الفصل الخامس

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع عشر

في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن

(١) في تتمة ما كان من الأحداث في أيام الملك الناصر

في سنة ١٣٠٢ توفي كتبغا نائب السلطان بحماة ونصب السلطان مكانه سيف الدين قبجق، وكان الحق لأبي الفداء صاحب التاريخ المشهور؛ لأنه من البيت الأيوبي، وقد أخذ بعد ذلك هذا المنصب، ومذ سنة ١٢٩٢ وكان الأمير بيدرا قائد عساكر السلطنة بمصر قد توجه إلى جبال كسروان، وصحبته كثيرٌ من الأمراء فتغلب أهل تلك الجبال على العساكر وقتلوا كثيرين منهم، روى ذلك المقريزي في تاريخ الممالك، وصالح بن يحيى في تاريخ بيروت.

وفي سنة ١٣٠٢ جمع جمال الدين أقوش الأخرم نائب دمشق بعض العمال والعساكر، وساروا لمقاتلة الجرديين وأهل كسروان فالتقى مقدمو الجبال الجيش، فهزموه وقتلوا كثيرين وغنموا غنائم كثيرة، وقتل في هذه الموقعة بعض الأمراء التنوخيين أصحاب بيروت وغزا الجرديون بلادهم، وأحرقوا بعض قراها … ذكر ذلك صالح بن يحيى المذكور وابن الجوزي، ثم قال صالح المذكور ومما نقلناه عن النويري والصلاح الكتبي في فتوح كسروان في سنة ٧٠٥ﻫ/١٣٠٥م: توجهت العساكر الشامية إلى جبال كسروان وإبادة أهلها، وهي النوبة الثانية في أيام الملك الناصر، فإن أهل كسروان كانت شوكتهم قد اشتدت، وتطاولوا على أذى العسكر عند انهزامه من التتر، وأغض السلطان عنهم، وأظهروا الخروج عن الطاعة واعتزلوا بجبالهم المنيعة ووثقوا بجموعهم الكثيرة، ففي سنة ١٣٠٤ جهز جمال الدين آقش (يسمى آقوش أيضًا) الأخرم، وتوجه بعده تقي الدين قراقوش وأنذرهم بالرجوع إلى الطاعة، فأبوا فأمر حينئذٍ بتجريد العساكر إليهم من ممالك سورية، وتوجه آقش الأخرم نائب السلطنة فيها بسائر الجيوش، وجمع جمعًا كبيرًا من الرجالة نحو خمسين ألفًا وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين، وتوجه نائب أطرابلس من جهة هذه المدينة، فدخل كسروان من أصعب مسالكه واجتمعت على أهله العساكر، فوطئت أرضًا لم يكن سكانها يظنون أحدًا يطأها وقطعت كرومهم، وأخربت بيوتهم وقُتل منهم خلقٌ كثير وتفرقوا في البلاد، واستخدم نائب أطرابلس جماعة منهم وأقطع بعضهم أملاكًا، وعن ابن سباط أن العساكر بلغت أولًا إلى الجرد التي بجبال بيروت (أحد أعمال الشوف)، فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل، والتقت الجموع عند عين صوفر، فكان قتال شديد دارت به الدائرة على الأمراء، فهربوا بحريمهم وأولادهم ونحو ثلاثمائة نفس، واحتموا في غار يعرف بمغارة نيبية فوق إنطلياص، فدافعوا عن أنفسهم حتى لم يقدر الجيش أن ينال منهم، وبذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا، فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سدًّا من الحجر والكلس، وهالوا تلًّا من التراب عليه، وأقاموا حارسًا عليهم مدة أربعين يومًا حتى هلكوا جميعًا، ثم أحاطت العساكر بجبال كسروان كما روى النويري والصلاح الكتبي، فقتلت أهلها وأخربت بيوتهم ودكت معابدهم وانهزم أكثرهم، ثم توجه بعض مأموري الحكومة لأجل عمارة الجبل بتأمين السكان الذين لم يستطيعوا الفرار، وإسكان عشائر من المسلمين في السواحل، وأمر الملك الناصر تركمان الكورة أن ينزلوا في ساحل كسروان، وهم آل عساف الآتي ذكرهم.

ولا شك في أن أهل كسروان كانوا حينئذٍ من الموارنة، وأن سكان الجرد كان أكثرهم وقتئذٍ من الدروز، ويظهر أن الفريقين كانوا إذ ذاك متفقين ويؤيده هرب الدروز من عين صوفر إلى نيبية التي كانت حينئذٍ من كسروان، إذ كان تخمه الجنوبي نهر الجمعاني كما يظهر أنه بقيت بقية من الموارنة بكسروان وبعد مدة أخذوا يتقاطرون إلى السكنى فيه.

وفي سنة ١٣٠٥ أيضًا سار جمال الدين آقوش الأخرم بعد فتحه كسروان إلى جبال الظنيين الواقعة بين أطرابلس ودمشق، وكان أهلها عصاة مارقين فظفرت العساكر بهم، وقتلوا وأسروا جميع من بها من النصيرية والظنيين وغيرهم من المارقين.

وفي سنة ١٣٠٨ استبد سلار نائب السلطنة وبيبرس الجاشنكير بالأمور، ولم يتركا للسلطان الناصر إلا الاسم، فسئمت نفسه هذا التطاول وأتى الكرك مظهرًا أنه ماضٍ إلى الحجاز وهو يريد المقام بالكرك، ولما علم الأمراء بذلك اتفقوا على أن يخعلوه وجعلوا بيبرس المذكور سلطانًا، وتلقب الملك بالمظفر، وفي سنة ١٣٠٩ سار بعض الأمراء من مصر إلى حلب، واتفقوا مع نائبها قراسنقر المنصور على خلع الملك المظفر وإعادة الملك الناصر، ووصل إليه بعض المماليك من مصر واستدعاه عسكر دمشق وكاتبه الحلبيون، فسار من الكرك إلى دمشق ودخلها وانهزم آقوش الآخرم نائبها، وقدم إليه النواب من حلب وحماة وصفد فسار بهم إلى مصر، وهرب الملك المظفر إلى الصعيد فقبض عليه الناصر، واسترد منه ما أخذه من الأموال والخيول واعتقله وكان آخر العهد به.

وفي سنة ١٣١٠ ولى الناصر أبا الفداء بحماة فرجعت إلى بيتهم الأيوبي، وفيها سير السلطان عسكرًا إلى حلب فقبضوا على أستدمر نائبها؛ لريبة السلطان بأمانته، وأُرسل إلى مصر، ونصب مكانه قراسنقر نائب دمشق وجعل مكانه آقوش نائب الكرك، واتفق قراسنقر مع مهنا أمير العرب، وأراد أن يستبد بحلب فخالفه أمراء حلب وأرسل إليه السلطان عسكرًا، فانهزم إلى مهنا حليفه، وفي سنة ١٣١٢ حاول آقوش الأخرم المذكور أن يحدث شقاقًا وانضم بعض الدمشقيين إليه، فلم يوافقه أحد من العسكر فهرب إلى قراسنقر عند العرب، وأرادا كبس العسكر فلم يوافقهما أحد وسار عسكر إليهما فهربا إلى ملك التتر.

وفي سنة ١٣٢٠ أنعم السلطان على أبي الفداء بلقب سلطان، فاستعظمه واستصغر نفسه فندبه السلطان إلى ذلك، وأرسل إليه شعار السلطنة وتوفي أبو الفداء سنة ١٣٣١ فولى السلطان ابنه الملك الأفضل محمد، وتوفي السلطان سنة ١٣٤٠ وخلفه ابنه المنصور وعزل الأفضل عن حماة، وولى مكانه طغرومرد، انقرضت إيالة بني أيوب من حماة بموت الأفضل سنة ١٣٤١، وفي سنة ١٣٣٩ وقعت نار بدمشق في شرقي الجامع الأموي، فاحترق سوق اللبادين والوراقين ثم وقعت مرة أخرى، فأهلكت مالًا وخلقًا كثيرًا واتُّهم النصارى بذلك فجرى القبض على روسائهم وطوفوهم على الجمال، وسمروا أربعة عشر شخصًا منهم، وبلغ ذلك مسامع السلطان فأرسل نائب السلطنة بصفد على تنكز نائب السلطنة بدمشق، وأخذه إلى القاهرة ثم اعتقل بالإسكندرية وتوفي بالسجن، ثم توفي الملك الناصر سنة ١٣٤٠.

(٢) في ما كان في أيام أبناء الناصر

بعد وفاة الناصر تعاقب أبناؤه على سرير الملك، وكان الأمراء يقلقون المملكة فبويع أولًا ابنه أبو بكر ولقب الملك المنصور، وأقبل على لذاته فخلعه الأمراء وملكوا أخاه كجك ولقبوه الملك الأشرف، واستبد قوصون كبير الأمراء بتدبير الملك فامتعض من ذلك الأمراء بسورية، واعتزموا على إقامة أخيه أحمد وكان واليًا بالكرك، وثار الأمراء بمصر على قوصون فنهبوا بيوته وخربوها وقبضوا عليه، ومات في السجن بالإسكندرية، وبايعوا أحمد ولقبوه الملك الناصر، ثم استوحش الأمراء منه ووجس منهم فارتحل إلى الكرك، فاجتمع الأمراء بمصر وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل، ولقبوه الملك الصالح، وأرسل العساكر إلى أخيه الناصر فقتلوه سنة ١٣٤٤، واستبد الصالح بالملك ولكنه توفي سنة ١٢٤٥، فبويع أخوه زين الدين شعبان ولقب بالملك الكامل، وأرهف في الاستبداد على أهل دولته فرارًا من حجرهم عليه، فانتقض عليه الأمراء بمصر والشام وجرد عسكرًا إلى الشام، واعتقل أخويه حاجي وحسين بالقلعة فثار عليه الأمراء بمصر فاقتتلوا وانهزم الكامل إلى القلعة، فدخلها الأمراء بعده فاعتقلوه وأخرجوا أخاه حاجي من معتقله وبايعوه ولقبوه الملك المظفر، لكنه استبد فتواعد الأمراء للوثوب عليه، فاستدعاهم إلى القصر وقبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف واعتقل جميعهم، وقتل بعضهم وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا في الطريق، وولى مكانهم خمسة عشر أميرًا، وأرسل أحد خواصه إلى دمشق فأغرى الناس لقتل اليحياوي أحد هؤلاء الأمراء، فقتل وسكنت الفتنة، ولكن استجدت في مصر فهب المظفر لمناوأة خصومه، فخانه بعض من كان معه فقتلوه سنة ١٣٤٧.

وأقام الأمراء بعده أخاه حسن ولقبوه الناصر بلقب أبيه، فشرع يستبد على عادة إخوته واستوحش منه أهل دولته، فكبسوه في القلعة واعتقلوه وبايعوا أخاه حسينًا، ولقبوه الملك الصالح وثار عليه بعض الأمراء بدمشق، فسار السلطان إليها وأخمد الفتنة، ولكن ثار عليه بعض الأمراء فخلعوه وأعادوا أخاه الناصر الذي كان معتقلًا إلى الملك، ولكن ثار عليه بيبقا (ويسمى يلبغا) الذي كان قد أكثر من الإحسان إليه، وجعله نائب السلطنة بدمشق ثم نائبًا للسلطنة، فكبس السلطان في خيامه خارجًا من داره وتقبض عليه، وكان آخر العهد به، وانتهى به ملك أبناء الناصر سنة ١٣٦٠.

ومما كان بسورية في أيام هؤلاء السلاطين أن كان سنة ١٣٤٨ طاعون شديد الوطأة حتى صُلِّي بدمشق على ٢٦٣ ميتًا في يومٍ واحد، وفي سنة ١٣٥٥ قصدت بعض مراكب الإفرنج صيدا، وقتلوا جماعة من أهلها وأسروا جماعة وقتل منهم خلق، واجتمعت عليهم العساكر من دمشق وصفد، وأخيرًا دفعوا إلى الإفرنج على كل أسير خمسمائة درهم.

(٣) في ما كان بسورية في أيام باقي الملوك من دولة هؤلاء المماليك

بعد وفاة الملك الناصر نصب بيبقا نائب السلطنة محمد بن المظفر، ولقبه الملك المنصور، وقام بتدبير دولته وانتقض عليه أستدمر نائب دمشق، واستولى على قلعتها فسار إليه بيبقا مع السلطان والعساكر، فاعتصم المخالفون بالقلعة إلى أن أُنزلوا بالأمان، وبعث بيبقا بهم إلى الإسكندرية وجعل الأمير عليًّا المارداني نائبًا بدمشق وقطلوبغا الأحمدي نائبًا بحلب، وبدا لبيبقا استرابة في الملك المنصور، فخلعه سنة ١٣٦٢، وأقام مكانه شعبان بن الناصر ولقبه الملك الأشرف وكان عمره عشر سنين، وعزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا، نقله من حلب إلى دمشق، فولى مكانه عشقتمر المارداني، وفي سنة ١٣٦٥ غزا بطرس لوسنيان ملك قبرس الإسكندرية بمعاونة جمهورية البندقية وفرسان رودس، فملكوا الإسكندرية ونهبوها وخافوا مهاجمة عسكر مصر لهم فأحرقوا المدينة، وارتحلوا عنها واستحوذوا بعد مدة على أطرابلس وأحرقوها، وكذلك صنعوا بطرطوس واللاذقية، ولم يكن نفع من هذه الحملة سوى إثارة حنق المسلمين على النصارى، وهادن الملك الأشرف الإفرنج على إطلاق الأسرى من الفريقين، وعلى إعطاء ملك قبرس النصف من دخل المكوس بصور وبيروت وأورشليم، وعلى إباحة الإفرنج الحج إلى القدس، وتجديد كنيسة القبر المقدس، وكنيسة بيت لحم والناصرة، لكن الأشرف أخلف وعده بعد مدةٍ يسيرة.

وطال استبداد بيبقا مدبر السلطنة، وثقلت وطأته على الأمراء فتشاوروا في نكبته ونما الخبر إليه، فخلع الأشرف ونصب أخاه توك ولقبه الملك المنصور فاجتمعت العساكر على الأشرف، وهاجموا الخونة فانفض أصحاب بيبقا عنه فولى منهزمًا، ثم استحضر فقطع بعضهم رأسه وانتقض الأمراء مرات على الأشرف، فقهرهم واستبد بملكه وأذعن الناس لطاعته، لكنه خرج إلى الحج سنة ١٣٧٤ فانتقض عليه بعض مماليكه، واضطر إلى العود إلى القاهرة فثار عليه بعض الأمراء، فأُرغم على الفرار والاختباء في بيت استخرجوه منه وقتلوه خنقًا سنة ١٣٧٦.

وبعد مقتل الأشرف بايع الأمراء ابنه عليًّا ولقبوه الملك المنصور، وقام بالدولة قرطاي الطازي فقبض عليه أيبك البدري الغزي وسيره إلى صفد، واستبد أيبك بالدولة ثم انتقض طشتمر بدمشق ووافقه بعض الأمراء، فسار أيبك مع السلطان والعساكر إلى الشام، فثار الأمراء في مقدمة الجيش على أخيه فرجع إليه منهزمًا، فعاد أيبك إلى القلعة بالقاهرة فخرج عليه جماعة من الأمراء، فتوارى ثم قُبض عليه وأُرسل إلى الإسكندرية، وأقام الأمراء بيبقا الناطري مكانه ولم يخلصوا له الطاعة، وكثر تغلبهم إلى أن قام بالدولة الأمير برقوق وتوفي السلطان المنصور سنة ١٣٨١، فاتفق برقوق والأمراء على نصب أخيه الأمير حاج، ولقبوه الملك الصالح وجمع برقوق سنة ١٣٨٣ الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء، فأجمعوا على مبايعة برقوق وعزل السلطان الصالح، وأرسلوا أميرين أخذا السيف من يده وأحضراه إلى برقوق، ولبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة، ولقب الملك الظاهر فكان الصالح آخر ملوك دولة المماليك البحرية، وابتدأ ملكهم بمصر سنة ١٢٥٥ وبمصر وسورية معًا سنة ١٢٦٢، وانقرضت دولتهم سنة ١٣٨٢ بخلع الملك الصالح وتمليك برقوق أول ملوك دولة المماليك الجراكسة؛ لأن أصلهم من الجركس.

(٤) في الملك الظاهر برقوق وما كان في أيامه

برقوق مملوك من الجركس ملكه بيبقا المذكور، وتراقى بالمناصب إلى أن قام بالدولة في أيام السلطان المنصور، ثم استبد بالملك كما مر وفي أول ملكه أي: سنة ١٣٨٢ حضر أسطول من جنوا إلى صيدا فأخذوها وجاءوا إلى بيروت، ونزل جماعة منهم إلى المدينة، فقاومهم المسلمون وقتلوا منهم كثيرين وقتل وجرح بعض المسلمين وانصرف الإفرنج، وكان بين الملك الظاهر وبين الأمراء منازعات وتقلبات لا محل لتفصيلها في هذا الموجز فنلخص شيئًا منها أن بيبقا الناصري كان السلطان قد ولاه على حلب، ثم سخط عليه وأرسله إلى الحبس بالإسكندرية، ثم أفرج عنه فسار إلى حلب وهم بالانتقاض على السلطان، واجتمع بعض الأمراء إليه واعصوصبوا وخلعوا الطاعة، ونهضوا بجموعهم إلى دمشق، وأرسل السلطان عسكرًا لردعهم فانتصروا عليه ودخلوا دمشق، ثم ساروا إلى مصر، واستأمن أكثر الأمراء إلى الناصري فدس السلطان إلى الناصري بالصلح، فأشار عليه أن يتوارى بشخصه مخافة أن يصيبه أحد بسوءٍ، فخرج السلطان متنكرًا ودعا الأمراء أمير حاج بن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقبوه الملك المنصور، وأبعدوا الناصر إلى الكرك، وشعر بأن بعض الأمراء يريد اغتياله، فأرسل رجاله في الكرك، فضوى إليهم جماعة من أهلها وقتلوا البريدي الذي كان بقلعتها وملكها برقوق، وتسارع إليه مماليكه من كل جهة فسار من الكرك إلى دمشق، فأرسل جنتمر نائبها العساكر لدفاعه فكانت وقعة انهزم به الدمشقيون، وقتل الكثيرون منهم واتبعهم برقوق إلى دمشق وحاصرها ونجده كمشتيقا نائب حلب، وبلغ الخبر إلى منطاش مدبر مملكة الملك المنصور بمصر، فجمع العساكر وأخرج الملك والخليفة والقضاة والعلماء، وساروا نحو دمشق فالتقاهم الظاهر واتقعوا، فقبض الظاهر برقوق على الملك المنصور والخليفة والقضاة، وهزم منطاش وجموعه وحمل المنصور على التبري من الملك، وشهد عليه الخليفة والقضاة بالخلع وعاد الملك الظاهر إلى عرشه، وسار إلى مصر فدخل القاهرة سنة ١٣٩٠ وقلده الخليفة الملك.

أما منطاش فاستمر بسورية عازمًا على الانتقاض وأرسل إيمازتمر نائبًا إلى حلب، فحاصر كمشتيقا نائبها من قبل السلطان، وأرسل عسكرًا إلى أطرابلس فحاصروها وملكوها، وشرع منطاش يفتك بالمنتمين إلى السلطان فأرسل إليه السلطان عسكرًا من مصر، فهرب من دمشق ولحق بيعبر أمير العرب آل فضل، وبلغ خبر فراره إلى إيمازتمر الذي كان قد أرسله لحصار حلب، فلحق به وأخذ مماليك السلطان أطرابلس من قشتمر الأشرفي الذي كان منطاش قد ولاه عليها، وكان السلطان قد ولى ابن الجوباني على دمشق، فسار بعسكر إلى يعبر أمير العرب يطلب إخراج منطاش من أحيائهم فأبوا، فكانت بين الفريقين حرب شديدة انهزم بها العرب، ولكن انفرد ابن الجوباني عن عسكره فأسره العرب وقتله أميرهم، وسار منطاش ويعبر فحاصرا حلب وفيها كمشيقا الحموي نائب السلطان، فراسله يعبر بالطاعة والسلطان فأجابه السلطان إلى ذلك ودرى منطاش، فارتحل ولحق بالتركمان بمرعش، وسار إلى عنتاب فملكها وقتل جماعة من أهلها، وجاءت العساكر من حلب وحماة وصفد، فهرب إلى بلاد الروم واستمر شريدًا إلى سنة ١٣٩١، ثم قصد دمشق فانهزم من وجهه نائب حماة، فدخلها منطاش وسار منها إلى حمص ثم إلى بعلبك، وخرج إليه الناصري والي دمشق في العساكر على طريق الزبداني، فسار هو بطريقٍ آخر وبلغ دمشق، فعاد إليه الناصري واقتتل الفريقان مدة شهرين، فسار السلطان من مصر بالعساكر فهرب منطاش من دمشق، ووفد إلى السلطان آل مهنا وآل عيسى من العرب مجاهرين بالطاعة له، وسار السلطان إلى حلب فأتاه الخبر أن منطاش مر ببلاد ماردين وقاتلته بعض العساكر هناك، فلجأ إلى أحد أمراء التركمان يسمى سالم، فقبض عليه وأرسل السلطان يطلبه ففر إلى سنجار ثم عاد إلى يعبر أمير العرب، وأقام في أحيائهم وتزوج بنتًا منهم وعبر الفرات إلى نواحي حلب، وأوقعت به العساكر وأسروا جماعة من أصحابه، ونكلوا بالعرب حتى أجبروهم أن يقبضوا على منطاش، ويسلموه إلى نائب حلب، وأرسل السلطان أميرًا من القاهرة، فأخذ رأس منطاش وطاف به في ممالك الشام وعلق على باب القلعة بالقاهرة سنة ١٣٩٣.

وفي السنة المذكورة فر أحمد بن أديس صاحب بغداد إلى الملك الظاهر مستنجدًا له على تيمور لنك التتري، الذي كان قد ملك أكثر البلاد الشمالية، فأجابه السلطان إلى ذلك وسار بعسكره إلى سورية وأقام عساكره على تخومها، وبدا لتيمور لنك أن يقصد الهند فقصدها، وشغل بتدويخها مدة فعاد السلطان إلى مصر ولا نعلم من أخباره الهامة بعد ذلك إلا ورود رسالة تيمور لنك إليه سنة ١٣٩٨، وبها يهدده وجواب الظاهر إليه مزدريًا به، والرسالة وجوابها مشهوران، وقد توفي الملك الظاهر في أثناء ذلك سنة ١٣٩٨، وخلفه ابنه عبد العزيز ولقب الملك المنصور لكنه خُلع بعيد ذلك وبويع أخوه زين الدين فرج، ولقبوه الملك الناصر، وفي سنة ١٤٠٠ بلغ تيمور لنك إلى حلب، ونرجئ الكلام في حملته إلى تاريخ القرن الخامس عشر.

(٥) في المشاهير السوريين في القرن الرابع عشر

  • ابن منظور: هو محمد بن علي الأنصاري الرويفعي ولد سنة ١٢٣١ وتوفي سنة ١٣١١ ولي نظر أطرابلس وله النظم والنثر، وأعظم مؤلفاته لسان العرب وهو من أشهر المعجمات العربية طبع ببولاق سنة ١٣٠٨ﻫ، وله كتاب نشاد الأزهار في الليل والنهار تكلم فيه على الليل والنهار، والاعتباق والاصطباح إلخ، ومنهم فخر الدين الحموي قاضي حلب توفي سنة ١٣٣٠، وله شرح على كتاب الحاوي في الفقه في ستة مجلدات، ثم شمس الدين الدمشقي، توفي سنة ١٣٢٨ له كتاب سماه نخبة الدهر في عجائب البر والبحر طبع ببطرسبرج سنة ١٨٦٦.
  • الملك المؤيد إسماعيل أبو الفداء: هو ابن الملك الأفضل صاحب حماة من البيت الأيوبي، ولي حماة سنة ١٣٢٠، وتوفي سنة ١٣٣١، وكان ضليعًا بالعلوم كالطلب والفقه والفلسفة والتاريخ والجغرافية وله شعرٌ حسن، وله من التآليف تاريخه المشهور، وقد طبع بالقسطنطينية في أربعة أجزاء سنة ١٢٨٦ﻫ، وتقويم البلدان في الجغرافية، وقد طبع ببريس سنة ١٨٣٧، ووصف جغرافية مصر وقد طبع في غوتنغن سنة ١٧٧٦، وكتاب الموازين إلى غيرها.
  • هبة الله الحموي: توفي سنة ١٣٣٧، ومن مصنفاته في التفسير كتاب البستان في تفسير القرآن مجلدان، وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلدًا، وفي الحديث كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول، وكتاب الوفا في أحاديث المصطفى، وكتاب المجرد من السند، وكتاب المنضد شرح المجرد في أربعة مجلدات، وشرح الحاوي المسمى إظهار الفتاوي من أعوار الحاوي، وتيسير الفتاوي في تحرير الحاوي وهما أشهر تصانيفه، وشرح نظم الحاوي أربعة مجلدات وكتاب المغني مختصر التنبيه، وكتاب تمييز التعجيز إلى غير ذلك.
  • ابن الوردي زين الدين المعري: درس على هبة الله المذكور، وتوفي سنة ١٣٨٤ ومن مصنفاته البهجة الوردية في نظم الحاوي، وكتاب فوائد فقهية منظومة وشرح ألفية ابن مالك، وضوء الدرة على ألفية ابن معطي، وقصيدة اللباب في علم الإعراب وشرحها، واختصار ملحة الإعراب نظمًا، وكتاب مذكرة الغريب نظمًا وشرحها، وكتاب المسائل الذهبية في المسائل الملقية وكتاب أبكار الأفكار، وتتمة تاريخ أبي الفداء إلى غيرها، وله كثير من الشعر الجيد … ويرجح أن هو ابن الوردي صاحب الكتاب المسمى خريدة العجائب وفريدة الغرائب في الجغرافية، الذي طبع بأسوج سنة ١٨٢٤ مع ترجمة لاتينية.
  • صلاح الدين الكتبي الحلبي: توفي سنة ١٣٦٢ وهو صاحب فوات الوفيات، وهو تتمة لكتاب وفيات الأعيان لابن خلكان جمع فيه ٥٧٢ ترجمة ممن فات ابن خلكان ذكرهم أو كانوا بعده، وذكر له صاحب الكشف كتابًا سماه عيون التواريخ في ستة مجلدات.
  • صلاح الدين الصفدي: توفي بدمشق سنة ١٣٦٣، وله كتاب الوافي بالوفيات جمع فيه تراجم الأعيان من الصحابة والتابعين والملوك والأمراء والعمال والعلماء، وله أيضًا كتاب دمعة الباكي ولوعة الشاكي.

وعاصر هؤلاء في غير سورية محمود الشيرازي توفي سنة ١٣١٠، وله عدة مصنفات منها الإدراك في الهيئة وتحفة السامي في الهيئة أيضًا، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه.

  • ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: توفي سنة ١٣٣٣، وله تاريخ في ثلاثين مجلدًا، والصنهاجي صاحب الأجرومية مدخل النحو، وقد شرحه كثيرٌ من العلماء منهم خالد بن عبد الله الأزهري، وتوفي سنة ١٣٢٣، وأثير الدين أبو حيان النحوي توفي سنة ١٣٤٤، وله مصنفات جليلة، منها تفسير القرآن العظيم وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من السنة العرب، ومختصرات في النحو وله نظم.
  • ومنهم صفي الدين الحلي المتوفى سنة ١٣٤٩: وله تسع وعشرون قصيدة سماها در النحور في مدائح الملك المنصور، وبديعيته مشهورة وطبع ديوانه بدمشق سنة ١٣٠٠ﻫ، وابن هشام الأنصاري المتوفى سنة ١٣٥٩، وله كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وعليه عدة شروح وحواش، وله أيضًا شذور الذهب في معرفة كلام العرب في النحو وقطر الندا وبل الصدا مع شرح له عليه في النحو أيضًا، وشرح معلقة كعب بن زهير بانت سعاد، وشرح ألفية ابن مالك، وسماه أوضح المسالك في الفية ابن مالك، ومنهم ابن عقيل المتوفى سنة ١٣٦٧، وأشهر مصنفاته شرح ألفية ابن مالك، وقد طبع مرارًا وعليه شروح، وابن بطوطة المتوفى سنة ١٣٧٧، وله الرحلة المعروفة بتحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وطبعت مرات وترجمت إلى عدة لغات، والسعد الشفتزان المتوفى سنة ١٣٩٠، وله شرح على الإيصاخوجي بالمنطق وكتاب تهذيب المنطق والكلام، وكتاب سماه النعم السوابغ في شرح الكلم النوابغ في اللغة، وكتاب في التصريف وتلخيص المفتاح الذي لمحمود القزويني في المعاني والبيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤