الفصل الثالث

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن

(١) في باقي الخلفاء الأمويين في دمشق

بعد وفاة عبد الملك بن مروان خلفه الوليد ابنه سنة ٧٠٦، ومن جملة أعماله في سورية بناؤه جامع دمشق المعروف بالجامع الأموي، وأكمل أخوه سليمان عمارة هذا الجامع، والوليد هو الذي بنى أيضًا قبة الصخرة في بيت المقدس، وتوفي سنة ٩٦ﻫ وسنة ٧١٥م، وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك في السنة المذكورة ورد المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيرًا له، وسير أخاه مسلمة إلى القسطنطينية ليفتحها فلم يتوفق بذلك من قبل شدة البرد والعواصف، وقطع الميرة عنه فعاد خائبًا إلى سورية وتوفي سليمان سنة ٧١٨.

فخلفه عمر بن عبد العزيز، أوصى إليه سليمان بالخلافة لما اشتهر مرضه، وكان ابن عمه ووزيره كما مر، فبويع بالخلافة سنة ٧١٨ المذكورة، ومن بواكير أعماله إبطاله سب علي بن أبي طالب على المنابر، وكان عفيفًا زاهدًا ناسكًا وتوفي سنة ٧٢٠.

وخلفه يزيد بن عبد الملك في السنة المذكورة، واستسار أولًا بسيرة عمر بن عبد العزيز سالفه، لكنه أقبل بعد ذلك على لذاته بإغراء بعض الجهلة الدمشقيين، وتوفي سنة ٧٢٤، فبويع بعد وفاته بالخلافة لهشام بن عبد الملك وكان عادلًا حليمًا ورعًا، وفي أيامه غزا مسلمة أخوه إلى آسيا الصغرى حتى القسطنطينية فغنم وعاد، ومن أعماله أنه سمح للمسيحيين في أنطاكية أن يقيموا لهم بطريركًا بعد أن كانت خلت أربعين سنة من بطريرك، وكان له صديق راهب اسمه إسطفانوس أمر أن ينتخبوه بطريركًا فانتخبوه وتوفي سنة ٧٤٣.

وخلفه الوليد بن يزيد بن عبد الملك في سنة ٧٤٣ المذكورة، وقالوا عنه: إنه عكف على شرب الخمر وسماع الغناء واستخف بالدين، وضيق على أهل هشام وأصحابه، لكنه لم يخل من المبرات؛ لأنه أجرى على زمني أهل الشام وعميانهم الأرزاق وكساهم والتمس بعضهم له عذرًا فيما قيل عنه وبرءوا ساحته، وثارت الرعية عليه وبايعوا يزيد بن الوليد الأول فقاتل قتالًا شديدًا، ثم انهزم عنه أصحابه ودخل قصره فحاصروه به وقتلوه سنة ٧٤٥.

وخلفه يزيد بن الوليد الأول سنة ٧٤٥ المذكورة، وكان محمود السيرة وخالفه أهل حمص وهجموا على دار أخيه العباس بها، ونهبوا ما بها وسلبوا حرمه فأرسل إليهم عسكرًا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أهل حمص واستولى عليها، وثار أهل فلسطين على عامله، فأخرجوه من بلادهم وخرجوا لقتال الخليفة، فأرسل عليهم جيشًا ولما اقترب الجيش منهم تفرقوا وخضعت فلسطين له، وتوفي في سنة ٧٤٥ نفسها إذ كانت خلافته بعض أشهر فقط.

وبعد وفاة يزيد بويع بالخلافة لإبراهيم بن الوليد الأول، وفي سنة ٧٤٦ سار مروان بن محمد بن مروان أمير الجزيرة إلى دمشق لخلع إبراهيم من الخلافة، وبايعه في طريقه أهل قنسرين وحمص ولما دنا مروان من دمشق بعث إبراهيم الجنود لقتاله، فانهزم عسكر إبراهيم ووقع فيهم القتل والأسر واختفى إبراهيم، وقيل: إنه جاء إلى مروان وخلع نفسه من الأمر وسلمه إليه، وبايعه طائعًا وكان ذلك سنة ٧٤٦ المذكورة، وأخذ الخلافة بعده في السنة المذكورة مروان المار ذكره، وهو أخو خلفاء بني أمية، ومن الأحداث في أيامه أن أهل حمص عصوه فسار إليهم وأحدق بمدينتهم، ففتحوا له الأبواب وأظهروا الطاعة، ثم وقع بينهم قتالٌ فقتل من أهل حمص خلقًا كثيرًا، وهدم بعض أسوارها وصلب جماعة من أهلها، ثم سار عليه أهل غوطة دمشق وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وحصروا دمشق فأرسل إليهم مروان عشرة آلاف، فانهزموا ونهبهم العسكر وأحرقوا المزة وقرى غيرها، ثم ثار عليه سليمان بن هشام فخلعه من منصبه، فاجتمع إلى سليمان سبعون ألفًا من أهل الشام، وعسكروا بقنسرين، فسار مروان إليهم فانهزم سليمان بن هشام وعسكره، وقتل منهم مروان نحو ثلاثين ألفًا ووصل سليمان إلى حمص، فاجتمع إليه أهلها فهزمهم مروان ثانية وهرب سليمان إلى تدمر، فاستسلم أهل حمص إلى مروان.

وفي أيام مروان ظهرت دعوة بني العباس، وهم ينتسبون إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي، ودعوا الناس إلى مبايعتهم بالخلافة أولًا سرًّا ثم جهروا بالعصاوة سنة ٧٤٨، وكان منهم رجل يسمى إبراهيم بن محمد وكان مقامه بالشراة في قرية يقال لها: الحميمة في جهة الشوبك وكان يدبر هذه الثورة، فكتب أحد عمال مروان إليه هذه الأبيات:

أرى تحت الرماد وميض نار
وأوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟

فأمر مروان عامله بالبلقاء فسار إلى إبراهيم، وشد وثاقه وبعث به إليه فألقاه في الحبس حتى مات، وقيل: مسممًا، ثم ظهر بنو العباس سنة ٧٥٠ فسلم الناس على أبي العباس السفاح بالخلافة، فدخل دار الإمارة بالكوفة، وكان مروان بحران لما بلغته هذه الأخبار، واشتد القتال بين جيشه وجيش أبي العباس السفاح فتمت الهزيمة على عسكر مروان، وفر مروان هاربًا بالموصل، فسبه أهلها حتى أتى حران فدنا منها عسكر السفاح، فانهزم إلى حمص ثم إلى دمشق ثم فر منها إلى فلسطين، فلحقه عبد الله عم السفاح وفتح دمشق، ثم سار منها إلى فلسطين بأثر مروان فانهزم منه حتى دخل نيل مصر، فأدركه صالح أخو عبد الله المذكور في كنيسة بوقير، فطعنه رجلٌ برمحٍ فقتله واحتز رجل رأسه وأرسله إلى السفاح، ثم قتل العباسيون من بني أمية جماعة، وتشتت الباقون واختلفوا في البلاد وهرب بعضهم إلى الأندلس، فأنشئوا دولة الأمويين فيها سنة ٧٥٧، وأول خلفائهم هناك عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، واستبد العباسيون في الخلافة خلفًا لبني أمية.

(٢) في أبي العباس السفاح وما كان في أيامه بسورية

هو أول الخلفاء العباسيين، بويع بالخلافة بالكوفة سنة ٧٥٠، وكان سريعًا إلى سفك الدماء، فلقب بالسفاح، وولى على سورية عمه عبد الله بن علي وعلى مصر أبا عمر عبد الملك، وخلع حبيب بن مرة، وأهل البثنية وحوران طاعته، وكان حبيب المذكور من قواد مروان، فسار إليه عبد الله والي دمشق وقاتله دفعات ثم صالحه، وأمنه لخروج أبو الورد بن الكوثر عن طاعته، وكان أبو الورد المذكور استمد أهل قنسرين، وكاتبوا أهل حمص وتدمر فقدم منهم ألوف، فوجه عبد الله أخاه عبد الصمد لقتالهم فقُتل كثيرون من الفريقين، وانهزم عبد الصمد إلى أخيه فاقتتل الفريقان ثانية قتالًا شديدًا بمرج الأخرم، فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو خمسمائة رجل حتى قتلوا جميعًا، فأمَّن عبد الله أهل قنسرين، ودخلوا في طاعته وانصرف راجعًا إلى أهل دمشق فدانوا له ولم يقاتلوه، وكانت للسفاح حروب وأحداث أخرى خارجة عن دائرة غرضنا في تاريخ سورية، فنضرب عن ذكرها، وأدركته المنية بمدينة الأنبار سنة ٧٥٥.

(٣) في أبي جعفر المنصور

هو أخو السفاح وقد عهد إليه بالخلافة، ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى، وكان أبو جعفر في الحج عند وفاة السفاح، وكان عبد الله بن علي والي سورية خرج في الجنود إلى أطراف ولايته، فبلغه خبر وفاة عمه السفاح فجمع الجنود، وقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعاهم إلى مبايعة نفسه وسار حتى نزل حران، فأرسل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني لقتال عبد الله الذي بلغ إلى نصيبين، فكتب إليه أبو مسلم: «إني لم أؤمر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام.» فخاف مَن مع عبد الله من أهل الشام من قتاله، فقال لهم عبد الله: «والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم.» وأبوا المسير إلا إلى الشام … فاضطر عبد الله أن يسير معهم، وتبعه أبو مسلم فاقتتلوا خمسة أشهر، وكان الفوز في أكثرها لعبد الله، ولكن ظهر أبو مسلم في آخر الحرب عليه، فانهزم مع أخيه عبد الصمد، وكتب المنصور إلى أبي مسلم بالولاية على مصر والشام، فلم يحب أبو مسلم ذلك وتوجه إلى خراسان فطلبه المنصور، فاعتذر عن الحضور وأخيرًا حضر إلى المنصور فقتله، وكان من أكبر دعاة بني العباس.

وفي سنة ٧٦٣ ابتدأ المنصور في بناء بغداد؛ لأنها متوسطة بين البصرة والكوفة والموصل، وكانت وفاته سنة ٧٧٥.

(٤) في المهدي وابنيه الهادي والرشيد

أما المهدي فهو ابن أبي جعفر المنصور بويع بالخلافة بعد موت أبيه سنة ٧٧٥، ومن الأحداث في أيامه أنه جاء إلى حلب يصحبه ابنه الرشيد، وبلغه أن في تلك الناحية زنادقة فجمعهم وقتلهم، وأرسل ابنه هرون الرشيد إلى بلاد الروم، ففتح فتوحات وعاد سالمًا منصورًا ثم أرسله ثانيةً، فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية، وروى ابن العبري في تاريخ الدول أن إيرينا والدة الملك قسطنطين السادس افتدت مملكة ابنها بسبعين ألف دينار كل سنة، وفي سنة ٧٨٥ توفي المهدي وقيل: مسمومًا.

وخلفه ابنه الهادي وبويع بالخلافة يوم وفاة والده، وقل ما كان من الأحداث في أيامه؛ لأنه توفي سنة ٧٨٧م، وخلفه أخوه هرون الرشيد تلك السنة، ومن بواكير خلافته تجديد بناء مدينة ترسيس وتحصينها، ومن الأحداث بسورية في أيامه أنه سنة ٨٩٣ كانت فتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، وقتل اليمانية من المضرية ستمائة رجل، فاستنجد المضرية بني قضاعة وسليحا فلم ينجدوهم، واستنجدوا بني قيس فنجدوهم، وساروا معهم إلى أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة رجل، وكثر القتال بينهم فعزل هرون الرشيد عبد الصمد بن علي عن دمشق وولى عليها إبراهيم بن صالح، فدام القتال نحو سنتين إلى أن سار جعفر بن يحيى البرمكي إلى دمشق، فسكن هذه الفتنة سنة ٧٩٦م.

ومن أعمال الرشيد المشهورة إيقاعه بالبرامكة، فإنه كان قد استوزر جعفر بن يحيى البرمكي، وعظم منزلته فاستطال وبغى وخالف متبوعه، فأرسل فقتله في الأنبار وأتبع به أباه وولده، وأخذ كل ما كان للبرامكة من مالٍ ومتاع وضياع، وكان ذلك سنة ٨٠٣.

وكانت للرشيد حرب مع نيقوفور ملك الروم حتى بلغ الرشيد إلى ضواحي القسطنطينية، فطلب نيقوفور الصلح وتعهد بأن يدفع جزية سنوية، لكنه أخلف وعده فعاد إليه الرشيد، وانتهب ودمر مواضع كثيرة بآسيا الصغرى وبلغ إلى البوسفور، فتذلل نيقوفور له ووثق وعوده باليمين، فعاد الرشيد متفاخرًا لكن نيقوفور ألَّب بعد ذلك جيشًا وسار إلى فريجية، فالتقاه الرشيد وقاتله وجرح نيقوفور وتشتت شمل جيشه بعد أن قُتل منه أربعون ألفًا، فافترض الرشيد عليه غرامة ثلاثين ألف دينار كل سنة … ووالى الرشيد كرلوس الكبير (شرلمان)، وأرسل إليه ساعة كانت وقتئذٍ في أعين أهل المغرب من المدهشات، وقيل: إنه أرسل إليه مفاتيح كنيسة القبر المقدس بأورشليم، وكان الرشيد محبًّا للعلم والعلماء وعني بترجمة كثير من كتب العلماء من السريانية واليونانية إلى العربية، وتوفي سنة ١٩٣ﻫ وهي سنة ٨٠٩م.

(٥) في مشاهير العلم الدنيويين في القرن الثامن

كان من هؤلاء في هذا القرن مكحول الشامي، والراجح أن أصله من كابل بأفغان سُبي منها، فعُتق وأقام بدمشق، ولم يكن في زمانه أبصر منه بالفتيا، وهو أستاذ الإمام الأوزاعي الآتي ذكره وتوفي سنة ٧٣٧م.

الإمام الأوزاعي

هو أبو عمر بن محمد الأوزاعي، لم يكن بالشام في أيامه أعلم منه، وكان يسكن بيروت وولد ببعلبك نحو سنة ٧١٠، ونشأ بالبقاع ونقلته أمه إلى بيروت وتوفي سنة ٧٧٤، ودفن في قرية على باب بيروت يقال لها: حنتوش وربما هي في المحل المعروف الآن بالمقام المعزو إليه.

ديك الجن

هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان، أصله من سليمية وولد بحمص، وهو من شعراء الدولة العباسية ولد سنة ٧٧٦ وتوفي سنة ٨٥١، وله مراثٍ في الحسين وشعر في غاية الجودة … وكان في هذا القرن من العلماء النصارى توافيلس الرهاوي اشتهر في أيام المهدي، وكان من المقربين إليه، وروى ترجمته ابن العبري في تاريخ الدول، وقال: إنه كان على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان، وله كتاب تاريخ حسن ونقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة إيليون من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة، وذكر العلامة السمعاني في المكتبة الشرقية مجلد ١ صفحة ٦٤: أنه توفي سنة ٧٨٥، وأنه هو الذي جعل الحركات السريانية الخمس على شبه الحركات اليونانية لضبط الألفاظ اليونانية في ترجمته لكتب أوميروس، وكان في هذا العصر الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بعض الشعراء أسماءهم في بيت وهو:

فخذهم عبيد الله عروة قاسم
سعيد سليمان أبو بكر خارجه

ومن هؤلاء انتشر علم الفقه والفتية، وتجد ترجمة كل منهم في المجلد الخامس صفحة ٢٤٤ إلى صفحة ٢٤٦ من تاريخنا، وكان فيه أيضًا أئمة الفقه أصحاب المذاهب الأربعة: وهم الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام أبو عبد الله مالك ثم الإمام الشافعي، ثم أحمد بن حنبل، وكان من أئمة النحو في هذا القرن الخليل الذي استنبط علم العروض، وتوفي نحو سنة ٧٩٠، وسيبويه النحوي الشهير توفي نحو سنة ٨٠٠ والكسائي، وقد توفي سنة ٨٠٥ والأخفش وتوفي سنة ٨٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤