في العالم

حيال هذا وحيال ما تمحَّلنا له من رأي «غاليلي» في عظمة الكون — بعد أن فارق هذا العالم — وحيال ما جاءنا به هذا العلَّامة من القول بالفضاء واللانهاية، وتمحُّله لآراء بعض العلماء في هذا السبيل، حيال كل ذلك وقبل أن نتعرَّض لما جاء به غاليلي وهو في عالم البقاء، لا نرى ندحة من عرض بعض الفكر والآراء لتبيان الموضوع هذا، ولنظهر القراء على ما حدا غاليلي أن يقول هذا القول بعد أن ودَّع عالم الفناء، وصار في عالم البقاء، وظهر له ما عمي علينا فنقول: إن أمثال الفلاسفة القدماء كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن الطفيل، والرازي، وأمثال هؤلاء ممن ضربوا في الفلسفة بسهم، ومن الذين درسوا الفلسفة اليونانية ثم صبغوها بصبغة إسلامية، إن الفلاسفة القدماء هؤلاء قد أجمعوا أمرهم على أن هذا العالم محدود محصور، ولهم في ذلك كلام طويل سنشرحه، وأدلة وهمية عرضوا لذكرها، فأثبتوا بها أن الأفلاك تسعة، منها سبع سماوات، فيها السيارات الخمس والشمس والقمر، وفوقها فلك الكوكب، ثم الفلك الأطلسي الذي لا علائم فيه، وهو محرك الأفلاك كلها، أما ما وراء هذا الفلك فيسمونه: «لا خلا ولا ملا» ولهم برهنة في ذلك وتدليل، وإنما يسمون برهانهم في ذلك البرهان السلمي أ ب.

فيقولون: لو أننا مددنا خطين وهما ساقا مثلث — مثل أ وب — امتدا إلى غير نهاية، فهذا يستحيل؛ لأنهما إذا امتدا إلى غير نهاية كان الخط الواصل بين هذين الساقين ممتدًّا أيضًا إلى غير نهاية، فكيف يكون محصورًا بين خطين، وهو لا نهاية له؟ إذن امتداد الساقين إلى غير نهاية مستحيل؛ لأن هذا الامتداد لزم منه أمر مستحيل، وهو وجود خط محصور بين حاصرين وهو بلا نهاية، وهو تهافت … فإذن الخط له نهاية، وإذن يكون هذا العالم له نهاية، وما الفراغ والخلاء إلا ما كان مثل الذي بين بلدتين، أو حائطين، أو كوكبين، فأما ما هو فوق العالم فليس يطلق عليه خلاء، بل هو عدم صرف، هذا ما كان يذهب إليه القدماء، وهذا هو الذي تعلمه غاليلي في حياته الدنيا، ثم هو من بعد موته وانتقاله إلى عالم الخلود أصبح يحتقر هذا الرأي.

إذن فالرأي الذي يلح به في سياق حديثه مذهب الفلسفة القديمة، التي نقلها العلماء عن فلسفة ابن رشد كما سنبينه بعد.

وإذن فروح غاليلي تقول لنا: إن التعاريف التي جاءتكم بها مذاهب هؤلاء الفلاسفة مغالطة؛ لأنها تنكبت محجة الصواب؛ ذلك لأن الفراغ الذي بعد العوالم المادية من الكرات السماوية كالفراغ الذي بين الكواكب، فإخراجه من اسم الخلاء أو الفراغ مغالطة.

هذا، وسنذكر من أين نُقِلت هذه العلوم إلى أوروبا، ومَن نقلها حتى وصلت إلى غاليلي وهو في حياته الدنيا، وحتى هو من بعد مفارقة هذه الحياة الدنيا — وبعد أن آنس ما آنس في الحياة الأخرى — صار يحتقر ما كان يجله ويعتقده.

انتقال علوم العرب إلى أوروبا

نقول: ولقد هاجر اليهود من الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينية؛ فرارًا من الاضطهاد، وخالطوا الفرنجة، وكتبوا بالعبرية وتركوا العربية، وذهبوا إلى «لونل» في فرنسا، وهم «أسرة طيبون» أصلها من الأندلس، وترجم اثنان منهم (موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون) تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو، فهذان هما أول من ترجم مؤلفات ابن رشد لأوروبا.

نقول: ولقد كان الإمبراطور «فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا» من محبي نشر الفلسفة، ومن مخالفي الإسلام والمسلمين على الإكليروس المسيحي، فعهد إلى بعض اليهود في ترجمة فلسفة العرب إلى العبرية واللاتينية، فألَّف يهوذا بن سليمان كوهين الثلياني سنة ١٢٤٧م كتابًا سمَّاه «طلب الحكمة» واعتمد فيه على ابن رشد، فهو أول كتاب لابن رشد ظهر بالعبرية، وقد ترجم له يهودي من بروفنسيا كان مقيمًا في تانيس هو يعقوب ابن أبي مريم بن أبي شمشوم أنتوني حوالي سنة ١٢٣٢م بعضَ مؤلفات ابن رشد، ثم إن «كالونيم» بن «كالونيم» بن «مير» الذي وُلِد سنة ١٢٨٧م ترجم كتب ابن رشد إلى العبرية، وترجم كتاب تهافت التهافت سنة ١٣٢٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤