تمهيد

كلمة أخلاق وجدت قبل الغزالي، ففي الحديث «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقد عرف العرب فيما عرفوا عن اليونان كتابًا لأرسطو في الأخلاق، ووضع ابن مسكويه كتابًا في صناعة تهذيب الأخلاق، ويوشك كتابه ذاك أن يكون كتابًا في علم الأخلاق، على نحو ما كان يفهم اليونان، ومن اقتفى أثرهم من فلاسفة المسلمين.

والذي يعنيني الآن هو علم الأخلاق كما فهمه الغزالي. وأقرر أني بعد مراجعة كتبه لم أجده يساير من تقدمه من مجددي الفلسفة اليونانية، وإنما يفهم من علم الأخلاق شرح طرائق السلوك، وفقًا لما سنته الشريعة السمحة، ورسمه الصوفية، ومن نحا نحوهم من الفقهاء. ولعلم الأخلاق فيما يريد أسماء متعددة: فهو تارة يسميه علم طريق الآخرة، وأخرى يسميه علم صفات القلب، وحينًا يسميه أسرار معاملات الدين، وربما سماه أخلاق الأبرار، وهو اسم لبعض مؤلفاته. وأهم كتبه في الأخلاق نجده سماه إحياء علوم الدين. فعلم الأخلاق عنده هو تكييف النفس وردها إلى ما رسمته الشريعة وخطه رجال المكاشفة من علماء الإسلام، ومن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.

وإذا كنا نجد ابن مسكويه مثلًا يستشهد كثيرًا بكلام أرسططاليس وجالينوس، ويتحدث عن الرواقيين، ومن إليهم من الحكماء، فإنا نجد الغزالي يؤيد أبحاثه بكلام ابن أدهم والتستري، والمحاسبي، ومن إليهم من الصوفية، وربما نقل ما روي عن عيسى موسى، ومن إليهم من الأنبياء.

تعريف الخُلق

نرى الغزالي في ص٥٦ من «الميزان» يعرف الخُلق الحسن بأنه إصلاح القوى الثلاث: قوة التفكير، وقوة الشهوة، وقوة الغضب، ونراه في ص٦٤ منه يعرف الخلق الحسن بفعل ما يكره المرء. ويستشهد بالحديث: «حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات.» وبالآية وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ١ ونراه يقول في ص٤٧: «وأما حسن الخلق فبأن يزيل جميع العادات السيئة التي عرف الشرع تفاصيلها ويجعلها بحيث يبغضها فيتجنبها كما يتجنب المستقذرات، وأن يتعود العادات الحسنة ويشتاق إليها فيؤثرها ويتنعم بها».

وإنما ذكرنا هذه التعاريف المبهمة، التي لا تغني شيئًا في التحديد، لندل على ميل الغزالي إلى الخطابيات، فقد لا تخلو منها صفحة من كتبه في الأخلاق.

ولكنه في ص٥٦ ج٣ إحياء عرف الخلق تعريفًا دقيقًا فقال: «الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلًا وشرعًا، سميت تلك الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا.» ثم ذكر أن الخلق ليس هو فعل الجميل أو القبيح، ولا القدرة على الجميل أو القبيح، ولا التمييز بين الجميل والقبيح. وإنما هو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر عنها الإمساك والبذل. ثم قال: فالخلق إذن هو عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة.

١  سورة البقرة: ٢١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤