الفصل التاسع

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس

(١) في ما كان بسورية في أيام أركاديوس وابنه تاودوسيوس الثاني

قلَّ ما عثرنا في الكتب التي لدينا على أخبار أحداث هامة في القرن الخامس، فأركاديوس خلف أباه تاودوسيوس الأول سنة ٣٩٥، وتوفي سنة ٤٠٨، وخلفه ابنه تاودوسيوس الثاني وسن عدة شرائع مؤيدة للدين والآداب، ويظن أنه في أيامه كان حرب المنذر بن ماء السماء مع آل غسان ملوك الشام، فماء السماء ويسميها الإفرنج ماوية هي بنت عوف من ملوك الحيرة … لُقبت ماء السماء لجمالها، حملت على مدن فونيقي وفلسطين، ونكلت بأهلها، واتصلت إلى تخوم مصر في نحو أواخر القرن الرابع وطلب الرومانيون هدنة منها، فأنكرتها عليهم إلا أن يعنوا بإقامة ناسك اسمه موسى أسقفًا على أمتها؛ لأنها كانت نصرانية فعنوا بذلك ورقي موسى إلى الأسقفية، ومضى إلى الحيرة يدبر شعب ماء السماء، وكان لها ابن يسمى المنذر ملك بعدها، وكانت بينه وبين الحارث أحد ملوك غسان حروب، وإحداها تحسب من أيام العرب المشهورة يقال لها: يوم عين أباغ فقُتل المنذر في هذا اليوم وانهزم ملوك الحيرة، وتبعهم آل غسان وأكثروا فيهم القتل.

وأما الحارث ملك غسَّان فهو الحارث بن الأيهم أخو النعمان، أو هو جبلة بن النعمان … والقولان لأبي الفداء الذي وصف الحارث بأنه الذي طلب أدراع امرئ القيس من السموأل، إشارة إلى القصة المشهورة أن امرأ القيس ملك كندة لما قتل بنو أسد أباه، واستنجد ببكر وتغلب، وتطلبه المنذر بن ماء السماء، فخاف منه وقصد السموأل عاديا اليهودي وأودعه أدراعه وكانت مائة درع، ومات امرؤ القيس فطالب الحارث السموأل بالأدراع فتمنع من تسليمها إليه، وكان الحارث أسر ابن السموأل فهدده بأن يقتل ابنه إن لم يسلمه الأدراع وقتله أمامه ولم يسلمها، فيضرب المثل به بالوفاء والأمانة، وكانت بين آل غسان وملوك الحيرة حروب أخرى في هذا القرن منها الحرب المعروفة بيوم مرج حليمة (أبو الفداء ك١ صفحة ٨٤).

(٢) في الحرب بين الأسود من ملوك الحيرة وآل غسان ملوك الشام

خلف الملك تاودسيوس الثاني بولشاريا أخته سنة ٤٥٠، واختارت مرقيان قائد الجيش زوجًا لها على شرط أن يصون عذرتها، ثم لقت ربها سنة ٤٥٣، واستمر مرقيان يدبر الملك بعدها بكل قداسة وتوفي سنة ٤٥٧، وجعلته الكنيسة وبلوشاريا في مصاف القديسين، وخلف لاون مرقيان إلى أن توفي سنة ٤٧٤، وفي أيامه أو أيام خليفته زينون كانت حرب الأسود مع ملوك غسان، فالأسود هو ابن المنذر بن النعمان من ملوك اللخميين في الحيرة بقرب الكوفة، … وقد ذكر هذه الحرب كثيرون من المؤرخين العرب وقالوا: إن الأسود انتصر على غسان وأسر عدة من أمرائهم وأراد أن يعفو عنهم، وكان له ابن عم يقال له: أبو أذينة قتل آل غسان أخاه فقال أبو أذينة قصيدته المشهورة يغري الأسود بقتلهم:

ما كل يومٍ ينال المرءُ ما طلبا
ولا يسوِّغُه المقدارُ ما وهبا
وأنصفُ الناس في كل المواطن مَن
سقى المعادين بالكأس الذي شربا

ومما قاله المؤرخون العرب أن النعمان بن امرئ القيس الثاني من هؤلاء اللخميين الذي ملك في هذا القرن غزا الشام مرارًا كثيرة، وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم أموالًا، وهو الذي نهض بثأر رجل من بني غسان يقال له: الضيزن وأخذ ديته مائة ألف دنيار ممن كانوا في زمانه من ملوك الرومان، وهذا الملك هو الذي بنى الخورنق والسدير القصْرين المشهورين في الحيرة … ولم يكن سطو هذه القبائل على سورية إلا على سبيل غزوة، وأخذ غنيمة واستشفاء بأخذ ثأر، ولم يكونوا يملكون البلاد بل كانوا ينكلون بأهلها ويأخذون الغنائم، ويقفلون إلى بلادهم.

وأما على تخت القسطنطينية فبعد زينون جلس باسيليك، ثم لاونس ثم أنسطاس ولم يكن من أعمال هؤلاء الملوك إلا تدخلهم في أمور الدين على غير هدى واضطهادهم الكاثوليكيين، ولم يكن لأنسطاس ما يذكر في جانب مصلحة المملكة إلا رد عماله في سورية وفلسطين العربَ عن سطوهم على هذه البلاد، واسترجاع قادة جيشه بعض مدن ما بين النهرين وأرمينية من يد الفرس، وأضر بالمملكة والكنيسة ونفسه.

(٣) في بعض المشاهير بالعلم بسورية في القرن الخامس

سوزومانس المؤرخ

قال عن نفسه: إنه ولد في قرية من قرى غزة، وأن جده آمن بالمسيح بواسطة القديس إيلاريون وقد انكب على درس الشريعة بمدرسة بيروت الشهيرة، ثم سار إلى قسطنطينية، تعاطى محاماة الدعاوى ولم يكن شغله كثيرًا؛ لأنه ألف تاريخه أثناء إقامته في هذه المدينة، وهذا التاريخ في تسعة كتب نفسه فيها متوسط بين السامي والسافل يبتدئ بتاريخ سنة ٣١٤، وينتهي بتاريخ ٤٣٩، وله كتابان آخران في التاريخ لم يبلغا إلينا، وكان معاصرًا لسقراط المؤرخ … وكانا معًا بالقسطنطينية وبين كلامهما مشابهات، ويظهر أن سوزومانس انتحل بعض ما كتبه سقراط؛ لأنه كان بعده وإن في عصرٍ واحد.

إيناي الغزي

وُلد بغزة وكان فيلسوفًا تابعًا مذهب أفلاطون اشتهر في القرن الخامس، وتوفي سنة ٥٢١ وكان مسيحيًّا وتلميذًا لبروقلس الفيلسوف الشهير، ونعلم من تآليف إيناي سبعة وعشرين رسالة نشرها مانوق في جملة الرسائل اليونانية، التي عني بطبعها سنة ١٤٦٩، وله محاورة في خلود النفس وقيامة الأجساد، وألفها لما رأى الشهداء الذين أذاقهم البندالة مر العذاب بإفريقية، وطبعت بزوريك سنة ١٥٥٩، ونشر شرح لها ببريس سنة ١٨٥٩.

مارينس

ولد بسورية في هذا القرن الخامس، وأخذ العلوم عن بروقلس في أثينا ثم خلفه في منصة التعليم سنة ٤٨٥، ولم تُبق لنا الأيام من تآليفه إلا ترجمة بروقلس أستاذه نشرها فبريشيوس مع ترجمتها إلى اللاتينية مذيلة بحواشٍ سنة ١٧٠٠ في همبورغ، وطبعت بلبسيك سنة ١٨١٤.

الدمشقي

وُلد بدمشق وكان فيلسوفًا على مذهب الفلاسفة الذين لم يقيدوا أنفسهم بمذهب أسلافهم، وكان تلميذًا لمارينس المار ذكره، فكان يعلم بأثينا لما أمر يوستينيانوس بإقفال مدارس الوثنيين سنة ٥٢٩، ففر إلى كسرى ملك الفرس مع غيره من الفلاسفة، فلم ينالوا الحرية التي كانوا يتطلبونها، ولما عقد كسرى الصلح مع يوستينيانوس سنة ٥٣٣ نال لهم منه الرخصة بأن يعودوا إلى أوطانهم، ومن تآليف الدمشقي تاريخ لعمدة الفلاسفة أصحاب مذهبه أوصل إلينا فوتيوس فقرًا منه، ثم مقالة في المبادي والأصول نشر كوب القسم الأول منها في فرنكفورت سنة ١٨٢٦ باليونانية، وللعالم روال الإفرنسي مقالة في الدمشقي هذا نشرها سنة ١٨٦١، وكان في هذا القرن هرون بن أشير الربي من فلسطين ممن استنبطوا وضع النقط والحركات في اللغة العبرانية، وروى أغاثيا محامي الدعاوى في تاريخه (ك٢ عدد ٣٠) أنه كان في هذا القرن وأوائل السادس هرميا وديوجان الفونيقيان وإيسودورس الغزي، وشبههم بأزهار في عصره ولم نعثر لهم على ترجمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤