الفصل الرابع

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن عشر

في الأحداث التي كانت بسورية في هذا القرن

(١) في ما كان بسورية في أيام السلطان أحمد خان الثالث

انقضت ولاية السلطان مصطفى خان الثاني بخلعه وإقامة أخيه السلطان أحمد خان الثالث سنة ١٧٠٣، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير بشير شهاب الذي خلف الأمير أحمد معن سنة ١٦٩٧، ولاه أرسلان باشا والي صيدا كل الأعمال من صفد إلى المعاملتين بكسروان، وجعل ابن أخيه الأمير منصورًا واليًا بصفد، ثم توجه بنفسه لجباية المال السلطاني، فتوفي بصفد سنة ١٧٠٧ وحُملت جثته إلى صيدا فدفنت في مدفن المعنيين، واجتمع أكابر البلاد وقر رأيهم على تولية الأمير حيدر ابن الأمير موسى شهاب، وعرضوا الأمر لأرسلان باشا فأجابهم إليه، فأتوا به إلى دير القمر وكان عمره حينئذٍ إحدى وعشرين سنة.

ثم عُزل أرسلان باشا عن ولاية صيدا وتولاها أخوه بشير باشا، فولى المشايخ بني علي الصغير المتاولة على بلاد البشارة، وأخذوا يسطون على أطراف بلاد الأمير حيدر وانضم إليهم بنو منكر وبنو صعب ولاة إقليمي الشومر والتفاح وبلاد الشقيف، فنهض الأمير حيدر لكبتهم وبلغ إلى النبطية فالتقاه المتاولة، فكانت وقعة دارت بها الدوائر على المتاولة، وقتل منهم خلقٌ كثير وتحصن بعضهم في القرية فأغارت عليهم فرسان الأمير، فأهلكوهم عن آخرهم ونصب الأمير حيدر الشيخ محمود أبا هرموش نائبًا عنه في حكومة بلاد البشارة، فثقل ذلك على بشير باشا فأرسل يقوي الأمراء بني علم الدين وغيرهم من اليمنية على الأمير حيدر وهو قيسي.

ففي سنة ١٧٠٩ عظم حزب اليمنية بالشوف، وأظهر الأمراء بنو علم الدين المجافاة للأمير حيدر ومالأهم على ذلك الأمير يوسف أرسلان حاكم الشويفات، وكان محمود أبو هرموش الذي نصبه الأمير حيدر عاملًا ببلاد بشارة قد جار واعتسف، فطلبه الأمير إليه فلجأ إلى بشير باشا ليحميه من غضب الأمير، فالتمس له من السلطان لقب باشا، ونصب الأمير يوسف علم الدين اليمني على ولاية الأمير حيدر، وأرسله مصحوبًا بعسكر وبمحمود باشا المذكور لطرد الأمير حيدر من دير القمر، فنهض الأمير إلى غزير ومعه بعض أعيان البلاد، فأرسل الأمير يوسف علم الدين عسكرًا في أثره، فكانت وقعة بغزير بين القيسية واليمنية تقهقر بها عسكر اليمنية إلى البحر … على أن الأمير حيدر لم يثق بظفره فيما بعد، فآثر الاختفاء على الحرب وسار ببعض ذويه إلى الهرمل واختفى هناك بمغارة تعرف بمغارة عزرائيل، ولما تحقق اليمنية خروج عسكر القيسية من غزير دهموها، فنهبوها وأحرقوها وقفلوا إلى دير القمر، وأرخ بعض الشعراء هذه الوقعة بقوله: ندمت غزير أي: سنة ١٧١١، وروى الأمير حيدر شملال الشهابي صاحب التاريخ هذه الحادثة بوجهٍ آخر، وهو خلاف وقع بين آل خازن وآل حبيش، فأرسل الأمير يوسف علم الدين فرسانًا إلى غزير فمنعهم آل حبيش، وقتلوا منهم ثلاثة رجال، فركب الأمير يوسف بعسكرٍ إلى غزير فانهزم الحبشيون إلى أطرابلس، فأحرق غزير ونهبها.

أما محمود باشا أبو هرموش مدبر الأمير يوسف علم الدين، فجار في البلاد بعد فرار الأمير حيدر، وتزوج بنتًا من بنات الأمراء آل علم الدين فزاد ذلك ثقلًا على القيسية، وراسلوا الأمير حيدر بأن يعود إليهم، فسار من مغارة الهرمل وحل في قرية رأس المتن عند المقدم حسين اللمعي، وأنفذ الأعلام للقيسية بالشوف وغيرها فاجتمعوا إليه، وعرف بذلك محمد أبو هرموش، فخاف ودعى اليمنية في الغرب والمتن والجرد، وكتب إلى بشير باشا والي صيدا وإلى نصوح باشا والي دمشق يستنجدهما، فنهض بشير باشا بعسكره إلى حرش بيروت، ونصوح باشا بعسكره إلى قب إلياس وكتب محمود باشا إلى بشير باشا أن يقوم بعسكره إلى بيت مري، وإلى نصوح باشا أن يقوم بعسكره إلى المغيتي فوق حمانا، ونهض هو بعسكر البلاد إلى عين دارا، وعزموا جميعًا أن يدهموا بيومٍ واحد الأمير حيدر، فاستشار الأمير حيدر أصحابه القيسيين، فكان رأي المقدم مراد اللمعي أن يقوم من وجه العساكر إلى كسروان، وصوب الباقون أن ينهضوا ليلًا إلى عين دارا، فيدهموا محمود باشا وعسكره، وساروا للحال … وقسموا عسكرهم ثلاثة أقسام فبلغوا عين دارا غلسًا، ودخلها أولًا المقدم عبد الله والمقدم حسين اللمعيان، ثم دخل عسكر الأمير حيدر عنوة إلى القرية، وأبدى القيسية آيات البسالة وهلك من الفريقين خلقٌ كثير، وقُتل من الأمراء آل علم الدين ثلاثة وأُسر أربعة، وقبضوا على محمود باشا أبي هرموش وضربت أيدي الشتات اليمنية، ولما علم والي صيدا ووالي دمشق بما كان عاد كل إلى مقر ولايته، ودخل بعد انقضاء القتال رجل على المقدم حسين اللمعي، ولقبه بالمقدم على عادته، فانتضى سيفه، وقتله قائلًا: «أقتل ثلاثة أمراء وتناديني بالمقدم.» يريد أن يسمَّى أميرًا، ثم توجه الأمير حيدر من عين دارا إلى الباروك، ومعه الأمراء اليمنية المأسورين، فأمر بقطع روسهم وانقرضت بهم سلالة آل علم الدين، ثم أمر بقطع لسان محمود باشا أبي هرموش، ولم يقتله حرمة للدولة؛ لأنه باشا، وعاد إلى دير القمر ظافرًا، وسمى المقدمين اللمعيين أمراء، وتزوج هو ببنت الأمير حسين اللمعي، وزوَّج ابنته للأمير عساف ابنه وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج بأم الأمير مراد اللمعي وأقطعه نصف المتن، وزوَّج أخته بالأمير عبد الله اللمعي، وأحبه لما شاهده من بسالته يوم عين دارا، ثم أقطع الشيخ قبلان القاضي إقليم جزين والشيخ علي النكدي الناعمة وما يليها، وسلخ عمل الغرب الأعلى عن ولاية الأمير يوسف أرسلان، وسلمه إلى محمد تلحوق وأخيه بشير، وأقطع الشيخ جنبلاط عبد الملك عمل الجراد، ورفع مقام هؤلاء المشايخ وكتب لهم الأخ عبد العزيز، وخص بنفسه خمس قرى وهي بتقلين ونيحا، وعين ماطور وبتلون وعين دارا.

وفي سنة ١٧١٥ توفي الشيخ قبلان القاضي حاكم إقليم جزين، وأوصى بنصف ماله للأمير حيدر وبالنصف الآخر للشيخ علي جنبلاط، فلم يأخذ الأمير من تركته إلا خمسة وعشرين ألف قرش، وخص بنفسه من إقطاعه مرج بسرى ومزرعة بحنين، وكان الشيخ علي جنبلاط متزوجًا بابنة الشيخ قبلان القاضي، فارتأى ذووه بعد وفاته أن يليهم الشيخ علي، وأتوا به إلى الأمير حيدر فسلمه إقليم جزين، وفي سنة ١٧١٧ توفي الأمير عبد الله اللمعي زوج غضية أخت الأمير حيدر الوالي، ولم يكن للأمير عبد الله ولد فأخذت غضية نصيبها من تركته بستان أبي كعكة بالبوشرية، وجزيرة ابن معن عند منبع نهر بيروت.

وفي سنة ١٧٣٢ توفي الأمير حيدر، وكان عادلًا حليمًا كريمًا، وتزوج بأربع نساء حسب السنة وثلاث سراري ورزق تسعة بنين، وهم الأميران ملحم وأحمد من أم، والأمراء منصور ويونس وعلي ومعن وحسين من أم أخرى، وهي أخت الأولى وكلتاهما من بنات عمه من حاصبيا، ثم الأمير عمر من أم الأمير مراد اللمعي، والأمير بشير من بنت الأمير حسين اللمعي، وفي أيامه ذل الحزب اليمني واستفحل أمر الحزب القيسي.

(٢) في ما كان بسورية في أيام السلطان محمود الأول

بعد اعتزال السلطان أحمد الثالث عن السلطان أقيم ابن أخيه السلطان محمود خان الأول سنة ١٧٣٠، ومما كان في سورية في أيامه أنه بعد وفاة الأمير حيدر شهاب سنة ١٧٣٢، اجتمع أعيان البلاد، وأرادوا أن يقيموا مكانه ابنيه الأمير ملحمًا والأمير أحمد، فأبى الأمير ملحم أن يشارك أخاه في الحكم، وسار إلى صيدا طالبًا من أسعد باشا العظم واليها حينئذ أن يوليه مكان أبيه، فولاه وضم الأمير ملحم إخوته إليه وزوَّج ابنته إلى الأمير فارس اللمعي صاحب الشبانية، وبلغه أن بني علي الصغير أصحاب بلاد بشارة شمتوا بموت والده، وخضبوا أذناب خيولهم بالحناء، فالتمس من أسعد باشا أن يوليه على بلاد بشارة، فولاه ونهض إليها ومال إليه سلمان الصعبي صاحب بلاد الشقيف، فأمنه وأبقاه على ولايته ودهم بني علي الصغير، والتقى بهم في قرية يارون فكسر جمعهم وأهلك منهم خلقًا كثيرًا، وقبض على مقدمهم نصار وفر إخوته فتتبع آثارهم إلى القنيطرة، فقتل بعضهم ونهب تلك الديار وعاد ومعه نصار المذكور مقيدًا، ثم حضر إخوته مستسلمين إليه وقدموا له فدية عن أخيهم، فخلى سبيله وأعادهم إلى ولاية بلادهم من قبله، فهابه الناس واعتز به أهل ولايته وأخذوا يسطون على من جاورهم من أهل البقاع، فحنق سليمان باشا العظم والي دمشق وسار بعسكرٍ إلى البقاع قاصدًا كبت اللبنانيين، ورأى الأمير ملحم ما يكون من غوائل القتال، فاعتذر للوالي عن أهل بلاده وتعهد بأن يدفع له خمسين ألف قرش، ورهن أخاه الأمير حسينًا عنده إلى أن دفع له المبلغ.

وفي سنة ١٧٣٤ انتقل أسعد باشا العظم من إيالة صيدا إلى إيالة دمشق، وخلفه بصيدا أخوه سعد الدين باشا الذي كان واليًا بأطرابلس، وتولى سلطان باشا العظم أطرابلس وعظمت سطوة بني العظم في سورية، وفي سنة ١٧٤١ ادعى أسعد باشا العظم والي دمشق على الأمير ملحم دعاوى لم تكن صحيحة، وجهز عسكرًا سار به إلى البقاع فحشد الأمير عسكرًا والتقاه لهناك ورأى الوزير أن عسكره لا طاقة له على قتال الأمير، فعاد إلى دمشق وتعقبه الأمير إلى قربها، ثم عاد فأحرق بعض قرى البقاع.

وفي سنة ١٧٤٣ أظهر المتاولة أصحاب جبل عامل الخروج عن طاعة سعد الدين باشا العظم والي صيدا، وامتنعوا عن أداء الأموال الأميرية، وسطوا على إقليم التفاح التابع ولاية الأمير ملحم، فاستنهض الوزير الأمير لقتالهم فسار بعسكرٍ من دير القمر حتى بلغ جسر الأولى عند صيدا، فأخذ الرعب المتاولة من قدوم الأمير فوجهوا رسلًا وهدايا إلى الوزير يلتمسون الصفح، ويتعهدون بدفع ما بقي عندهم من المال، ومال آخر فكتب إلى الأمير يخبره بما كان، ويأمره بالعود إلى بلاده فأبى الأمير الامتثال، وسار إلى قرية نصار وفيها بنو منكر وبنو صعب ومحازبوهم، فخرجوا لملتقاه بعسكرهم فهجمت عليهم رجال الأمير، فاندفعوا مدحورين فتعقبهم اللبنانيون وقتلوا بعضهم، وتحصن الباقون في القرية، فوثب عليهم رجال الأمير، وقتلوا منهم ألفًا وستمائة قتيل، وقبضوا على أربعة من مشايخهم ونهبوا القرية وأحرقوها، وعاد الأمير إلى دير القمر ظافرًا معتزًّا، وكتب إلى الوزير يبشره بالظفر، فأجابه مظهرًا رضاه ومثنيًا عليه وأرسل له نفقات العسكر، ثم توسط الشيخ علي جنبلاط أمر تخلية سبيل المشايخ المسجونين، فأجابه الأمير إلى ذلك بشرط أن يدفعوا كل سنة ستة آلاف قرش وفرسين من جياد الخيل.

وفي سنة ١٧٤٧ تولى الأمير ملحم بلاد بعلبك، وسير إليها أخويه الأمير أحمد والأمير منصور يدبران شئونها، وأبطأ أخواه في أداء بعض مالها، فكتب إليه الوزير يطلب المال، وأغلظ له الخطاب وكان بين الأخوين نفرة، فوجس الأمير ملحم من ذلك ودعا أعيان بلاده إلى الاجتماع بالباروك للتشاور والاهتمام بجمع المال الباقي للخزينة، فأرسل أسعد باشا رسولًا يتجسس أعمال الأمير، وما ينوي، ففطن الأمير لما بطن وأظهر للرسول البأس والشدة، ولما عاد الرسول وبث لأسعد باشا ما رآه عزم الوزير أن يدهم الأمير على غفلةٍ، وسار مسرعًا إلى صحراء بر إلياس قاصدًا قتال الأمير، فنهض الأمير عاجلًا من الباروك وحل في المغيثة، فلما بلغ الوزير بر إلياس وجد نيران الأمير تسطع على المغيثة، فعلم أنه يقظ حذور، ثم زحف الأمير بجيشه نحو معسكر الوزير، فكانت وقعة بين العسكرين ظهر فيها العسكر اللباني، وتتبع العسكر الدمشقي إلى الجديدة وأهلك منه خلقًا كثيرًا، وعاد الأمير إلى البقاع فنهب بعض قراها وأحرقها، ووجه فريقًا من عسكره إلى بلاد بعلبك، فأزاح الأمير حيدر الحرفوش الذي كان الوزير قد ولاه عليها، وولى الأمير مكانه أخاه حسينًا، ولما علم أسعد باشا ما فعله الأمير ببعلبك احتدم غيظًا وحنقًا، وأخذ يجمع العساكر لقتال الأمير، ولكن نفذ الأمر السلطاني بضرب عنق أسعد باشا، وتولى مكانه ابن عمه سليمان باشا العظم، وتوفي سعد الدين باشا والي صيدا وخلفه عثمان باشا المعروف بالمحصل، وكان الأمير ملحم قد تأخر عن دفع بعض المال فطالبه به عثمان باشا، ثم شكاه إلى الباب العالي فصدر الأمر لوالي دمشق أن يساعد والي صيدا على إرغام الأمير على القيام بما عليه، فنهض عثمان باشا إلى جسر صيدا وأرسل فأحرق إقليم التفاح، وقطع شجر الزيتون القريب من نهر صيدا، فنهض الأمير بعسكره إلى مزبود قاصدًا القتال ثم تصالحا ودفع الأمير ما كان عليه.

وفي سنة ١٧٤٨ أرسل سلمان باشا والي دمشق إلى الأمير ملحم أن يطرد من بلاده بعض الإنكشارية، الذين كان قد طردهم من دمشق ولاذوا بحمى الشيخ شاهين تلحوق، وكتب الأمير إلى آل تلحوق أن يطردوا من لجئوا إليهم فأبوا رعاية للزمام، فوجه الأمير عسكرًا فقاوموه فأحرق العسكر مساكنهم، وقطع أشجارهم وطردهم ونزلاءهم من البلاد، فنزحوا إلى راشيا إلى أن أمن الوزير أولئك الفارة فرجعوا إلى دمشق، وقتلهم جميعًا وطلب المشايخ آل تلحوق العفو من الأمير، فعفا عنهم وعوضهم عما أتلفه لهم.

وفي سنة ١٧٤٩ أرسل الأمير ملحم إلى الشيخ شاهين تلحوق أن يسطو على أطراف بيروت؛ لأن ياسين بك حاكمها لم يكن يجل الأمير، فشكاه الحاكم إلى والي صيدا، فعرض هذا الوالي ولاية بيروت على الأمير ملحم، فقبلها منضمة إلى ولايته وتوطنها الأمراء الشهابيون، وبقيت ولايتهم عليها إلى أيام الجزار كما سيأتي.

وفي سنة ١٧٥٠ اعتدى بنو منكر المتاولة على إقليم جزين، وقتلوا رجلين من أتباع الشيخ علي جنبلاط، فحشد الأمير ملحم عسكرًا وبلغ إلى جباع الحلاوة، حيث كان بنو منكر فظفر بهم وأهلك منهم ثلاثمائة رجل، وتحصن الباقون في مزار فوجه الأمير كتيبة يرأسها الأمير مراد اللمعي والشيخ ميلان الخازن، فأهلكوا أولئك المتحصنين، وفي هذه الأثناء اعتدى الشيخ شاهين تلحوق في البقاع على بعض المارة في طريق دمشق، فوجه سليمان باشا واليها نائبه بجماعة من جنوده، فهزموا الشيخ شاهين وقتلوا من أتباعه ثلاثة رجال، فنهض الأمير ملحم برجاله إلى البقاع وقتل كثيرين من جماعة نائب دمشق وفر الباقون، وأخذ سليمان باشا يتأهب لقتال الأمير ملحم، وعرف مصطفى باشا القواس والي صيدا بهذا الخلاف، فاهتم بإصلاح ذات البين بين سليمان باشا والأمير ملحم، وأصلح بينهما على أن الأمير يدفع للباشا خمسة وسبعين ألف قرش، فدفعها وأزال الخلاف.

وفي سنة ١٧١٥ اختصم رجل من دير القمر مع خادم للمشايخ النكديين، وقُتل الخادم فقبض الأمير ملحم على القاتل وأودعه السجن، وعرضت أم القاتل مبلغًا من المال تفدي به ابنها، ولم يكن القتل تصممًا فتردد الأمير عن إهلاك القاتل، فهجم بعض النكدية على السجن؛ ليقتلوه فلم يصلوا إليه ولكن اضطر الأمير أخيرًا أن يقتله مرضاة لهم وأكمن البغض لهم، وعزم على الاقتصاص منهم متى سنحت الفرصة، وكان بين الشيخ خطار والشيخ كليب النكديين عداوة، ونهض أحدهما على الآخر فنفاهما الأمير من البلاد، وحرق منازلهما بدير القمر، وأما هما فسارا إلى حاصبيا فأصلح الأمير إسماعيل واليها بينهما، وسأل الأمير العفو عنهما، ورجعا إلى المناصف ثم توفي الشيخ خطار، وطيب الأمير قلب الشيخ كليب فرجع إلى دير القمر وعمر منزله.

وفي سنة ١٧٥٤ دخلت شوكة صبير في يد الأمير ملحم، فلم يكترث بها ودخل الحمام، وتطيب فورمت يده وتقرحت وخبثت القرحة حتى أعجزت الأطباء عن مداواتها، واشتغل بنفسه عن تدبير البلاد فطمع أعيانها به، وائتمروا عليه مع أخويه الأميرين أحمد ومنصور، فترك لهما مقاليد الولاية مكرهًا، وسار هو بعياله إلى بيروت وتوطنها متنزهًا عن الأحكام، ومنقطعًا إلى درس الفقه ومعاشرة العلماء إلى أن دهمه مرض الموت سنة ١٧٦١ فدعى الشيخ سعد الخوري صالح من رشميا، وأقامه وصيًّا على أولاده؛ لأنهم كانوا صغارًا وهم ستة أمراء محمد ويوسف وقاسم وسيد أحمد وأفندي وحيدر، وتوفي ببيروت، ودفن في جامع الأمير منقذ التنوخي وعمره ستون سنة.

(٣) في ما كان بسورية في أيام السلطانين عثمان الثالث ومصطفى الثالث

إن السلطان محمود الأول أدركته الوفاة سنة ١٧٥٤، وتسنم منصة الملك بعده السلطان عثمان خان الثالث، فلم يفسح الله في أجله، بل توفي في سنة ١٧٥٧ وخلفه السلطان مصطفى خان الثالث، ومما كان في أيامهما بسورية أنه في سنة ١٧٥٥ ولي عبد الله باشا الشتجي على دمشق، فحضر إليها ومعه ثلاثة عشر ألف رجل لما كان من العداوة بين الإنكشارية والقابوقل، فاجتمع أهل دمشق إلى الميدان قاصدين منعه عن الدخول إلى المدينة، فدهمهم ليلًا وقتل منهم كثيرين ودخلها، وأمن المدينة وردع الأوباش فيها، وفي هذه السنة وقعة نفرة بين الأمير أحمد وأخيه الأمير منصور وبين ابن أخيهما الأمير قاسم ابن الأمير عمر، فنزح الأمير عمر إلى البقاع، وقطع الطريق على من يحضرون إلى بلادهما، فأرسل عمَّاه يسترضيانه وأعطياه غزير … ولما رأى الأمير ملحم أن أخويه لم يحفظا الزمام له دعا الأمير قاسم، وأشار عليه أن يتوجه إلى الأستانة، وأن يلتمس من الباب العالي الولاية على جبل الشوف للأمير ملحم، ويلتمس لنفسه الولاية على بلاد جبيل، وأن تكون الولايتان إقطاعًا لهما ولذريتهما، فسار الأمير قاسم سنة ١٧٥٨ إلى الأستانة فرحب به مصطفى باشا القواس الذي كان قبلًا واليًا في صيدا، ووعده بقضاء حاجته، وحال دون ذلك وفاة السلطان عثمان وخلافة السلطان مصطفى، وعزل مصطفى باشا المذكور، لكنه أوصى علي باشا الحكيم الذي خلفه في الدفتارية بالأمير قاسم، فأصحبه بكتابٍ إلى عبد الله باشا والي دمشق المذكور، فالتقاه هذا الوالي مرحبًا وعرض عليه ما يريد من الإقطاعات في ولاية دمشق، فلم يقبل أحدها ثم عزل عبد الله باشا عن ولاية دمشق، وعيل صبر الأمير قاسم فأتى إلى فالوغا ونزل على الأمير شديد مراد اللمعي، وكاتبه عماه في أمر الصلح فأجابهما إلى ذلك، وحضر من فالوغا إلى دير القمر، فقابلهما وتوجه إلى الحدث فتوطنها، ثم حضر إليه رسول من قبل الباب العالي وبيده أمر إلى نعمان باشا والي صيدان أن يولي الأمير قاسمًا على الشوف وملحقاته، فأرسل الأمير قاسم إلى عميه يقول: إنه مقيمٌ على العهد ويؤثر رضاهما على الولاية، وطلب منهما سبعة آلاف قرش؛ ليدفعها صلة لرسول السلطنة، فلم يشأ عماه دفعها، فنهض إلى صيدا ورفع الأمر إلى عثمان باشا فخلع عليه خلعة الولاية على الشوف، وعاد إلى بيروت فجأة فاستولى عليها، وفر عماه ولم يشأ أن يؤذيهما، لكنهما جمعا أكابر الجبل فرفعوا عريضة إلى والي صيدا أنهم لا يرضون أن الأمير قاسمًا يحكم فيهم، بل يلتمسون إعادة الولاية إلى الأميرين أحمد ومنصور، ودفعوا له خمسين ألف قرش، فعزل الأمير قاسمًا فسار إلى البقاع، وكتب له عماه راغبين في الصلح معه فأجابهما إلى ذلك، وفي سنة ١٧٦٢ زوجه عمه الأمير منصور بابنته؛ ليقربه إليه فولد له منها الأمير حسن والأمير بشير الكبير، وفي آخر أمره انتقل إلى غزير، وتوفي بها سنة ١٧٦٧.

وفي سنة ١٧٦٢ وقعت نفرة بين الأمير منصور وأخيه الأمير أحمد، وكان أعيان ولايتهما منقسمين على حزبين يزبكي وجنبلاطي، وكان الأمير أحمد يميل إلى الشيخ عبد السلام زعيم اليزبكية، والأمير منصور إلى الشيخ علي جنبلاط زعيم الجنبلاطية، فسار الأمير أحمد إلى دير القمر عازمًا أن يستبد بالولاية، وتوجه الأمير منصور إلى بيروت، وكتب إلى محمد علي باشا العظم والي صيدا؛ ليجعله متفردًا في الولاية فلبى دعوته، وسار بعسكرٍ إلى حرش بيروت لمساعدته ونهض الأمير منصور لقتال أخيه في دير القمر، فقام الأمير أحمد إلى كفر نبرخ، ودعى اليزبكية لقتال أخيه فلم يجيبوه إليه، بل انقاد زعيمهم وغيره إلى الأمير منصور، فاستقل بالولاية وكان مدبره الشيخ منصور أدَّه، وتوسط الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد الصلح بين الأميرين، فاصطلحا على أن الأمير أحمد يسكن في دير القمر غير متعرض لأخيه في الولاية، وكان الأمير يوسف أخوهما من حزب الأمير أحمد، فضبط الأمير منصور أملاك باقي إخوته، وهدم مساكن الشيخين كليب وخطار النكديين؛ لأنهما كانا من خدام الأمير أحمد، وسعى الشيخ علي جنبلاط بالصلح بين الأمير منصور والأمير يوسف، فرضي الأمير منصور عن الأمير يوسف، لكنه ما برح ضابطًا أملاكه وأملاك إخوته.

وكان الشيخ سعد الخوري وصيًّا ومدبرًا لأولاد الأمير ملحم، فأخذ يخابر أعيان البلاد بشأن ضبط الأمير منصور أملاك إخوته، ونصح الشيخ علي جنبلاط الأمير منصور، فلم ينتصح فانحاز إلى نصرة الأمير يوسف واتفق مع الشيخ كليب النكدي على مخالفة الأمير منصور، وممالأة الأمير يوسف، ونهض الأمير يوسف قاصدًا دمشق ومعه الشيخ سعد الخوري، وكان واليها حينئذٍ عثمان باشا الكرجي فكتب هذا الوالي إلى ولده محمد باشا والي أطرابلس أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل، فولاه على بلاد جبيل والبترون سنة ١٧٦٣، واستقر في جبيل واليًا فتقاطر إلى الأمير يوسف محازبوه من الشوف وغيرها، وكثر أصحابه وأعوانه وارتفع شأنه بتدبير الشيخ سعد الخوري، وكان المشايخ آل حمادي يتولون جبيل والبترون، فحاربهم الأمير يوسف وكسرهم في عدة مواقع حتى أضعفهم عن طلب الولاية، وفي سنة ١٧٦٤ استنجده عثمان باشا والي دمشق لفتح قلعة سانور، فسار الأمير بجيشٍ من لبنان والتقاه الوزير وحاصروا القلعة، فلم يفتحوها حينئذٍ ولكن غمر الوزير الأمير بإكرامه ووجس الأمير منصور من الأمير يوسف، وفي سنة ١٧٦٦ قبض الأمير يوسف على جماعة من الحمادية، فأمدهم والي أطرابلس بعسكرٍ وحضروا إلى بزيزا بكورة أطرابلس، فسار الأمير يوسف إليهم فانتشب القتال في أميون وانكسر عسكر أطرابلس، وحاصر جماعة منهم في البرج الذي بأسفل القرية، فقتل الأمير منهم عدة رجال فاستسلموا إليه، وانصرفوا إلى أطرابلس ورجع الأمير إلى جبيل. وفي سنة ١٦٦٧ ولد للأمير قاسم ولد سماه بشيرًا وهو الأمير بشير المعروف بالكبير، وبعد ثلاثة أشهر ونصف توفي الأمير قاسم. وفي سنة ١٧٧٠ توفي الأمير إسماعيل أرسلان بلا عقب، فأوصى بماله للأمراء آل شهاب، واختلف الأمراء على قسمة الموصى لهم به، فأصلح الأمير منصور بينهم تاركًا نصيبه، فأخذ الأمير علي العقار الذي بوادي شحرور، والأمير يونس ما كان للموصي في برج البراجنة، والأمير سيد أحمد طاحون المخاضة، وبعض العقار بنهر بيروت.

وفي سنة ١٧٧١ تجمع المشايخ الحمادية، ودهموا الأمير بشير حيدر في العاقورة، وكان نائب الأمير يوسف ببلاد جبيل، وكان معه شيخا بشري وأهدن فدام القتال بينهم نهارًا كاملًا، فظهر الأمير عليهم وأبعدهم عن العاقورة، ثم حضر رجال الجبة لنجدته، فانهزم المتاولة بعيالهم من جبة المنيطرة ووادي علمات إلى الكورة، ولحقهم رجال جبة بشري، وأرسل الأمير يوسف الشيخ سعد الخوري، وأصحبه بعسكرٍ مغاربة فأدرك المتاولة في دار بعشتار، فأغار عليهم بمن اجتمع إليه من أهل البلاد، فظفر بهم وظل يطردهم إلى القلمون، وأهلك منهم نحو مائة رجل.

وفي سنة ١٧٧٢ سار الأمير يوسف بعسكرٍ إلى الضنية لقتال المشايخ آل رعد لمحاماتهم عن الحمادية، ولما وصل إلى عفصديق في الكورة ورد له كتابه من والي أطرابلس يقول فيها: إن آل رعد لجئوا إليه والتمسوا تدخله في الصلح، فرجع الأمير من عفصديق وأمر بحرقها؛ لأن الأمير أحمد الكردي كان يميل إلى الحمادية.

وفي سنة ١٧٧٣ كانت حرب بين عسكر والي دمشق، وعسكر الأمير بسبب أن الأمير سيد أحمد أخا الأمير يوسف كان عثمان باشا والي دمشق رخص بولايته على البقاع، فأقام بقلعة قب إلياس وأتى إليها بآلات حربية، وأخذ يسطو على مارة الطريق، ونهب قافلة لتجار دمشق فكتب الوزير للأمير أن يردع أخاه عن التعدي، وأن يرد ما سلبه من القافلة، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يجب واعتذر الأمير للوزير عذرًا لم يقبله، فنهض الوزير بعسكره إلى البقاع والتقاه الأمير إليها، فكانت بينهما وقعات لم يتم بها الظفر لأحدهما، فاستنجد الأمير يوسف بالشيخ ضاهر العمر والشيخ نصيف النصار، فأتياه بجيشٍ وافر، ولما بلغ عثمان باشا قدومهم، ورأى قلق عسكره عاد إلى دمشق تاركًا المدافع والخيام والذخر، فغنمها الأمير وأقام أخاه الأمير سيد أحمد في قلعة قب إلياس، وسلمه المدافع التي غنمها. وفي سنة ١٧٧٤ سولت للأمير سيد أحمد نفسه أن يعصي أخاه الأمير يوسف، واستمال إليه بعض المخالفين لأخيه، فجمع الأمير يوسف عسكرًا وحصره في قلعة قب إلياس وضيق عليه مانعًا عنه الزاد والماء، فاستجار الأمير سيد أحمد بالشيخ علي جنبلاط، والشيخ كليب النكدي متعهدًا أن يخرج من القلعة ويسلمها لأخيه، فأذعن الأمير يوسف لوساطة الشيخين المذكورين، وخرج الأمير سيد أحمد من القلعة بأصحابه وماله، وسار إلى الحدث فتوطنها، وسأل محمد باشا العظم الذي كان قد تولى دمشق أن يوليه البقاع، فأجابه إلى ذلك على شرط أن يرد على تجار دمشق ما سلبه من قافلتهم، فرده وأناب عنه أخاه الأمير قاسمًا في ولاية البقاع. وفي هذه السنة توفي الأمير منصور الشهابي الذي كان حاكمًا بلبنان، ودفن في جامع الأمير منذر التنوخي في بيروت.

(٤) في خروج الأمير علي بك المصري والشيخ ظاهر العمر في سورية

في أثناء الحرب بين الدولة العلية وروسيا أرسلت روسيا أسطولًا إلى البحر المتوسط، وأثارت كثيرين من عمال الدولة عليها، وفي جملتهم علي بك المصري فحشد الجنود في مصر، وأرسلها بقيادة محمد بك المكنى أبا الذهب، فتوجه أولًا إلى الحجاز فملك جدة ثم طرد الشريف من مكة، فاشتهر علي بسطوته وضُربت السكة باسمه، وخلع عامل مصر وأقام عاملًا آخر من قبله، وكان حينئذ واليًا على عكا الشيخ ظاهر العمر، وأصله من المدينة أتى جده زيدان إلى صفد، وتولى على عكا أبوه عمر، وعند وفاته خلفه ابنه ظاهر، وكان متفقًا مع المتاولة حكام صور وبلاد بشارة، ووقعت نفرة بينه وبين والي دمشق وحشد الوالي عليه عسكرًا، فكتب ظاهر إلى علي بك المصري، وزيَّن له الخروج على سورية، فجهز عشرة آلاف مقاتل وأرسلهم مع إسماعيل بك، وأمرهم أن يعتمدوا أمر ظاهر العمر، فأرسل ظاهر أولاده لملتقاهم إلى يافا، ثم حضروا إلى عكا وكان في نية ظاهر أن يضرب العسكر المصري والي دمشق الذي كان متوجهًا إلى الحج، فلم يشأ قائد العسكر ذلك وعاد بعسكره إلى يافا، وجهز علي بك عسكرًا آخر أرسله مع أبي الذهب سنة ١٧٧٠، وانضم ظاهر ورجاله إليه حتى صاروا نحو ستين ألفًا، وخرج والي دمشق لقتالهم فلم يثبت إلا قليلًا وخيم أبو الذهب على أسوار المدينة، فخرج أهل المدينة إليه مرحبين به فدخلها، واستقر في دار الوزارة وتسلم القلعة واستمال الشيخ ظاهر أبا الذهب إلى الأمير منصور شهاب، فأرسل الأمير إليه ثلاثة أفراس من جياد الخيل، أما عثمان باشا فتوجه بعد انهزامه إلى حمص، وأخذ يحشد الجنود حتى تألب عنده خلقٌ كثير وأتى إسماعيل بك المذكور يغيِّر فكر أبي الذهب ويخوفه من معاداة الدولة حتى جعله ينهض ليلًا من دمشق بعساكره، فتعجب الناس من هذا التغير غير المنتظر.

ولما علم عثمان باشا والي دمشق برحيل أبي الذهب أسرع إلى دمشق، والتقاه الأمير يوسف شهاب الذي كان قد كلفه بإنجاده، فأكرمه الباشا وخلع عليه ومال إليه أعيان البلاد، فوجس منه الأمير منصور وتنزل له عن الولاية بحضرة أعيان البلاد، ولما وصل أبو الذهب إلى مصر تعجب الأمير علي بك، وسأله عن سبب رجوعه، فجعل السبب تحالف الشيخ ظاهر العمر وعشيرته عليه، ونسبهم إلى الخيانة، وكتب علي بك إلى الشيخ ظاهر يسأله عن ذلك، فأجابه ناكرًا ما قال أبو الذهب وأرسل ابنه؛ ليكون رهينة على صدق قوله، ولم يلبث أبو الذهب أن أظهر العصيان على علي بك الذي أرسل إليه عسكرًا أمَّر عليه إسماعيل بك المذكور، فاتفقا على علي بك وعادا بالجيش إلى القاهرة، ففر علي بك إلى عكا عند الشيخ ظاهر، وجلس أبو الذهب على تخت القاهرة.

وكتب علي بك والشيخ ظاهر إلى أمير الأسطول الروسي أن ينجدهما، فلبى دعوتهما، وكانت مغالبات بين عثمان باشا والشيخ ظاهر ونزيله علي بك، أفضت إلى فرار درويش باشا والي صيدا ابن عثمان باشا من ولايته، فأرسل الشيخ ظاهر أحمد أغا الدنكزلي فاستولى على صيدا، فصدر أمر الباب العالي بقتل ظاهر العمر وعلي بك، ومات عثمان باشا، وخلفه عثمان باشا المصري، وكتب إلى الأمير يوسف حاكم لبنان؛ ليجمع رجاله ليكونوا مع عسكر الدولة، وساروا جميعًا إلى صيدا وحاصروها، وإذا بالأسطول الروسي قد أشرف على المدينة وشرع بإطلاق المدافع على العسكر العثماني ورجال لبنان، فتنحوا إلى حارة صيدا فخرج إليهم الشيخ ظاهر بعسكره فظفر بهم، وقفل العسكر العثماني إلى دمشق، وعاد الأمير برجاله إلى لبنان وسار الأسطول إلى بيروت، وشرع بإطلاق القنابل على أبراجها فهرب الأمراء الشهابيون منها، ودخلها الروسيون وانتهبوا كل ما وجدوا، وعادوا إلى مراكبهم، وسار الأمير يوسف برجاله إلى الحدث، وأرسل أمير الأسطول يطلب منه نفقة مراكبه ليتحول عن المدينة، فأرسل له خمسة وعشرين ألف قرش، وعاد إلى عكا وكان ذلك سنة ١٧٧١.

وفي سنة ١٧٧٣ توجه الأمير علي بك، ومعه عساكر الشيخ ظاهر قاصدًا الديار المصرية، فالتقاه أبو الذهب عند غزة فانكسر عسكر علي بك كسرة هائلة وجرح هو في وجهه جرحًا بالغًا، وسقط على الأرض فانكب عليه أبو الذهب وقبل يده، وحملوه إلى مصر ودسوا له سمًّا في جرحه فمات وانقضى دوره.

وابتدأ دور أحمد الجزار، فهذا الرجل بشناقي الأصل، وأتى إلى مصر وارتكب جرائم وفر إلى الأمير يوسف شهاب سنة ١٧٧٠، فأرسله إلى بيروت وجعل له نفقة من جمركها، ثم سار إلى دمشق وكان في عسكر عثمان باشا عند حصار صيدا على الدنكزلي، وأمر عثمان باشا الأمير يوسف أن يسلمه بيروت؛ ليحافظ عليها إذا طرقها الأسطول الروسي، فسلمه المدينة وشرع يحصنها ويمنع أهل الجبل من الدخول إليها، فعلم الأمير أنه يريد العصيان عليه، فحضر بعسكرٍ إلى بعبدا وقابله الجزار في المصيطبة، وأظهر له الخضوع وطلب أن يمهله أربعين يومًا ليخرج من بيروت، فاغتر الأمير بكلامه وأمهله، ولما مضت الأربعون يومًا جاهر بالعصيان، فجمع الأمير عسكرًا وحاصر المدينة وكتب إلى ظاهر العمر أن يوعز إلى الأسطول الروسي لينجده، ولما أتى اتفق معه الأمير يوسف أن يدفع له ثلاثمائة ألف قرش على أخذ المدينة وتسليمها إليه، حاصرها برًّا وبحرًا أربعة أشهر، ثم خرج الجزار من المدينة مستسلمًا عن يد ظاهر العمر، فعاد الأمراء الشهابيون إلى بيروت وولى الأمير عليها حاكمًا من أهلها.

وفي السنة المذكورة راسل الشيخ ظاهر عثمان باشا والي دمشق بأن يتوسط له بالعفو عنه، فعفا السلطان عنه وولاه على صيدا وعكا وما يليهما، فاطمأن خاطره واستفحل أمره. وسنة ١٧٧٤ استأذن أبو الذهب السلطان بأن يحمل على سورية لتأديب ظاهر العمر، وخرج من مصر ومعه عسكرٌ كثيف، ولما بلغ غزة ارتجت له البلاد، فحاصر يافا ستين يومًا، وكان كريم بن ظاهر فيها وفتحها عنوة وأهلك من كان بها ونهب أموالها، وأقبل على عكا وجاهر الأمير يوسف بطاعته فقام الشيخ ظاهر إلى صفد، ثم سار منها بأولاده إلى عرب عنزة، ثم ملك أبو الذهب صفد ونهب دير إيليا النبي، وقتل من وجد من رهبانه وهدمه. وإذ كان ذات يوم جالسًا في مظلته سقط مغشيًّا عليه، وكان يصرخ: «ردوا عني هذا الشيخ المفترس.» والناس لا يرون أحدًا ومات، فقال العامة: إن إيليا النبي خنقه. وحمل عسكره جثته وعادوا إلى مصر.

وبعد موت أبي الذهب رجع الشيخ ظاهر إلى عكا، وأرسلت الدولة العلية أسطولًا أميره حسن باشا إلى سورية، فكتب إلى الشيخ ظاهر أن يؤدي ما عليه من الأموال، وإلا فيعزل عن ولايته، فجمع أولاده وأصحاب مشورته واستشارهم، فاختلفت آراؤهم وصوب بعضهم دفع المال، وكان رجل اسمه إبراهيم الصباغ قيم بيته أمره أن يعد المال، فاعتذر وقال: «ليس عند الشيخ إلا رجال وسلاح، فليفعل حسن باشا ما شاء.» فاشمأز الدنكزلي وخرج إلى من كانوا على الأبراج، وقال: «إن الشيخ يريد أن يلقي نفسه بالنار، اسلموا بأنفسكم، وسدوا أفواه المدافع ولازموا الإقامة عليها حتى لا يطلق أحدها.» ولما أبطأ الجواب قام حسن باشا بالأسطول إلى عكا، وأمر والي القدس أن يحضر بعسكره إلى هناك، وأخذ الأسطول يرمي المدينة بالقلل فأرسل الشيخ ظاهر المغاربة؛ ليطلقوا المدافع على المراكب، فقال من في الأبراج: «إننا قوم مسلمون لا نحارب السلطان.» واعتصموا في الأبراج لا يدعون أحدًا يدخل إليها، فلما علم الشيخ ظاهر ذلك فر من البلد، وبينما هو خارج من الباب رماه أحد المغاربة برصاصة أصابته في صدره، ودخل حسن باشا إلى عكا، فإذا هناك من الأموال والسلاح والتحف ما لا يحصى. وأرسل حسن باشا كتاب الأمان إلى أولاد الشيخ ظاهر، فحضر إليه أربعة منهم فقبض عليهم وقتل واحدًا منهم؛ لأنه تطاول بالكلام على الدولة، وأرسل الثلاثة مع رأس أبيهم إلى الأستانة وقبض على إبراهيم الصباغ، وعذبه حتى أقر بكل ما يعلمه من ذخائر مولاه وشنقه، فسبحان الباقي.

(٥) في ما كان بسورية في أيام السلطان عبد الحميد خان الأول

إن السلطان مصطفى الثالث توفي سنة ١٧٧٤، وخلفه أخوه السلطان عبد الحميد الأول، ومما كان في أيامه بسورية أنه لما كان الجزار قد نصب واليًا على صيدا سنة ١٧٧٦، خاف الأمير يوسف حاكم لبنان لما كان بينهما من العداوة، وأسر بالأمر لحسن باشا المكلف بإصلاح شئون سورية، فأجابه كن آمنًا فإذا رجعت إلى الأستانة عزلته، وطلب منه أن يدفع له مائة ألف قرش كانت باقية عليه من المال الأميري، فوضع يده على ريع عقارات تخص الحكومة كانت بيد أقربائه، فثار الأمراء عليه ونهضوا إلى البقاع فحشد الأمير رجالًا سار بهم، ففروا من وجهه واسترضاه الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا عنهم، وبقي أخواه الأميران سيد أحمد وأفندي يحزبان عليه، فاضطر الأمير أن يرد عليهما إقطاعهما، وسافر حسن باشا إلى الأستانة، ونهض الجزار بعسكرٍ من صيدا إلى بيروت، فاستحوذ عليها وضبط أملاك الشهابيين بها وشدد على الأمير يوسف بطلب الأموال عن ثلاث سنين ماضية، فكتب الأمير إلى حسن باشا وكان بلغ إلى قبرس، فعاد وأخرج الجزار من بيروت وطيب قلب الأمير، وبينما كان فرسان الجزار راجعين إلى صيدا أكمن لهم المشايخ النكدية في السعديات بقرب الدامور، فاندفع الفرسان عليهم وقتلوا منهم كثيرين وأسروا شيخين منهم، وكتب الأمير يوسف إلى الجزار معتذرًا بأن ذلك لم يكن بعلمه، والتمس إطلاق الشيخين وجعل له فدية عن ذلك مائة ألف قرش، فأجابه الجزار إلى ذلك ووزع الأمير المبلغ على البلاد، فأبى الأمراء اللمعيون دفع ما نابهم منه، فالتمس الأمير من الجزار إرغامهم على الدفع، فأرسل عسكرًا على المتن فأحرق المكلس والدكواني والجديدة، وقتل جماعة ثم دهم الشويفات فصده رجالها فقفل إلى بيروت ثم سار إلى صيدا، وخرج منها بعسكرٍ إلى البقاع وضبط كل ما بها للبنانيين من الغلات، فاتفق حينئذٍ الأمير يوسف مع الأمراء اللمعيين وجمع عسكرًا زحف به إلى المغيثة، وكان بين الفريقين وقعات كان النصر فيها لعساكر الجزار.

وكانت في هذه الأثناء وقعات بين عساكر الجزار، والشيخ علي بن ظاهر العمر في نابلس قُتل فيها ابناه الحسن والحسين، ففر الشيخ علي إلى نيحا بالشوف، وراسل الأمير يوسف أن يقبله في بلاده وهو يكفيه مئونة القتال للجزار، فلم يقبله الأمير خوفًا من الجزار، وعاد الشيخ إلى نابلس فقتله علي أغا القيصري بدسيسة من محمد باشا العظم والي دمشق، وزال مجد بيت ظاهر العمر بعد قتل الشيخ علي واستحوذ الجزار على بلادهم.

وفي هذه الأثناء أرسل يوسف باشا والي أطرابلس، فكبس الأمير حيدر أخا الأمير يوسف بأهدن، وحاصره يومين فتسارع الناس من جبة بشري وغيرها، ودفعوا عسكر أطرابلس إلى أميون، وبلغ ذلك الأمير يوسف، فنجد أخاه وزحف إلى أميون ففر عسكر أطرابلس، وقُتل منهم جماعة.

وفي سنة ١٧٧٨ وما بعدها كانت مغالبات بين الأمير يوسف وأخويه الأميرين سيد أحمد وأفندي على ولاية لبنان، والجزار يتلاعب بالفريقين إلى أن جمع الأمير يوسف أعيان البلاد في الباروك، وخلع نفسه أمامهم من ولاية البلاد وسلمها إلى أخويه، وأقطعاه إقطاعات في كسروان وأسقطا عنه المال الأميري، فوجه الجزار خلعة الولاية لأخويه وأقاما في دير القمر، وعاد هو إلى غزير ولكن لم يطل الوقت حتى جد وقع النفور بينهم، وجمع أخواه رجالًا في بعبدا وجمع هو محازبيه، واستنجد أصحابه المراعبة ولاة عكار وبني رعد ولاة الضنية، فجزع أخواه وكتبا إلى الجزار، فأرسل لهما عسكرًا، وحضر هو إلى بيروت فقام الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى بعقلين، وأرسل يعد الجزار بمائة ألف قرش؛ ليعزل أخويه فرضي عنه وردَّه إلى الولاية، فدخل الأمير يوسف باحتفالٍ إلى دير القمر وفر أخواه إلى المتن.

وفي سنة ١٧٨٢ أحدث الأمير يوسف ضريبة على التوت سموها البزرية، فأثار أخواه الجنبلاطية عليه، وجمعوا حشدًا وساروا به إلى قرب دير القمر قاصدين طرده وقتْل مدبره سعد الخوري، فوعد الأمير بإبطال الضريبة، فانفض الحشد واستمر الأميران والجنبلاطية على عزمهم. وفي سنة ١٧٨٣ اجتمعوا في دار الأمير أفندي ليلًا؛ ليمضوا إلى كنيسة التلة ليقسموا على اتفاقهم على طرد الأمير وقتْل مدبره، وعرف الأمير ذلك فأكمن لهم المغاربة في طريقهم فقبضوا على الأمير أفندي، وفر الأمير سيد أحمد، ولما رأى الأمير يوسف أخاه حملته سورة غضب، فقتل أخاه بيده، وأما الأمير سيد أحمد فاتفق مع الشيخ حسن جنبلاط، والشيخ عبد السلام العماد على خلع الأمير يوسف، فخاف الأمير يوسف وأسرع إلى الجزار ووعده بثلاثمائة ألف قرش، فولاه وأرسل معه عسكرًا قام به إلى إقليم الخروب، وحشد الأمير سيد أحمد عسكرًا، وأرسله مع ابن أخيه الأمير قعدان، والتقى الجيشان بعانوت فانكسر عسكر الأمير قعدان وهو نجا منهزمًا، وارتاع الأمير سيد أحمد ففر ومعه الشيخ قاسم جنبلاط إلى صليما عند الأمير إسماعيل اللمعي، فضبط الأمير يوسف أملاكهم وهدم مساكنهم والتجأ الأمير سيد أحمد إلى محمد باشا العظم والي دمشق، فولاه على وادي التيم والبقاع وأصحبه بعسكرٍ وأتى معه الجنبلاطية إلى قب إلياس، والتقاهم الأمير، فكانت الحرب بينهم ثلاثة أيام فانهزم الأمير سيد أحمد والجنبلاطية إلى الزبداني، وعاد الأمير يوسف إلى دير القمر، وأخذ يصادر محازبي أخيه، ثم تدخل الأمير إسماعيل خال الأمير يوسف بالصلح بينهم وبين ابن أخيه، فرضي الأمير يوسف عنهم بشرط أن يدفعوا مائة وخمسين ألف قرش، فدفعوها وعادوا إلى وطنهم، وأمر الأمير يوسف الأمير سيد أحمد أن يسكن بالشويفات فأطاعه. ثم استحوذ الجزار على بلاد بشارة بإرساله عسكرًا ضخمًا إلى بني منكر وبني صعب المتاولة، فحاربهم وقتل رئيسهم نصيف النصار، فهربوا إلى بلاد عكار عند محمد بك الأسعد.

وفي سنة ١٧٨٥ كانت فتنة بين الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل والي حاصبيا؛ لأن الجزار عزل الأمير إسماعيل عن ولاية مرجعيون وولى عليها الأمير يوسف، فدفع الأمير إسماعيل إلى الجزار ثلاثمائة ألف قرش على ولاية لبنان ومرجعيون، فشرط الجزار عليه أن يكون معه واحد من الأمراء اللبنانيين … فاستدعى الأمير سيد أحمد فلم يتوقف عن القبول وحضر إلى عكا، فخلع الجزار عليه وعلى الأمير إسماعيل، وسيَّر معهما عسكرًا وأرسل الأمير يوسف عسكرًا مع مدبره الشيخ سعد الخوري، فكانت بين العسكرين وقعات كان النصر فيها لعسكر الأمير يوسف، واستدعى المتاولة المذكورين من عكار، وأطلق لهم السطو على عمال الجزار في بلاد بشارة، وعاد عسكر الأمير إلى دير القمر، فعاد عسكر الجزار ومعه الأميران سيد أحمد وإسماعيل، وظهرت خيانة الحزب الجنبلاطي، فقام الأمير يوسف إلى المتن ودخل الأميران إلى دير القمر، وحضر أعيان البلاد وسلموا الأمر إليهما، وسار الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى كسروان وبلاد جبيل، وأتبعه الأمير إسماعيل وقام الأمير سيد أحمد إلى البترون، فانصرف الأمير يوسف إلى عكار وكتب إلى الجزار يلتمس صفو خاطره، فأوعز إلى سعد الخوري أن يعود بمولاه فيرده الجزار إلى ولايته فعاد للحال من عكار، فوجد الجزار ببيروت وأخذه معه إلى عكا، وتعهد الأميران إسماعيل وسيد أحمد للجزار بدفع خمسمائة ألف قرش إن أهلك الأمير يوسف، وتعهد الأمير يوسف بدفع ألف ألف قرش في مدة ثلاثة أشهر، فخلع عليه وأصحبه بعسكرٍ وافر وأبقى عنده الشيخ سعد رهنًا، وأسرع الأمير يوسف إلى دير القمر وقتل خمسة من خدام الأمير إسماعيل، وفر الأمير سيد أحمد إلى المتن وقبض الأمير يوسف على الأمير إسماعيل وعلى نحو من خمسمائة رجل من أتباعه، وألقاهم بالسجن وصادر الجنبلاطية بأموالٍ وافرة، وانهزم الأمير سيد أحمد إلى حوران.

وفي سنة ١٧٨٦ توفي الأمير إسماعيل في سجنه وعاد الأمير سيد أحمد إلى صليما نزيلًا على امرأة أخيه، فأمنه أخوه وأمره أن يسكن بحمدون، وأطلق له أملاكه ثم قبض عليه سنة ١٧٨٧، وسمل عينيه وأرسله إلى عبية. وفي هذه الأثناء توجهت ولاية دمشق على الجزار، فسار إليها ومعه الشيخ سعد الخوري، وتوجه إلى الحج، ولما عاد شكا له الشيخ سعد من مرضه، فبعث به إلى داره بهودج، وتوفي في جبيل ولم يبق الجزار على ولاية دمشق إلا سنة واحدة، وشكا المسلمون جوره بدمشق فأُمر بالعود إلى عكا فعاد إليها.

وفي سنة ١٧٨٧ أمن الأمير يوسف الأمير نجم أخا الأمير إسماعيل، فعاد من دمشق ولما دخل على الأمير قتله. وفي سنة ١٧٨٨ ثار على الجزار بعض مماليكه الذين كان قد رقاهم إلى المناصب، وكتبوا إلى الأمير يوسف فارتاح إلى مناصرتهم، ولكن شتت الجزار شملهم وعزم على الانتقام من الأمير يوسف. وكانت بعض وقعات بين عسكر الجزار ورجال الأمير، وكان النصر فيها لعسكر الجزار، فعول الأمير على التنزل عن الولاية، ونقل عياله إلى المتن وجمع أكابر البلاد وأبدى لهم عجزه عن الولاية والمشاحنة بينه وبين الجزار، وأطلق لهم أن يختاروا واليًا من أرادوا فاختاروا الأمير بشير قاسم المعروف بالكبير؛ لأنه كان فتى نبيلًا والجزار يميل إليه، وبينه وبين الجنبلاطية موادة، فأحضره الأمير يوسف وأشار عليه أن يتوجه إلى عكا، ويأخذ خلعة الولاية فأجابه: أخاف أن أمضي ابنك وأرجع ابن الجزار، وتوجه وقلده الجزار الولاية على الشوف وكسروان، وأصحبه بألف عسكري وأمره أن يطرد الأمير يوسف، فأرسل الأمير بشير يخبره بأمر الجزار فقام متدرجًا إلى لحفد، وقام الأمير بشير إلى وطا الجوز، ثم إلى العاقورة، وجمع الأمير يوسف المشايخ الحمادية ومشايخ جبة بشري، وأرسلهم مع رجاله إلى المجال، وكانت وقعة اندحر فيها رجال الأمير يوسف، وقُتل منهم الشيخ يوسف بولس شيخ أهدن وخلقٌ كثير، وفر الأمير يوسف إلى أهدن، وسار الأمير بشير إلى لحفد، وأرسل الجزار ألف فارس إلى البترون، وأرسل والي أطرابلس يحذر الأمير يوسف أن يقوم من أهدن، فقام بجماعته إلى بعلبك ثم إلى الزبداني ثم إلى منين، وبقي هناك أربعة أشهر.

وفي سنة ١٧٨٩ كتب إبراهيم باشا والي دمشق إلى درويش باشا والي أطرابلس أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل، فولاه إياها فكتب الأمير بشير إلى الجزار فأرسل عسكرًا إلى حرش بيروت، وأمره أن يقوم إلى جبيل ويطرد الأمير يوسف، فسير الأمير بشير أخاه الأمير حسنًا بذلك العسكر، ففر الأمير يوسف إلى كرك بعلبك، واختبأ مدبره الشيخ غندور الخوري في الضنية، وصرف رجاله إلى أوطانهم وأقام فارس الشدياق بدلًا من الشيخ غندور، وأرسله إلى دمشق وكيلًا عنه، وسار هو إلى حوران.

(٦) في ما كان بسورية في أيام السلطان سليم الثالث

توفي السلطان عبد الحميد الأول سنة ١٧٨٩، وخلفه السلطان سليم الثالث، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير يوسف كتب إلى الجزار يستأذنه بالحضور إلى عكا، فأذنه فدخل عليه وفي عنقه منديل الخضوع فأمنه وأكرمه، وأقام عنده خمسة أشهر. وفي سنة ١٧٩٠ خلع عليه خلع الولاية على لبنان بعد أن تعهد له بدفع ستمائة ألف قرش، ورهن عنده على ذلك ابنه الأمير حسينًا ومدبره الشيخ غندور الخوري، واتخذ فارس الشدياق مدبرًا عوضًا عن غندور، فقام الأمير بشير إلى نيحا، ثم إلى عكا وتعهد للجزار بدفع زيادة على ما دفع الأمير يوسف، فأنعم عليه بخلعة الولاية على لبنان، وأمر أن يلقى الأمير يوسف بالسجن ومعه عشرة من خدمه من بيت الدحداح وسمعان البيطار، وفارس الشدياق، وأمر الأمير بشير أن يسرع إلى دير القمر، ويأخذ معه الأمير حسينًا ابن الأمير يوسف، ولما وصل إلى دير القمر قبض على كل من وجده من محازبي الأمير يوسف، وأودعهم السجن، ووجه جباة يجمعون المال، فاجتمع الأمراء اللمعيون، ووجوه المتن في مأتم الأمير محمد اللمعي وائتمروا على الأمير بشير، واختاروا مكانه الأميرين حيدر ملحم وابن أخيه قعدان، وبثوا إلى وجوه البلاد ما عزموا عليه، وطردوا جباة المال، فجمع الأمير بشير رجاله وسار إلى عين دارا، واجتمع المتنية في حمانا، وسار الأمير حيدر ملحم إلى أعبية واتفق مع ابن أخيه الأمير قعدان، وضوى إليهما بعض المشايخ النكدية والعمادية، وخاف الأمير بشير أن يسبقاه إلى دير القمر فأسرع إليها، وأرسل الجزار ألفًا من الأرناؤط إلى حرش بيروت، فخاف الأمير حيدر ملحم وقام إلى العبادية واتفق مع المتنية، وأرسل الأمير بشير رجالًا لمساعدة عسكر الجزار، فكانت بينهم وبين المتنيين وقعات انهزم بها المتنيون وقُتل منهم خلقٌ كثير، وكتب الأمير بشير إلى الجزار يخبره وينسب هذه الثورة إلى الأمير يوسف، وكان الجزار في طريق الحج فغضب، وكتب إلى نائبه في عكا أن يشنق الأمير يوسف ومدبره غندور الخوري، ثم خمد غضبه وكتب إلى نائبه أن يتوقف عن شنقهما، وبلغ الأمر الثاني قبل الأول فأخفاه النائب بإشارة ابن السكروج؛ لأنه كان عدوًّا للشيخ غندور وأخذهما إلى المشنقة، فشنق الأمير يوسف وأما الشيخ غندور فمات خوفًا، وقيل: شنقًا.

إن قتل الأمير يوسف والشيخ غندور لم يخمد الثورة التي ابتدأت في المتن على الأمير بشير، وعند رجوع الجزار من الحج أسف على قتل الأمير يوسف، وأمر بقتل ابن السكروج، والتمس الأمير بشير منه إطلاق المسجونين من أتباع الأمير يوسف وكفلهم فأُطلقوا، وكتب الجزار إلى والي دمشق أن يرسل عسكرًا لمساعدة الأمير بشير، وأرسل هو عسكرًا إلى البقاع وأمر الأرناؤط الذين كانوا في حرش بيروت أن يحضروا إلى صيدا، ولما شعر النكدية بمرورهم التقوهم بالسعديات، وقتلوا منهم نحو مائتي رجل فكتب الجزار إلى قائدي عسكريه في صيدا والبقاع أن ينهضا بالعساكر إلى المتن، وسار الأمير بشير بعسكرٍ من صيدا، وأظهر حينئذٍ العصيان أهل الغرب والشحار والجرد، وأهل دير القمر أيضًا، وتجمعوا وأكمنوا للأمير عند صحراء الشويفات، لكنهم اندحروا وقُتل منهم نحو عشرين رجلًا، وكانت بعد ذلك أي: سنة ١٧٩٠ وسنة ١٧٩١ سلسلة حروب متصلة في ساحل بيروت والبقاع وحاصبيا، وإقليم الخروب والشوف … وكانت النهاية أن الجزار لما رأى أن عساكره لا تستطيع أن تُكره اللبنانيين على طاعته كتب للأمير بشير أن يرجع بالعساكر إلى عكا، فرجعوا وأمر الأمير أن يقيم بصيدا وجعل له نفقة كافية، وكان الأميران حيدر ملحم وقعدان أقاما في دير القمر حاكمين، فصرفا أهل البلاد كلًّا إلى محله، لكنهم بطروا وتمردوا وسطا بعضهم على أهل الساحل وبيروت، فأقفل المسلمون أبواب المدينة على من كان فيها من الجبل وقتلوا ستين رجلًا، فرفع أعيان البلاد عريضة للجزار التمسوا فيها الصفح، وأن يولي عليهم الأميرين حيدر وقعدان وتعهدوا بدفع الأموال مع زيادة أربعة آلاف كيس عليها، وبعد التوثق على ذلك أرسل إليهما الخلع، وأمر بحجز الأمير بشير بصيدا وأخاه الأمير حسنًا ببيروت.

وفي سنة ١٧٩٢ التمس جرجس باز من دير القمر من الأميرين أن يأجرا أولاد الأمير يوسف بلاد جبيل، فأجراهم إياها بستين ألف قرش كل سنة، وتوجه هؤلاء الأمراء إلى جبيل ومعهم مدبرهم جرجس باز المذكور، وطلب لهم خلع الولاية من والي أطرابلس فأرسلها إليها، وأخذ يستميل أعيان البلاد إلى هؤلاء الأمراء، فمالوا إليهم واستهانوا بالأميرين الحاكمين حتى أصبحا عاجزين عن تدبير مهام البلاد، فأشار عليهما بعض أصحابهما أن يسلما الولاية إلى أولاد الأمير يوسف خشية أن ترد إلى الأمير بشير، فارتضيا بذلك وأرسل جرجس باز أخاه عبد الأحد إلى الجزار بمائة ألف قرش، فأنعم على أولاد الأمير يوسف بخلع الولاية، وأتوا من جبيل إلى الحدث والتقاهم الأميران حيدر وقعدان إلى هناك، وساروا جميعًا إلى دير القمر.

أما الأمير بشير فالتقى بالجزار عند عوده من الحج إلى المزاريب، وكان كثيرون من أعيان البلاد قد التسموا منه إعادة الأمير بشير إلى الولاية، فأنعم عليه بها وأصحبه بعسكرٍ إلى صيدا، وأرسل هو إلى الشوف أخاه الأمير حسنًا والشيخ بشير جنبلاط ومعهما ألف فارس وحلوا بالمختارة، فجمع الأمير قعدان وجرجس باز نحو ألف رجل فتقوى عليهم الأمير حسن، وهزمهم إلى برج بعقلين، ونهض الأمير بشير إلى السمقانية ففروا من بعقلين إلى جبيل، ومعهم محازبوهم وقام الأمير إلى حرش بيروت وأرسل رجالًا للقبض على بعض المذنبين، فاجتمع أهل المتن وطردوا أولئك الرجال ودعوا أولاد الأمير يوسف ليأتوا إلى المتن، ونهض الأمير بشير لكبتهم فالتقاه بعضهم، وأطلقوا الرصاص فهجم عليهم فانهزموا، وتبعهم إلى العبادية ورأس المتن وقتل منهم جماعة، وحضر الأمير حسن ابن الأمير يوسف برجال كسروان وبلاد جبيل والقاطع إلى بعبدات، لكنه رأى المتنية مذعورين فعاد إلى جبيل، وقدم الأمراء اللمعيون طائعين، وأما الأميران حيدر وقعدان فسأل بعض أصحابهم الأمير أن يعفو عنهما، فأجابهم إلى ذلك وغرم النكدية بخمسين ألف قرش ثم طيب خاطرهم، وفي سنة ١٧٩٤ شكا سر عسكر الجزار إليه أن الأمير جمع أموالًا كثيرة، ولم يجر عليهم أرزاقهم، فأمره أن يقبض على الأمير وأخيه حسن، والشيخ بشير جنبلاط ويحضرهم إلى عكا فاعتقلهم، وسار بهم بحرًا إليها، وكتب الجزار إلى أولاد الأمير يوسف أن يحضروا إليه فحضر منهم حسين وسعد الدين إلى الساحل، فأرسل لهم خلع الولاية فسار الأمير حسين إلى دير القمر، ومعه مدبره جرجس باز، وسار الأمير سعد الدين إلى جبيل، ومعه فرنسيس باز وأخذ، الأمير حسين ينتقم من محازبي الأمير بشير، فاتفق حسن جنبلاط والعمادية، ودعوا الأمير عباس أسعد وقاموا معه إلى بعقلين قاصدين أن يدهموا الأمير حسينًا، فكتب إلى الجزار أن هذه الثورة من الأمير بشير فأمر بسجن الأمير بشير وأخيه الأمير حسن مغللين، وأنفذ عسكرًا إلى الشوف فاختفى حسن جنبلاط، وفر العمادية إلى حوران، وحضر الأمير عباس إلى الأمير حسين فطيب خاطره.

وفي سنة ١٧٩٥ تقدمت إلى الجزار شكاوى من ظلم أولاد الأمير يوسف وجرجس باز، فأمر بإطلاق الأمير بشير وأخيه من السجن، وتعهد له بدفع ثمانمائة ألف قرش قسوطًا، ورهن عند أخاه الأمير إبراهيم وغيره، فخلع على الأمير بشير خلعة الولاية، وأصحبه بعسكرٍ فقام إلى لبنان، ففر الأمير حسين ومحازبوه إلى جبيل، ثم دعاهم الأمراء اللمعيون، واجتمعوا بالبقاع فنهض الأمير بعسكره إلى الباروك ثم إلى المغيثة ومعه عسكر الجزار، فانهزموا إلى البترون، وقام الأمير إلى كسروان فتقدم إليه المشايخ الدحادحة، وكانوا مع الأمير يوسف فجعلهم كتابًا عنده وعند أخيه، وأرسل بعض أتباعه يدهمون أولاد الأمير يوسف في البترون، ففروا مذعورين إلى أطرابلس، وسار الأمير حسن أخو الأمير بعسكر الجزار إلى زغرتا قاصدًا حصار أطرابلس، فأمر الجزار الأمير بشيرًا أن يعود إلى دير القمر، ويبقي أخاه مع العسكر في جبيل، وانهزم أولاد الأمير يوسف إلى عكار، وضبط الأمير بشير أملاكهم وهدم مساكن النكدية.

وفي سنة ١٧٩٦ ولى خليل باشا والي أطرابلس الأمير سليم ابن الأمير يوسف على بلاد جبيل، وأرسل معه عسكرًا إلى البترون فأرسل الأمير أخاه وبعض الأمراء والمشايخ، والتقى الفريقان في أرض عمشيت فانكسر عسكر الأمير سليم، وانهزموا إلى أطرابلس، ثم جهز والي أطرابلس عسكرًا آخر، والتقاهم الأمير حسن وعسكر الجزار فدحروهم إلى عكار، ثم دعا والي دمشق أولاد الأمير يوسف إلى البقاع، وأرسل عسكرًا إلى هناك وأرسل الأمير بشير الأمير حيدر أحمد وعسكر الجزار، واتقع الفريقان فانهزم عسكر دمشق وفر أولاد الأمير يوسف إلى دمشق.

وفي هذه السنة كان مقتل المشايخ النكدية، فإنهم كانوا يخالفون الجنبلاطية والعمادية في التقلبات المار ذكرها، فاتفقوا على قتلهم برضى الأمير بشير، فطُلبوا إلى دار الحكومة في دير القمر وقُتل من أتى منهم، ثم أُرسلوا إلى بيوتهم في أعبية فهرب أولادهم، ونهبوا بيوتهم ثم قبضوا عليهم وسجنوهم، ثم قتلوهم في سجنهم.

وفي سنة ١٧٩٧ أمر عبد الله باشا والي دمشق أولاد الأمير يوسف أن يقيموا بحماة، وورد أمر من الجزار أن يحضروا إليه آمنين فحضروا مع مدبرهم جرجس باز، فرحب بهم. وفي سنة ١٧٩٨ ولى أولاد الأمير يوسف مكان الأمير بشير، لكنه وقفهم عن المسير إلى لبنان؛ لأنه بلغه خبر وصول بونابرت إلى الإسكندرية. وفي سنة ١٧٩٨ قدم بونابرت إلى عكا وحاصرها، فاستنجد الجزار بالأمير بشير، فاعتذر له بأن أهل البلاد عرفوا أنه ولى أولاد الأمير يوسف، فما عادوا يطيعونه، وكتب بونابرت إلى الأمير بشير فلم يجبه ثم كتب إليه كتابًا آخر يعتبه به؛ لأنه لم يجبه، فوقع هذا الكتاب بيد الجزار فرضي عن الأمير بشير. ولما ارتحل بونابرت عن عكا خاف الأمير والنصارى من الجزار، وكان الأميرال سميت رئيس الأسطول الإنكليزي قد كتب إلى الأمير بشير كتابًا وداديًّا وزاره بعين عنوب، وتعهد له بكف الجزار عن المضرة له، وحضر حينئذٍ الصدر الأعظم إلى سورية، فأنعم على الأمير بشير بخلع الولاية على لبنان، ووادي التيم وبعلبك والبقاع وبلاد المتاولة واعدًا إياه أن يبقى واليًا بأمر الدولة، وليس لوزراء صيدا ودمشق تسلط عليه بل يورد المال إلى الخزينة، على أن اليزبكية اتفقوا مع الأمير قاسم والي حاصبيا وطلبوا عسكرًا من الجزار لمقاومة الأمير بشير، فوجه عسكرًا إلى خان حاصبيا ونهض اليزبكية به إلى البقاع، وأرسل الأمير بشير الشيخ بشير جنبلاط برجاله، واضطرمت نار الحرب بين الفريقين إلى المساء وقُتل منهما جماعة وافرة، واستمد الأمير بشير عبد الله باشا والي دمشق، فأرسل المنلا إسماعيل بألف فارس إلى البقاع، وبعث إلى رؤساء عسكر الجزار أن ينكفوا عن مقاومة الأمير، فانقادوا لأمره وهرب الأمير قاسم واليزبكية إلى عكا، واحتدم الجزار ولم يلتفت إلى أمر الصدر الأعظم، وولى الأميرين حسين وسعد الدين ابني الأمير يوسف على لبنان، وأصحبهما بستة آلاف فارس وأربعة آلاف راجل، فسار الأمير حسين بالفرسان إلى البقاع ومعه جرجس باز، والأمير سعد الدين بالمشاة إلى إقليم الخروب …

فقام الأمير بشير إلى عين بال، وطلب رجال البلاد فقلَّ من لبى دعوته وانفض الأمراء اللمعيون عنه، فقام إلى البقاع ثم نهض إلى بلاد جبيل، وليس معه من الشوف إلا الجنبلاطية ونحو خمسمائة رجل، وتوجه إلى الكورة ثم إلى راسكيفا، وسار الأمير حسين حتى بلغ البترون ثم أميون، ففر الأمير بشير إلى الهرمل وقصد أن يقيم بحوران، فورد له كتاب من الأميرال سميت يطلب حضوره إلى غزة لمقابلة الصدر الأعظم، وأرسل له مركبًا إلى أطرابلس سار به، ومعه الشيخ سلوم الدحداج وبعض خدمه، وتلقاه الصدر الأعظم بالترحاب، وطيب قلبه وعرض عليه أن يصحبه بعشرة آلاف جندي لقتال الجزار، فامتنع من ذلك واستأذنه أن يسافر مع الأسطول إلى قبرس، وبقي فيه مدة ولما عاد إلى مصر وجد أن الإفرنسيين كسروا الصدر الأعظم، وعاد إلى يافا فطلب من الأميرال أن يرده إلى أطرابلس، فرده إليها ونزل عند مصب نهر البارد وسار إلى الحصن عند علي بك الأسعد، حيث كان أخوه والشيخ بشير جنبلاط.

وكان ابنا الأمير يوسف قد عجزوا عن جمع المال المطلوب للجزار، فأنفذ ألف فارس لجباية المال من البقاع، وألح بطلب المال كاملًا مع مطالب أخرى فأرسل الأميران محصلين لجمعها، فهاج أهل البلاد وطرد المتنيون المحصلين، وأرسل الجزار الأرناؤط إليهم فاستعدوا لقتالهم، وأجمعوا على إعادة الأمير بشير إلى الولاية، ووافقهم أكثر أعيان البلاد فأرسلوا ثلاثمائة رجل إلى الحصن يستدعون الأمير بشير، فعاد معهم إلى لبنان، فاضطرب الأميران وأسرع جرجس باز إلى الجزار، فجهز ألفي مقاتل من الأرناؤط ووعده بإرسال عسكر من الفرسان، وقام الأمير بشير إلى حمانا فالتقاه الجميع بالسرور، واتحد معه أكثر الأمراء اللمعيين، فنهض إلى الباروك ثم كفرنبرخ، ووصل جرجس باز بالأرناؤط إلى دير القمر، وقلَّ أصحاب أولاد الأمير يوسف، فأقنع بعضهم جرجس باز بعقد الصلح على أن يتولى الأميران بلاد جبيل، ويتولى الأمير بشير باقي البلاد فرضي بذلك، وقام الأمير حسين بعسكر الجزار إلى ساحل بيروت، ودخل الأمير بشير دير القمر.

على أن جرجس باز عدل عن الصلح، وجرت وقعات كان النصر في آخرها للأمير، فأذعن جرجس باز وعقد الصلح بشروطه المار ذكرها، ولما علم الجزار بما كان تمزق غيظًا، وكان ذلك سنة ١٨٠٠.

(٧) في غزوة بونابرت لمصر وسورية

في سنة ١٧٩٨ سار نابوليون بونابرت من قبل الجمهورية الإفرنسية لفتح مصر دون معالنة الدولة بالحرب، فاحتل مالطة بطريقه واستحوذ على مصر وأرسلت إنكلترا مراكبها، فكانت وقعة هائلة بين مراكب الدولتين انجلت عن تدمير مراكب إفرنسة، ووافقت روسية أيضًا الدولة العلية وقطعت الدول الثلاث خط الاتصال بين إفرنسة وجيشها، وأراد بونابرت أن يباغت الدولة بأخذ سورية أيضًا، فسار إليها بثلاثة عشر ألف مقاتل فأخذ العريش وغزة والرملة، ثم يافا وبلغ إلى عكا وحاصرها برًّا وكانت عساكر الجزار تقاومه من داخل، والأسطول الإنكليزي يرشقهم بالقلل النارية، وحضر المتاولة من بلاد بشارة، فولاهم بونابرت على هذه البلاد وحضر الشيخ صالح بن ظاهر العمر، فولاه على صفد. وقد علم بونابرت أن الجيش العثماني قادمٌ للدفاع عن عكا، فأرسل فرقة من جيشه بإمرة القائد كليبر، فالتقت بالجيش العثماني عند جبل طابورة، فأحاطها من كل جهة فصبر الإفرنسيون على القتال مع قلة عددهم، وأسرع بونابرت لنجدتهم وإنقاذهم فشتت شمل أعدائهم لكن بونابرت رأى فتح عكا متعذرًا عليه لمقاومة مراكب الدول الثلاث له، وتوارد عساكر الدولة عليها واشتدت وطأة الطاعون في عسكره، فرحل عنها إلى مصر حيث كانت له وقعة مع عساكر الدولة، وقتل منهم خلقًا كثيرًا وأسر قائدهم وكثيرًا من جنوده. وبلغه أن أحوال الجمهورية مضطربة فانسل خفية ومعه بعض قادة جيشه، فظهر بباريس في أواخر سنة ١٧٩٩ وترك قيادة الجيش في مصر لكليبر، وكانت وقائع انتصر بها ثم اغتاله صعلوك وسلمت قيادة الجيش إلى الجنرال منو فدافع ما استطاع وأخيرًا انتهى الأمر بالتسليم، وجلاء الفرنسيس عن مصر سنة ١٨٠١.

(٨) في بعض المشاهير الدنيويين بسورية في القرن الثامن عشر

  • عبد الجليل المواهبي: ولد بدمشق سنة ١٦٦٨ وبرع في المعقولات والمنقولات، وله من التآليف نظم الشافية لابن الحاجب في التصريف وشرحها شرحًا حافلًا، وله تشطير بديع على ألفية ابن مالك، وله إرجوزة في العروض، وشعر باهر وغير ذلك من الرسائل وتوفي سنة ١٧٠٧.
  • السيد إبراهيم بن حمزة: ولد بدمشق سنة ١٦٤٤، وكان ضليعًا في كثيرٍ من العلوم والفنون، وله من المؤلفات كتاب سماه أسباب الحديث، وحاشية على الألفية لابن الناظم لم تكمل، وتوفي سنة ١٧٠٧.
  • محمد الكفيري: ولد بدمشق أيضًا سنة ١٧٣٣، ومن تأليفه شرحه على البخاري في ستة مجلدات، وحاشية على الأشباه والنظائر في الفقه، وشرح على الأجرومية، سماه الدرة البهية على مقدمة الأجرومية، وله العرف الندي في تخميس لامية ابن الوردي، وله غير ذلك كثير من المقالات والرسائل والشعر، وكانت وفاته سنة ١٧١٧.
  • أبو السعود الكواكبي: ولد بحلب سنة ١٦٧٩ وتولى الإفتاء بحلب إلى وفاته التي كانت سنة ١٧٢٤، وله من المؤلفات رسالة آداب منظومة وشرحها شرحًا مفيدًا، ونظم رسالة سماها رسالة الوضع، ولازم التدريس، وكان له شعر رقيق.
  • الشيخ عبد الغني: ولد بدمشق سنة ١٦٤٠، وكان أستاذ الأساتذة ومؤلفاته كثيرة، منها بديعية في مدح النبي وشرحها، وبديعية أخرى التزم فيها ذكر الأنواع، والتحرير الحاوي بشرح تفسير البيضاوي في ثلاثة مجلدات، وبواطن القرآن ومواطن العرفان كله منظوم نحو خمسة آلاف بيت، وكنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين، وكشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، والظل الممدود في معنى وحدة الجود إلى كثيرٍ غير ذلك من رحلات ورسائل ومقالات وأجوبة، وتوفي سنة ١٧٣٠.
  • أحمد الغزي: مفتي الشافعية بدمشق ولد بها سنة ١٦٦٧، وصنف شرحًا على المنحة النجمية في اللمحة البدرية، وهي كتاب في علم العربية، وله شرح على نظم نخبة الفكر في مصالح أهل الأثر، وهو كتاب في علوم الحديث لأحمد بن حجر العسقلاني، واختصر السيرة النبوية لعلي الحلبي، وكانت وفاته سنة ١٧٣٠.
  • أحمد العكي: ولد بعكا سنة ١٦٨٣، وله من التآليف فتاوى مشهورة باسمه، وحاشية على تنوير البصائر في الفقه، وشرح منظومة ابن الشحنة في الفرائض، واختصر السيرة الحلبية، وحاشية على نزهة النظار في علم الغبار في الحساء، وشرح على ملتقى الأبحر في الفقه، وتوفي سنة ١٧٣٤.
  • عبد الله الأطرابلسي: ولد بأطرابلس، وله من التآليف العقود الدرية في رحلة الديار المصرية، والزهر البسام في فضائل الشام، ومختصر الإشاعة في أشراط الساعة، ورنة المثاني في حكم الاقتباس القرآني، إلى غيرها وتوفي سنة ١٧٤١.
  • مصطفى البكري: ولد بدمشق سنة ١٦٨٧، وله مؤلفات منها الكشف الأنسي، والفتح القدسي في العبادات وشرحه ثلاثة شروح، ومنها شرحه قصيدة الإمام أبي حامد الغزالي واثنتا عشرة مقامة، واثنتا عشرة رحلة، وسبعة دواوين وألفية في التصوف، وكتاب سماه الفرق المؤذن بالطرب في الفرق بين العجم والعرب إلى كثيرٍ غير ذلك، وتوفي سنة ١٧٤٨.
  • محمد الغزي: أصله من غزة وولد بدمشق سنة ١٦٨٤، وكان ضليعًا بالتاريخ، وألف تاريخًا سماه ديوان الإسلام جمع فيه تراجم العلماء والمشاهير والملوك وغيرهم، وله شعر باهر وتوفي سنة ١٧٥٣.
  • حامد العمادي: ولد بدمشق سنة ١٦٩٣، ومن مؤلفاته شرح الإيضاح، وفتاويه المشهورة في مجلدين، والحواشي التي جمعها على كتاب دلائل الخيرات للجزولي، وله رسائل كثيرة وديوان شعر، وتوفي سنة ١٧٥٧.
  • محمد السفاريني: ولد بقرية سفارين بنابلس سنة ١٧٠٢، وله تأليف كثيرة، منها شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، وشرح نونية الصرصري، وسماه معارج الأنوار في سيرة النبي المختار، وتحبير الوفا في سيرة النبي المصطفى، وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، والبحور الزاخرة في علوم الآخرة، وكشف اللثام في عمدة الأحكام، إلى غير ذلك من الكتب والمراسلات، وتوفي سنة ١٧٧٤.
  • محمد خليل المرادي: هو ابن السيد علي المرادي مفتي دمشق، ومن مؤلفاته سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وعنه أخذنا أكثر الترجمات التي ذكرناها هنا، وتوفي سنة ١٧٩١.

وممن كانوا من المشاهير في هذا القرن في غير سورية، السيد عبد الله الحدادي اليمني، كف بصره وهو صغير، ومع ذلك له مؤلفات كثيرة، منها رسالة المعاونة والموازرة للراغبين في طريق الآخرة، وإتحاف السائل بأجوبة المسائل، وكتاب الجامع جمع فيه المكاتبات والوصايا، والكلام المنظوم والمنثور، وله ديوان وتوفي سنة ١٧١٩. ثم علي العُمْرِي الموصلي ومن تآليفه شرح كتاب الآثار للإمام محمد، وشرح الفقه للإمام الأعظم، وله شعرٌ حسن وتوفي سنة ١٧٤١. ثم خليل المصري الفيومي، ومن مؤلفاته الرد على الإسماعيلية سماه السطوة العدلية بالفرقة الإسماعيلية، ومؤلف في العروض وكتاب في الحديث وقصائد كثيرة، وتوفي سنة ١٧٤٧. ثم محمد بن الطيب وله حاشية على القاموس، وشرح كافية ابن الحاجب، وشرح شواهد الكشاف للزمخشري إلى غير ذلك، وله شعرٌ حسن، وتوفي سنة ١٧٥٦. ثم عبد الله السويدي ومن تآليفه شرح دلائل الخيرات للجزولي، وحاشية على مغني اللبيب لابن هشام، وله ديوان شعر وغير ذلك، وتوفي سنة ١٧٦٠. ثم يوسف الحفني المصري ومن مؤلفاته الحاشية على شرح الألفية للأشموني، وحاشية على شرح الخزرجية لزكريا، وشرحان على آداب البحث للمنلا حنفي، وشرح التحرير في الفقه، وله ديوان شعر مشهور، وتوفي سنة ١٧٦٢. ثم محمد الصبان وله تآليف كثيرة منها شرحه لأرجوزة الأخضري في المنطق، وأرجوزة في العروض وحاشية على شرح الأشموني المشهور لألفية ابن مالك، وتعليقات على المختصر للسعد التفتزاني في المعاني والبيان، ومنظومة سماها الكافية الشافية في علمي العروض والقافية، وتوفي سنة ١٧٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤