المذهب الروحاني (٢)

مدرسة القرن العشرين

مجلة المقتطف مدرسة جامعة يتتلمذ عليها كثيرون من المفكرين، وينتفع بها أكثر قرَّاء العربية انتفاع أهل الغرب بما لديهم من أمهات المجلات، ولعل هذا ما حداني أن أتمحل لموضوع المذهب الروحاني بعد أن قرأت ما نشرته مجلة المقتطف من المساجلة التي دارت بين السر أرثر كونن دويل والمستر مكايب، ومما أسلفتْ نشره في ما مضى من السنين وفي العهد الأخير للسر أولفر لودج وغيره من فحول العلم وعمد الفلسفة في هذا العصر، ومما عنَّ لها هي أن تعقب به على كلِّ هذه الآراء المتضاربة المختلفة الأشكال والألوان.

وما نبغي الإسهاب في موضوعٍ نحن نميل كثيرًا إلى الاعتقاد بأنه سيكون مدرسة القرن العشرين، وإنما نحن نريد أن نُلمِع إلماعًا بما وُفِّقنا إليه في هذا الباب، وعسى أن يهيِّئ لنا القدر موقفًا آخر نستطرد البحث فيه نُظهِر القراء على أسباب الخلاف القائم بين أنصار المادية وأشياع الروحانية، هنالك تطمئن نفوسنا، وتستريح ضمائرنا، وهنالك نكون قد أدَّينا ما نحسه من واجب، وما نشعر به من حق.

نقول: لقد نضجت المادية في القرن التاسع عشر، وقويت مدرستها، واتسع نطاق نفوذها، فهَيْمَنت على المشاعر والمعتقدات، وملكت على الناس مفاوز حساسيَّتهم، وتولت طرائق تفكيرهم، فحالت بينهم وبين كلِّ ما دونها بما كان من هيمنة وسلطان على الماهية الإدراكية من جهة والقوة الوحدانية من جهة أخرى، على حين أنا نرى أن هؤلاء قد عاشوا في جلودهم أكثر من عيشتهم بوجدانهم وتفكيراتهم، وعلى أن «ما بعد الطبيعة» لم يَعْدَم من بين المفكرين وأهل العلم مَنْ كان يؤمن به، ويَأْبَه له في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان، وإن اختلف ذلك باختلاف العصور والأدوار التي مرَّ بها التاريخ.

ولقد يُخيَّل إلينا أنَّ ظِل المدرسة المادية قد أخذ يتزاول، وبدأ يروغ، وأن مدرسة المذهب الروحاني تقوى كلَّ يوم وتشتد بمن يدخلونها أفواجًا أفواجًا من وقت وبعد حين من أقطاب المدرسة المادية، وفحول العلم، وعمد التفكير من المعاصرين المشهورين، أولئك الذين لا ينطقون عن الهوى، ولقد يخيل إلينا أن السبب في انتشار المذهب الروحاني في بعض بلاد العالم دون البعض الآخر، وعلة رواجه في الشرق، هو أنه لا يتعارض مع الأديان، ولأنه يصادف هوًى في نفوس المتدينين بما يُدخِله عليهم من الانتعاش والعزاء، وبما يقوِّي فيهم من الإيمان بالعالم الدائم، وما أتعس هذه الحياة التي هي أشبه الأشياء بمقدمة طويلة عريضة لا نتيجة لها! إذا كانت حياتنا تنتهي عند تمثيلنا هذا الدور المحزن المَحُوط بكلِّ أنواع الشقاء، ونختم بالموت الذي ما بعده حياة، فتسدل الستارة على مقدمة من غير نتيجة!

ولقد سمعت بعضهم يقول: دعني أعيش مع الوهم، وأمتع بما يصوره لي خيالي من النعيم المقيم جنة الفردوس أدخلها وأعيش فيها أبد الآبدين، دعني في خيالي أكفكف به ألم هذه الحياة، وأرفِّه عن نفسي وطأة هذه الحياة الدنيا، وأسرِّي عنها ما يصيبها من الشقاء والبأساء، فإذا كنت خرِفًا — ولم يكن لهذا كله من وجود في مخي — فإني إذن لم أخسر شيئًا، ولكني مع هذا أكون قد هوَّنت على نفسي مصائب نصادفها، وخففت عنها مصاعب تعترضها في سبيل تدرجها. على أننا لا نجري مع هؤلاء حتى في شوطهم هذا، وإنما نحن نريد أن نندمج في حسنا، ونعمل على الوصول إلى الحقيقة النسبية من طريق الرقي الوجداني بتهذيب النفس وترقية الوجدان، وتقوية الماهية الإدراكية.

نقول: وإذا كان العقل المجرد لا يمكن أن يسلِّم به أصحاب المذهب المادي، دعواهم في ذلك أنه لا عقل من غير مادة، وأن المادة الحسية الظاهرة هي التي تُعرَف بها أعمال العقل والروح والنفس وأشباه ذلك؛ فإنا نؤمن أن احتياج العقل إلى النفس أو المادة ضروري لنا؛ لأننا نعيش مندمجين فيها، منكرين كلَّ ما عداها، والاندماج هذا يوجه كلَّ قوانا إلى المادة فلا نرى إلَّا بها، ولا نفهم إلَّا من طريقها. وما نريد أن نستدل بأهل الكشف وأصحاب مذهب التصوف والواصلين من المتوجهين، أولئك الذين يرون بعيونهم سكان بعض العوالم الأخرى، ويشاهدون حقائق لا تقوى أبصارنا المادية الصرفة على مواجهتها، ولا تستطيع بصائرنا الحسِّية على الإحاطة بها لما يقف قبالها من مساتير الطبيعة ومغاليق هذا الوجود، ولكن ما نذهب إليه وما نريده من المفكرين أن يتمشوا معنا في طريق العقل، ويعللوا الظواهر البيِّنة التي تظهر في العالم، والتي ينحصر عمل العقل في تعليلها وإدراك كنهها، واستكشاف بواعثها ومسبباتها.

يريدون أن تصبح مسألة الأرواح مسألة آلية صرفة، ويريدون تعليلها بعقول منفعلة مستفادة، وهم يعلمون حقَّ العلم أن الأثير، وهو الوساطة الوحيدة التي توصل بين أطراف العوالم جميعها والذي يرجع إليه وجود التماسك والانسجام والمغناطيسية والنور والكهربائية والجاذبية أيضًا على رأي أينشتين، يعلمون أن الأثير هذا يقف العلم أمامه مكتوف اليدين، وهو الذي لا بد من دراسته دراسة تامة لمن يريد أن يدرس العوالم الروحانية الأخرى، ولأنه لا بد لنا أن نعبر هذا البوغاز لنصل إلى المحجوب الذي كثرت في وجوده الشكوك والرِّيَب.

يلوح لنا أن العلم لا يزال يحبو في مهده، والعقل الذي بهره ما وصل إلى استكشافه من تسخير الهواء والماء والكهربائية والانتفاع بقوى الطبيعية، يلوح لنا أنه لا يزال يتخبَّط في دياجير الدجى الحالكة، ومعميات الوجود، فكلما وُفِّق إلى ظاهرة أَنِسها حقيقة وقف منتعشًا متباهيًا شامخًا، ولكنه لا يلبث هنيهة أن يرتطم في صخرة تضيِّع عليه جهوده، وتنبهه إلى غروره وتوقفه عند حدِّه.

يقول الفيلسوف الإنكليزي المعروف هربرت سبنسر: إن العقل الإنساني لم يصل إلى كشف أسرار الطبيعة، وإننا ما وصلنا إلَّا إلى إدراك وتعليل الكليات، وأما الجزئيات فلا يزال سرُّها غامضًا. قول حق، واعتراف صريح، ولكن العقول العاتية الجبارة ترغب في المزيد، ولا تقنع إلَّا بالموجود المحسوس، ثم هي من بعد ذلك لا يرضيها كلُّ تعليل، ولا تقبل ما يجيئها عن طريق السماع أو التواتر.

الشك أول خطوة يخطوها المخلوق صوب اليقين، ولا يكون اليقين يقينًا حقًّا قائمًا على دعامات قويمة متينة إلَّا بعد الشك، والتفكير والتأمل الطويل، والبحث والاستقراء، كلها شئون أباحتها الأديان بل أوصت بها، هذا هو الكتاب المقدس يقول: «فتشوا الكتب؛ لأنكم تعتقدون أن لكم فيها حياة أبدية.» وهذا هو القرآن الكريم يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ لذلك نحن لا نستهجن من غير المؤمنين بالعالم الروحاني طرائق أبحاثهم وامتحاناتهم بتحقيقاتهم، ولا نريدهم أن يميلوا معنا من غير بحث ولا إقناع، وإنما نحن ننكر عليهم حججهم التي يتمسكون بها حيال هدم هذا المذهب، وكلها قائمة على أنهم امتحنوا إنسانًا يدَّعي الانتماء إلى الروحانية، فما آنسوا إلا مهاترة وتلاعبًا وشعوذة، وليس هذا يقوم دليلًا صحيحًا عند العقل، والفرق كبير بين المذهب والمتمذهِب به، وليس من الصواب في قليل ولا كثير أن أرمي مذهبًا بالعطل وأتهمه بالبطلان لمجرد وجود بعض الناس ممن يدعون زورًا انتماءهم له، ولمجرد أن يخفقوا أمامي في عمل يقومون به.

والمذهب شيء والمدَّعِي الانتماء إليه شيء آخر، فكم من متدين أساء إلى دينه بادعائه أنه من مظاهر هذا الدين! وكم من مواطن أساء إلى وطنه لتصرفٍ يبدو منه فيحكم الحاضر على المواطنين جميعًا على هذه الشاكلة! والمذهب الروحاني مدخول بكثير من اللاعبين والأدعياء الذين يعيشون بالشعوذة والتحضير وجلب المحبة، وما كان هذا ليؤثر في جوهره؛ لأنه قائم بجوهره، يدل على وجوده بالامتحان والاستعداد.

إن خطأً كبيرًا أن يعتقد البعض بأن كلَّ إنسان يجب أن تظهر له الأرواح عيانًا بيانًا في بهرة الشمس، والناس يختلفون أمزجة، ويتباينون في استعدادهم، وليس المائع الحيوي فيهم على نسب متساوية، وكذلك كانت الفروق بين إنسان وإنسان كثيرة متباينة، فقد يرى الإنسان ما لا يراه الآخر؛ لما فيه من الاستعداد الطبيعي، وقد يكون غيره بحاجة إلى تفوق ومران؛ ليصل ما يصل إليه غيره فجأة ومن غير عناء ولا نصب. وخطأ كبير أن نتصور أن المزاج الواحد يكون بحالة واحدة أبدية دائمة دائبة، وما كان أمزاج حتى الأنبياء سواسية في كلِّ حين؛ لذلك لا يمكن أن نصيب مرمى الحقيقة إذا نحن حكمنا على الروحاني بمجرد جلسة واحدة؛ فقد يختلف المزاج فيه، وقد تختلف الروحية عنده، فكان أولى لنا أن نتريَّث في الحكم، ونجري على قاعدة «كانت» الفيلسوف في الامتحان وفي إصدار الأحكام.

لقد قرأت بعض ما وُفِّقت إليه جماعة المباحث النفسية في بلاد الإنكليز، وقرأت اعتراض المعترضين على مذهب الأرواح، فعلمت أن جوهر الاعتراضات ومحورها يدور حول نقطة واحدة هي أهم ما يُوجَّه نحو ظواهر الأفعال الروحانية وأثر ما تظهر به، نعم، تُسائِل الذين يحضرون الجلسات ويرون بأعينهم فعل الطاولة أو التنويم أو استحضار الأرواح فيجيبونك أن هذا إنما ينشأ من انتقال الأفكار، وتوافق الشعور، وأن ما يقع من النائم أو من فعل الطاولة إنما هو من أخلاط الأمزجة لأناس اجتمعوا في جماعة واحدة، وخضعوا لتأثير واحد، فأصبح الكل خاضعًا لمؤثر واحد، وصار سهلًا جدًّا أن ينتقل فكر الواحد إلى الآخر بتيار عصبي أو مائع حيوي يصل الأمزجة بعضها ببعض، ويكون وساطة لذلك.

ولقد حضرت جلسات كثيرة من أنواع مختلفة لهذه الشئون، أنا ذاكر هنا نوعين لجلستين اثنتين تفندان هذا الزعم: حضرت جلسة تحريك الطاولة في دار أحد أصدقائي، وقد صحبت معي أحد الأفاضل وكان شغوفًا جدًّا بهذه المسائل، وطلبت إليه أن يحضر أسئلة يعرضها وقت الجلسة، وأشرت إليه أن يصرف دينارًا قطعًا صغيرة من القروش، ويتركه في مكان داره، حتى إذ حان وقت اتجاهنا إلى مكان هذه الجلسة كبش كبشة من هذه القروش دون أن يحيط بعَدِّها علمًا وجعلها في جيبه، وفعلًا كان ذلك، فلما أن سأل الطاولة: كم معي من القروش، وكنا جميعًا نجهل ذلك وهو أيضًا لا يعرف عدد ما في جيبه؟ أجابت بالنقر عدَّها تمامًا، فأخرج ما في جيبه وعده فإذا بها صادقة، وهو ما يفنِّد دعوى انتقال الأفكار.

أما الحادثة الثانية فقد وقعت أمامي في دار أحد الوجهاء (لا أذكر اسمه لأني لم أستأذنه في ذلك) وكان يستعمل الوساطة اليدوية، وكنا نجتمع عنده كلَّ ليلة، ولقد برَّز ونجح كلَّ نجاح في ذلك، وأدهشنا بأمور سنذكرها بعد أن نستأذنه؛ ذلك أن كان معنا الأستاذ الجليل الشيخ طنطاوي جوهري، وقد ألقى على اليد سؤالًا فقال للحاضر، وكان من أهل فرنسا، إن كتابًا له قرَّظتْه إحدى صحف باريس يريد أن يعرف اسم هذه الصحيفة، ويريد أن يستجلبها، فأجابته الروح أنه قُرِّظ في صحيفة كذا، وأنه إذا أرسل إلى فلان العالم الفرنسي العضو بالأكاديمية الفرنسوية فإنه يبحث له عنه، ويبعث له به، فأجابه الأستاذ: ولكنني لا أعرف الرجل، فكيف أخاطبه في ذلك؟ فأجابته: بالكتابة عن اسم الرجل الفرنسوي وعنوانه وعلاقته بالباشا، فأخذ يكتب الاسم بالضبط، ونمرة المنزل، واسم الشارع، والوظيفة، وكل ما قالت به الروح، وهرول في اليوم الثاني إلى دار الباشا، وسأله عما إذا كان يعرف إنسانًا من علماء فرنسا؟ فأجابه بما انطبق تمام الانطباق مع ما في يده.

إن هذا لدليل ظاهر على هدم نظرية انتقال الأفكار واتحاد الأمزجة؛ لأننا جميعًا ما كنا نعلم ولا كانت خواطرنا وضمائرنا تحوي شيئًا من هذا، فمن أين إذن كل ذلك؟!

لعلنا أطلنا الحديث على القارئ الكريم فنستميحه عذرًا في ذلك، على أن تكون لنا عودة في الحديث بما يكون أكثر وضوحًا — إن شاء الله — ولكلِّ إنسان وجهة هو موليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤