الفصل الأول

العلوم

تكلم الغزالي عن العلم والعمل، وأيهما أفضل للمريد، في مواطن كثيرة من مؤلفاته في الأخلاق.

وقد لاحظت أنه لم يكن موحد الرأي في هذا البحث، فتارة يقدم العلم على العمل، وأخرى يقدم العمل على العلم. ويخيل إلي أن نزعته الصوفية كانت سبب هذا التردد، بل وأحسب أيضًا أنه كان يداري أهل عصره، ويسايرهم في كثير من الشؤون. فقد أراه يهم بالكشف عن المقصود من العلم ثم يتراجع. ولو جرؤ قليلًا لبين لنا أن العلم النافع لا يقتصر على معرفة العبادات، وما إليها من دقائق التصوف والتوحيد، بل هنالك البحث في طبائع الأشياء، والتنقيب عن السر في أن الله سخر لنا ما في الأرض جميعًا.

غير أنه لم يكد يذكر قوله عليه السلام: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر»، حتى اندفع يقول «ذلك العلم المقدم على العمل لا يخلو: إما أن يكون هو العلم بكيفية العمل، وهو الفقه وعلم العبادات، وإما أن يكون علمًا سواه. وباطل أن يكون الأول لوجهين: أحدهما أنه فضل العالم على العابد، والعابد هو الذي له العلم بالعبادة، وإلا فهو عابث فاسق، والثاني أن العلم بالعمل لا يكون أشرف من العمل، لأن العلم بالعمل لا يراد لنفسه، وإنما يراد للعمل، وما يراد لغيره يستحيل أن يكون أشرف منه».

وكان المظنون بعد هذه المقدمة أن يعطي العلوم ما تستحق من التفضيل. ولكنه قسمها إلى قسمين: عملي ونظري. أما العملي فقد قدم أنه ليس بأفضل من العمل، وأما النظري فقد زيفه جميعه، ولم يستبق منه إلا ما يرجع «إلى العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله، وملكوت السموات والأرض وعجائب النفوس الإنسانية والحيوانية من حيث إنها مرتبطة بقدرة الله عز وجل لا من حيث ذواتها».

مناقشة قصيرة

من هنا يتبين أن واجب العابد لا يخرج عن العبادة والتفكر في المعبود، وما إلى ذلك من معرفة الملائكة والكتب والرسل وملكوت السموات والأرض إلى آخر ما قال.

ونسأل الغزالي: ما رأيه إذا توقف فهم الكتب السماوية على إدراك روح التشريع، بفهم أصول القوانين؟

وما رأيه إذا توقف فهم «عجائب النفوس الإنسانية والحيوانية» على علم النفس، وعلم وظائف الأعضاء؟

وما رأيه إذا اقتضت معرفة الرسل درس التاريخ القديم والحديث، لفهم ما قد يضطر إليه المشرعون من الرسل والأنبياء في مختلف العصور؟

وما رأيه إذا توقف إدراك ما في الكتب السماوية من سياسة الناس على علم الاجتماع؟

لم ينكر الغزالي أهمية العلوم العقلية والنقلية، ولكنه جعل بعضها وسيلة للعلوم النظرية، والوسيلة بالطبع دون الغاية في الرتبة. وجعل بعضها علومًا عملية، وهي أيضًا وسيلة للعمل، فلا يعقل أن تكون أشرف منه!

فلم يبق من العلم المقدم على العمل إلا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في ذاته علم شريف.

ولكني أحب أن أضع هذا السؤال: أيكون من يشغل نفسه بهذا النوع من المعرفة أفضل أمام العقل والشرع ممن أفنى عمره في درس الطب حتى استطاع أن يعرف كيف تغذى الديدان التي تحدث البول الدموي، والتي تهلك في كل عام ما يعد بالملايين؟ وهل يقدم محيي الدين بن عربي يوم القيامة، على من يقضي حياته لا في التفكر في ملكوت الله، بل في غزو السل والسرطان؟

الشك عن طريق اليقين

وبمناسبة العلم نثبت قول الغزالي في نهاية الميزان: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا. إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».

غير أن الغزالي لم يبين لنا مصير المرء إذا بقي في شكه، ولم يهتد إلى اليقين. وما نحسب عصر الغزالي كان يسمح له بتحرير هذه المسألة، وإن كانت غاية في الوضوح فمتى كان المرء حرًّا في أن لا يثق بعقيدة قديمة مهما أجمع عليها الناس لاحتمال أن تكون باطلة، فهو بالضرورة غير مسؤول عن الوصول إلى نتيجة معينة، وإنما يسأل عن اعتقاد ما أداه إليه الدليل.

ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن الغزالي نبه في عدة مواطن من كتبه إلى أنه يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وحض المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. ومعنى هذا أن الشك وإن كان سبيل اليقين، إلا أنه لا يستعمل إلا بمقدار. وهذا المنهج يبين لنا أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. فللعلماء أن يشكوا وأن يختلفوا، ولكن عليهم أن يجنبوا العامة مواطن الشك والخلاف، ومن هنا نفهم كيف يرى أن الإجابة على بعض الأسئلة حرام. وسنعود إلى هذا البحث عند الموازنة بينه وبين الفلاسفة المحدثين.

علم الفقه

ولقد بلغ من إغراب الغزالي في التصوف أن جعل الفقه من علوم الدنيا وألحق الفقهاء بعلماء الدنيا. وأنت تعلم قيمة الدنيا عنده!

ولكن أليس الفقه هو معرفة القوانين التي يساس بها الناس؟ ليكن كذلك! إذ ما قيمة هؤلاء الناس؟ أليس الله أخرج آدم من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين، ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة أو النار؟ وإذا كان هذا مبدأهم، وهذه غايتهم، وكانت الدنيا زادهم، فما قيمة الفقه، وما هي أقدار الفقهاء؟ أليسوا يفصلون في خصومات لو عدلنا ما احتجنا إلى أن يفصلوا فيها، ولما كان لهم قيمة في هذا الوجود؟

هذا هو منطق الغزاليّ.

والحمد لله الذي رحم الشرق وأهله من علم الفقه، ومنّ عليهم بالقوانين الأجنبية التي يقدم إليها أصحابها آيات التقديس، عند الشروق وعند الغروب!

الفقه لا قيمة له في نظر الغزالي، لأنه يتعلق بسياسة هؤلاء الناس المناكيد الذين اضطرونا بشرهم إلى الفقه والفقهاء، والذين لو عدلوا لما حتجنا إلى قاض ولا إلى فقيه!

صدقت يا مولانا الأستاذ! ولكن اسمح لنا بأن نذكرك بأن النبي كان فقيهًا، وكانت شريعته فقهًا، وهل الفقه شيء آخر غير قواعد الفصل في الخصومات؟

وهل بلغ من هوان الدنيا عندك أن تحتقر لأجلها الفقه والتشريع؟

اتركوا الدنيا لأصحابها يا جماعة الصوفية! اتركوا الدنيا للمسلمين فإن الله لم يبعث محمدًا إلا ليمكن للمؤمنين في الأرض، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين.

علم التوحيد

وأما التوحيد فهو عند الغزالي وقف في جوهره على علماء المكاشفة.

 وما هو علم المكاشفة؟

هو علم لا نعرفه، ولكن يقال إن سوء الخاتمة معد لمن ليس له منه نصيب!!

ويقال إن أدنى نصيب من هذا العلم هو التصديق به، وتسليمه لأهله! ويقال كذلك إن أقل عقوبة من ينكره ألا يذوق منه شيئًا!

 وما هي غاية هذا العلم؟

غايته أن تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله وبصفاته الباقيات التامات!

وأنا لا أدري سبب هذه الشهوة الغريبة التي تحمل علماء الدين على البحث عن ذات الله وصفاته، ولا أعلم كيف عميت قلوبهم حتى اندفعوا يذكرون عن ذات الله وصفاته ما يجب أن يتورع عنه المؤمنون!

يطمع الغزالي في معرفة ذات الله معرفة حقيقية، وهذا والله عين الجهل، ونفس الضلال! ويطمع كذلك في معرفة صفاته التامات، وهو الذي بلغ به الأدب مع الأشاعرة والمعتزلة إلى الاختلاف في صفات الله، وفي كلامه، وفي أفعاله، وفي رؤيته بالأبصار يوم القيامة إلى غير ذلك من المباحث التي لا يقدم عليها غير عمي القلوب!

والظاهر أن الغزالي ومن على شاكلته لم يشهدوا المعركة القائمة بين الهدى والضلال، ولم يروا يومًا واحدًا كيف تتصاول العقول؛ فإن البحث عن ذات الله وصفاته حمق وسفه، وإنما سبيل المؤمنين أن يتأملوا ما يحيط بهم من جلال الوجود، وأن يبحثوا في المراد من أن الله سخر لهم ما في الأرض جميعًا، فإنه ليس للعاقل أن يترك الانتفاع بما تلمس يده، وترى عينه، ليغيب في مجاهل من الظنون، يسميها سفهًا علم التوحيد.

وما أسفت لشيء أسفي لانحصار الأفكار الإسلامية في «معرفة معنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم الملائكة والشياطين ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى لقاء الله والنظر إلى وجهه، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء».

فإن هذه في الأصل أكثرها رموز ظنها المسلمون حقائق، فوضعوا لها ضروبًا من التفسير والتأويل.

والذي يطالع الكتب القديمة يرى جمهور الفقهاء أعلم بخريطة الآخرة منهم بخريطة الدنيا: فهم يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود، وفي مقدور المرء أن يجد مئات الكتب في وصف الحشر والنشر، ولا يجد كتابًا واحدًا في تحديد المراد من الخلافة الإسلامية، التي قامت بسببها آلاف الفتن، ومئات الحروب.

والغزالي من الذين ساعدوا على بقاء هذه العماية، فقد وضع الكتب المطولة في كيفية العزلة، ولما أراد أن ينقد الشؤون الاجتماعية وضع كتابه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، فكان آية في السخف والاضطراب.

 وإلى من نقاضي هؤلاء العلماء؟

نقاضيهم إلى القرآن: ففيه الدعوة إلى الملك، وإلى أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وهل الأخلاق شيء آخر غير حرب الذلة والقلة: في الأفراد، والجماعات، والشعوب؟

نقول هذا ونطالب كل مسلم بالحذر البالغ عند مطالعة كتب المتقدمين، فإن أكثرهم لم يعرف السياسة، ولا شؤون الاجتماع، وإلا فأين غرر المؤلفات في الأمور السياسية والاجتماعية؟ وأين البصر النافذ إلى أعماق الحياة الدولية؟ بل وأين الخبرة بالسريرة الإنسانية، التي حسبوها لا تعدو طلاب الجنة من الزهاد، والعباد، من كل راض بالفقر، قانع بالسؤال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤