ومع ذلك، ليس واضحًا هوية المتسبِّب في تدمير إمار. تُشير الألواح التي عُثِر عليها هناك إلى «حشود» غير مُسمَّاة ولكنَّها لا تُشير تحديدًا إلى شعوب البحر كما ذكر باحثون شتى.30
دُمِّر أيضًا موقع رأس البسيط، الذي يقع على الحد الشمالي لأوغاريت، في نفس الوقت تقريبًا. يَعتقِد المنقِّبون أنه كان موقعًا أماميًّا تابعًا لأوغاريت ويَذكُرون أنه بحلول عام ١٢٠٠ تقريبًا كان قد «أُخليَ جزئيًّا، وهُجِر جزئيًّا، ثم أُضْرِمَت فيه النيران، تمامًا مثل مواقع الإقليم الأخرى.» ويُسْنِدون هذا التدمير إلى شعوب البحر ولكن هذا الإسناد غير قاطع.31
وُصِف وضع مماثل في موقع رأس ابن هاني، على الساحل جنوب أوغاريت مباشرة، والذي يُعتقد أنه كان محلَّ إقامة ثانٍ لملوك أوغاريت أثناء القرن الثالث عشر. يتصوَّر المُنقِّبون وآخرون أن هذا الموقع أُخليَ قبل تدمير أوغاريت بوقت قصير ثم دُمِّر على يد شعوب البحر. أُعيد استيطان جزء على الأقل من الموقع على الفور، كما حدث في رأس البسيط، ويُحدِّد المُنقِّبون هوية المُدمِّرين، والمستوطنين، لكلا الموقعَين، استنادًا إلى الأواني الفخارية التي عُثِر عليها في مستويات إعادة الاستيطان هذه، بأنهم شعوب البحر، وهو أمر سنُوليه مزيدًا من المناقشة أدناه.32
ربما يكون أفضل الأدلة، وبالتأكيد أحدثها اكتشافًا، على التدمير الواسع النطاق في هذا الوقت، قد عُثِر عليه في تل تويني، موقع بلدة ومرفأ جيبالا من العصر البرونزي المتأخر التي تدخل في نطاق مملكة أوغاريت، والواقعة على بُعد حوالي ثلاثين كيلومترًا جنوب مدينة اللاذقية المعاصرة. في هذه الحالة، هُجِر الموقعُ من سكانه بعد «دمار شديد» أحاق به في نهاية العصر البرونزي المتأخِّر. حسب المنقِّبين، إن «طبقة الدمار تحتوي على بقايا نزاعات (رءوس سهام برونزية مبعثرة في أنحاء البلدة، وجدران متهاوية، ومنازل محترقة) ورماد من اندلاع النيران في المنازل، وتجمُّعات محصورة جيدًا من الخزف المجزأ جراء انهيار البلدة.»33
بتحديد تاريخ طبقة الدمار هذه من خلال «أساليب علم آثار التراصُف الطبقي المعتمد على الكربون المشع» و«نقاط ارتكاز في المصادر الأدبية القديمة المستمدَّة من النقوش، والملوك الحيثيين والشاميِّين والمصريين والملاحظات الفلكية»، يقول المنقبون إنهم تمكَّنوا أخيرًا «من التحديد الدقيق لتاريخ غزو شعب البحر في شمال الشام»، و«تقديم أول تسلسل زمني مُحْكَم لهذه الحقبة الرئيسية في المجتمع الإنساني.»34 أظهرت نتائج الفحوصات المعملية لتواريخ الكربون المشع لطبقة الرماد الواسعة الانتشار (المستوى ٧إيه) أن تاريخها يرجع تحديدًا إلى حوالي ١١٩٢ إلى ١١٩٠ق.م35 ومع ذلك، ورغم أن هذه الفحوصات المعملية ربما تكون قد حددت جيدًا تاريخ تدمير هذا الموقع الذي يعود إلى العصر البرونزي المتأخر، فإن المنقبين لم يقدموا سوى أدلة ظرفية على أن شعوب البحر هي التي أحاقت هذا الدمار، كما سنناقش أدناه.

ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن هذا التاريخ (١١٩٢–١١٩٠ق.م) يأتي قبل ثلاثة عشر إلى خمسة عشر عامًا كاملًا من مجابهة رمسيس الثالث لشعوب البحر في المعارك في عام ١١٧٧ق.م وحتى عمليات التدمير في مواضع أخرى التي يرجع تاريخها إلى ١١٨٥ق.م لا تزال تَسبق الصراع، الذي يُمثِّل ذروة الأحداث، بثماني سنوات. ربما يَنبغي علينا أن نتساءل عن مقدار الوقت الذي كانت ستستغرقه هذه المجموعة المهاجرة المقترحة لتشقَّ طريقها عبر البحر المتوسط، أو حتى مجرد المسير على طول ساحل الشام إلى مصر. ومع ذلك فمن البديهي أن هذا سيعتمد على قدرتهم التنظيمية، ووسائل النقل، والأهداف النهائية، من بين جملة عوامل أخرى، ولا يُمكِن الإجابة عنه بسهولة.

أخيرًا، يَنبغي أيضًا أن نفكر في موقع أبعد جهة الجنوب، وهو تل كزل، الذي كان يقع في إقليم عمورو، والذي ربما كان هو موقع سومر القديمة، عاصمة تلك المملكة. دُمِّر الموقع في نهاية العصر البرونزي المتأخِّر وافترض المنقِّبون افتراضًا معقولًا مفاده أن شعوب البحر دمرته، وخاصةً نظرًا لأنَّ رمسيس الثالث ذكره تحديدًا (أعني عمورو) في نقوشه المتعلقة بشعوب البحر. ومع ذلك، ففي مستوى الشغل الذي يَسبق مباشرة التدمير، تعرَّف المُنقِّبون على ما يبدو أنه أوانٍ فخارية ميسينية محلية الصنع وعلى دلائل أخرى على سكان جُدُد من منطقة إيجه وغرب المتوسط.36 لذلك، افترض رينهارد جَنْج من جامعة فيينا، الذي أجرى دراسات على هذه الأواني الفخارية، أن «قبل الدمار الكبير الذي ألحقته شعوب البحر، وصلت مجموعات أصغر من الناس بالسفن إلى تلِّ كزل واستقرت معًا ضمن السكان المحليين.» ويرى هذا على أنه نمط للهجرة على نطاق صغير من منطقة إيجه، ولكن مع وجود مؤشرات على أن بعض الناس الذين كانوا مُنخرِطين في الأمر كان لهم جذور أسبق في جنوب إيطاليا القارية.37 إذا صحَّ ذلك، فإنه مؤشِّر على مدى تعقيد الحقبة والناس الذين يُحْتَمَل مشاركتهم فيها، لدرجة أن عمليات التدمير التي سبَّبتها الموجة الثانية من شعوب البحر، حوالي ١١٧٧ق.م، ربما تكون قد أثرت على المهاجرين السابقين من نفس الأصول الذين كانوا بالفعل قد وصلوا واستقرُّوا في شرق المتوسط، ربما أثناء أو بعد غارات شعوب البحر الأصليِّين في العام الخامس لحكم مرنبتاح، التي كانت في عام ١٢٠٧ق.م.

(٤) عمليات التدمير في جنوب سوريا/كنعان

أثناء نفس الفترة، في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، دُمِّر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان. ومثلما هو الحال في شمال سوريا، من غير الواضح هوية الذين دمَّروها ولا توقيت ذلك تحديدًا، على الرغم من أنه عُثِر، في مُستوى الدمار في موقع دير علا الصغير في الأردن، على إناء عليه خرطوشة الملكة المصرية توسرِت. كانت هذه الملكة أرملة الفرعون سيتي الثاني ومن المعروف أنها حكمَت من عام ١١٨٧ إلى عام ١١٨٥ق.م؛ لذلك يمكن تحديد تاريخ التدمير احتمالًا بأنه بعد هذا الوقت بقليل. وينطبق الشيء نفسه في حالة موقع عكا، فيما يُعرَف حاليًّا بإسرائيل المعاصرة، حيث عُثِر على جعران مماثل لتوسرت في الأنقاض الناجمة عن التدمير.38 ويمكن رؤية دليل آخر على التدمير في موقع بيت شان، حيث كشفت أعمال التنقيب التي قام بها يجائيل يادين عن نهاية عنيفة للوجود المصري في الموقع.39
ربما يكون أفضل موقعين وسط المواقع في هذه المنطقة التي تضم أدلة على التدمير هما موقعا مجِدُّو ولاخيش. ومع ذلك، فإن طبيعة وتوقيت الانهيار في هذا الإقليم ما زالا محل كثير من النقاشات. يبدو أن المدينتين قد دُمِّرَتا بعد عقود عديدة تتجاوز ما يمكن أن يكون متوقعًا من تواريخ تدمير المواقع التي سبق مناقشتها، لأنه يبدو أن مجدو ولاخيش قد دُمِّرَتا حوالي ١١٣٠ق.م وليس في ١١٧٧ق.م.40

(٤-١) مجدو

في مجدو في وادي يزرعيل في إسرائيل الحالية، موقع هرمجدون التوراتية، عُثِر على نحو عشرين مدينة في طبقات واحدة فوق الأخرى. من بين هذه المدن، كان يوجد مدينة، هي المدينة السابعة، التي لها مرحلتان تُسمَّيان المرحلة ٧بي والمرحلة ٧إيه، دُمِّرَت تدميرًا عنيفًا في القرن الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد، على الترتيب، أو ربما في عملية تدمير واحدة في القرن الثاني عشر.

ومنذ نشَرَ مُنقِّبو جامعة شيكاجو نتائج عمليات التنقيب التي قاموا بها في الموقع أثناء الأعوام من ١٩٢٥ وحتى ١٩٣٩، أصبح مقبولًا على نحوٍ تقليديٍّ أن الطبقة ٧بي انتهت في وقت ما بين عامي ١٢٥٠ و١٢٠٠ق.م، بينما انتهَت المدينة التالية الموجودة في الطبقة ٧إيه في وقتٍ ما حوالي عام ١١٣٠ق.م عُثِر في هاتين الطبقتَين على بقايا قصر كنعاني، أو ربما على بقايا قصرَين، بُني أحدهما على أنقاض الآخر.

حسبما أورد مُنقِّبو جامعة شيكاجو، إنَّ قصر الطبقة ٧بي «تعرَّض لتدمير عنيف كان واسع النطاق لدرجة أن بُناة الطبقة ٧إيه ارتأوا أن من الأنسب تسوية الحطام الناتج والبناء عليه بدلًا من إزالته كله كما كان الإجراء المتبع في مهام إعادة البناء السابقة.» أما الغرف «فامتلأت بحجارة ساقطة حتى ارتفاع متر ونصف تقريبًا … عُثِر هنا وهناك على خطوط أفقية متفحمة على جدران الغرف الكائنة شمال البلاط … تشغل مستوًى أرضيًّا عامًّا في كافة أنحاء القصر.»41 لذلك كان يُعتقَد أن قصر الطبقة ٧إيه، الذي بُني فوقه مباشرة، ظل باقيًا حتى نحو ١١٣٠ق.م.
ومع ذلك، فمؤخَّرًا اقترح ديفيد أوسيشكين، عالم آثار من جامعة تل أبيب والمدير المشارك حديث التقاعُد لبعثة مجدُّو، اقتراحًا مقنعًا مفادُه أن مُنقِّبي جامعة شيكاجو أخطئوا في تأويل المستويات. ويعتقد أنه ينبغي أن نفهم هذا الهيكل على أنه قصر واحد ذو طابقَين، أُجريت فيه تجديدات طفيفة أثناء الانتقال من الطبقة ٧بي إلى الطبقة ٧إيه، حوالي ١٢٠٠ق.م، وليس قصرَين، أحدهما فوق الآخر. ويقول إنه حدث تدمير واحد؛ حريق هائل دمر القصر في نهاية الطبقة ٧إيه. وحسبما يقول أوسيشكين، فإن ما اعتقد علماء آثار جامعة شيكاجو أنه «قصر الطبقة ٧بي» كان ببساطة قبو القصر أو طابقه السُّفلي، في حين كان «قصر الطبقة ٧إيه» هو الطابق العلوي. دُمِّر معبد المدينة الرئيسي (الذي يُطلَق عليه معبد البرج) هو الآخر في هذا الوقت، ولكن مُعظَم أعمال التنقيب الأخيرة في الموقع تُشير إلى أن جانبًا كبيرًا من بقية المدينة نجا من التدمير؛ إذ يبدو أن مناطق الصفوة وحدها هي التي أُضْرِمَت فيها النيران في هذا الوقت.42
عادةً ما يُحدَّد تاريخ تدمير الطبقة ٧إيه هذه بأنه حوالي ١١٣٠ق.م، استنادًا إلى غرضين منقوش عليهما خرطوشتان مصريتان عُثِر عليهما في الأنقاض. الأول هو حافظة أقلام من العاج منقوش عليها اسم رمسيس الثالث، والتي عُثِر عليها وسط كنوز أخرى من العاج بداخل غرفة في القصر، في سياقٍ مُغلَق بإحكام بأنقاض تدمير القصر.43 قد يدلُّ هذا على أن التدمير قد حدث في وقتٍ ما خلال أو بعد زمن رمسيس الثالث، في حوالي ١١٧٧ق.م أو بعد ذلك.
تُعَد قطع العاج التي عُثِر عليها في هذه الغرفة بداخل القصر من بين أفضل الأغراض المعروفة المُنتشَلة من موقع مجدُّو. وتَشتمِل على صناديق وصحون مُتكسِّرة، ولويحات، وملاعق، وأقراص، وطاولات لعب وقطع لعب، وأغطية جِرارٍ، وأمشاط، من ضمن العديد من الأغراض الأخرى. وهي معروضة في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاجو ومتحف روكفلر في القدس. ليس واضحًا سبب جمع هذه القطع العاجية معًا في الأصل، وسبب وجودها في هذا القسم تحديدًا من القصر. ومع ذلك، فقد نالت قدرًا عظيمًا من الاهتمام على مرِّ السنين؛ لأنَّ الأغراض العاجية نفسها والمشاهد المنقوشة عليها تُظْهِر نمط عولمة حقًّا، وهو النمط الذي يُطلق عليه الآن عادة اسم النمط العالَمي، والذي نراه في أماكن أخرى في مواقع مثل أوغاريت وميسيناي. يجمع النمط المميز عناصر موجودة في الثقافات الميسينية، والكنعانية، والمصرية، مشكلًا بذلك أغراضًا هجينة يتفرَّد بها هذا العصر العالَمي الطابع وتمثِّله.44
الغرض الثاني ذو الصلة من مجدُّو هو قاعدة تمثال برونزية منقوش عليها اسم الفرعون رمسيس السادس، الذي حكَمَ بعد بضعة عقود، من حوالي ١١٤١ إلى ١١٣٣ق.م لم يُعثَر على هذه القاعدة في سياقٍ أثريٍّ آمن، وإنما عُثِر عليها تحت جدار في الطبقة ٧بي في المنطقة السكنية في الموقع. وحسب ملاحظة أوسيشكين، هذا ليس سياقًا موثوقًا، لأن الطبقة ٧بي كانت أسبق بكثير زمنيًّا من رمسيس السادس. وهذا يعني أنه لا بد وأن قاعدة التمثال دُفنت عمدًا في حفرة حفرها أحد السكان اللاحِقين، إما أثناء فترة الطبقة ٧إيه أو حتى أثناء فترة مدينة الطبقة ٦بي-إيه التالية التي تعود إلى العصر الحديدي. عادةً ما يَنسُب الأثريُّون قاعدة التمثال إلى الطبقة ٧إيه، ولكن هذا محْضُ تخمين.45
fig14
شكل ٤-٣: حافظة أقلام رمسيس الثالث العاجية من مجدو (نقلًا عن لاود ١٩٣٩، اللوح رقم ٦٢؛ بإذنٍ من معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة شيكاجو).

دائمًا ما يكون هذان الغرضان، اللذان يَخُصان رمسيس الثالث والسادس، محلَّ مناقشة معًا في المنشورات ذات الصلة؛ ومن ثَمَّ فإن تاريخ تدمير مجدُّو الطبقة ٧إيه يُحدَد بأنه بعد حكم رمسيس السادس، أو حوالي ١١٣٠ق.م ومع ذلك، لا يَنبغي استخدام قاعدة تمثال رمسيس السادس البرونزية لتحديد تاريخ نهاية مجدُّو الطبقة ٧إيه، حيث إنها ليست في حالة جيدة. وعلى الجانب الآخر، كانت حافظة الأقلام العاجية الخاصة برمسيس الثالث مُغلَقة بإحكام داخل طبقة التدمير ٧إيه ولذلك يُمكن استخدامها باطمئنان لتقديم تاريخ مُحَدد لا يُمكن قبله أن تكون المدينة قد دُمِّرَت، أي الفترة التي تسبق فترة حكم هذا الفرعون. من شأن هذا أن يتفق بالفعل بشكل جيد مع أدلة التدمير في المواقع العديدة الأخرى في كافة أنحاء الشرق الأدنى التي نُوقشت في هذه الصفحات.

ومع ذلك، فإن علم الآثار هو مجال في حالة تطور مُتواصِل؛ إذ تتطلَّب البيانات الجديدة والتحليلات الجديدة إعادة النظر في المفاهيم القديمة. وفي هذا الصدد، تُشير حاليًّا الدراسات الجارية المتعلقة بالتأريخ بالكربون المشع للبقايا المكتشَفَة ضمن دمار الطبقة ٧إيه إلى أن تاريخ ١١٣٠ق.م، أو ربما حتى تاريخ لاحق له، من المرجَّح أن يكون صحيحًا في نهاية الأمر. إذا ثبتت دقة هذا، فإن من شأنه أن يعني أن مجدو دُمِّرَت بعد أكثر من أربعين عامًا من اجتياز شعب البحر للإقليم في عام ١١٧٧ق.م46 على أيِّ حال، كما يشير أوسيشكين: «الافتقار إلى المصادر المكتوبة يترك الأسئلة المتعلِّقة بهوية المسئول عن دمار الطبقة ٧إيه [بلا إجابة] … قد تكون المدينة قد تعرَّضت للهجوم بنجاح على يد مجموعات شعب البحر الغازية، أو على يد عناصر كنعانية شامية، أو على يد بني إسرائيل، أو على يد قوة مشتركة من مجموعات مختلفة.»47 بعبارة أخرى، في مجدو، لدينا نفس الوضع الذي رأيناه في المستوى ذي الصلة في حاصور، حسبما هو مبين أعلاه، حيث دُمِّرَت الأجزاء الخاصة بالصفوة في المدينة، ولكن لا يُمكن تحديد هوية أولئك المسئولين عن الدمار.

(٤-٢) لاخيش

تعرَّضت لاخيش، وهي موقع آخر في إسرائيل الحالية، هي الأخرى لعمليَّتَي تدميرٍ أثناء هذه الفترة الزمنية التقريبية، إن كان ديفيد أوسيشكين، الذي قام بالتنقيب في الموقع من ١٩٧٣ إلى ١٩٩٤، مصيبًا.48 في هذه الحالة، وفي هذا الموقع المُتعدِّد الطبقات الواقع جنوب القدس، تُعَرَّف المدينتان السابعة والسادسة (الطبقتان ٧ و٦) بأنهما آخر المدن الكنعانية، استنادًا إلى البقايا المادية التي عُثِر عليها أثناء عمليات التنقيب. هذه الفترة كانت فترة ازدهار كبير لمدينة لاخيش، أثناء فترة السيطرة المصرية على الإقليم. كانت واحدة من أكبر المدن في كنعان بأسرها في ذلك الوقت، مع وجود نحو ستة آلاف نسمة يعيشون في أراضيها، ومعابد ضخمة ومبانٍ عامة داخل المدينة نفسها.49
يُعْتَقَد أن مدينة الطبقة ٧ قد دمَّرتها النيران في حوالي ١٢٠٠ق.م، ولكن المنقِّبين لم يتكهنوا بشأن طبيعة الدمار ولا هوية من يُحتَمَل أن يكون مسئولًا عنه. يرجع السبب في ذلك، جزئيًّا، إلى أنه ليس من الواضح مقدار ما دُمِّر فعلًا من المدينة. حتى الآن، لم يُعْثَر على أدلة على دمار بالنار إلا في بقايا معبد واحد (الذي يُطْلَق عليه اسم معبد فوس الثالث) وفي الجهة الداخلية في المنطقة إس.50 يُمكن تصور أن الدمار ربما يكون قد تسبَّبت فيه أول موجة من شعوب البحر، الذين غزوا الإقليم في ١٢٠٧ق.م تقريبًا، ولكن لا يوجد دليل على إسناد كهذا.
ما برحت مدينة الطبقة ٦ أن تكون مِحوَر تركيز الاهتمام البحثي حتى تاريخه. يبدو أن الناجين من حريق الطبقة ٧ أعادوا ببساطة بناء كل المدينة أو جزء منها وواصَلُوا نفس الثقافة المادية التي كانت موجودة سابقًا. يُعتقَد أن مدينة الطبقة ٦ كانت مدينة أغنى وأكثر ازدهارًا من المدينة التي كانت قد دُمِّرَت؛ إذ كانت تضم مبنًى عامًّا ضخمًا (المبنى ذا الأعمدة) مبنيًّا في المنطقة إس حيث كانت المباني الداخلية قائمة في السابق. وبُني أيضًا معبد جديد، في المنطقة بي، ولكن لم يبقَ منه إلا نذرٌ يسير بسبب الدمار الذي أحاق به بعد ذلك. عُثِر على أغراض، أوانٍ فخارية في معظمها، واردة من مصر، وقبرص، ومنطقة إيجه، في أنحاء المدينة في هذا المستوى، مما يَشهد على علاقاتها الدولية.51
يُعْتَقَد أنه كان ثمة تدفُّق من اللاجئين الفقراء إلى مدينة الطبقة ٦ قبيل تدمير أجزاء كبيرة منها تدميرًا عنيفًا.52 أحد المباني تحديدًا، وهو المبنى ذو الأعمدة في المنطقة إس، «دُمِّر تدميرًا فجائيًّا وعنيفًا؛ إذ غطَّت طبقات من الرماد والطوب اللَّبِن المتهاوي هيكل البناء بأكمله، وعُثِر على العديد من الهياكل العظمية لبالغين، وأطفال ورُضَّع محصورة تحت الجدار المنهار.»53 دُمِّرَت أيضًا مبانٍ أخرى في لاخيش في هذا الوقت، ثم جاء في أعقابها فترة، صارت فيها المدينة مهجورة، دامت مدةً تصل إلى ثلاثمائة سنة.54 وحسب أوسيشكين: «سُوِّيَت مدينة المستوى ٦ بالأرض في عملية تدمير عنيفة بالنيران، رُصِدَ أثرها في كل موقع عُثِر فيه على بقايا للمستوى ٦ … كان التدمير كاملًا، وتعرَّض السكان للتصفية أو أُخْرِجوا.»55
اعتقد أثريُّون سابقون أن المدينة قد دُمِّرَت في أواخر القرن الثالث عشر ق.م، حوالي ١٢٣٠ق.م (واستتبع ذلك اعتقادهم بأن تخريب مدينة الطبقة ٧ قد حدث في وقت أسبق)56 ولكن تاريخ تدمير الطبقة ٦ قد تغير حاليًّا تغييرًا كبيرًا على يد أوسيشكين، استنادًا في الأساس على اكتشاف لُوَيْحَة من البرونز، يُحْتَمَل أنها كانت جزءًا من مزلاج باب، عليها خرطوشة رمسيس الثالث. هذه اللُّوَيْحَة كانت جزءًا من مخبأ لأغراض برونزية مكسورة أو معيبة كانت مطمورة ومُغْلَقًا عليها بإحكام تحت حُطام تدمير مدينة الطبقة ٦.57
كما في حالة حافظة أقلام رمسيس الثالث في مَجِدو، يدلُّ سياق الكَشْف لهذا الغرض في لاخيش على أن تدمير المدينة لا بد أن يكون قد وقَع أثناء أو بعد عهد رمسيس الثالث؛ لذلك في البداية حدَّد أوسيشكين تاريخ التدمير بأنه حوالي ١١٥٠ق.م، استنادًا إلى حقيقة أنه لا يُمكن أن تكون اللويحة البرونزية قد صُنِعَت قبل اعتلاء رمسيس الثالث للعرش في ١١٨٤ق.م، واعتقاده بأن المرء يجب أن يُتيح وقتًا كافيًا «لأن تُستَخْدَم، ثم تُكْسَر وأخيرًا يُتَخَلَّص منها وتوضع جانبًا في هذا المخبأ الذي ضم الأغراض البرونزية المعيبة أو المكسورة.»58
بعد ذلك عدَّل التاريخ إلى ١١٣٠ق.م، استنادًا إلى العثور على جعرانٍ لرمسيس الرابع في الموقع، ربما في هذا المستوى، على يد منقِّبين بريطانيين سابقين، وعند المقارنة مع مجدو الطبقة ٧، دَفَع بأنه إذا كانت مجدو قد بقيت طوال ذلك الوقت، إذن ربما كان الحال كذلك بالنسبة للاخيش.59 أورد باحث آخر مؤخرًا ملاحظة مفادها أنه يحتمل وجود جعران آخر لرمسيس الرابع في المقبرة ٥٧٠ في لاخيش، ولكنه شدَّد على أن القراءة الواردة على كلا الجعرانين في الواقع ليست مؤكَّدة، وأن التصوير الطبقي لموقع الكشف للجعران الأول ليس واضحًا تمامًا.60
لذلك، مرةً أخرى، مثلما في حالة المواقع الأخرى التي اطَّلَعنا عليها، ليس واضحًا على الإطلاق هوية، أو ماهية، المتسبِّب في التدمير، أو حتى تاريخ حدوثه في لاخيش؛ فكل ما يُمكنُنا بالفعل قوله بكل ثقة أنه حدث أثناء أو بعد حكم رمسيس الثالث. حسبما يصرح أوسيشكين: «تُشير الأدلة إلى تخريب المستوى ٦ على يد عدوٍّ قويٍّ وشديد العزم، ولكن البيانات الأثرية لا تقدم دليلًا مباشرًا فيما يتعلق بطبيعة وهوية ذلك العدو ولا فيما يتعلق بالملابسات المباشرة المحيطة بسقوط المدينة.»61 ويُنوِّه إلى أنَّ الباحثين السابقين اقترحوا ثلاثة مرشَّحين هم: الجيش المصري، وأسباط بني إسرائيل، وشعوب البحر الغزاة، ولكنه يُنوِّه أيضًا إلى أنه «لم يُكْشَف عن أيِّ بقايا لمعركة، باستثناء رأس سهم برونزي واحد … كُشِف عنه في المبنى ذي الأعمدة في المنطقة إس.»62
من غير المرجَّح أن يكون المصريون هم المتسبِّبون في التدمير؛ لأن لاخيش كانت مزدهرة أثناء فترة سيطرتهم وكانت تُجْري تداولًا تجاريًّا نشطًا معهم، كما تبيَّن من العديد من الأغراض المنقوش عليها خراطيش ملكيَّة والتي عُثِر عليها في الأنقاض. لا يزال من المحتمل أن يكون بنو إسرائيل تحت قيادة يُوشع هم المتسبِّبون في التدمير، كما اعتقد ويليام إف أولبريت من جامعة جونز هوبكنز، غير أن ذلك كان عندما كان يُعْتَقَد أن تاريخ التدمير يعود إلى نحو عام ١٢٣٠ق.م.63
غير أن أوسيشكين يَعتبِر أن شعوب البحر هم الفاعلون المسئولون على الأرجح عن الدمار فيما يتعلَّق بمدينة الطبقة ٦. وهو يحذو في هذا حذو أولجا توفنِل، التي كانت مُنقِّبة سابقة لمدينة لاخيش.64 إلا أنه لا يقدم دليلًا على أن شعوب البحر كانوا بالفعل هم المسئولون؛ فنحن ببساطة نرى النتيجة النهائية للتدمير، دون إشارة إلى من تسبَّب فيه. علاوة على ذلك، فإن تاريخ ١١٣٠ق.م يبدو متأخِّرًا للغاية فيما يتعلق بشعوب البحر، بأربعة عقود تقريبًا، تمامًا كما هي الحال مع تدمير مجدو. ينبغي أن نُنوِّه إلى أن أوسيشكين قد يكون غير مصيب في ربط تدمير لاخيش بتدمير مجدو ووضعه في هذا التاريخ المتأخر؛ فليس ثمة سبب وجيه يدعو إلى الربط بين الاثنين، وبذلك قد يكون التاريخ الذي اقترحه في الأصل وهو حوالي ١١٥٠ق.م (أو ربما حتى قبل ذلك، إذا لم يكن مزلاج رمسيس الثالث البرونزي قد استُخْدِم لوقت طويل) هو الذي ينبغي تبنِّيه بدلًا من ذلك.
من المحتمَل أيضًا أن يكون زلزال هائل هو الذي تسبَّب في تدمير مدينة الطبقة ٦. عُثِر على جثث الأشخاص الأربع الذين قُتِلوا في المبنى ذي الأعمدة «على ما يبدو محاصَرة ومسحوقة تحت الركام الساقط بينما كانوا يُحاوِلون الهروب منه.» كان طفل، في الثانية أو الثالثة من عمره «قد أُلقيَ من عَلٍ على وجهه أو مات وهو يَزحف على الأرض»، بينما كان رضيعٌ «قد أُلقيَ به أو سقط على الأرض.»65 هذه الملاحظات، مُقترِنة بحقيقة أنه لم يُعْثَر على أي أسلحة في الركام، تُشير إلى مسئولية الطبيعة وليس البشر، مثلما ربما كان الأمر في مواقع أخرى قرب نهاية العصر البرونزي المتأخِّر.66 يُعارِض هذه الفرضية حقيقةُ أن المنقِّبين لم يعْثُروا على دليل آخر على حدوث زلزال، كجدران متصدِّعة أو مائلة. علاوة على ذلك، يبدو أن المعبد الكنعاني الجديد الذي بُني في المنطقة بي قد تعرَّض للسَّلبِ والنَّهب قبل تدميره بالنيران، مما قد يبدو أنه يُشير إلى تدخُّل بشري.67
مجمل القول أنه، كما في حالة حاصور ومجدُّو، ليس واضحًا هُوية من دمَّر مدينة الطبقة ٦ ولا مدينة الطبقة ٧ الأقدم للاخيش. فشعوب البحر يُمكِن أن تكون هي التي خربت كلتا المدينتين، ويُمكِن ألَّا يكون الأمر كذلك، ويُمكن أن تكونا قد خُرِّبَتا على يد أحدٍ، أو شيءٍ، آخر مُختلِف تمامًا. وكما قال جيمس وينشتاين من جامعة كورنيل: «بينما يُمكن لشعوب البحر أن تكون هي المسئولة عن إنهاء المعاقل العسكرية المصرية في جنوب وغرب فلسطين، علينا أن نسمح باحتمال أن تكون مجموعات أخرى غير شعوب البحر هي المسئولة عن دمار المواقع الموجودة في مناطق أخرى من البلاد.»68

(٤-٣) مدن الفلستيين الخمس

مما يتَّسم بأهميةٍ خاصةٍ المواقع الكائنة في جنوب كنعان، بما في ذلك تلك التي اعتُبِر في الكتاب المقدس وفي مواضع أخرى أنها تَنتمي إلى ما يُطلَق عليه مدن الفلستيين الخمس، وهي المواقع الفلستية الخمس الرئيسية: أشْقَلُون (عسقلان)، وأشدود، وعقرون، وجَت، وغزة.

في نهاية العصر البرونزي المتأخر، دُمِّرَت المدينتان الكنعانيتان الأقدم في عقرون وأشدود تدميرًا عنيفًا واسْتُبْدِل بهما مستوطنات جديدة حدث فيها تغيُّر شبه كامل في الثقافة المادية، بما في ذلك الأعمال الفخارية، والمواقد، وأحواض الاستحمام، وأدوات المطبخ، والعمارة. يبدو أن هذا يُشير إما إلى تغيُّر في السكان وإما إلى تدفُّق كبير لأُناس جدد — ربما كانوا الفلستيين — في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.69
تصف ترود دوثان، الأستاذة الفخرية في الجامعة العبرية في القدس والمديرة المشاركة السابقة لعمليات التنقيب في عقرون، التي تقع عند منطقة تل مِقْنِع المعاصرة، نهاية مدينة العصر البرونزي المتأخِّر في عقرون كما يلي: «في الحقل الأول، المدينة العلوية أو الأكروبوليس، يُمكننا أن نتتبَّع التدمير الكامل لمدينة العصر البرونزي المتأخِّر الكنعانية بالنيران. هنا التدمير جلي؛ فبقايا مبنى تخزين ضخم من الطوب اللَّبِن، وآثار للتين والعدس في جِرار التخزين، وصومعة كبيرة محفوظة حفظًا جيدًا، مدفونة تحت الطوب اللَّبِن المنهار … تقبع المدينة الفلستية الجديدة مستوية فوق أنقاض مستوطنة العصر البرونزي المتأخر في المدينة العلوية وعلى الحقول المفتوحة لمدينة العصر البرونزي الأوسط السفلية.»70
ويبدو أن وضعًا مماثلًا قد نشأ في أشْقَلُون، حيث وثَّقَت عمليات تنقيب جرت مؤخرًا تحول المستوطنة من معقل عسكري مصري إلى ميناء بحري فلستي في وقت ما خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ ربما بعد حكم رمسيس الثالث مباشرة، حسبما يُستشف من الجعارين العديدة، المنقوش عليها خرطوشته، التي عُثِر عليها. غير أنه يبدو أن التحول في أشْقَلُون كان سلميًّا، على الأقل بقدر ما يُمكن للمرء أن يتبيَّن من المساحة المحدودة التي كُشِفَت حتى تاريخه. وصف المنقِّبون «الظهور المفاجئ لأنماط ثقافية جديدة تظهر في العمارة، والخزفيات، ونوعية الغذاء، والصناعات اليدوية، وتحديدًا النسيج.» إنهم يربطون هذه التغييرات بشعوب البحر، وتحديدًا الفلستيين، ويصفونها بأنها نتيجة هجرات من العالم الميسيني.71
ومع ذلك، فربما كان فهمنا لهذا الوضع في كنعان في نهاية العصر البرونزي المتأخر لا يزال آخذًا في التطور. على الرغم من أن المقال الكلاسيكي المنشور عام ١٩٩٥ عن مجيء الفلستيين إلى كنعان، الذي كتبه لاري ستاجر من جامعة هارفرد، يصف الفلستيين بأنهم «يُدمِّرون مدن السكان الأصليِّين وينقلون نمط حياتهم إلى كافة أنحائها.»72 فإن عساف ياسور-لانداو من جامعة حيفا اتخذ مؤخرًا موقفًا معارضًا لهذه الصورة التقليدية، كما سنرى أدناه.

(٥) عمليات التدمير في بلاد الرافدين

حتى شرقًا في بلاد الرافدين، يُمكن رؤية أدلة على التدمير في مواقع متعدِّدة تشمل بابل، ولكن من الواضح أن المُتسبِّب في ذلك قوى أخرى غير شعوب البحر. نعرف تحديدًا أن الجيش العيلامي، الذي زحَفَ مجدَّدًا من جنوب غرب إيران، هذه المرة تحت قيادة ملكِهِم شوتروك ناخونته، تسبَّب على الأقل في بعضٍ من هذا الخراب.

كان شوتروك ناخونته قد وصَل إلى العرش العيلامي في ١١٩٠ق.م وحكم حتى ١١٥٥ق.م على الرغم من أنه يبدو أن عيلام (كشأن الممالك الأخرى في الإقليم) كانت ذات دور هامشي إلى حدٍّ ما على الساحة العالَمية خلال معظم العصر البرونزي المتأخر، فإنها كانت على صلة ببعض الممالك الكبرى عن طريق الزواج. تزوج شوتروك ناخونته من ابنة ملك كيشي بابلي، تمامًا مثلما فعل كثيرون من أسلافه؛ إذ كان أحدهم قد تزوَّج من ابنة كوريجالزو الأول في القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ وتزوَّج آخر أخت كوريجالزو؛ وتزوج ثالث ابنة بورنا بورياش في وقت لاحق من نفس القرن. كانت أم شوتروك ناخونته نفسه أميرة كيشية، كما يُطلعنا في رسالة كتبها إلى البلاط الكيشي، وكما اكتشف المنقبون الألمان في بابل.73
في هذه الرسالة، يَشتكي من أنه جرى تخطِّيه فيما يتعلق بتولي العرش البابلي، رغم كونه مؤهلًا تمامًا للمنصب، بما في ذلك بحكم الولادة. ويتضح استياؤه جليًّا إذ يكتب: «لماذا لا أجلس على عرش بلاد بابل، وأنا ملك، ابن ملك، حفيد ملك، سليل ملك، وملك (؟) بلاد بابل وبلاد [عيلام]، وحفيد الابنة الكبرى للملك العظيم كوريجالزو العظيم؟» ثم يُهدِّد بالانتقام، قائلًا: «سأُدَمِّر مدنكم، وأُحطِّم حصونكم، وأوقف قنوات [رَيِّكُم]، وأُهلِك بساتينكم»، ويُضيف: «يُمكنكم أن تصعدوا إلى السماء، [ولكنَّني سأسحبُكم إلى الأسفل] من أهداب ثيابكم، ويُمكنُكم أن تهبطوا إلى الجحيم، [ولكنني سأسحبكم إلى أعلى] من شعركم!»74
وقد وفَّى بتهديداته في ١١٥٨ق.م، فغزا بابل، واستولى على المدينة وأطاح بالملك الكيشي، ثم وضع ابنَه على العرش. وأكثر ما يشتهر به أنه جلب أيضًا إلى مدينة سوسة (شوشان) عاصمة عيلام كميات هائلة من الغنائم من بابل، تشمَل نُصْبًا من حَجَر الدَّايُورَايْت، يصل طوله إلى ثماني أقدام تقريبًا، منقوش عليه شريعة حمورابي، بالإضافة إلى نصب نصرٍ تذكاري يخصُّ الملك الأكادي الأسبق نارام سين، وأغراض عديدة أخرى. اكتُشفت هذه الأغراض لاحقًا في عام ١٩٠١ أثناء عمليات التنقيب الفرنسية في سوسة وأُرسِلَت إلى باريس، حيث هي معروضة حاليًّا، في متحف اللوفر.75

كان الدافع وراء حملة شوتروك ناخونته هو على ما يبدو رغبته في مملكة وبلاد بابل، وربما يكون قد أحسنَ استغلال الاضطرابات التي كانت جارية في منطقة شرق المتوسط في هذا الوقت. ومن المحتمَل جدًّا أنه عرف أنه لم يكن ثمة أحد تقريبًا يُمكن أن يلجأ إليه الملك الكيشي طلبًا للمساعدة. ومن المرجَّح جدًّا أن الحملات التالية التي اضطلَعَ بها ابن شوتروك ناخونته وحفيده في بلاد الرافدين قد تأثَّرت هي الأخرى بحقيقة أن القوى العُظمى في القرون السابقة إما لم تَعُد موجودةً وإما صارت أضعف كثيرًا. ومع ذلك، فمن الواضح أنه لا يُمكن أن يُنسَب أي من عمليات التدمير، المرتبطة بهذه الأنشطة العسكرية، إلى شعوب البحر.

(٦) عمليات التدمير في الأناضول

دُمِّر أيضًا عددٌ من المدن في الأناضول في هذا الوقت. ومع ذلك، مجدَّدًا، يصعب الجزم بالسبب في كل حالة؛ ومجددًا نُسِب تقليديًّا الدمار الذي لحق بهذه المدن إلى شعوب البحر استنادًا إلى أدلة لا تُذْكَر أو بلا أدلة. في بعض الحالات، تُبْطِل حاليًّا أعمال التنقيب الإضافية التي يُجريها مُنقِّبون لاحقون هذه الإسنادات والافتراضات. على سبيل المثال، في موقع تل عطشانة، ألالاخ القديمة، الذي يقع بالقرب من الحدود التركية السورية الحالية، اعتقد السير ليونارد وولي أن مدينة المستوى ١ دُمِّرَت على يد شعوب البحر في عام ١١٩٠ق.م غير أن معظم عمليات التنقيب الحديثة العهد، التي قامَت بها أصليهان ينير من جامعة شيكاجو، أعادت تحديد تاريخ هذا المستوى إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد وتُشير إلى أن سكان المدينة قد هجروا معظمها بحلول عام ١٣٠٠ق.م، قبل غارات شعوب البحر المحتملة بوقت طويل.76

من أشهر تلك المواقع الأناضولية التي لحقَ بها الدمار بعد عام ١٢٠٠ق.م، حاتوسا، عاصمة الحيثيين على الهضبة الداخلية، وطروادة على الساحل الغربي. إلا أنه من المؤكَّد، في الحالتين، بما لا يدع مجالًا للشك أن التدمير لم يكن من صنيع شعوب البحر.

(٦-١) حاتوسا

من الواضح أن العاصمة الحيثية حاتوسا دُمِّرَت وهُجِرَت بعد وقتٍ قليل من بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد. عثر المُنقِّبون على «رماد، وخشب متفحِّم، وطوب لَبِن، وخَبَثٍ تَشَكَّل عندما ذاب الطوب اللَّبِن بسبب الحرارة الشديدة للحريق.»77 ومع ذلك، ليس واضحًا على الإطلاق هوية من دمَّر المدينة. على الرغم من أن الباحثين والمؤلفين الذين يكتبون لغير المتخصصين غالبًا ما يُلقون باللائمة على شعوب البحر، استنادًا إلى حد كبير على عبارة رمسيس الثالث «لم يَستطع أي بلد أن يصمد في مواجهة جيوشهم، بدءًا من خاتي …» فإننا في الواقع لا نعرف إن كانت «خاتي» في هذه الحالة كان يُقْصَد بها الإشارة إلى الحيثيين عمومًا أم إلى حاتوسا تحديدًا.78
أيضًا ليس واضحًا بدقة توقيت سقوط حاتوسا، وخاصة أنه يبدو حاليًّا أنها قد هوجمت في وقتٍ ما خلال حكم توداليا الرابع، ربما على يد قُوى موالية لابن عمه كورونتا، الذي ربما يكون قد حاول أن يغتصب العرش.79 وكما أشار العالم البارز، من جامعة شيكاجو، المتخصِّص في الحضارة الحيثية، هاري هوفنر الابن، عادةً ما يستند الزمن الذي لا بد أن يكون آخر تدمير قد حدث قبله (أي التاريخ الذي لا بد أن يكون هذا قد حدث قبله) على العبارة التي أدلى بها رمسيس الثالث في عام ١١٧٧ق.م، وهو ما من شأنه على الأرجح أن يَجعل تاريخ التدمير في وقتٍ سابق على ذلك، ربما من ١١٩٠ إلى ١١٨٠ق.م تقريبًا. ومع ذلك، لا نعرف يقينًا إلى أيِّ حد كانت عبارة رمسيس الثالث دقيقة.80
بحلول ثمانينيَّات القرن العشرين، كان العلماء المتخصِّصون في الحضارة الحيثية وغيرهم من الباحثين جادِّين في القول بأن عدوًّا أقدم وأشهر، ألا وهو، قبائل الكاشكا، التي كانت موجودة جهة الشمال الشَّرقي للأراضي الحيثية، كان مسئولًا بدلًا من ذلك عن تدمير المدينة. يُعتقَد أن هذه المجموعة نهبَت وخرَّبت المدينة قبل ذلك، في وقتٍ يَسبق مباشرةً معركة قادش في أوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد، عندما هجَر الحيثيُّون حاتوسا مؤقتًا ونقلوا عاصمتهم بكاملها جنوبًا لعدد من السنوات، إلى إقليم يُعرف باسم تارهونتاسا.81 هذا أكثر منطقيةً؛ لأنه كما كتَب جيمس مولي من جامعة بِنسلفانيا يومًا: «كان من الصعب دومًا تفسير كيف دمَّر غزاةُ البحر [أي شعوب البحر] التحصيناتِ الضخمةَ … لحاتوسا، التي تقع على بُعد مئات الأميال من البحر فيما يبدو في يومنا هذا جزءًا معزولًا نوعًا ما من الهضبة المرتفعة لوسط الأناضول.»82
تشير الأدلة الأثَرية إلى أن أجزاءً من حاتوسا دُمِّرت بفعل نيران شديدة، أتَت على أجزاء من كلٍّ من المدينتَين العُليا والسفلى، بالإضافة إلى مقر المُلك والحصون. ومع ذلك، فقد أصبح من الواضح الآن أن المبانيَ العامة وحدها هي التي دُمرت، بما في ذلك القصر وبعض المعابد، وبعضٌ من بوابات المدينة. كانت هذه المباني قد أُخليَت، ولم تُنْهَب، قبل أن تُضرَم فيها النيران، بينما لا يظهر على الأحياء الداخلية في كلٍّ من المدينتين العليا والسفلى أيُّ آثار لدمار على الإطلاق.83 اقترح مدير عمليات تنقيب حديث العهد، هو يورجن سيهر، أن المدينة لم تُهاجَم إلا بعد أن هُجِرَت لبعض الوقت، حتى إن أفراد العائلة المالكة كانوا قد أخذوا كل ممتلكاتهم وانتقلوا إلى مكانٍ آخر قبل التدمير الأخير بوقتٍ طويل. إن كان الأمر كذلك، فإن احتمال أن يكون الكاشكا، أعداء الحيثيين منذ زمن بعيد، هم المسئولون عن التدمير الفِعلي أكبر من احتمال أن تكون شعوب البحر المسئولة عن ذلك، رغم أنه من المحتمَل أن ذلك لم يحدث إلا بعد أن أُضعِفَت الإمبراطورية الحيثية بشدةٍ من خلال عوامل أخرى؛ كالجفاف، والمجاعة، وقطْع خطوط التجارة الدولية.84
يُمكن إعطاءُ نفس التفسير المحتمَل للتخريب الواضح للعيان في ثلاثة مواقع معروفة أخرى في وسط الأناضول على قرب مَعقول من حاتوسا؛ وهي: ألاجا هويوك، وأليشار، وماسات هويوك. لقد دُمِّرَت كلها بفعل النيران في نفس هذا الوقت تقريبًا، رغم أنه ليس واضحًا ما إذا كان الكاشكا، أو شعوب البحر، أو أحد آخر مختلف تمامًا، مسئولًا عن ذلك. دُمِّرت أيضًا مدينتا مرسين وطرسوس، في جنوب شرق الأناضول، إلا أن المدينتين تعافيتا وعاد السكان إلى استيطانهما لاحقًا.85 دُمِّر أيضًا في هذا الوقت موقع كراوجلان، الذي يقع في موضع غير بعيد جدًّا غرب حاتوسا في منطقة وسط الأناضول، وعُثِر على جثث في طبقة التدمير، ولكن مجددًا ليس واضحًا هوية من كان مسئولًا.86
يوجد تدميرٌ صغيرٌ نسبيًّا جهةَ الغرب في الأناضول. في الواقع، أشار الباحث الأسترالي تريفور برايس إلى أنه «يبدو أن المواقع المدمَّرة بفعل النيران [في الأناضول] تنحصر في المناطق الواقعة شرق نهر مراسانتيا … لا يوجد أدلة على وجود مثل تلك الكارثة غربًا. تشير المؤشرات المستقاة من عمليات التنقيب الأثرية إلى أن فقط عددًا قليلًا من مواقع العالَم الحيثي دُمِّر بالفعل؛ أما أغلبها فقد هجره سكانه فحسب.»87

(٦-٢) طروادة

كان الموقع الوحيد الواقع في الغرب الذي دُمِّر بفعل النيران في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد هو طروادة، وتحديدًا طروادة ٧إيه، الواقعة على الساحل الغربي للأناضول.88 ومع أن كارل بليجن، المنقِّب من جامعة سينسيناتي، حدد تاريخ تدميرها على أنه حوالي ١٢٥٠ق.م، فإن بينلوبي ماونتجوي، وهي خبيرة مرموقة في الأعمال الفخارية الميسينية، قد أعادت حاليًّا تحديد التاريخ على أنه من ١١٩٠ إلى ١١٨٠ق.م89 ببساطة أخذ قاطنو هذه المدينة بقايا طروادة ٦إتش، التي يُحتمَل أنها دُمِّرت جراء زلزال ربما في عام ١٣٠٠ق.م، كما ناقشنا بتفصيل سابقًا، وأعادوا بناء المدينة؛ لذا فالمنازل الضخمة التي كانت مبنيةً بالأساس أثناء طروادة ٦ كان منصوبًا فيها جدران فاصلة وكانت عائلات عديدة تعيش فيها بدلًا من عائلة واحدة فقط كما كان في الماضي. رأى بليجن المساكن على أنها دليل على أن المدينة كانت تحت الحصار، ولكن ماونتجوي تقترح اقتراحًا بديلًا هو أن السكان كانوا يُحاوِلُون التعافي من الزلزال، ببعض الأكواخ المؤقتة المقامة بين الأطلال.90 ومع ذلك، فقد أصبحت المدينة في نهاية الأمر تحت الحصار، كما يتبيَّن من الدليل الذي عثر عليه بليجن وكذلك المنقِّب التالي لطروادة، مانفريد كورفمان من جامعة توبنجن، الذي نقَّب في الموقع من ١٩٨٨ إلى ٢٠٠٥.
عثر كلا المنقبَين على جثثٍ في شوارع طروادة ٧إيه وعلى رءوسِ سهام غائرة في الجدران، وكان كلاهما مقتنعًا بأنها كانت قد دُمِّرَت في قتال.91 في أحد المواضع قال كورفمان، الذي اكتشف أيضًا مكان المدينة السفلى الضائعة من أمدٍ بعيد في طروادة، التي كان المنقبون السابقون قد غفلوا عنها: «الدليل هو الحريق ووجود كارثة مُتعلِّقة بالنار. ثم إنه يوجد هياكل عظمية؛ فقد عثرنا، على سبيل المثال، على فتاة، اعتُقدَ أنها في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها، نصفها مدفون، والأقدام كانت مُحترِقة بفعل النار … كانت مدينة محاصَرة. كانت مدينة مُدافِعة تحمي نفسها. لقد خسروا الحرب ومن الواضح أنهم قد هُزِموا.»92
ومع ذلك، فقد يَجعل تاريخ هذا التدمير من الصعب القول بأن الميسينيين هم المسئولون، كما في قصة هوميروس عن حرب طروادة في «الإلياذة»، إلا إذا كانت قصور الميسينيين هناك في البر الرئيسي لليونان كانت تتعرَّض للهجوم والتدمير لسبب محدَّد هو أن كل محاربيهم كانوا غائبين يُقاتلون في طروادة. في الواقع تقترح ماونتجوي أن شعوب البحر، وليس الميسينيين، هم الذين دمَّرُوا طروادة ٧إيه. من شأن هذا القول أن ينسجم جيدًا مع ذكر رمسيس الثالث لشعوب البحر بعد ذلك بثلاثة أعوام فقط، ولكنَّها لا تُقدِّم أدلةً قويةً تؤيِّد فرضيتها، التي لا تزال عبارة عن تكهنات.93

(٧) عمليات التدمير في البر الرئيسي لليونان

إذا لم يكن الميسينيون ضالعين في تدمير طروادة ٧إيه؛ فقد يكون ذلك لأنهم كانوا هم أيضًا يتعرَّضون للهجوم عليهم في نفس الوقت تقريبًا. من المتَّفق عليه بشكلٍ عام في أوساط الباحثين أن ميسيناي، وتيرنز، ومَيديا، وبيلوس، وثيفا، ومواقع ميسينية كثيرة أخرى في البر الرئيسي لليونان لحقَت بها عمليات التدمير في نفس هذا الوقت تقريبًا، أي في نهاية القرن الثالث عشر، وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد.94 في واقع الأمر، يُقدم مسحٌ نشَرَه مؤخرًا عالمُ الآثار البريطاني جاي ميدلتون في عام ٢٠١٠ صورة قاتمة للتخريب الذي وقع في البر الرئيسي لليونان أثناء الفترة من ١٢٢٥ وحتى ١١٩٠ق.م: «في أرﺟﻮﻟﻴﺪ وكورينثيا كان يوجد عمليات تدمير في ميسيناي، وتيرنز، وكاتسينجري، وكوراكو وإريا … وفي إقليم لاكونيا، في مينيلايون؛ وفي إقليم ميسينيا، في بيلوس؛ وفي إقليم آخايا، في تيخوس ديمايون؛ وفي إقليمي بيوتيا وفوكيس، في ثيفا، وأورخومينوس، وجلا … وكريسا، في حين يبدو أن المواقع التالية قد هجرها سكانُها دون تدمير: إقليما أرﺟﻮﻟﻴﺪ وكورينثيا: بيرباتي، وبروزيمنا، وزيجوريس، وجونيا، وتسونجيزا؛ وإقليم لاكونيا: أجيوس استيفانوس؛ وإقليم ميسينيا: نيتشوريا؛ وإقليم أتيكا: براورون؛ وإقليما بيوتيا وفوكيس: إتروسيس.»95 كما يلاحظ ميدلتون كذلك وجود عمليات تدمير إضافية أثناء الفترة من ١١٩٠ وحتى ١١٣٠ق.م في ميسيناي، وتيرنز، وليفكاندي، وكينوس.
ومثلما كتب كارل بليجن وميبل لانج، من كلية برين ماور، قديمًا في ١٩٦٠، يبدو أن هذه الفترة كانت «فترة عاصفة في التاريخ الميسيني؛ فقد لوحظ تدمير واسع الانتشار بالنار في ميسيناي في داخل مقر المُلك وكذلك خارجه. تعرَّضَت تيرنز هي الأخرى لكارثة من نفس النوع. ومن المحتمَل أن القصر في ثيفا قد تعرَّض بالمثل للنهب وأُحرِق في نفس تلك الحقبة. ودُمِّرَت مستوطنات أخرى كثيرة، وهُجِرَت تمامًا، ولم تُعمَّر بعد ذلك قط: ومن أشهر الأمثلة على ذلك يُمكننا أن نذكر بيرباتي … وبروزيمنا … وزيجوريس … وأماكن أخرى أصغر.»96 من الواضح أن شيئًا عنيفًا حدث، رغم أن بعض الباحثين يرَوْن هذا على أنه مجرد المراحل النهائية لانحلالٍ أو انهيارٍ كان قد بدأ منذ ١٢٥٠ق.م يعتقد جيريمي روتر من جامعة دارتمث، على سبيل المثال، أن «تدمير القصور لم يكن بأي حال من الأحوال كارثة غير متوقَّعة تسبَّبت في قرن من الأزمات في منطقة إيجه، وإنما كان تتويجًا لفترة ممتدة من الاضطراب أَلَمَّت بالعالم الميسيني من منتصف القرن الثالث عشر وما بعده.»97

(٧-١) بيلوس

في بيلوس، عادةً ما يُحدَّد حاليًّا تاريخ تدمير القصر، الذي كان المنقِّب في البداية يعتقد أن تاريخه يرجع إلى حوالي ١٢٠٠ق.م، بحوالي ١١٨٠ق.م، لنفس الأسباب التي لأجلها حُدِّد تاريخٌ أقرب لتدمير طروادة ٧إيه، أي استنادًا إلى إعادة تحديد تاريخ الأعمال الفخارية التي عُثِر عليها في الأطلال.98 يُفترض بصفة عامة أن تدميره نتج عن عنفٍ، من جانب لأنه يوجد قدر كبير من الاحتراق المقترن بالمستويات الأخيرة في الموقع، والذي يبدو أنه أُخْلي بعده من سكانه. في ١٩٣٩، أثناء الموسم الأول لعمليات التنقيب في القصر، أورد بليجن ملاحظةً تقول: «لا بد أنه كان حريقًا على قدر كبير من الشدة؛ لأن الأبواب الداخلية في مواضع كثيرة قد انصهَرَت إلى كتل غير محدَّدة الشكل، وتحولت الصخور إلى كِلْس، وتستقر على الأنقاض والرماد المسود المُفَحَّم الذي يكسو الأرضيات طبقةٌ سميكة من تراب أملس جاف ذي لون أحمر محروق، من المحتمل أنه الحطام المتفتت لقوالب الطوب غير المتقَن الذي كان يومًا ما يشكل المادة التي كانت تتكون منها البنية الفوقية.»99
زادت عمليات التنقيب اللاحقة من تأكد انطباعاته الأولية؛ فحسبما أشار لاحقًا جاك ديفيز من جامعة سينسيناتي والمدير السابق للمدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية في أثينا: «احترق المبنى الرئيسي بشدة لدرجة أن الألواح المكتوبة بالنظام الخطي بي الموجودة في غرفة الأرشيف احترقت، بل إن الجِرار في بعض من حجرات التخزين ذابت.»100 كتب بليجن نفسه في ١٩٥٥ أن «في كل مكان … ظهرت أدلة واضحة على التخريب بواسطة النار. وفَّر استخدام ألواح خشبية ضخمة بكَثرة، بل بإفراط، في بناء الجدران الحجرية، وقودًا غير محدود تقريبًا للنيران، وتحوَّل البناء بكامله إلى كومة من أطلال مُتداعية في حريق بلغ من شدة حرارته أنه حوَّل الصخور إلى أحجار كِلْسِية، بل إنه أذاب حُليًّا ذهبية.»101
أبرَزَ باحثون سابقون في بعض الأحيان وجود إشارات في ألواح النظام الخطي بي التي عُثِر عليها في الموقع والتي تُوحي بأنه كان يوجد «مراقبون للبحر» متمركزون أثناء السنة (أو السنوات) الأخيرة للوجود في الموقع، وافترضوا أنهم كانوا ينتظرون ويترقَّبُون شعوب البحر. غير أنه ليس واضحًا ما الذي كانت تلك الألواح تُوثِّقُه، وحتى إن كان سكان بيلوس يراقبون البحر، لا نعرف السبب أو الغرض من مراقبتهم.102

باختصار، دُمِّر القصر في بيلوس في حريق كارثي حوالي ١١٨٠ق.م، ولكن ليس واضحًا سبب الحريق أو هوية المتسبِّب فيه. كشأن المواقع الأخرى التي خُرِّبَت في هذا الوقت، لسنا متيقِّنين مما إذا كان الفاعلون من البشر أو كان ذلك بفعل الطبيعة.

(٧-٢) ميسيناي

تعرَّضت ميسيناي لدمار هائل أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في حوالي عام ١٢٥٠، والذي ربما يكون قد وقع جراء زلزال. وكان ثمة أيضًا دمارٌ ثانٍ، في حوالي ١١٩٠ق.م أو بعد ذلك بقليل، لا يُعْرَف سببه ولكنه كان إيذانًا بنهاية المدينة كقوة كبرى.

كانت السمة المُمَيِّزة لهذا التدمير الأخير هي الحريق. ذكر أحد المديرين الرئيسيين لعمليات التنقيب في ميسيناي، الراحل سبيروس إياكوفيديس من جامعة بنسلفانيا أن «نيرانًا اندلعت، كانت محدودة بمواضع معينة، ولم تكن بالضرورة متزامنة، في مركز العبادة، ومنزل تسونتاس، وجزء من المبنى الجنوبي الغربي، ومنزل باناجيا الثاني … وربما القصر.»103 في مركز العبادة، على سبيل المثال، «ساعدت شدة النيران على حفظ هذه الجدران في حالتها الأصلية، وإن كانت مائلة عن محورها.»104
في مستودع قريب، عُثِر عليه على الممر داخل القلعة، عثَر المُنقِّبون على كتلة من الركام، احتوت على «حجر متكلس، وطوب لَبِن محترق، وبقع من الرماد، وألواح خشبية متفحمة»، وهذه الكتلة «كانت تسدُّ مداخل الحجرات جهة الجنوب الشرقي، وتستقر على عمق مترين تقريبًا قبالة جدار المصطبة جهة الشمال الشرقي.» جدار المصطبة نفسه «كان ملتويًا جراء الحرارة الشديدة التي نتَجَت عن نيران التدمير، وفي أماكن كثيرة كان قد وصل إلى درجة تماسُك الأسمنت.» استنتج المنقِّبون أن الركام جاء من جدران الطوب اللَّبِن المرتبطة بالمباني الموجودة على المصطبة بالأعلى، والتي انهارت «على هيئة كتلة مُلتهِبة.»105 ومع ذلك، لا يوجد ما يدلُّ على سبب أي من هذا، سواء كان غزاةً، أو تمردًا داخليًّا، أو حادثًا.
قالت واحدة من كبار الباحثين والمنقِّبين في ميسيناي، هي إليزابيث فرينش من جامعة كامبريدج: «بعد «تدمير عام ١٢٠٠ق.م» مباشرة، أيًّا كان سببه، كانت قلعة ميسيناي في حالة يُرْثَى لها. بحسب ما يُمكننا أن نجزم، كانت المباني كلها تقريبًا غير صالحة للاستخدام. كان كلٌّ من الحريق والانهيار منتشرين انتشارًا واسعًا ولدينا أدلة على وجود طبقة من الوحل تُغطِّي مساحات كبيرة من المنحدَر الغربي والذي نُخمِّن أنه كان ناتجًا عن سقوط أمطار شديدة على الأنقاض.»106 غير أن كلًّا من فرينش وإياكوفيديس يُشيران إلى أن هذا لم يُمثِّل نهاية ميسيناي؛ لأنها عُمِّرَت مجدَّدًا، وإن كان على نطاق أصغر، بعد ذلك مباشرة. وحسبما قال إياكوفيديس، فإن هذه كانت «فترة انكماش وانتكاس مُتسارِعة ولكنها لم تكن فترة خطر وشدة.»107
مما يُثير الاهتمام أن إياكوفيديس لاحَظَ أيضًا أن «السياق الأثري … لا يُقدِّم أدلة على هجرات أو عمليات غزو على أي نِطاق ولا أدلة على قلاقل داخلية أثناء القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. لم تُواجِه ميسيناي نهاية عنيفة. لم تُهجر … المنطقة قطُّ ولكن في ذلك الوقت، بسبب أسباب خارجية وبعيدة، كانت القلعة قد فقدت أهميتها السياسية والاقتصادية. كان النظام المركزي المعقَّد الذي ضمته ومثلته قد انهار، ولم يَعُد مُمكنًا بقاء النُّفُوذ الذي صنعها أكثر من ذلك وبدأ انحدار عام، انهار خلاله الموقع ببطء وتدريجيًّا حتى صار خرابًا.»108 بعبارة أخرى، ليس واضحًا، حسب إياكوفيديس، ما الذي تسبَّب في النيران التي دمَّرت أقسامًا كبيرة من ميسيناي بُعَيْد عام ١٢٠٠ق.م، ولكنه يتجنَّب فكرة عمليات الغزو أو أي أحداث مأساوية أخرى، مفضلًا أن يُعزى الانحدار التدريجي للموقع أثناء العقود التالية إلى انهيار النظام التابع للقصر والتجارة البعيدة المدى. قد تُثبِت أبحاث، يقوم بها في الآونة الأخيرة علماء آثار آخَرُون، صحة هذه الفرضية.109

(٧-٣) تيرنز

على بُعدِ كيلومترات قليلة من ميسيناي، كانت عمليات التنقيب في تيرنز في إقليم أرﺟﻮﻟﻴﺪ في البر الرئيسي لليونان تَجري منذ أيام هاينريش شليمان في أواخر القرن التاسع عشر. سجل معظَم المنقِّبين وجود أدلة على عمليات تدمير، ولكن أحدثها سجلها جوزيف ماران من جامعة هايدلبرج.

في عامَي ٢٠٠٢ و٢٠٠٣، تابع ماران التنقيب عن هيكلين يعرفان باسم المبنيين الحادي عشر والخامس عشر داخل القلعة السُّفلية في الموقع، واللذين كان سلفه كلاوس كيليان قد نَقَّب عن أجزاء منهما. ويُعتقَد أنهما كانا يُستخدمان لفترة قصيرة فقط قبل أن يلحق بهما الدمار. في أنقاض التدمير التي يَرجع تاريخه إلى حوالي ١٢٠٠ق.م أو بعد ذلك مباشرة، عثر على عدد من القطع الأثرية المثيرة للاهتمام للغاية، والتي تشمل صولجانًا صغيرًا من العاج عليه نقش مسماري، والذي إما أن يكون مستورَدًا أو صنعه/استخدمه أجنبي كان يعيش في تيرنز أثناء هذه الفترة العصيبة.110
يُورِد ماران أن هذا التدمير كان نتيجة «كارثة ألمَّت بتيرنز … [والتي] دمرت القصر والمستوطَنة الكائنة في القلعة السفلية.» ويُضيف، مثلما اقترح كيليان بالفعل، أنه استنادًا إلى «الجدران المتموِّجة» الواضحة في بعض المباني، فإن السبب المحتمَل للتدمير كان زلزالًا قويًّا، وإن «عمليات تنقيب جرت مؤخَّرًا في مَيديا المجاورة قد أيدت [حاليًّا] هذا التفسير.»111
وقد ساق كيليان لوقت طويل حججًا مفادها أن زلزالًا دمر تيرنز وأصاب أيضًا مواقع أخرى عديدة في إقليم أرﺟﻮﻟﻴﺪ، مثل ميسيناي؛ وحاليًّا يتَّفق أثريُّون آخرون مع هذه الفرضية.112 كتب كيليان: «يتألَّف الدليل من بقايا مبنًى له جدران وأساسات مائلة ومنحنية، بالإضافة إلى هياكل عظمية لأشخاص قُتِلوا ودُفِنوا جراء جدران المنازل المنهارة.»113

ذكرْنا بالفعل أن ميسيناي أُصيبت بدمار كبير، في حوالي ١٢٥٠ق.م، والذي ربما يكون قد نتَج عن زلزال. كما هو مبيَّن بمزيد من التفصيل فيما يلي، يوجد أدلة دامغة على تضرُّر مواقع عديدة في اليونان في غضون هذا الوقت تضررًا بالغًا جراء زلزال واحد أو أكثر، ولم يكن ذلك في ميسيناي وتيرنز في إقليم أرﺟﻮﻟﻴﺪ فحسب.

ومع ذلك، أظهرت الأدلة الأثرية، من عمليات التنقيب الجارية، بشكلٍ قاطع أن تيرنز لم تتدمَّر كليًّا. ظلت المدينة تُستخدَم لجولة أخرى من الإشغال دامت عدة عقود أخرى، مع حدوث عملية إعادة بناء كبيرة في بعض الأجزاء، وخاصة في المدينة السُّفلى.114

(٨) عمليات التدمير في قبرص

في شرق المتوسط، أُلقي أيضًا باللوم على عاتق شعوب البحر باعتبارهم المسئولين عن اضطرابات العصر البرونزي في قبرص، حوالي ١٢٠٠ق.م كان الاعتقاد السائد أن المسألة واضحة وجلية. منذ ثلاثين عامًا، كتب فاسوس كاراجورجيس، الذي كان حينئذٍ المسئول عن الآثار على الجزيرة: «الظروف السِّلمية … تغيَّرت قبيل نهاية الحقبة القبرصية المتأخِّرة الثانية [أي حوالي ١٢٢٥ق.م]. على الرغم من أنَّنا قد لا نقبل الادِّعاء المُتفاخِر من قِبَل الحيثيين بأنهم مارسوا سيطرةً على قبرص على أنه ادِّعاء دقيق كليًّا … لا يُمكننا تجاهل حقيقة أنه أثناء حكم سابيليوليوما الثاني ما كان يُمكن للأوضاع في شرق المتوسط أن تكون هادئة.»115
وتابع كاراجورجيس مُقترَحًا أن «أعدادًا كبيرة من اللاجئين» غادروا البر الرئيسي لليونان عندما انهارت «الإمبراطورية الميسينية» (كما أسماها)، وقد أصبحوا نهابين ومُغامرين، ووصلوا أخيرًا إلى قبرص بصحبة آخرين، حوالي ١٢٢٥ق.م وهو ينسب إليهم عمليات التدمير في قبرص في ذلك الوقت، بما في ذلك تلك التي جرت في الموقعين الكبيرين كتيون وإنكومي على الساحل الشرقي، بالإضافة إلى النشاط في مواقع أخرى مثل مواقع ما-بالايوكاسترو، وكالافاسوس-أيوس ديميتريوس، وسيندا، وماروني.116
يُثير موقع ما-بالايوكاسترو الصغير الاهتمام بشكل خاص؛ إذ إنه بُنيَ تحديدًا أثناء فترة القلاقل هذه، أي قبيل نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وصَف كاراجورجيس، الذي نَقَّب في الموقع، المكان بأنه «موقع أمامي [عسكري] حصين على رأسٍ بحريٍّ على الساحل الغربي.» وحسبما بيَّن، كان محصنًا تحصينًا طبيعيًّا بالجوانب المُنحدِرة للرأس البحري ومحاطًا من ثلاثة جوانب بالبحر؛ لذا لم يكن ثمَّة حاجةٌ إلى تحصينِه إلا من الناحية التي يلتقي فيها بالبرِّ الرئيسي. واعتقد أن الغزاة من منطقة إيجه، هم من أنشئوا هذا الموقع الأمامي، والذين اجتاحُوا بعد ذلك إنكومي وكتيون من هذا الجيب، ولم يَمضِ وقتٌ طويل حتى دُمِّر بدوره على يد تدفُّقٍ ثانٍ من المستوطنين من منطقة إيجه، ربما حوالي ١١٩٠ق.م، والذين أقاموا إقامة دائمة على الجزيرة.117
اعتقد كاراجورجيس أن جيوبًا أو مواقع أمامية أجنبية أخرى مُماثلة قد أُنْشِئَت على مواقع قبرصية مثل سيندا وبيلا-كوكينوكريموس. على سبيل المثال، لاحَظَ أن مُستوطَنة سيندا الحصينة، التي تقع في الداخل أمام الساحل مباشرة وغرب إنكومي، دُمِّرَت تدميرًا عنيفًا في حوالي ١٢٢٥ق.م بعد ذلك أُضيفت طوابق جديدة وأُنْشِئَت مبانٍ جديدة فوق طبقة التدمير المحترِقة هذه مباشرة، وربما كان الغزاة القادمون من منطقة إيجه هم من قاموا بذلك.118
ومع ذلك فربما تكون عمليات التدمير والإعمار هذه أبكر بكثير من أن تتَّسق مع تواريخ توغُّلات شعوب البحر؛ أو على الأقل تلك التي ذكرها مرنبتاح في ١٢٠٧ق.م أو رمسيس الثالث في ١١٧٧ق.م وبناءً على ذلك، اقترح كاراجورجيس أن موجةً أسبق من شعوب مقاتلة من منطقة إيجه كانت قد حلَّت على جزيرة قبرص قبل حتى شعوب البحر، في حوالي ١٢٢٥ق.م على الأكثر. يُمكن ملاحظة الوصول اللاحق لشعوب البحر في عمليات التنقيب في إنكومي، على ساحل قبرص، والتي «كشفت عن كارثة ثانية … ربطها بعض الباحثين بهجمات شعوب البحر.» وقال إنَّ تاريخ المستوى الثاني للتدمير هذا يرجع إلى حوالي ١١٩٠ق.م.119
ومع ذلك، فليس ثمَّة أدلةٌ حقيقية لتحديد هُوية الذين يجب أن يُنْحى عليهم بلائمة أيٍّ من عمليات التدمير ما بين ١٢٢٥ و١١٩٠ق.م في أيٍّ من هذه المواقع على جزيرة قبرص. من المحتمل جدًّا أن توداليا والحيثيين — الذين، أيًّا كان الأمر، زعموا بالفعل أنهم هاجَمُوا قبرص وأخضعوها في هذا الوقت تقريبًا — تسبَّبوا، على أقل تقدير، في بعض عمليات التدمير في حوالي ١٢٢٥ق.م علاوة على ذلك، رأينا بالفعل أن هجومًا حيثيًّا آخر على الجزيرة قد وقَع، حسبما ورَد، أثناء حكم سابيليوليوما الثاني (الذي اعتَلى العرش الحيثي في حوالي ١٢٠٧ق.م)، حسبَما يَزعُم في سجلاته؛ ومن ثَمَّ يُمكِن أن تكون حقيقة الأمر أن الحيثيين، وليس شعوب البحر، هم الذين كانوا مسئولين عن معظم عمليات التدمير على جزيرة قبرص أثناء هذه الفترة العصيبة. بل إن ثمة نصًّا، أرسله حاكم قبرص (ألشية)، والذي يبدو أنه يدل على أن سفنًا من أوغاريت يُمكن أن تكون قد تسبَّبت في بعضٍ من الأضرار، فضلًا عن إمكانية أنه يُمكن أن يكون بعض من التخريب على الأقل قد نتَج عن زلزال واحد أو عدد من الزلازل. في إنكومي، اكتشف المُنقِّبون جثث أطفال كانوا قد قُتِلوا جراء سقوط قوالب الطوب اللَّبِن من البنية الفوقية للمبنى عليهم، مما يشير على ما يبدو إلى أن ذلك كان بفعل الطبيعة وليس فعل بشر.120
عُدِّل حاليًّا السيناريو الذي تصوره كاراجورجيس ليُشَكِّل رؤية أكثر تعقيدًا لمسار الأحداث على جزيرة قبرص أثناء هذه الفترة في نهاية العصر البرونزي المتأخِّر. وقد اقتنع كاراجورجيس نفسه بسرعة بأنه، في كل موقع من المواقع المعنية، كان يوجد دُفْعَة واحدة فحسب من عمليات التدمير، وليس اثنتين؛ وأنها تراوَحَت بدءًا من وقت مبكِّر يرجع إلى ١١٩٠ق.م وحتى ١١٧٤ق.م، وليس بدءًا من ١٢٢٥ق.م،121 يذكر تأريخٌ أحدثُ عهدًا لتلك الفترة، كتبتْه الباحثة البريطانية لويس ستيل، أن «الرؤية التقليدية … للفترة هي رؤية تتعلَّق بالاستعمار الميسيني لقبرص (وجنوب الشام) بعد سقوط القصور الميسينية. ومع ذلك … لم يكن ثمَّة وجود لفرض بسيط للثقافة الميسينية على الجزيرة. عوضًا عن ذلك، توضح … المواد وجود نزعة توفيقية للتأثيرات تعكس الطابع العالَمي للهوية الثقافية [القبرصية المتأخِّرة]. فلا نجد أن الثقافة الميسينية (أو الإيجية) تُنْقَل فحسب من منطقة إيجه إلى قبرص وإنما تندمج مع الثقافة القبرصية المحلية.»122
أيضًا تُشَكِّك ستيل في استنتاجات كاراجورجيس، وفي الرؤية التقليدية للاستعمار الإيجي لقبرص. على سبيل المثال، بدلًا من اعتبار مواقع مثل ما-بالايوكاسترو وبيلا-كوكينوكريموس «مواقع أمامية دفاعية» أجنبية أو إيجية، تذكر أنه يبدو أن الأدلة تدعم أكثر تعريف هذه المواقع بأنها معاقل قبرصية محلية، وأن تلك المعاقل أُنشئَت، مثلًا، «من أجل ضمان حركة البضائع، وتحديدًا المعادن، بين المرافئ … والمناطق الداخلية القبرصية.»123 وتضيف أن «التفسير التقليدي لموقع ما-بالايوكاسترو على أنه معقل إيجي مبكِّر هو أمر لم يُفْحَص بعدُ بدقة.» واقترحت أن كلًّا من ما-بالايوكاسترو وبيلا-كوكينوكريموس يُمكن في الواقع أن يكونا بمثابة نموذجَين للمعاقل القبرصية المحلية، التي تُشبه المستوطنات الدفاعية التي بُنيت في هذا الوقت تقريبًا على جزيرة كريت.124
وكان باحثون آخرون، منهم برنارد ناب من جامعة إدنبرة، قد اقترحُوا حاليًّا أن الاستعمار الميسيني المزعوم والسائد في الأدبيات الأكاديمية السابقة لم يكن ميسينيًّا ولا استعمارًا. وإنما كان على الأرجح فترة تهجين، جرى أثناءها الاستحواذ على جوانب من الثقافية المادية القبرصية، والإيجية والشامية وإعادة استخدامها لتشكيل هوية اجتماعية نخبوية جديدة.125 بعبارة أخرى، ما نحن بصددِه مجددًا هو عبارة عن ثقافة تتَّسم بالعولمة، وتعكس العديد من التأثيرات في نهاية العصر البرونزي، قبيل الانهيار.
على الجانب الآخر، ما زال لدينا تعليقات بول أستروم حول تنقيبه في موقع تكية هالة سلطان، على ساحل قبرص بالقرب من مدينة لارناكا الحالية، والذي وصفه بأنه «بلدة دمرتها النيران جزئيًّا وهجرها سكانها على عجل.» وفي هذا الموضع، حوالي عام ١٢٠٠ق.م أو بعده «تُرِكَت أغراض بلا اعتناء في أفنية المنازل وخُبِّئَت نفائس تحت الأرض. إن وجود رءوس سهام برونزية، كان أحدها محشورًا في جانب جدارِ مبنى، وعدد كبير من قذائف المقلاع المصنوعة من الرصاص المبعثرة في أنحاء المكان هو دليل دامغ على الحرب.»126 هذه واحدة من الحالات القليلة الواضحة لمهاجمين مُعادِين، ومع ذلك لم يتركُوا ما يدلُّ على هُويتهم، لا هنا ولا في أي مكان آخر. أيضًا يوجد الآن أدلةٌ علميةٌ حديثةُ العهد من البحيرة الشاطئية عند موقع تكية هالة سلطان تثبت أنه من المحتمَل جدًّا أن المنطقة كانت تعاني من آثار جفاف شديد في نفس هذا الوقت، كما سنُناقش أدناه.127

لذلك، نواجه الآن موقفًا يَجري فيه إعادة تقييم معرفتنا الحالية وتُنْقَض النماذج التاريخية التقليدية، أو على الأقل تُوضع في موضع التشكُّك فيها. ففي حين أنه من الواضح أنه كان ثمة عمليات تدمير على جزيرة قبرص إما قبيل ١٢٠٠ق.م أو بُعيده، فليس من الواضح على الإطلاق هوية من كان مسئولًا عن هذا الضرر؛ ويتراوَح الجناة المُحتمَلون من الحيثيين إلى غزاة من منطقة إيجه إلى شعوب البحر وحتى الزلازل. يُمكن أيضًا تصور أن ما نراه في السجل الأثري هو مجرد الثقافة المادية لأولئك الذين استغلُّوا عمليات التدمير هذه واستقرُّوا في المدن والمستوطَنات التي كانت حينئذٍ مهجورةً كليًّا أو جزئيًّا، وليس الثقافة المادية لأولئك الذين كانوا بالفعل مسئولين عن عمليات التدمير.

بالرغم مما سبق، يبدو أن قبرص صمَدت في وجه أعمال النهب والتدمير هذه. وكل الدلائل الآن تُشير إلى أن الجزيرة ازدهرَت أثناء بقية القرن الثاني عشر وخلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ وتَشمل الأدلة نصوصًا مصرية مثل «تقرير وِن آمون»، الذي يتعلق بكاهن ومبعوث مصري تحطَّمت السفينة التي كان على متنِها على الجزيرة في حوالي ١٠٧٥ق.م،128 ومع ذلك، جاءت قدرة قبرص على الصمود فقط نتيجة إعادة الهيكلة الهائلة لتنظيمها السياسي والاقتصادي، مما سمح للجزيرة وأنظمتها السياسية بالبقاء حتى حانت النهاية أخيرًا في حوالي ١٠٥٠ق.م.129

(٩) القتال في مصر ومؤامرة الحريم

نعود إلى مصر لبعض الوقت لنجدَ صورة مشابهة لتلك التي تتَّسم بها المواقع في أماكن أخرى في منطقتَي شرق المتوسط وإيجه، ولكنها مع ذلك مختلفة. كان المصريون قد أنهَوا القرن الثالث عشر قبل الميلاد في وضع جيد نسبيًّا؛ إذ دحروا أول موجة لشعوب البحر أثناء حكم مرنبتاح، في ١٢٠٧ق.م بدأ القرن الثاني عشر بداية هادئة، تحت حكم سيتي الثاني ثم الملكة توسرت، ولكن بحلول وقتِ اعتلاء رمسيس الثالث للعرش في ١١٨٤ق.م، كانت الأحداث آخذة في اتخاذ مَنحًى مُضطرِب. في العام الخامس لحكمه، ومجددًا في العام الحادي عشر، خاض حروبًا كبرى مع جيرانه الليبيين.130 وفيما بين هذَين العامين، وتحديدًا في عامه الثامن خاض معارك في مواجَهة شعوب البحر والتي سبق وأن تناولناها هنا. ثم في عام ١١٥٥، بعد أن حكم لمدة اثنين وثلاثين عامًا، يبدو أنه اغتيل.

تُروى لنا قصة الاغتيال في عدد من الوثائق، أطوَلُها هي بردية تورين القضائية. يُعتقَد أن بعض هذه الوثائق يُمكن أن يكون متصلًا ببعضه البعض وربما كانت في الأصل جزءًا من لفافة بردي واحدة يَبلغ طولها خمس عشرة قدمًا. تتعلَّق الوثائق كلها بمحاكمة المتَّهمين باغتياله في المؤامرة، التي يعرفها علماء المصريات باسم «مؤامرة الحريم».

لا يبدو أن ثمةَّ صلة بين المؤامرة وأي شيء آخر يَجري في شرق المتوسط في ذلك الوقت وأنها كانت ببساطة مَكيدة دبَّرتْها ملكة ثانوية في الحريم الملكي لجعل ابنها يَخلُف رمسيس الثالث على العرش. كان يوجد عدد كبير من المتهمين بلغ أربعين شخصًا من المتآمِرين، من أفراد الحريم وكذلك من مسئولي البلاط الملَكي، وحُوكِمُوا في أربع مجموعات. ثبتت إدانة عدد منهم وحُكِم عليهم بالإعدام؛ وأُجبِر العديد على الانتحار على الفور في البلاط. وكانت الملكة الثانوية وابنها من بين من حُكِم عليهم بالإعدام.131

ومع أنه من المعروف أن رمسيس الثالث مات قبل صدور الحكم في هذه القضية، فليس واضحًا في هذه الوثائق ما إذا كانت المكيدة قد نجَحَت بالفعل. ولكن ظاهر الأمر أنها نجَحَت، وإن لم تتكشَّف هذه الحقيقة إلا مؤخرًا.

مومياء رمسيس الثالث معروفة منذ أمد طويل. وكانت مدفونة في الأصل في وادي الملوك في مقبرته الخاصة (المعروفة باسم كيه في ١١) ولكن الكهَنة نقلوها لاحقًا للحفاظ عليها، إلى جانب عدد من المومياوات الملكية الأخرى. عُثِر على هذه المومياوات جميعها في عام ١٨٨١، في خبيئة الدير البحري بالقرب من معبد حتشبسوت الجنائزي.132
في عام ٢٠١٢ أجرى علماء مصريات وعلماء مختصُّون في الطب الشرعي تشريحًا لجثة رمسيس الثالث وأوردوا في بحث نُشِر في دورية «بريتش ميديكال جورنال» أن حَلْقَه قد قُطِع. كان السكين الحاد الذي أحدث الجرح قد غُرِز في عنقه تحت الحنجرة مباشرة، نزولًا حتى الفقرات العنقية، مُحْدِثًا قطعًا في قصبته الهوائية وممزِّقًا كل النسيج الرخو في هذه المنطقة. كانت الوفاة فورية. لاحقًا، أثناء عملية التحنيط، وُضِعَت تميمة عين حورس حامية في موضع الجرح، إما للحماية وإما للشفاء، رغم أن أوان مُعاوَنة الملك في هذه الحياة كان قد فات. بالإضافة إلى ذلك، وُضِعَت ياقة سميكة من الكتان حول عنقِه، حتى تُخفيَ الجرح الذي تسبَّب فيه الطعن (الذي كان عرضه ٧٠ مليمترًا). لم يتمكَّن العلماء من أن يروا ما تُخفيه الياقة السميكة إلا أثناء تحليل الأشعة السينية وتمكَّنوا من تحديد الإصابة التي أودَتْ بحياة الملك.133
عُثِر على جثة ثانية، لذكَرٍ يبلغ ما بين الثامنة عشرة والعشرين من عمره ويُعْرَف فقط باسم «الرجل المجهول»، مع مومياء رمسيس الثالث. من المحتمَل أن تكون الجثة، الملفوفة في جلد ماعز غير طاهر من الناحية الشعائرية والتي لم تكن محنَّطة تحنيطًا سليمًا، تخصُّ الأمير المذنب، حسب اختبارات الحمض النووي التي تشير إلى أنه ربما كان ابن رمسيس الثالث. تُشير أدلة الطب الشرعي، التي تشمل ملامح الوجه والإصابات في حَلْقه، إلى أنه ربما يكون قد مات شنقًا.134

بموت رمسيس الثالث، حلت نهاية مجد المملكة المصرية الحديثة. سيأتي ثمانية فراعنة آخرون خلال الأسرة العشرين قبل أن تَنتهي في ١٠٧٠ق.م، ولكن أحدًا منهم لم يُحقِّق أي شيء يستحِقُّ الثَّناء. بالطبع كان من شأن تحقيقهم لأي إنجاز أن يكون أمرًا جديرًا بالملاحظة حقًّا، نظرًا للحالة التي كانت عليها الأمور في أماكن أخرى في منطقة شرق المتوسط، رغم أن الملك الأخير، رمسيس الحادي عشر، أرسل بالفعل مبعوثَه وِن آمون إلى بيبلوس من أجل شراء أَرْز لبنان، ولم يَمضِ وقتٌ طويل حتى تحطَّمت سفينته على ساحل جزيرة قبرص في رحلة الإياب في حوالي ١٠٧٥ق.م.

(١٠) ملخص

على الرغم من أنه من الواضح أنه كان هناك عمليات تدمير هائلة في منطقتَي إيجه وشرق المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فلم يكن واضحًا على الإطلاق هُوية مَن، أو ما، كان مسئولًا عن ذلك. من بين الأمور محل التساؤل نجد أيضًا مسألة هُوية صانعي الأعمال الفخارية المعروفة باسم «الأواني الفخارية الميسينية ٣سي١بي»، التي تظهر في الكثير من مواقع شرق المتوسط هذه بعد عمليات التدمير التي وقعت حوالي ١٢٠٠ق.م، ومن بينها رأس ابن هاني ورأس البسيط بالقرب من أوغاريت.135 هذه الأواني الفخارية، التي كان يُنْظَر إليها في السابق على أنها من صنعِ ميسينيين نازحين فرُّوا شرقًا، بعد عمليات التدمير التي لحقَت ببلداتهم ومدنِهم على البر الرئيسي لليونان، يبدو عوضًا عن ذلك أنها أُنْتِجَت في قبرص وفي شرق المتوسط، على الأرجح بعد أن توقَّف استيراد السلع الإيجية الحقيقية.
وكما قالت آني كَوبيه، من متحف اللوفر، بخصوص إعادة إعمار موقع رأس ابن هاني، بالقرب من أوغاريت: «مما لا شكَّ فيه أن إعادة الاستيطان في الموقع بطريقة ثابتة ومتواصلة هي أمر لا يُمكن إنكاره. الأمر الذي لا يزال يتعيَّن إثباته هو أن السكان كانوا حينئذٍ جزءًا من شعوب البحر ولم يكونوا سكانًا محليِّين عادوا بعد أن انتهت القلاقل.»136 وقد تشير ابتكارات أخرى ملحوظة في قبرص والشام في هذا الوقت، مثل استخدام الحجارة المربعة المنحوتة في تقنيات البناء المعمارية، والطقوس الجنائزية الجديدة وأنواع الأواني،137 إلى وجود صلة مع منطقة إيجه أو حتى إلى وجود أشخاص نازحين من منطقة إيجه، ولكن الأنماط الإيجية لا تدلُّ بالضرورة على وجود أناس من منطقة إيجه؛ لذا يُمكن أيضًا أن تكون هذه الأنماط ببساطة عبارة عن مظهر من مظاهر العولَمة التي كانت قائمة حتى في أثناء السنوات المضطربة التي اتسمت بها نهاية العصر البرونزي المتأخِّر.

أما فيما يتعلق بالنهاية نفسها، فربما تكون قد استلزمت أكثر بكثير من عمليات النهب البسيطة التي سجَّلَها المصريون للمُغيرين المتنقِّلين، أو «شعوب البحر» كما نُطلِق عليهم الآن. وإن احتمال أن شعوب البحر، الذين غالبًا ما وجه إليهم الباحثون السابقون أصابع الاتهام معتبرين إياهم الجناة الوحيدين المسئولين عن نهاية حضارة هذه المنطقة الشاسعة، كانوا هم الضحايا يُوازي احتمال كونهم المعتدين، كما سنرى في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤