الفصل العاشر

في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس

(١) في بعض بطاركة أنطاكية في هذا القرن

  • منهم برفيريوس: خلف أفلابيانوس المار ذكره، وكان مخالفًا لفم الذهب ووقَّع على الحكم عليه بالنفي، فكان ذلك سببًا لانفصال كثيرين بسورية عن الشركة معه، ولمعاملته كثيرين منهم بالقسوة سندًا إلى شريعة سنها آل البلاط الملكي بأن من خالف البطاركة، الذين حكموا على فم الذهب يطرد من الكنيسة، وتوفي برفيريوس سنة ٤١٣.
  • ومنهم تاودتوس: وله مقالة يفند بها زعم الأبوليناريين، وقال ابن العبري (في تاريخ بطاركة أنطاكية): إنه في أيامه نشر الفتية السبعة الذين كانوا قد لجئوا إلى مغارة في جهة إفسس، وأمر داكيوس بسد بابها ثم بُعثوا بعد مائة وثمان وثمانين سنة، وهذه القصة رواها كثيرون غير ابن العبري، ولكن خالفهم فيها بارونيوس في حواشيه على السنكساري الروماني في ٢٢ تموز ونطاليس إسكندر وغيرهما … والأظهر أن رفاتهم وجدت في تلك الأيام لا أنهم بُعثوا، وتوفي تاودوتوس سنة ٤٢٨.
  • ومنهم يوحنا الأول: وكان مشايعًا نسطور في المجمع الإفسسي مخالفًا للقديس كيرلس البطريرك الإسكندري، ولما حصحص له الحق وحرم نسطور ارعوى إلى الصواب، وصالح القديس كيرلس وتوفي يوحنا سنة ٤٤١.

    وخلف يوحنا المذكور دمنس ابن أخته وشكى في مجمع إفسس المعروف باللصي بأنه يقول بطبعين بالمخلص، وتأول كلامه بأنه يقول بأقنومين أيضًا، فعزله هذا المجمع، وانفرد في أديار فلسطين معتزلًا مخالطة الناس.

    وخلفه مكسيميوس سنة ٤٤٩، وكان في المجمع الخلكيدوني سنة ٤٥١، وكان جدالٌ بينه وبين يوفينال بطريرك أورشليم إذ كانت كنيسة أورشليم صيرت بطريركية، وكان يوفينال يرغب في أن يضم فونيقي الثانية والعربية إلى بطريركيته، وكان مكسيميوس يطلب بقاءها لبطريركية أنطاكية، فحكم له بأن يكتفي يوفينال بأعمال فلسطين اليهودية والسامرة والجليل.

  • ومنهم مرتيريوس: الذي اعتزل الكرسي البطريركي نحو سنة ٤٧٠ للقلق الذي أثاره بطرس القصار، فاغتصب بطرس المذكور هذا الكرسي، ولُقبَ القصار؛ لأن مهنته كانت قصر الثياب بمعنى غسلها وكان مختل العقيدة فنفاه الملك، وعقد مجمع فحطه عن مقام الأسقفية لكنه اغتصب البطريركية ثانية سنة ٤٧٦ في أيام باسيليوس الملك، ولما تغلب عليه زينون الملك نفى القصار إلى بنطوس على أنه رخص بعوده المرة الثالثة إلى كرسي أنطاكية، فأكثر من الاضطهاد للكاثوليكيين ومن المقاومة لرسوم المجمع الخلكيدوني … فعقد البابا فاليكس مجمعًا برومة طعن القصار بالحرم، وحطه عن البطريركية سنة ٤٨٥ وأخمد الله أنفاسه سنة ٤٨٨.

(٢) بعض بطاركة أورشليم في القرن الخامس

عد الكرسي الأورشليمي في هذا القرن بطريركيًّا ومن بطاركته يوفينال، والظاهر أنه رُقي إلى البطريركية سنة ٤١٨، وشهد المجمع الإفسسي سنة ٤٣١، وتابع القديس كيرلس الإسكندري على حرم نسطور وحطه، وتطلب من هذا المجمع مد تخوم بطريركيته إلى بعض مدن فونيقي والعربية، فلم يجاره أساقفة المجمع على سؤله كما مر، وتراه استأنف طلبه في المجمع الخلكيدوني المنعقد سنة ٤٥١، وشهد أيضًا سنة ٤٤٩ مجمع إفسس الموصوف باللصي، وتصحب لأوطاخي ووقع على الحكم بعزل أفلابيانوس البطريرك القسطنطيني وغيره من الأساقفة الكاثوليكيين، لكنه استغفر عن سوء تصرفه هذا في المجمع الخلكيدوني سنة ٤٥١، وجاهر بالإيمان القويم، فقُبل في المجمع بعد أن كان مُنع كغيره من الأساقفة الذين شايعوا ديوسقوروس في المجمع اللصي، ومنهم أوسطاطيوس أسقف بيروت وتوفي يوفينال سنة ٤٥٨.

وخلف أنسطاس يوفينال وتوفي سنة ٤٧٨، وخلفه مرتيريوس وكان ناسكًا في الصعيد، ثم في برية أريحا، وبعد أن كان قد كتب إلى بطرس البطريرك الإسكندري جاهلًا ضلاله قد نابذه لما علم مناصبته للمجمع الخلكيدوني، وتوفي مرتيريوس سنة ٤٨٦، فخلفه سالوستيوس إلى أن توفي سنة ٤٩٤ وخلفه إيليا الأول، وكان رفيقًا لمرتيريوس في نسكهما في الصعيد وبرية أريحا، ونفاه الملك إنسطاس إلى أيلة على شاطئ البحر الأحمر سنة ٥١٣، وتوفي سنة ٥١٨.

(٣) في بعض أساقفة سورية في القرن الخامس

توادوريطوس أسقف قورش

ولد بأنطاكية سنة ٤٨٧ وعاش في أحد الأديار قبل أن يصير أسقفًا، ولم يقبل الأسقفية إلا مكرهًا واستمر فيها خمسًا وعشرين سنة، أنشأ مآوي عمومية وبنى جسرين، وأقام حمامات عامة وجلب الماء إلى المدينة ورد إلى الإيمان سكان عدة قرى كانوا مغوين بضلال بعض المبدعين، واضطهد وطُرد مرات من أسقفيته، كل ذلك رواه عن نفسه في ترجمته، ورقي إلى الأسقفية سنة ٤٢٠، وشهد المجمع الإفسسي سنة ٤٣١، وكان أولًا من المقاومين للقديس كيرلس الإسكندري، ثم عاد إلى الوفاق معه وحطه ديوسقورس في المجمع اللصي بإفسس عن مقامه الأسقفي، ورده إليه المجمع الخلكيدوني سنة ٤٥١، وتوفي سنة ٤٥٨، وحرم المجمع الخامس المسكوني سنة ٥٥٣ ما كتبه في تخطئة القديس كيرلس والمدافعة عن نسطور ولم يحرمه هو، ولولا مقاومته للقديس كيرلس لما كان أقل توقيرًا من باسيليوس وفم الذهب وغريغوريوس، وأما تآليفه فأخصها تاريخ بيعي ضمنه في خمسة كتب ابتدأ فيه من سنة ٣٢٦ إلى سنة ٤٣٩، ثم تاريخ سماه دينيًّا أو تقويًّا جمع فيه تراجم خمسين ناسكًا منهم القديس مارون، ثم تفسير لرسائل القديس بولس ونبوات الأنبياء الصغار الاثني عشر ونبوة إشعيا، ومنها كتابه في انتقاد حروم القديس كيرلس الإسكندري نسطور، وليته لم يكن، وكتاب خطأ به أوريجانوس وكتاب آخر في التجسد، وكتاب في تفسير نبوة دانيال، وخمسة كتب في تجسيد الكلمة يندد بها بعض مقاومي نسطور، وكتاب رد على الفلاسفة قاوم به الملك يوليانوس الجاحد، وله نحو مائة وستين رسالة، ومقالات شتى.

توادور أسقف المصيصة

ولد بأنطاكية في منتصف القرن الرابع، وكان من أقران فم الذهب في اقتباس العلوم ومعلمًا لنسطور وتوادوريطوس المار ذكره، وقاوم أولًا تُبَّاع أبولينار شديد المقاومة فرقي إلى أسقفية المصيصة في كيليكية سنة ٣٩٤ على الأصح، ولكنه تهور بضلالي بلاجيوس ونسطور، ويسميه النساطرة أباهم، وقد كتب مؤلفاته باليونانية، وترجمت من تلك الأيام إلى السريانية، وعني بترجمتها إيهيبا أسقف الرها وهي منطوية في واحد وأربعين مجلدًا أكثرها في تفسير الأسفار المقدسة، وله كتاب في الكهنوت وكتابان في الروح القدس وكتاب في التجسد، وكتابان في رد مذهب الفرس إلى غيرها، وله أيضًا نافور في رتبة القداس وأدركته الوفاة سنة ٤٢٩.

قورش وإخسنيا أسقفي منبج

أما قورش فأصله يوناني رقي إلى أسقفية منبج، واستمر فيها إلى نحو سنة ٤٨٥ ولما توفي أقام بطرس القصار البطريرك الأنطاكي خلفًا له إخسنيا، ويسمى فيلكسينوس وكان قورش نسطوريًّا وإخسنيا أوطاخيًّا، ولقورش من التآليف مقالة في تقسيم الأديان والبدع وله خطب كثيرة، وأما إخسنيا فرقي إلى الأسقفية سنة ٤٨٥ وكان مجدًّا في مقاومة المجمع الخلكيدوني ومناصبة من يذعنون لمراسيمه، واضطهد الكاثوليكيين في أيام ساويروس البطريرك، فنفاه الملك يوستينوس مع ساويروس البطريرك إلى مدينة في تراسة، ثم نقل إلى كنكورا وهناك توفي مفطسًا بالدخان نحو سنة ٥٢٠، ويعتده اليعاقبة شهيدًا، وأما تآليفه فهي تفاسيره لبعض الأسفار المقدسة وترجمة الأناجيل من اليونانية إلى السريانية في منبج سنة ٥٠٨، واليعاقبة يستعملون هذه الترجمة التي هذبها توما الحرقلي، وله أيضًا نافور للقداس ورتبة منح سر المعمودية يستعملها اليعاقبة، وله أيضًا ثلاث مقالات في الثالوث والتجسد، وعشر مقالات في أن أحد أقانيم الثالوث الأقدس ولد وتألم إلى غيرها.

وقد ذكرنا في تاريخنا المطول كثيرين من أساقفة سوريا من أكثر مدنها من صفحة ٣٣٣ من المجلد الرابع إلى صفحة ٣٤٩ منه، فمن شاء الاطلاع على تراجمهم فليراجعها هناك.

(٤) في بعض القديسين الذين كانوا في القرن الخامس

القديس سمعان العمودي

ولد في قرية سيسان من بلاد قورش ومات والده ثم عمة له جعلته وارثًا لثروتها، فترك العقار لإخوته وباع الأثاث والملابس ووزعها على الفقراء والأديار، وعكف على التقشفات في دير تولادا وأقام في قلاية حرجة عشر سنين، ثم أقام على أعمدةٍ قصيرة ثم على عمودٍ رفيع علَّوه أربعين ذراعًا واستمر في ذلك سبعًا وأربعين سنة، وضع الله على يده آيات كثيرة في حياته وبعد وفاته … منها أن بعض أهالي لبنان أتوا يسألونه أن يقيهم بعض الضواري، التي كانت تفترس بعضهم، فأرشدهم أن يغادروا الوثنية ويتنصروا ويقيموا حول كل قرية من قراهم أربعة صلبان فنجوا من تلك الضواري، وقد روى السمعاني أن هذه القرى كانت في قمة لبنان الشمالية، وأن رسم هذه الصلبان كان في حصرون وبشري وأهدن وقيطو، وكانت وفاته سنة ٤٥٩ وعمره نحو سبعين سنة، واحتفل المؤمنون بجنازته غاية الاحتفال.

القديس إسحق الكبير

كان كاهنًا في أنطاكية في منتصف القرن الخامس، وقد تتلمذ لزينوبيوس تلميذ القديس إفرام، وتوفي سنة ٤٦٠، وله تآليف كثيرة وأخصها تفنيد لمزاعم النساطرة والأوطاخيين، على أن كتبه هذه قلما بقي منها لإغفال النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة نسخها؛ لأنها مفندة لضلالهم، وأما من مؤلفاته الأدبية والروحية، فبقي منها مائة وأربع قصائد أو خطب ذكرها السمعاني في المجلد الأول من المكتبة الشرقية من صفحة ٢١٤ إلى صفحة ٢٢٩.

القديس مارون الناسك وتلاميذه

روى ترجمته توادوريطوس أسقف قورش في كتابه في النساك فصل ١٦، فقال: إنه عزم أن يصرف حياته في البرية لا يأوي منزلًا، فتسلق إلى قمة جبل قورش فكرس لله معبدًا للوثنيين، وكان يجهد نفسه في الأعمال اليدوية التي اعتادها النساك، ومنَّ عليه الله الجواد بموهبة شفاء الأمراض، فأتى إليه الزائرون من كل فجٍ فكان يشفيهم من أدوائهم الجسدية والروحية، وصار له تلاميذ كثيرون ورقاه أسقفه إلى درجة الكهنوت، وكان صديقًا للقديس يوحنا فم الذهب تدلنا على ذلك رسالة فم الذهب إليه، وهي السادسة والثلاثون من رسائله، وقد توفاه الله سنة ٤١٠ على الأرجح … وكان بين مجاوريه نزاع على دفن جثته، وتغلب أهل حماة على غيرهم فاختطفوا جثته الكنز النفيس كما سماها توادوريطوس، وبنوا على اسمه هيكلًا عظيمًا، وأخذ المؤمنون بعد وفاته يعيِّدون لذكره بحفلاتٍ عامة كما روى توادوريطوس أيضًا.

وأما تلاميذ القديس مارون الذين ذكرهم توادوريطوس، فهم يعقوب الناسك ووصفه توادوريطوس بالكبير وليميناوس ويوحنا الذي انفرد في الجبل بشمالي قورش خمسًا وعشرين سنة، وبردات ويسميه السريان برهدد، ومن تلميذاته مارانا وكور الحلبيتان، ودومنينا التي ذكر توادوريطوس أنها اقتدت بالقديس مارون في نسكها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤