تقديم

بقلم
حلمي مراد
رئيس تحرير مجلة كتابي
الكاتبة والكتاب

وراء هذه القصة الفذة، قصةٌ أخرى فذة، هي قصة مؤلفتها «بيتي سميث»، فقد وُلدت هذه الكاتبة في سنة ١٩٠٤م، أي في أوائل القرن العشرين، وكان مولدها في «وليامسبيرج» ببروكلين، وبروكلين في أوائل القرن العشرين هي المسرح الحقيقي الذي تدور فيه أحداث هذا الكتاب، ومن هنا يبدأ التشابك والتشابه — ولا نقول التطابق — بين واقع القصة في الحياة، وواقع التجربة الإنسانية التي تصورها المؤلفة … فنَلْمَس منذ البداية، ذلك المصدر الخصب الذي استمدت منه المؤلفة صدقها النابض بالحياة. والحق أن «فرانسي» — بطلة القصة المكتوبة — فيها الكثير جدًّا من ملامح «بيتي سميث» الكاتبة الموهوبة:

ففي ظلال الفقر، وُلدت كلٌّ منهما.

وفي ميادين الفاقة، والجوع، والحاجة إلى الملبس الكافي، والتعليم الوافي، خاضت كلٌّ منهما حربًا قاسيةً مريرة، طويلة الأمد.

وفي وجه اليأس، صمدت كلٌّ منهما، فلم تسمح له بأن يتطرق إلى قلبها الباسل.

فمنذ سنٍّ مبكرة اضطرت المؤلفة إلى التماس العمل لتقيم أودها، فعملت في مصانعَ ومكاتبَ شتى في بروكلين، وفي المؤسسات الشعبية تعلَّمت أصول الطهو والحياكة والرقص، وفي سن الثامنة عشرة غادرت بروكلين، لتقضي في «ميتشيجان» عشر سنوات، وهناك تزوجت وأنجبت.

وهناك أيضًا بدأت صلتها بدنيا القلم والكتابة، في مناسبةٍ طريفة، هي بلا شك أقرب إلى نسيج الخيال منها إلى الواقع المألوف في الحياة: كانت «بيتي سميث» تخترق أرض جامعة ميتشيجان في «آن أربور» وهي تدفع أمامها عربةً بها طفلها الصغير، وإذا بالمطر يفاجئها؛ فالتجأت، كي تحتمي منه، إلى مدخل أحد الأبنية، وشاءت المصادفة أن تكون هناك حلقةٌ منعقدة في داخل المبنى لمناقشة بعض الموضوعات التي يلقيها الطلاب، فدُعيت — ريثما يكفُّ المطر عن الهطول — للدخول، وإبداء رأيها، والتعليق على ما تسمع؛ باعتبارها محلفةً «محايدة»!

ويبدو أن تعليقاتها كانت سديدة ورشيدة، بحيث استولت على إعجاب الأستاذ والطلاب، قبل أن ينقطع المطر وتصفو السماء؛ فدعوها، عند انصرافها، للحضور في المستقبل للمشاركة في مثل هذه المناقشات والإدلاء بتعليقاتها الصائبة.

ولكن الأثر الذي تركته، في نفس «بيتي سميث»، تلك المناقشة التي ساقتها إليها المقادير، كان أضخم بكثيرٍ من الأثر الذي تركته «بيتي» في الأستاذ وتلاميذه؛ فقد فتحت هذه الحادثة العارضة عينَيها على عالمٍ جديد، بهرها واستهواها، فما إن كبر أطفالها وبلغوا سن الالتحاق برياض الأطفال، حتى قررت أن تتعلم تعليمًا جامعيًّا.

وواجهتها عقبةٌ لا يُستهان بها: وهي أنها لم تحصل من التعليم، من قبلُ، على ما يؤهلها رسميًّا لدخول الجامعة؛ فليست لديها أية إجازة مدرسية مُعترف بها. ولكن نفرًا من كرام الأساتذة الذين عرفوا لها ألمعيتها — وعلى رأسهم الدكتورة «كلارنس كوك»، والبروفيسور «بيترجاك» — قاموا بتزكيتها، فقُبلت طالبة بالجامعة «بصفةٍ خاصة»، بيد أن ظروفها — كربة بيت، وأم، وعاملةٍ كادحة — لم تسمح لها بأكثر من الانتظام في دروسها خمس ساعات فقط، كل أسبوع، فاقتضى ذلك منها أن تقضي عشر سنوات، في دراسةٍ تستغرق في العادة أربع سنوات فقط!

وفي أثناء هذه الدراسة، كتبت مسرحية فازت بها — في إحدى المسابقات — بالجائزة الأولى! وبعد إتمام دراستها الجامعية في «ميتشيجان» التحقت بمعهد الدراما في جامعة «ييل» حيث كانت — خلال سنوات الدراسة الثلاث — محل احتفاء كبار الأساتذة بها، وفي مقدمتهم البروفيسور «جورج بيكر» الشهير، وفي غضون تلك المدة كتبت، وباعت حقوق تمثيل، أكثر من سبعين مسرحية من ذات الفصل الواحد!

وبعد سنواتٍ من العمل في التأليف المسرحي، كتبت «بيتي سميث» تحفتها هذه: «شجرة تنمو في بروكلين»، التي أتمتها عام ١٩٤٢م، فأرسلتها يومئذٍ بطريق البريد إلى دار «إخوان هاربر» للنشر، فكان أن نالت على الفور إعجاب لجنة القراءة بالمؤسسة، وحقق نشرها، بالفعل، نجاحًا باهرًا، ثم اشترت شركة «فوكس للقرن العشرين» حقوق إخراجها في السينما، وطبعت منها عشرات الطبعات «حتى إن الناشر كان يضطر إلى طبعها في أربع مطابع دفعةً واحدة، كي يلاحق الطلبات التي تنهال عليه من المكتبات!».

وقد تُرجمت الرواية إلى ست عشرة لغة، وتُعتبر هذه الترجمة العربية هي السابعة عشرة في تلك القائمة المجيدة!

والآن، ما هي قصة الكتاب، بعد أن عرفنا قصة الكاتبة؟

إنها قصة «فرانسي نولان»، ابنة أسرة نولان، حيث الأب السكير «جوني نولان» الذي يجمع في طباعه بين عنصر الفنان الفاشل، وعنصر الخادم المتعطل، إنه أشبه بطائرٍ كسير الجناح، لم يبقَ في ذيله من الريش إلا القليل، ولا بد له مع ذلك أن يحاول الطيران والتقاط الرزق رغم كل شيء!

أما الأم «كاتي نولان» فحارسة بيت من بيوت المساكن الشعبية، وهي التي تقوم بحمل عبء المسئولية، إنها «الرجل» الحقيقي في هذه الأسرة الصغيرة، هي التي تدبر، وترعى، وتعطف، ولا بد لها أيضًا من عنصر الصلابة حتى تقود السفينة الصغيرة — فليس في حياتها متسع للعواطف الرقيقة — ولكنَّ تحت صلابتها قلبًا طيبًا كبيرًا.

وهناك أيضًا الأخ الأصغر «نيلي» إنه الرفيق الحالم الذي تمارس «فرانسي» تجاهه منذ نعومة أظفارها دور الأم، وأمامها القدوة المثلى في الجَلَد والمثابرة؛ أمها «كاتي».

ومن الأب الفنان الكسير المريض ورثت «فرانسي» الحساسية الحالمة، ومن الأم القوية المكافحة ورثت الجَلَد، وتحدي الصعاب، والإصرار على البقاء، والانتصار على الزمن مهما يكن الثمن!

إنها في بداية القصة تشترك مع أخيها في جمع القمامة والنفايات، وبيعها، ومن هذه الطريق كانا يحصلان على مصروفهما الشخصي، فكانت هذه حرفتها الأولى ومنفذها الأول إلى شيءٍ من الشعور بالاستقلال.

فماذا كانت هوايتها الأولى في تلك الآونة؟

إنها هواية لا تمتُّ بصلةٍ إلى القمامة والنفايات، تلك هي هواية المعرفة! ولكنها لم تكن تدري كيف تجمعها؛ فالمكتبة العامة مفتوحة للجميع، ولكنها لا تدري بأي ترتيب تطالع ما فيها من الكتب المبذولة للقارئين؛ ومن هنا اتبعت في ذلك نفس المنهج الذي كانت تجمع به القمامة: وهو الترتيب الواقعي، ترتيب المكان! فبدأت بالكتب التي تبدأ عناوينها بحرف الألف، ثم الباء، ثم التاء … وهكذا! كانت تجد — بالمصادفة — معلومات تناسبها، تمامًا مثلما تجد في أكوام النفايات — بالمصادفة أيضًا — أشياءَ تناسبها، «من قبيل الشرائط، والورق المفضَّض»، وقد تجد أشياء تصلح للبيع، كالمعادن، والخرق، والمطاط، والعظام … إلخ.

وهكذا راحت تقرأ بشراهة، كتابًا كل يوم! وفي يوم السبت، كانت تخلو لتأملاتها، في الفناء الخلفي للبيت، حيث تجلس على سلم الطوارئ الخلفي، وتتلهَّى بمراقبة الجيران من حولها وهم يستعدون لليلة الأحد وسهراتها، في داخل البيوت وخارجها.

وفي ذلك الفناء الخلفي شجرةٌ صغيرةٌ يتيمة، كانت «فرانسي» ترقبها أسبوعًا بعد أسبوع، وهي تمدُّ فروعها شيئًا فشيئًا، وتنمو نحو السماء، لا يشعر بها أحد! إنها ذلك الكائن الحي الصغير، النبات الوحيد وسط جدران الحجارة، وسلالم الحديد، وحبال الغسيل، وكل ما هو جامد، خامد، مضاد للنمو والحياة والازدهار.

ومن هذه الشجرة الوحيدة الشجاعة النامية، استمدت القصة عنوانها!

ولم يكن ذلك اعتباطًا، بل لما هناك من توازنٍ واضح بين خط هذه الشجرة، وكفاحها في سبيل حق النمو والصعود من الأرض إلى السماء؛ وبين خط حياة البطلة «فرانسي»، التي تشق بكدِّها المُضني سبيلها من حضيض جمع القمامة، إلى سماء المعرفة والتحليق في دنيا الإلهام، في تمكُّنٍ واقتدار.

وأي تصويرٍ أمين تطالعه عيوننا في تلك الأضواء المشرقة بين ظلال الفاقة الداكنة! أي حنان نلمسه نابضًا في صورة الأب و«فرانسي» تكوي له ملابس العمل يوم السبت، يوم عمله الوحيد، حين يتيسر له العمل! وكيف يمضي هذا الرجل ليخدم السكارى ليلة الأحد، ويغني لهم وهو يقدم الأقداح، ويجرع الثُّمالات، وابنته تنتظره حتى يعود قبيل الفجر منتشيًا، وقد يغلبها النعاس، فلا ينسى أن يوقظها وأخاها ليعطيهما شيئًا من الفطائر والحلوى والمشهيات التي تبقت في الأطباق، أو التي دسَّها في جيبه خلسةً! وتنعم الأسرة الصغيرة بدفء هذه اللحظة، ثم يخلد الأب والأم إلى حجرتهما يثرثران حتى مطلع النهار.

وهذان الأبوان إن خلف حياتهما هذه قصة حبٍّ رومانسيٍّ عجيبة، فقد كان «جوني» في التاسعة عشرة، وكانت «كاتي» في السابعة عشرة، حين التقيا وتحابَّا في ليلةٍ من ليالي الآحاد، في مرقصٍ شعبي.

«وكانت قدما «جوني» طويلتَين رفيعتَين، وحذاؤه لامعًا، وهو يرقص على أطراف أصابعه، ويتبختر مهتزًّا على عقبَيه في إيقاعٍ جميل، وحمي وطيس الرقص وعلق «جوني» معطفه على ظهر كرسيه، وكان سرواله ينسدل متناسبًا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقةً عاليةً صلبة، ولم تستطع «كاتي» أن تحوِّل نظرها عنه، فقد كان شابًّا ممشوق القوام، يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينَيه الزرقاوين العميقتين، وكان أنفه مستقيمًا وكتفاه عريضتَين، وسمعت «كاتي» البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس، وقال رفاقهم إنه راقصٌ بارع أيضًا، ومنحها «جوني» رقصة من قبيل المجاملة حين عزفت الموسيقى مقطوعة «روزي الجميلة»، وعرفت «كاتي»، حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها فانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئًا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها.»

و«كاتي» هذه من سلالةٍ ألمانية، فوالدها رجلٌ صارم، قاسٍ، فظٌّ، أنانيٌّ، وأمها قديسة وأمية في آنٍ واحد.

من هذه السلالة جاءت «فرانسي»، ومن أبيها ورثت حب الموسيقى والرقص والغناء، وعندما أتيح لها أن تدخل المدرسة كانت دروس هذه الفنون الثلاثة أحب الدروس إلى قلبها، ثم فوجئت معلمتها باستعدادها الكبير للتعبير الواضح السليم.

وما إن أتمت «فرانسي» الثالثة عشرة، حتى حلَّت بالأسرة كارثة اضطرت الفتاة معها إلى العمل كخادمة، واضطر أخوها بدوره إلى الخدمة في مطبخ الحانة التي كان أبوهما يعمل بها حينًا، ويعاقر فيها الخمر في أكثر الأحيان! ولم تلبث الأم أن ولدت فمًا جديدًا في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الطعام!

ثم انتقلت «فرانسي» للعمل في مشغلٍ للأزهار الصناعية، وهي تصف أيامها الأولى في ذلك العمل وصفًا صادقًا أمينًا، وتصف خيبتها ومتاعبها، وكيف طُردت بعد أيامٍ لتعمل في «أرشيف» أحد المكاتب الصغيرة. ولما نشبت الحرب العالمية — الأولى — اشتغلت عاملة تلغراف، في نوباتٍ ليلية، مكنتها من مواصلة دراستها، فكانت تتقدم للامتحانات كلما تيسر لها ذلك.

سنواتٌ من الكفاح المتصل، تتخللها ومضات من السعادة، ومن الحب، منذ عرفت «فرانسي» طريقها إلى موعدها الغرامي الأول!

وتتوالى أحداث القصة، في تحليلٍ رائع وتصويرٍ صادق لأدق خلجات النفس البشرية؛ نفس الفتاة المراهقة «فرانسي»، ونفس أمها «كاتي»، التي تهبُّ عليها ذكريات أيام كانت قد نسيتها، وينبري لها — من الماضي البعيد — شبح يُحدث في حياتها الأثر الذي يُحدثه حجر يسقط فوق سطح بحيرةٍ ساكنة! لكني لن أفسد عليك متعة متابعة أحداث القصة بنفسك، فلأدعك تستمتع بصحبة هذه الأسرة وهي تنتقل من مرحلةٍ في حياتها، إلى مرحلةٍ أخرى جديدة، اقتضتها أن ترحل إلى «ميتشيجان» حيث تغيرت ظروفها، كما تقلب أسطوانة على وجهها الآخر، وهناك التحقت «فرانسي» بالجامعة، لتحقق حلمها الكبير!

لقد بدأت الشجرة تجد طريقها إلى رقعةٍ فسيحة من السماء.

وهذا يصدق على الشجرة الحية «فرانسي»، كما يصدق على الشجرة النابتة في الفناء، على السواء.

فها هي ذي «فرانسي» في آخر يوم لها في «بروكلين» تمضي دافعة أمامها عربة شقيقها الأصغر في الطريق، كي ترد — لآخر مرة — الكتب التي استعارتها من المكتبة العامة، وها هي ذي تتوقف لتنظر إلى الفناء القديم وإلى سلم الطوارئ الذي كفَّت عن الجلوس عليه منذ سنين، وإذا بها ترى في مكانها القديم المعهود، فتاةً في نحو العاشرة — نفس سنها هي يوم كانت تجلس في ذلك الموضع — ثم تفجع برؤية الشجرة المكافحة، وقد قطع السكان جذعها حين كبر وحجب عن غسيلهم الشمس!

ولكن الشجرة لم تمت، بل نبتت من جذورها القديمة أغصانٌ جديدة، في اتجاهٍ جديد، لقد تحاشت مواضع حبال الغسيل، وشقت لها طريقًا إلى سماءٍ حرة.

كذلك كانت حال «فرانسي»، اقتطعت منها الأيام بعض أغصانها، ولكنها أُكسبت من ذلك مزيدًا من القدرة والقوة، وها هي ذي تشق أيضًا طريقًا جديدة إلى سماءٍ حرة، في أفقٍ جديد.

«ولكن الشجرة التي أقام السكان الجدد حولها نارًا في فناء الدار، محاولين أن يحرقوا جذعها قد عاشت!

أجل عاشت …

وما من شيءٍ يستطيع أن يقضي عليها!

ثم عادت «فرانسي» فنظرت إلى الفتاة الصغيرة التي تقرأ وهي جالسة على سلم الحريق، وهمست: وداعًا … يا «فرانسي»!»

… ومضت طارحة وراء ظهرها صفحاتٍ من حياتها وحياة أسرتها في «بروكلين»، لتتطلع إلى صفحاتٍ جديدة لن تلبث أن تطالعها في موطنها الجديد «ميتشيجان»!

وهكذا تلتقي صورة حياة المؤلفة في الواقع بصورة بطلتها في القصة؛ لتقولا لنا معًا، في هذا العمل الفني المؤثر الصادق الجميل: إن حياة الإنسان لا تقتلها الصعاب، بل تُقوِّيها حرارة الكفاح!

«وما من شيءٍ يستطيع أن يقضي عليها.»

إنها ليست شجرة تنمو في «بروكلين» دون غيرها من الأماكن … كلا! فإن وراء صورتها المحلية المحدودة، إحساسًا أعمق وأشمل، يشعر به القارئ في كل مكانٍ في الأرض؛ إنها شجرةٌ تنمو بشجاعةٍ وإصرار، في أي ركن يعيش فيه إنسان!

وهذا هو سر جمالها الفني الإنساني الرفيع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤