مقدمة

ما كلُّ ما يعرف يقال، ولا كلُّ ما يقال جاء أوانه، ولا كلُّ ما جاء أوانه حضر أهله.

الإمام علي

ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرًّا والشر خيرًا، فلا تكون هنالك حقيقته.

أرسطو

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ

(قرآن كريم)

مثل هذا الوجود — كما يتصوره الملاحدة والماديُّون — أصحاب الرأي القائل: «إنْ هي إلَّا أرحام تدفع وأرض تبلع.» كمثل كتاب نفيس لمؤلف عبقري جليل، قدَّم له بمقدمة غاية في الإبداع والإمتاع، فإذا ما قرأتها وفرغت منها، ثم حاولت الاستئناس بما في الكتاب من قيم الفكر وصائب الآراء؛ لم تجد شيئًا، أجل لو كانت الحياة تنتهي بإبدال ظلمة الرمس، بنور الشمس، وتنقضي بانقضاء مرحلة الشقاء التي يقضيها المخلوق على هذه الأرض جبرًا، فلا رأي له ولا اختيار في وجوده وحياته وأجله ورزقه، لو كانت هذه هي كل ما من أجله نُظِم هذا الكون بهذا النظام البديع، حتى أصبح وليس في الإمكان أبدع مما كان، إذن لكان هذا الوجود — على ما يتصوره هؤلاء القوم — ليس مساغًا ولا معقولًا، وإذن لاستعصى على الأفهام أن تسيغه، وعلى العقول أن تستمرئه، فكان هباء في هباء.

البله — بله العلماء — لا يقدمون على إذاعة مصنَّف، ونشر مؤلف، في الناس، كله مقدمة بلا نتيجة، إذن فالمفهوم والمعقول أن تكون النتيجة لا على قدر المقدمة فحسب، بل أهم وأعظم، وإذن فما نراه، وما نسمع به، وما يقع عليه نظرنا في هذا الوجود العجيب المدهش — إذن فكل ذلك — ليس شيئًا مذكورًا إلى جانب النتيجة وهي كل ما في الموضوع، وإذن فالذي يصح في الأفهام أن تكون هناك حياة أرقى وأعظم وأهم وأبقى من هذه الحياة الدنيا.

وإذا كانت العلل لوغارتمات المعلولات، وكان كل ما في المصنوع من إقناع، وإبداع، وإتقان وتفوق — إنما يدل على ما في الصانع من حكمة وتفوق ومقدرة وعلم — كان لا بد لهذا الوجود العظيم، المُنظَّم المتقن، من صانع حكيم عليم يفوق عقول البشر ومقدراتهم فئوقًا لا حدَّ له.

إثبات وجود الله

وما نحن بقادرين على أن نبلغ غاية نِشْداننا في هذا الموضوع — وإنما نحن نحاول محاولة أن نقرب إلى أفهام بعض الراغبين — صورة قد يأنسون لها، وينتفعون بها، في جدلهم وردهم على المبطلين، نقول: وإنه ليستحيل على المرء إدراك «الذات» الإلهية بعقله الضعيف الكليل الذي غرَّه، فصار يزعم أنه يهيمن به على كلِّ ما في الوجود، وعتا عتوًّا كبيرًا.

والحق: أننا بحاجة إلى حاسة أخرى ليست لنا الآن، ولا نبلغها إلَّا بعد أن يبلغ روحنا درجة النقاء من غواشي المادة، وما علق بها من خلق وصفات مكتسبة.

نقول: وإنما نحن نستطيع أن نستدل على صفاتٍ ضرورية في الله — جلَّ شأنه — من مقدمة برهان وجود — الواجب الوجود — مطلقًا، ويجب أن تكون هذه الصفات القدسية أو الكمالات محور الدائرة في كلِّ دين من الأديان.

اعرف نفسك بنفسك.

جملة سُطِّرت على هيكل دلفيس، فلاكتها ألسنة حكماء اليونان قديمًا، فهل عرفنا أنفسنا؟ ومن عرف نفسه فقد عرف كلَّ شيء.

وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟

هذا ما يقوله الإنجيل، ونحن نقبل على كلِّ شيء، ونلهو بذلك عن أنفسنا، فنضيِّع كلَّ شيء.

وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ

الآية القرآنية الشريفة، ولكننا لم نفكر في أنفسنا، ولا نزعنا إلى تعرف ما في خلْقنا من غرائب وعجائب، أنا لا أريد تدليلًا، ولا أبغي برهنة على وجود «الواجب الوجود» ولكني أدل الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر على طريقة سهلة نافعة قد تؤدِّي بهم إلى الإيمان من غير عناء ولا كد.

اندمج في حسِّك، وأنسْ إلى نفسك، بعيدًا عن كلِّ ضوضاء أو خيلاء، في وحدة وسكون، هناك وأنت منسجم مستسلم تشعر بميل غريزي يجتذبك نحو الحق، وتحس بأنه يحقق لك وجوده دون حاجة إلى تدليل أو برهنة.

أمثال نضربها

  • (١)

    هبك سائرًا في صحراء قحلاء، فصادفت ساعة منمقة مضبوطة تعينك على معرفة الوقت وضبط مواعيدك، ألا تستدل من وجود الساعة على أنه لا بد أن يكون قد مرَّ بهذه الصحراء إنسان من غير سكَّانها وأنه متمدين؟ ألا تحكم على التوِّ بأن هذه الساعة من صنع صانع لم تره ولم تعرفه، وأن هذا الصانع عاقل ومدبر وذو دراية بصنعته؟!

  • (٢)

    إذا رأيت طائرًا يحلِّق في الجو أصابته رمية فجندلته وألقته صريعًا وهو على حاله هذه، ألا تحكم للحال بأنه لا بد أن يكون هناك صياد ماهر عاقل ذو قدرة وعلم، ألا تحكم بكلِّ هذا ولو لم تر ذلك الصياد؟!

  • (٣)

    إذا رأيت آلة بديعة الصنع، مُتقَنة محكمة غاية في الإبداع، هل يقع بخاطرك وأنت تراها على هذه الصورة أنها إنما صنعت مصادفة، وأبدعتها الظروف الطارئة؟!

  • (٤)

    إذا آنست طرفة صناعية بديعة الصنع مُتقَنة الوضع، ألا تحكم على التوِّ بأنها لم تكن هكذا إلا بصنع صانع، وأن هذا الصانع عالم وحكيم وماهر في صنعته؟!

    إنهم يستدلون على وجود الإنسان من وجود أعماله، ولقد استدل العلماء أصحاب التاريخ البشري على وجود الإنسان الغابر — السابق للطوفان العام — من وجود مصنوعات غليظة استكشفوها في طبقات الأرض الخاصة بذلك العهد؛ كحطمة من إناء خزفي، أو حجارة منحوتة، أو سلاح من حجر.

وما بنا من حاجة إلى الاستزادة من ضرب الأمثال، وهذه الطبيعة حولنا ناطقة بوجود القدير الحكيم المتعال. انظر إلى ما في هذه الطبيعة من إتقان وإبداع، وحسن وإحكام، ونظام وتدبير، ثم احكم بعد ذلك مجردًا عن هوى الشيطان وزيغ القلب.

على حين أننا لا نزال خاضعين لناموس النمو والارتقاء، ولا نزال في حالة انحطاط عقلي وأدبي، إذن فليس يمكننا ونحن في هذه الحالة أن ندرك عدم تناهي المولى جلَّ وعلا، ولقد تصوروه كائنًا محدودًا، وتمثلوه بأشباهٍ تعالى الله عما يصفون علوًّا كبيرًا.

ومن الناس من يجادل بالباطل في عدل المولى وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا قالوا: إذا كان الله عادلًا فلماذا هذا التناحر القائم ليلَ نهارَ بين الوحوش في الفيافي؟

نقول: والرأي السائد أن هذا الناموس الطبيعي يظهر بادي الرأي أنه مناف لجوده وعدله سبحانه وتعالى، وإنما يعتقد الإتلاف المذكور نقصًا أولئك الذين يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوقهم، ولا تقوى شاعرياتهم على الوصول إلى الحقائق، ولا عقولهم على إدراك الحقيقة، أولئك الذين يقيسون كمالات الله — جلَّ وعلا — على قدود أفهامهم ومستوى مداركهم، وما فيهم من ماهية إدراكية، وكان فوت أفهامهم أنهم إنما يزعمون الخلل والنقص في عين الحكمة، وما دروا كيف يمكن لخير حقيقي أن ينتج من شرٍّ ظاهر، ولو أنهم ولَّوا وجوههم شطرَ المظهر الروحي، ووحدة نظام الكون؛ لزال من أنفسهم هذا الوهم، أو انتفى الشك، وتحققوا أنه الصواب في ما ظنوه نقصًا وشذوذًا، وأن الحياة الجسدية إن هي إلا كساء وقتي، أما الحياة الحقة الصحيحة — في الحيوان والإنسان — فهي في العنصر الروحي.

بين مذهبين

لا نبالغ إذا قلنا إننا نعيش في عصر المادة، وقد ملك المذهب المادي على الناس جماع حواسهم ومشاعرهم، فصاروا ماديين في كلِّ شيء، في كلِّ مظهر من مظاهر حياتهم، لا يهتمون إلَّا بالمادة، ولا يأنسون إلَّا لها، ولا يفكرون إلَّا فيها، فانتصر المذهب المادي على المذهب الأدبي، ولكن إلى حين، أما المذهب الروحاني فالرأي عندنا أنه مذهب المستقبل، ولقد ملَّ الناس هذه المادية بعد أن قطعوا فيها من عامة عمرهم شطرًا كبيرًا، وما في هذا المذهب (المادي) من فضل إلَّا في تكييف وتسهيل سبل الحياة الدنيا، وحسبنا أن نعلم أن النهليست والفوضويين والشيوعيين، حسبنا أن نعلم أن هؤلاء — وهم أخطر ما يكونون على المجتمع الإنساني وأضر ما ظهر على الإنسانية — من الذين ارتشفوا المادية البحتة، هنالك يحق لنا أن نمقت الاندماج في المادة بكل حواسنا، وهنالك يحق لنا أن نعمل على إحياء المذهب الروحاني وقد أذن مؤذن البشرى، ودقَّت ساعة الانتعاش، وبدأ نجم هذا المذهب في الظهور، بعد أن اعتنقه كثيرون، وأقبل عليه عظماء جليلون من عمد العلم وزعماء الفلسفة، وأقطاب المذهب المادي، وحسبك أن تعلم أن أمثال: إديسون المخترع الأمريكي الأشهر، وأولفر لودج رئيس المجمع العلمي البريطاني وأكبر مظهر في جو العلم وزعيم في حلبة المادة، ووليم جيمس ومكانته مكانته في العلم الحديث، وكونان دويل، وستيد، وأمثال هؤلاء النوابغ؛ قد هجروا المادية بعد أن عافوها واعتنقوا «المذهب الروحاني» وعالجوا كثيرًا من موضوعاته عمليًّا.

•••

من منا يستطيع أن يقف حركة تفكيره والناس مفطورون على التفكير، شغفون بتعرِّف ما خفي وعمي عليهم، كلفون بالنظر في ماضيهم ومستقبلهم، فأول ما يهم الإنسان التفكير فيه هو أن يعرف ويسأل نفسه في: من هو؟ من أين أتى؟ إلى أين هو ذاهب؟ وما هي الغاية من وجوده في هذا العالم؟

ولما لم يأنس الإنسان في نفسه قدرة على تعرف الصواب من هذه الأمور ولَّى وجهه شطْرَ العالم غير المنظور، فعالج مسائل المذهب الروحاني وانتفع بها: انظر كيف قصد شاوول الملك إلى عرافة عين دور، ثم طلب إليها أن تستحضر له روح صموئيل، فحضر روح صموئيل، واستطلع منه نتائج الحرب كما جاء في التوراة.

إن كثيرًا من اليهود كانوا يتناقلون تعليمًا سريًّا يُدعَى القبالة، موضوعه مناجاة الأرواح، ولم يكونوا يقبلون في شركتهم إلَّا من قيَّد نفسه بالأيمان المغلَّظة على الأمانة وحفظ السر، وهاك ما جاء في التلمود بهذا المعنى: كلُّ من تعلَّم هذا السر «استنباء الأرواح» وحرص على كتمانه في قلب نقي؛ يحظى بمحبة الله، ومودة البشر، ويكون اسمه مُبجَّلًا، وعلمه لا يشوبه النسيان، ويكون وريثًا للعالمين رأي الحاضر والعتيد.

وأنت تعلم من تتبُّع سِيَر الأقدمين أن الشعوب جميعها كانت تؤمن قديمًا بإمكان مخاطبة الأرواح، وإنما كانت طائفة معينة في كلِّ أمة، وبين كلِّ جيل من الخلق تحتكر هذا الموضوع، وتجعله سرًّا مكتومًا، وتخفيه على الكافة من الشعب.

ولقد يحدثنا التاريخ أن كهنة الهنود كانوا يعالجون تعويد بعض أناس على استحضار الأرواح، وعلى معالجة حوادث أخرى مدهشة بالمِغْناطيسية الحيوية، على أن هذا السرَّ — سر استحضار الأرواح — لم يكن يعلمه إلا من قضى أربعين سنة في التجربة والطاعة العمياء، أما المتمرنون فكانوا على ثلاث طبقات:
  • (١)

    البراهمة: ووظيفتهم العناية بالطقوس الخارجية، وخدمة هياكل الأصنام، وإرشاد الشعب وتعليمه.

  • (٢)

    هم المقسمون والعرَّافون، ومستحضرو الأرواح: ووظيفتهم الإبهام على عقول الشعب بحوادث خارقة، وكانوا يقرءون ويفسِّرون كتاب «الإطار فافيدا».

  • (٣)

    هم البراهمة المتقدمون المعتزلون عن الشعب: وكانوا يعالجون دراسة قوى الكون والعلل الطبيعية، ولم يكونوا يظهرون خارج الصوامع إلَّا نادرًا وبهيئة مخوفة.

وكذا أجمع المؤرخون على أن كهنة المصريين كانوا يأتون أعمالًا خارقة للعادة، منها تلك الأشياء التي تحدِّثنا عنها التوراة في سحرة فرعون.

أما سيدنا موسى — عليه السلام — فقد نهى قومَه عن ممارسة استحضار الأرواح؛ حيث جاء في سفر التثنية:

لا يستعملن أحد منكم السحر والرفاء، ولا يستحضرن الأموات لاستطلاع الحقيقة.

ولا يزال النزاع قائمًا بين الروحيين والماديين في مسألة وجود نفس مدركة عاقلة في الإنسان، فأصحاب الدين يقولون بالروح، وهي مصدر الذات العاقلة، والماديون يكفرون بذلك، ويقولون بأن الدماغ مصدر القوى العاقلة في الإنسان، وأن نسبة الدماغ للفكر كنسبة البول للكلى، أو الصفراء للكبد، فهم يجحدون كلَّ ما هو غير «هيولاني»؛ أي كلَّ ما هو غير مادي، ويقولون بأن الإنسان إنْ هو إلَّا آلة مادية، تتلاعب به التأثيرات الخارجية، حتى إذا جاء أجله انطفأ نور الفكر، وانعدم كلُّ شيء.

نقول: «فإذا نظرنا إلى ما جاءنا به العلم سيما علم الفزيولجية على لسان علمائه الطبيعيين؛ نجد أنهم يقولون بأن كلَّ حركة تصدر من إنسان أو حيوان إنما يصحبها احتراق جزء من المادة العضلية، وكل فعل من الحس أو الإرادة ينشأ عنه فناء في الأعصاب، وكذا كل تفكير ينشأ عنه إتلاف في الدماغ، ومعنى هذا أنه ليس يمكن أبدًا لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة، فإذا ما بدأ عمل عقلي أو عضلي فالجزء من المادة الحية الذي يُصرَف لصدور هذا إنما ينعدم تمامًا، فإذا عاد العمل وتكرر فمادة جديدة تصلح لصدوره ثانية، وكذلك دواليك، والقاعدة أن النسبة محفوظة في الإتلاف، أي إنه كلَّما اشتد ظهور الحياة ازداد تلف المادة الحية، وإنما المادة المستجدة الداخلة في الدم بواسطة الهواء والمواد الغذائية تعوِّض من هذا التلف باستمرار، وإنما يرتبط هذان العاملان الواحد بالآخر، فعامل الإتلاف وعامل التجديد يتصل الواحد بالآخر في الكائن الحي، وعامل التجديد سرِّي خفي، أما عامل الإتلاف فيبدو للعيان، والحاصل من هذا عند العقل أن جسمنا يتجدد مرات كثيرة في مرحلة الحياة.

يقول الماديون: إن الذاكرة عبارة عن اهتزازات فسفورية، تتخزن في القلية العصبية من الدماغ بعد أن تصل إليها التأثيرات الخارجية، فإن صح ذلك، وإذا تقرر أن كلَّ ما فينا من قلالي عصبية، وأنسجة عضلية، وعظام تنعدم وتتجدد في فترة معلومة لا تزيد على السبع السنين؛ لاقتضى لقوة الذاكرة أن تنقص فينا بالتدريج إلى أن تتلاشى في سبع سنين، وأن نضطر في كلِّ سبع سنين إلى تجديد كلِّ ما تعلَّمناه سابقًا، على أنَّا نشعر بأن الأمر على العكس؛ ذلك بأن تيار المادة المتجددة فينا لم يحدث أقل تغيير في ذاكرتنا، وأنَّا في إبَّان الهرم نذكر أمورًا وقعت في حداثتنا، وعليه فالواقع ينطق بأنه برغم استبدال ذرات كياننا، فإن كلَّ ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا، وهو ما يدل على أن هناك غير «الهيولي» نفسًا أو روحًا، يقيها جوهرها اللطيف من كلِّ ما يطرأ من تحوُّل أو تقلُّب ينتاب المادة، على حين أن هذا لا يمنع من انطباع صور الحوادث والذكريات فيها وكذا المعارف والعلوم انطباعًا يدوم زمانًا طويلًا، وهو عمل القدرة الإلهية.»

أولم يروا إلى التنويم المِغْنطيسي، ويشاهدوا كيف يكون اتصال النفس بالجسد؟ وكيف تقوم بأعمال غريبة مدهشة؟ وكيف تظهر في النفس قدرات تخفى في غير هذا الموقف؟ إنهم إن لم يؤمنوا بما أظهرتهم عليه الطبيعة أمهم كانوا من الضالين المتعنتين، ومعلوم أن مرجع الانفعالات والتأثيرات الدماغ، ومعلوم أن الانفعالات والتأثيرات الخارجية تهتز الألياف الدقيقة التي تحمل هذه التأثيرات إلى المجموع العصبي؛ لينقذها ويجري حكمه فيها، ومعلوم أن الأعصاب قد اختصت كلٌّ منها بوظيفة خاصة تقوم بها، فلا أعصاب السمع تؤثر في أعصاب البصر، ولا هذه تؤثر في غيرها، وإنما يقوم كلُّ عصب بما خُلِق له. ونحن إذا بحثنا مثلًا حاسة البصر نجد أن الحركة التموُّجية في الأثير — بتأثيرها في شبكة العين — تُحدِث في العصب البصري اهتزازًا، ونجد أن هذا الاهتزاز يمتد إلى الطبقة البصرية المستقرة في وسط الدماغ، قال: ومن هنا يندفع إلى مركز الحواس، حيث ينتشر في القلالي الدقيقة، ويوقظ العناصر التي وظيفتها نقل التأثيرات البصرية. إذن فكلُّ هذه التأثيرات الحسية تتفرق ثم تجتمع في مكان خاص من الدماغ، وقد أثبت التشريح وجود أماكن معينة في الدماغ لتجمُّع وتكييف هذه التأثيرات، ولقد أثبت العلماء الفزيولوجيون بالتجربة أنهم إذا قطعوا من المادة المخية قطعة أصولية؛ يفقد الحيوان قوة إدراك التأثيرات السمعية أو البصرية.

فإذا سألت أحد الماديين: كيف تتحول هذه الحركات الاهتزازية بعد وصولها إلى مراكزها النسبية من الدماغ إلى أفكار فهمية؟ قال: إنها حينما تبلغ القلالي الحسية يحدث فيها من ردِّ الفعل ما يحدث في قلالي النخاع الشوكي.

قال: وهذا يحدث في ضفدعة قُطِع رأسها، ومع ذلك تتشنج رجلها لدى مسيسها بحامض مهيج، قال: فالأمر نفسه يحدث في مؤثرات القلالي الحسية من الدماغ؛ أي إن القلية القشرية عندما يبلغها الاهتزاز الخارجي تنتبه، وتفزع القوة الكامنة فيها، وتمتد الحركة حتى تبلغ القلالي الغليظة، وهذه تنقلها إلى المادة الرمادية ذات الأخاديد فيها من الدماغ التي تقوي الاهتزازات، وتدفعها إلى الأعضاء على شكل تأثير أو أمر أو محرك.

إنا نسلم مع ناكري النفس بكيفية مجرى الحسِّ المعبر عنه بالاهتزاز العصبي، بيد أن هؤلاء فاتهم أمر خطير بين بلوغ الحادثات إلى الدماغ ورد الفعل، هو حادث الإدراك، أي دراية الشخصية الإنسانية بما حدث من الأمور الخارجية، ذلك أن الاهتزازات والتهيجات العصبية إن هي إلا حركات مادية، تولد حركاتها مثلها ولكنها لا تُحدِث إدراكًا، وما نتيجتها سوى تنبيه القوة العاقلة لإدراك مصدر هذا التنبيه وعلته وغايته.

قال: إن القلية العصبية المركبة من كميات متناسبة من الكوليسترين والماء والفوسفور وحامض الأوميك إلخ … ليست بذاتها قوة مدركة، والحركة الاهتزازية هي بذاتها حركة مادية محضة، فكيف يُعقَل أن اهتزاز هذه القلية العصبية وانتصابها يولد إدراكًا؟ وهنا ما يعجز الماديون عن تبيانه، أما الروحيون فيعلموننا وجود شخصية عاقلة فينا تُسمَّى نفسًا، تنتبه بهذا الاهتزاز إلى ما طرأ من الحوادث الخارجية، وعندما يتم انتباهها هذا يحدث الإدراك.

قال: ويؤيد هذا بأجلى بيان حادث الذهول … مثلًا عندما نكون مستغرقين داخل حجرتنا في أيِّ عمل من الأعمال، إنا نغفل عن تكتكة الساعة، بل عن طرق ناقوسها أيضًا، مع أن اهتزازات الصوت أثرت في عصب سمعنا، وبلغت حتى الدماغ دون أن ننتبه لها، وما ذلك إلَّا لأن نفسنا المشتغلة بأفكارٍ أخرى لم تنتبه، ولا أثَّرت فيها اهتزازات القلالي الدماغية، فلم يحصل الإدراك السمعي، والحاصل أن المادة ذاتها عديمة الاختيار لا تولِّد شيئًا من نفسها، والمادة الدماغية آلة لتِبيان إحساسات النفس العاقلة وأفكارها، فلا تعقل لما تصدر بواسطتها من التعبيرات الفكرية، كما أن آلة الساعة مثلًا لا تدرك حركة الأوقات التي تشير إليها، ولا قراطيس الكتاب الأفكار المسطرة عليها، ومن زعم أن الدماغ يدرك الفكر كمن يزعم أن الساعة تدرك حركة الوقت، والقرطاس معاني الكتابة.

وما لنا نعنِّت أنفسنا ونكد عقولنا في نقد المذهب المادي، ونقْض ما قام عليه من أسس، ولدينا من آراء فحول المادية، ومشهوري الطبيعيين ما يغنينا عن ذلك، ويبين للملأ أن قدرة الخالق ظاهرة في كلِّ الموجودات، وينطق بعظمتها وحكمتها حتى أصحاب الجحود ممن عاشوا في جلودهم، وعبروا عامة عمرهم بين معامل الكيمياء لا يخنعون إلَّا للظاهر المحسوس، ولا هم يؤمنون إلَّا بما هو طبيعي ذو أثر بيِّن.

وإنَّا مُورِدون طائفة من هذه الآراء يستعرضها القارئ الكريم؛ ليُجرِي من بعد ذلك حكمَه غير خاضع لمؤثر، أو متنكب سبيل الصواب، وهاك هي:
  • الأستاذ ميلن: في جامعة السربون يقول إن الحيوان المُسمَّى إكسيلوكوب من المحيرات للفكر، قال: إن هذا الحيوان يُرى طائرًا في الربيع، ويعيش منفردًا، ويموت بعد أن يبيض مباشرة، فلا يرى صغاره، ويعيش في مكان محكم، حتى إذا حان وقت البيض عمدت الأنثى إلى قطعة من الخشب فحفرت فيها سردابًا طويلًا، ثم عمَّرته بذخيرة تكفي صغارها سنة كاملة، وهي طلع الأزهار، وبعض الأوراق السكرية، وتأتي بنشارة الخشب تجعلها سقفًا على تلك البيضة، ثم تجيء بذخيرة جديدة تضعها فوق ذلك السقف، ثم تضع بيضة أخرى، وهكذا فتبني بيتها مكوَّنًا من جملة أدوار، فإذا تمَّ لها ذلك، ودَّعته وهلكت، قال الأستاذ: إن الإنسان ليدهش إذ يرى هذه العجائب، ويرى من الناس من لا يزال يقول: إنها كلها نتيجة المصادفة.
  • باستور: صاحب التجاريب في الاختمار، سأله سائل: كيف يا دكتور نستطيع أن نوفق بين استكشافاتك العلمية والتعاليم الدينية؟ فأجابه قائلًا: اعلم بأن دروسي بدلًا من أن تزعزع اعتقادي جعلتني في إيماني كالفلاح البريطاني (وهو مثل فرنسي يضرب لشدة الاستمساك).
  • هارفي: مستكشف دوران الدم في البدن قال ما شرَّحت حيوانًا إلا رأيت فيه شيئًا جديدًا يدل على العناية الإلهية.
  • الأستاذ جولييه: يقول إن مذهب لامارك ومذهب دروين يستويان في القصور؛ فإنهما لا يفسران إلَّا التحول من الحياة المائية إلى الحياة الأرضية، ولا التحول من هذه إلى الهوائية، قال: فكيف استطاع الحيوان الزاحف — وهو سلف العصفور — أن يناسب البيئة التي ليست ولا يمكن أن تكون له إلَّا بعد أن يتحول من صورة حيوان زاحف إلى صورة عصفور؟ وكيف يستطيع أن تكون له حياة هوائية قبل أن تكون له أجنحة نافعة؟ أما مسألة الحشرة فإنها أشد استحالة من ذلك، فهل هناك أية علاقة من جهة علم الحياة بين الدودة وبين الحشرة الكاملة التي تنقلب إليها؟ لأن الحشرة التي اعتادت الحياة الدودية تحت الأرض وفي الماء، فكيف تصل شيئًا فشيئًا إلى إيجاد أجنحة لجسمها تصلح لحياة هوائية بعيدة عنها بل مجهولة لها؟!
  • نيوتن: دحض آراء الماديين في أربع رسائل كتبها، ثم بعث بها إلى الدكتور «تنبلي».
  • فون باير: من أقطاب الفيزيولوجية ومؤسس علم الأجنة قال: إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة السيمائية هو — بلا شك — أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان.
  • دوفري: يقول إن التحولات الفجائية هي القاعدة في عالمي الحيوان والنبات، وقد أعلن هذه الحقيقة «جوفر» و«سان هيلر» و«كوب» وثبت أن الظهور الفجائي للأنواع الكبيرة الرئيسية كالزواحف والطيور، وذوات الثدي؛ كان في الأرض الجيولوجية، ومتى ظهرت حصلت على صفاتها.
  • هكسلي: يعترف في كتابه «داروينا» بأنه يستحيل نقض الألوهية بحسب مذهب الارتقاء، ويقول في مقال آخر: إن من ينكر وجود الإله كما تصوره «سبينوزا» لأحمق، وهو يعترف أخيرًا بالقوة الفاعلة القادرة.
  • دكتور جوستاف جوليه: يقول يكفي لإبطال النظريات الدروينية أن يتأمل الإنسان الحشرة؛ فإنها ظهرت في أقدم عصور الحياة الأرضية، وثبتت أنواعها في جميع الأحوال، فهي تناقض ما ذهبوا إليه من التحولات المستمرة البطيئة، وتناقض التطور بفعل الفواعل الخارجية، فإنها تنقلب داخل الشرنقة من حال الدودية إلى حشرة طائرة، ولا تأثير عليها من الخارج، كما أن الهوة عميقة بين الحال الأولى — وهي الدودية — والحال الثانية وهي حال الحشرة، وهي هوة تضيع فيها — ولا كرامة — جميع النظريات الدارونية واللامركية، فالحشرة أدت شهادة حسية لبطلان مذهب دروين، كما أثبت عجزه في تفسير غرائزها الأولية العجيبة المحيرة للعقل.
  • ولاس: شيخ علماء الطبيعة، وشريك دروين في كتابه عالم الأحياء يقول: إن وجود هذه الأحياء يستلزم وجود قوة مرشدة مدبرة، فيستلزم وجود قوة خالقة، أوجدت المادة على أسلوب يجعل حصول هذه التنوعات من الممكنات، وثانيًا وجود عقل مرشد؛ لأنه لا بد من الإرشاد في كلِّ درجة من درجات النشوء، وثالثًا لا بد لهذه القوة الخالقة من غاية ترمي إليها فيما خلقته ودبرته في هذا الكون الوسيع، طوال هذه العصور الجيولوجية الغابرة والحاضرة، وعندي أن هذه الغاية هي الإنسان، هو المخلوق الذي يفهم شيئًا من نواميس الطبيعة، ويستقصي أفعالها، ويدرك قيمة القوى التي فيها، ويستنتج منها وجود العقل المتسلط عليها.
  • دوكلتر فاج: يقول إن القرابة في التاريخ الطبيعي للإنسان من القردة طبيعية، أن الإنسان في العهد الحفري الرابع وُجِد مشابهًا لنا في الصورة (مع أنه كان يجب أن يكون أقرب إلى أسلافه القردة) ثم قال: إننا لا نستطيع أن نعتبر ولادة الإنسان من القرد — أو من أي حيوان آخر — من الأمور العلمية.
  • جسندي: سنة ١٥٩٢ قال: ليس عندي شك في أن الله خلق العالم، إلَّا أنه لا بأس من معرفة كيف كان يمكن العالم أن يتكون من نفسه.
  • لامارك: يسلم بوجود الله، وينسب إليه وجود الهيولي المركب منها الكون، ولكنه يقول: إنه تعالى بعد أن خلق الهيولي بخصائصها لم يفعل شيئًا، وإن الحياة والأجسام الإلهية والعقل كلها نتائج الهيولي، ونتائج قواها، فهذا الرجل لا يخالف أهل الدين في وجود الخالق، بل يخالفهم في كيفية الخلق، والرأي عندي أن مذهبه هذا يتفق مع بعض المتكلمين من أهل المذاهب، ويسير مع القدرية أو المعتزلة الذين يقولون: إن الخالق وضع للكون نظامًا تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين في أفعالهم، قوى وقدرًا، تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية، أو بطريق الإرادة والاختيار، وهم من هذه الناحية لا يخالفون الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها، أو تأثير قدرة المخلوقين في أفعالهم، باقٍ منهم إلى اليوم طائفة الشيعة الإمامية الزيدية.
  • سبنسر: سائلًا نفسه: ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلَّا بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كلُّ شيء زائل أما هي فباقية أبد الآبدين، وهي علة العلل.
  • ولقد سئل عالم فيلسوف مؤمن: ما قولك في مذهب دروين، وماذا نصنع معه؟ فقال: إذا كان من يصنع ساعة يُعَدُّ عظيمًا، فالذي يصنع ساعةً تصنع ساعة يُعَدُّ أعظم.

تمحل الأستاذ الزرقاوي لموضوع «العدل الإلهي» فنشر في «جريدة الأهرام» سؤالًا عامًّا وجَّهه إلى كلِّ من يهمه هذا الأمر، ولمَّا كان هذا السؤال كالزلاقة التي ينحدر عليها كلُّ متورِّط، وكان أخطر الخطر أن يلقي في روع الناس مثل هذه الرِّيَب والشكوك؛ لذلك آثرت الرد على الأستاذ في تريُّث وهوادة، عسى أن أصل إلى ما ينقع غلة، أو يشفي علة، فنشرت رسائل في «الأهرام» ردًّا على هذا السؤال، هي بعض هذا الكتاب، وهي جمَّاع آراء وعنعنة أفكار، أكثرها لغيري، وأقلها لي، وفقنا الله وهدانا إلى ما فيه الخير والبر.

وهاك سؤال الأستاذ …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤