اعتراضات وتأملات

لكل إنسان وجهة هو موليها، لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة، وما نحن بقادرين على أن نغيِّر أو نبدِّل من مبادئ الناس، ومعتقدات خلق الله، ولو طالت الأيام، وحفت الأقلام، بيد أنا مع ذلك نحاول أن نخفف ونلطف من وقع المصيبة التي قذف بها الزمن في وجوهنا، وفي هذا العصر، عصر الضلالة والبدع، عصر التبجح والاستهتار بالدين الحنيف، فلا كنا ولا كان وجودنا، ألا بئس ما يقرءون.

أما وقد ألْمَعنا إلماعًا في ما أسلفنا من الكلام عن العدل الإلهي، وأثره في المخلوقات، فإنا نريد أن نتبسط في الحديث، ونسترسل في الكلام عن العدل الإلهي، فنجيء بلمعة من معترضات منكري الأديان، ثم نعقب عليها بما يعن لنا، أو بما يقع بخاطرنا، وما يصل إليه تأملنا فنقول: سيقول الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والذين يقولون: «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.» نعم سيقول هؤلاء قول الفرية والبهتان: إن أعمال الطبيعة صادرة كلها عن قوى مادية تفعل فعلها، آليًّا (ميكانيكيًّا) ومن غير عقل ولا تدبُّر، تحت حكم وهيمنة ناموس التجاذب والتدافع، فتتجمع ذرات الجسم، وتنحل وتنشأ النباتات وتنمو وتتوالد، ويحدث نموها وأزهارها وأثمارها وتلوينها، كلُّ ذلك يكون ويحدث بأثر مؤثرات فعالة، هي الحرارة والرطوبة، والنور والكهرباء، وهكذا قُلْ عن أجسام الحيوانات وبني آدم. وأما الأجرام الفلكية فتتكوَّن بفعل تجمع دقائق الأثير، وتنتقل في سيرها بقوة الجاذبية.

قالوا: فنظامٌ كهذا لا يدل على علة عاقلة حرة؛ لأن الإنسان يحرك يده متى شاء وكيفما شاء، وأما من يحركها في ناحية واحدة من يوم أن يولد إلى أن يموت فإنما يكون آلة لا عقل لها ولا إرادة، ذلك هو شأن القوى الطبيعية، فإنها آلية محضة لا تتغير، تعمل على سنن واحدة ونسق واحد، عام شامل منذ الأزل.

نقول: هبك وجدت ساعة في صحراء أو بيداء، فإنك على التوِّ تحكم بأنها ليست من عمل الصحراء، ولكنك تحكم بأنها مصنوعة، وأن صانعها مفكر، وله إلمام بالفن والصناعة، يريد ويعمل … إلخ. ذلك بأنه لا يمكن عقلًا أن توجد ساعة بدون «ساعاتي» فوجود الساعة وصناعتها بإحكام وحذق وتعقل إنما يدل على ما لصناعتها من هذه الصفات، وعلى مهارة وقدرة وإرادة الصانع، لقد دل الأثر على وجود المؤثر.

فكرة وجود الله

إنما يُستدَل على كلِّ شيء بأثره، ولقد فصل الطوفان بيننا وبين الإنسان الغابر، ولم نعرف من أعماله وشئونه إلا ما حفظته لنا الكتب المقدسة، ولا تهيأ لنا أن نتعرف مدنيات تلك الأجيال إلَّا بعد أن استكشف العلماء مصنوعاتٍ غليظة، ألْفَوها في الطبقات المتعلقة بتلك العصور.

هنالك عرفنا مقدار ما وصل إليه عقل إنسان هذه العصور، وهنالك أمكننا أن نقدر مقدار ما بلغت إليه مدينة من الكمال النسبي، وهو ما نذهب إليه من القول بأن الصنعة دليل على الصانع، والأثر على المؤثر.

نقول: إن المقبول عقلًا، والمألوف المعروف أنه لا بد لكلِّ معلول من علة، ولكل مسبب من سبب، إنما عظمة العلة وقوتها وأهميتها تكون بمقدار عظمة وقوة وأهمية المعلول، ولو كانت العلة خفية غير ظاهرة، فما كان عدم ظهور العلة بمانع لوجودها، ولا حائل دون فعلها وأثرها، ولنضرب لذلك مثلًا: إنك وأنت واقف تتطلع إلى الجو، آنست طيرًا يحلِّق في الفضاء، فاستلفت نظرك واسترعى بصرك، وبينا أنت على هذه الحال إذ بالطير هذا يسقط من شاهق برمية رامٍ لم تره.

هنالك لا بد وأنك تحكم بأن إنسانًا يحمل «بندقية» أو مسدسًا قد صوَّب هذا الطير، وأن هذا المصوب ماهر حاذق مبصر ذو دربة، والواقع أنك حكمت هذا الحكم عقلًا وحسًّا، ولو لم تر الضارب؛ لأن حالة رأيتها لا بد أن تشغل حيزًا في ذهنك، ولأن هذا الحكم هو المقبول عقلًا.

وأنت حكمت على أن هناك فاعلًا، وأنه ماهر أو مبصر؛ لأنك رأيت أثر ذلك في فعله، ولو لم تره، ذلك شأن العاقل الذي يريد أن يستدل على وجود الله — جلَّ شأنه — بآثاره في مخلوقاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤