خاتمة

عملٌ غير مكتمل

إنَّ قصةَ الكَمِّ كما عرضتُها هنا، تبدو واضحةً وجافة، إلا فيما يتعلَّق بالسؤالِ شبهِ الفلسفي عما إذا كنتَ تفضِّل تفسيرَ كوبنهاجن أم نسخةَ العوالم المتعددة. تلك هي الطريقة الأفضل لعرض القصة في كتاب، لكنها لا تمثل الحقيقة كاملة. ذلك أنَّ قصةَ الكَمِّ لم تنتهِ بعدُ، ولا يزال علماء الفيزياء النظرية اليوم يعالجون مشكلاتٍ قد تؤدي إلى إحراز خطوة جوهرية للأمام، كتلك الخطوة التي اتخذها بور عندما تمكَّن من تكميم الذرة. ومحاولة الكتابة عن هذا العمل غير المكتمل، هي مهمةٌ فوضوية وغير مُرضية؛ فالآراء المقبولة عما هو مهم وعما يمكن تجاهله دون ضرر، ربما تتغيَّر تمامًا قُبيل طباعةِ ما كتبته. ومع ذلك، فمن أجلِ تقديمِ تصوُّرٍ عن الكيفية التي يمكن أن تتطوَّر بها الأمور، أوردُ في هذه الخاتمة عرضًا للجوانب غير المكتملة في قصةِ الكَمِّ، وبعض التلميحات عما يمكن ترقُّبه في المستقبل.

تأتي الإشارة الأوضح على أنه لا يزال هناك الكثير من الجوانب الخفية في نظريةِ الكَمِّ من أحدِ الفروع الذي يُعَدُّ الأهمَّ في النظرية وأعظمَّ انتصارٍ لها. يتمثَّل هذا الفرع في الكهروديناميكيا الكَمِّية، وهو النظرية التي «تشرح» التفاعل الكهرومغناطيسي من منظورِ الكَمِّ. أزهرت الكهروديناميكيا الكَمِّية في أربعينيات القرن العشرين، وثبت أنها ناجحةٌ للغاية حتى إنها استُخدِمت نموذجًا لإحدى نظريات التفاعل النووي القوي، وهي النظرية التي تُلقَّب بدورها بالكروموديناميكية الكَمِّية؛ لأنها تتضمَّن تفاعلاتِ جسيماتٍ تُدعى بالكواركات يميِّز العلماء بين خواصها من خلال وصفها بأسماء الألوان. على سبيل الطرافة. غير أن الكروموديناميكية الكَمِّية نفسَها تعاني عيبًا خطيرًا. ذلك أنها لا تستقيم إلا بعد التلاعب بالرياضيات كي تلائم ملاحظاتنا للعالم.

fig55
شكل ١: مخطَّط فاينمان الكلاسيكي لتفاعلات الجسيم.

تتعلَّق المشكلات بأنَّ الإلكترون في نظريةِ الكَمِّ ليس بالجسيم العاري كما هي الحال في النظريةِ الكلاسيكية، بل هو محاطٌ بسحابةٍ من الجسيمات الافتراضية. وتؤثِّر سحابة الجسيمات هذه بالطبع على كتلة الإلكترون. من الممكن جدًّا إعدادُ المعادلاتِ الكَمِّية بما يتلاءم مع إلكترون + سحابة، لكن عند حل هذه المعادلات دائمًا ما تُقدَّم «حلول» لا نهائية الكبر. فبدءًا من معادلة شرودنجر، وهي حجر الزاوية في نظريةِ الكَمِّ، نجد أنَّ المعالجة الرياضية الصحيحة للإلكترون تعطي كتلةً لا نهائية وطاقةً لا نهائية وشحنةً لا نهائية. وما من طريقةٍ رياضيةٍ شرعية للتخلُّص من هذه اللانهائيات، لكن يمكن التخلُّص منها بالغش. فنحن نعرف قيمةَ كتلة الإلكترون بالقياسات التجريبية المباشرة، ونعرف أن هذه هي الإجابة التي يجب أن تقدِّمها النظرية لكتلة الإلكترون + السحابة. لذا يزيل النظريون الكَمِّيات اللانهائية من المعادلات عن طريق قسمة إحداها على الأخرى. ومن الناحية الرياضية، إذا قسَّمتَ كميةً لا نهائية على كميةٍ أخرى لا نهائية، يمكن أن تحصلَ على أي حلٍّ؛ ومن ثَم فإنهم يقولون إن الحل لا بد أن يكون هو الحل الذي نريده؛ أي الكتلة المقيسة للإلكترون. وتسمَّى هذه الخدعة بإعادة التطبيع.

ولكي تفهم ما يجري، تخيَّل أنَّ شخصًا ما يزن ١٥٠ رطلًا يذهب إلى القمر؛ حيث تبلغ قوة الجاذبية على سطحه سدسَ قوة الجاذبية على سطح الأرض. إذا ضبطنا ميزانَ الحمَّام المألوفَ على سطح الأرض، وأخذناه في الرحلة إلى القمر، فسنجد أنَّ وزن المسافر ٢٥ رطلًا فقط، مع أن جسمه لم يفقد أيَّ كتلة. وفي ظل هذه الظروف، ربما يكون من المنطقي أن «نعيد تطبيع» الميزان المنزلي من خلال تحريك المؤشِّر حتى يسجِّل الوزن ١٥٠ رطلًا من جديد. لكن هذه الخدعة تنجح فقط لأننا نعلم الوزن الفعلي للمسافر بمقياس الأرض، ولأننا نود الحفاظ على سجلاتنا بما يتماشى مع الوزن المرصود على الأرض. إذا سجَّل الميزان وزنًا لا متناهيًا، فلا يمكننا ضبطه بما يتفق مع الواقع إلا من خلالِ إجراءِ تصحيحٍ لا متناهٍ، وهذا هو ما يفعله منظِّرو الكَمِّ في مجال الكهروديناميكيا الكَمِّية. ومن سوء الحظ أن قسمة ١٥٠ على ٦ تعطي نتيجةً مؤكدة مقدارها ٢٥، لكن ضرب ٢٥ في ما لا نهاية ثم قسمتها على ما لا نهاية، لا تعطي الجواب ٢٥ دون شك، بل يمكن أن تعطي أيَّ إجابة على الإطلاق.

fig56
شكل ٢: تظهر التصويباتُ الكَمِّية لقوانين الكهربية الديناميكية بسبب وجود الجسيمات الافتراضية، والتي تُمثَّل في المخططات ذات الحلقات المغلقة. وهذه هي الظروف التي تؤدي إلى لا نهائيات لا يمكن التخلُّص منها إلا بحيلةِ إعادة التطبيع غير المقنعة.
ومع ذلك، فالخدعة فعَّالة للغاية. فبإلغاء اللانهائيات بعضها لبعض، تفعل حلول معادلة شرودنجر كلَّ شيء قد يتمنَّاه الفيزيائيون، وتصف بشكلٍ مثالي أدقَّ تأثيرات التفاعلات الكهرومغناطيسية على الأطياف الذرية. ولما كانت النتائج رائعة، فإن معظم الفيزيائيين يقبلون بالكهروديناميكيا الكَمِّية بصفتها نظريةً جيدةً ولا ينشغلون بالكَمِّيات اللانهائية، وذلك مثلما فعل مؤسسو نظريةِ الكَمِّ حين لم يشغلوا أنفسهم بتفسير كوبنهاجن أو مبدأ عدم اليقين. وحقيقة أن الخدعة صالحة لا تنفي كونها خدعة، ولا يزال الشخص الوحيد الذي يجب أن يحظى رأيه فيما يتعلَّق بنظريةِ الكَمِّ بأقصى درجة من الاحترام، غير راضٍ للغاية عن هذه الخدعة. وفي محاضرةٍ أُلقيَت في نيوزيلندا سنة ١٩٧٥1 علَّق بول ديراك:

عليَّ الاعتراف بأنني في غايةِ السخط على الوضع؛ لأن هذه النظرية التي توصَف بأنها «نظريةٌ جيدة» تنطوي على تجاهل اللانهائيات التي تظهر في معادلاتها، ويحدث هذا التجاهلُ بطريقةٍ اعتباطية. وليس هذا ما يحدث في الرياضيات السليمة؛ فالرياضيات السليمة تتجاهل كميَّةً عندما تكون هذه الكَمِّية ضئيلة، وليس إهمالها لأنها كبيرةٌ إلى ما لا نهاية، وأنك لا ترغب فيها.

fig57
شكل ٣: تبادل زوج من بوزونات W بين نيوترينو ونيوترون كافٍ ليتطلب تصحيحًا «لا نهائيًّا» للحسابات، مقارنةً بتبادل بوزون مفرد.

وبعد أن أوضح ديراك أنَّ «معادلة شرودنجر ليس لها حلول» من وجهة نظره، ختم محاضرته بالتأكيد على ضرورةِ إجراءِ تغييرٍ «جذري» على النظرية لكي تصبح سليمةً رياضيًّا. «فالتغييرات البسيطة لن تكفي … وأنا أشعر أن التغيير المطلوب سيكون بضخامة الانتقال من نظرية بور إلى ميكانيكا الكَمِّ.» لكن أين نستطيع البحثَ عن مثل هذه النظرية الجديدة؟ لو أنني أملك الإجابةَ لكنت في طريقي للفوز بجائزة نوبل، لكني قد أستطيع أن ألفت انتباهَكم إلى بعض التطورات المثيرة للاهتمام النابعة من الفيزياء اليوم، والتي ربما تلائم في النهاية حتى تحقيقات ديراك الفاحصة عما يشكِّل نظريةً جيدة.

الزمكان المنحني

ربما تكمُن الوسيلة لتحقيقِ فهمٍ أفضلَ لطبيعة الكون في ذلك الجزء من العالم المادي الذي ظل مهملًا على نطاقٍ كبير في نظريةِ الكَمِّ حتى الآن. تخبرنا ميكانيكا الكَمِّ بالكثير عن جسيمات المادة، لكنها لا تخبرنا إلا بالقليل للغاية أو لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن الفضاء الخالي. بالرغم من ذلك، فمثلما علَّق إدنجتون منذ أكثر من ٥٠ عامًا في «ذا نيتشر أوف ذا فيزيكال وورلد»، بأنَّ الثورةَ التي كوَّنت صورتنا عن المادة الجامدة بصفتها فضاءً خاليًا في معظمه، جوهريةٌ بدرجةٍ أكبرَ من الثورة التي جاءت بها نظرية النسبية. فحتى جسمٌ جامد مثل مكتبي، أو هذا الكتاب، يكاد يكون بأكمله فراغًا خاليًا. إنَّ نسبة المادة إلى الفضاء أقل حتى من النسبة بين حبة رمل وبين قاعة «ألبرت هول». والشيء الوحيد الذي يبدو أن نظريةَ الكَمِّ تخبرنا به عن هذا الجزء المهمل الذي يمثِّل ٩٩٫٩٩٩٩٩ من الكون، هو أنه دوامةٌ من الجسيمات الافتراضية تموج بالنشاط. ومن سوء الحظ أن المعادلات الكَمِّية التي تؤدي إلى حلولٍ لا نهائية في الكهروديناميكيا الكَمِّية، تخبرنا هي نفسُها أيضًا أن كثافة طاقة الفراغ لا نهائية، وأنه لا بد من تطبيق إعادة التطبيع حتى على الفضاء الخالي. وعند الجمع بين معادلات الكَمِّ القياسية ومعادلات النسبية العامة في محاولةٍ للوصول إلى وصفٍ أفضلَ للواقع فإن الموقف يصبح أسوأ؛ إذ نظل نجد اللانهائيات، لكنها لا تعود حتى قابلة لإعادة التطبيع. من الواضح أننا نسعى وراء هدفٍ خاطئ. فما الهدف الذي ينبغي أن نسعى خلفه؟

عاد روجر بنروز الباحث في جامعة أوكسفورد، إلى الأساسيات في محاولة لإحراز تقدُّم. وقد درس العديدَ من الطرق المختلفة لرسم وصفٍ هندسي للفراغ وجسيماته، مثل أوصافٍ هندسية تتضمَّن زمكانًا مشوَّهًا، وقِطعًا مبرومةً من الزمكان نرصدها على أنها جسيمات. ولأسبابٍ واضحة، يُطلَق على النظرية التي أسَّسها نظريةُ المبرومات، لكن من سوء الحظ أنَّ الرياضيات المتعلقة بالنظرية صعبةٌ على معظم الناس، والنظرية نفسُها أبعدُ عن أن تكون مكتملة. غير أنَّ المفهوم في حد ذاته مهم؛ فباستخدامِ نظريةٍ واحدة، يحاول بنروز تفسيرَ كلٍّ من الجسيمات الدقيقة والمساحات الشاسعة من الفراغ داخل شيءٍ جامد مثل هذا الكتاب. وربما تكون هذه هي النظرية الخطأ، لكن معالجتنا لصميمِ مشكلةٍ أُهملت بشكلٍ كبير، يسلِّط الضوء على أحد الأسباب المحتملة لفشلِ النظرية القياسية.

ثمَّة طرقٌ أخرى لتصوُّر تشوهات الزمكان على المستوى الكَمِّي. فمن خلال الربط بين ثابت الجاذبية وثابت بلانك وسرعة الضوء (الثوابت الأساسية الثلاثة في الفيزياء) يمكن أن نحصل على وحدةِ طولٍ أساسيةٍ فريدة، يمكن اعتبارها وحدةَ كَمٍّ من الطول تمثِّل أصغر منطقة في الفراغ يمكن وصفها على نحو مُجدٍ. وهذه الوحدة صغيرة جدًّا بالطبع؛ حوالي ١٠ −٣٥ متر وتسمَّى طول بلانك. وبالطريقة نفسِها، فإنَّ التلاعب بالثوابت الأساسية بطريقةٍ مختلفة يقودنا إلى ناتجٍ واحد فحسب هو وحدة زمن أساسية: زمن بلانك الذي يبلغ حوالي ١٠ −٤٣ ثانية.2 الحقُّ أننا لا نستطيع الحديثَ عن زمنٍ أقصرَ من ذلك على نحوٍ ذي مغزًى، ولا عن أي بُعدٍ من الفضاء أصغرَ من طول بلانك.
إنَّ التقلباتِ الكَمِّية في هندسة الفراغ ضئيلةٌ تمامًا على مستوى الذرات، أو حتى على مستوى الجسيمات الأولية، لكن عند هذا المستوى الأساسي للغاية، يمكن تخيُّل الفضاءِ نفسِه على أنه رغوة من التقلباتِ الكَمِّية، ويرسم جون ويلر الذي طوَّر هذه الفكرة تشبيهًا بالمحيط الذي يبدو مسطحًا بالنسبة إلى ملاحٍ جوي يطير عاليًا فوقه، لكنه لا يبدو كذلك إطلاقًا لركَّابٍ على قاربِ نجاة يتخبط بهم على سطح المحيط العاصف الدائم التغيُّر.3 فعلى المستوى الكَمِّي، ربما يتسم الزمكان نفسُه بدرجةٍ كبيرة من التعقيد الطوبولوجي؛ فيحتوي على «ثقوب دودية» و«جسور» تربط بين مناطقَ مختلفة من الزمكان؛ ومن الممكن أيضًا وفقًا لإحدى تنويعات هذه الفكرة، أن يكون الفراغ الخالي عبارة عن ثقوبٍ سوداءَ في حجمِ طولِ بلانك مرصوصةٍ بإحكام بعضها بجانب بعض.

هذه الأفكار كلُّها مبهمة وغير كافية ومحيِّرة. وليس لدينا إجاباتٌ جوهرية حتى الآن، لكن لا ضررَ في إدراك أن «فهمنا» للفضاء الخالي مشوَّش في واقع الأمر وغير مؤكَّد ومبهم وغير كافٍ. وإنه لأمر يوسِّع من مداركنا أن نفكِّر مليًّا في أن كل الجسيمات المادية قد لا تكون أكثرَ من أجزاءٍ مبرومة من الفضاء الخالي. وإذا كانت النظريات التي «نفهمها» تتداعى، فمن المحتمل إذن أن يأتي التقدُّم من أشياءَ لا نفهمها بعدُ؛ لذا فقد يكون من المثير للاهتمام أن نراقب ما قد يأتي به مهندسو الكَمِّ في السنوات القليلة القادمة.

اختلال التناظر

يُعد التناظر مفهومًا أساسيًّا في الفيزياء. فالمعادلات الجوهرية تتسم بالتناظر الزماني على سبيل المثال؛ أي أنها تكون صالحةً بالدرجةِ نفسِها عند التقدُّم بالزمن للأمام أو العودة به للخلف. ويمكن فهمُ بعض الأنواع الأخرى من التناظر بالمصطلحات الهندسية. يمكن مثلًا أن تنعكس كُرةٌ تدور في مرآة. وعند النظر إليها من أعلى، قد نراها تدور عكس عقارب الساعة، وفي هذه الحالة سنرى صورةَ المرآة تدور مع عقارب الساعة. كلٌّ من الكرة الحقيقية وصورة المرآة تتحركان بطرقٍ تسمح بهما قوانين الفيزياء، وهي تناظرية بهذا المعنى (ولا شك بأنَّ صورة الكرة المنعكسة في المرآة تدور على النحو الذي كانت الكرةُ الحقيقية ستدور به إن تحرَّك الزمن للوراء. أمَّا إذا انعكس الزمن «مع» انعكاس صورة الكرة على المرآة أيضًا، فسنرجع إلى حيث بدأنا). يوجد العديد من الأنواع الأخرى من التناظر في الطبيعة. ومن هذه الأنواع ما يسهُل فهمُه بلغة الحياة اليومية؛ إذ يمكن على سبيل المثال أن نتخيَّل الإلكترون والبوزيترون على أنَّ كلًّا منهما صورةُ مرآة للآخر، كما يمكننا أيضًا تخيُّل أنَّ أحدهما يمثِّل نظيرًا معكوسَ الزمن للآخر. فالشحنة الموجبة المعكوسة هي شحنةٌ سالبة. إنَّ أفكار الانعكاس في الفضاء هذه معًا (تسمَّى تغيُّر التكافؤ لأنها تبدِّل اليسار باليمين)؛ ويشكِّل الانعكاس في الزمن وانعكاس الشحنة أحد أقوى المبادئ الأساسية في الفيزياء متمثلًا في مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» التي تنص على أن قوانين الفيزياء يجب ألا تتأثَّر بتغيير «هذه العوامل الثلاثة كلها» إلى نظائرها المضادة في الوقتِ نفسِه. إنَّ مبرهنة «التكافؤ-الشحنة-الزمن» هي أساس الافتراض القائل بأن انطلاق جسيم يكون مكافئًا «تمامًا» لامتصاصِ نظيره الجسيم المضاد.

fig58
شكل ٤: تناظر الانعكاس. دوران الكرة في عالم المرآة هو نفسه انعكاس الزمن لدورانها في العالم الواقعي.
أمَّا معظم أنواع التناظر الأخرى، فمن الصعب جدًّا استيعابها بلغةِ الحياة اليومية، حيث تتطلَّب لغةً رياضية حتى تُفهم كليةً. لهذه الأنواع الأخرى أهميةٌ كبيرة في فهْمِ آخرِ الأخبار من جبهة الجسيمات، ومع ذلك، تصوَّر مثالًا فيزيائيًّا بسيطًا: تخيَّل كرةً مستقرة على إحدى درجات سُلَّم. إذا حرَّكنا الكرة إلى درجةٍ أخرى، فإننا نغيِّر من طاقةِ وضعها في مجال الجاذبية الذي تقع فيه. ولا تهمُّ الطريقةُ التي نحرِّك بها الكرة، فمن الممكن أن نأخذها في رحلة حول العالم أو نرسلها بصاروخ إلى المريخ ثم نعود بها قبل وضعها على الدرجة الجديدة. ذلك أنَّ ما يحدِّد التغيُّر في طاقة الوضع هو ارتفاع الدرجتين؛ الدرجة التي تبدأ منها والدرجة التي تستقر عليها. ولا يهم أيضًا المكان الذي نختار أن نقيس منه طاقةَ الوضع. يمكننا قياسُها من القبو، وإعطاءُ كل درجةٍ طاقةَ وضعٍ كبيرة، أو يمكننا قياسها من أسفل الدرجتَين، وفي تلك الحالة ستكون طاقة وضع تلك الدرجة صفرًا.4 وسيظل «الفرْق» في طاقةِ الوضع بين الحالتين هو نفسه. وهذا نوعٌ من التناظر، ولأننا نستطيع «إعادة قياس» خط القاعدة الذي بدأنا منه القياس، يُسمى هذا النوع من التناظر بتناظر المقياس.
ويحدث الشيء نفسه مع القوى الكهربية. ونتيجةً لذلك، فإنَّ كهرومغناطيسية ماكسويل تتسم بعدمِ تغيُّر القياس، وينطبق الأمر نفسُه على الكهروديناميكيا الكَمِّية التي تتبع هي أيضًا نظرية المقياس، وكذلك الديناميكا اللونية الكَمِّية، التي صيغت نموذجًا على أساس الكهروديناميكيا الكَمِّية. تظهر التعقيدات عند التعامل مع مجالات المادة على المستوى الكَمِّي، غير أنه من الممكن التوصُّل إلى حلٍّ مقنعٍ لجميع هذه التعقيدات من خلالِ نظريةٍ تتسم بتناظر المقياس. لكنَّ إحدى السمات الجوهرية في الكهروديناميكيا الكَمِّية أنها لا تتسم بتناظر المقياس إلا لأن كتلة الفوتون صفر. ويتضح أنها إذا كانت للفوتون أي كتلة على الإطلاق، فستصبح إعادةُ تطبيع النظرية مستحيلة، ولن نستطيع التخلص من اللانهائيات. وتصبح هذه مشكلةً عندما يحاول الفيزيائيون استخدام نظرية المقياس الناجحة للتفاعل الكهرومغناطيسي كنموذجٍ لبناءِ نظريةٍ مماثلة للتفاعل النووي الضعيف، وهي العملية المسئولة، من بين أمورٍ أخرى، عن الانحلال الإشعاعي وانبعاث جسيمات بيتا (الإلكترونات) من الأنوية المشعة. ومثلما أنَّ الفوتونات تحمل القوى الكهربية أو تصبح بمثابةِ وسيطٍ لها، يبدو أن القوة النووية الضعيفة لا بد أن تنتقل بواسطة البوزون الخاص بها. لكن الوضع أكثرُ تعقيدًا؛ لأنه لكي تنتقل الشحنة الكهربية خلال التفاعلات الضعيفة، لا بد للبوزون الضعيف («فوتون» المجال الضعيف) أن يحمل شحنة. ومن ثَم، فلا بد من وجودِ زوجٍ من هذه الجسيمات على الأقل وتُسمى: بوزون W+ وبوزون W-، وحيث إن التفاعلات الضعيفة لا تتضمَّن انتقال شحنة في جميع الحالات، فقد اضطُر المنظِّرون إلى استدعاءِ وسيطٍ ثالث هو البوزون المتعادل Z، ليكمل مجموعة الفوتونات الضعيفة. لقد استلزمت النظريةُ وجودَ هذا الجسيم، مما كان مصدرَ خجلٍ للفيزيائيين في البداية؛ إذ لم يكن لديهم أيةُ أدلةٍ تجريبيةٍ على وجوده.
كان أول مَن توصَّل إلى أشكال التناظر الرياضية الصحيحة التي تضم التفاعل الضعيف والجسيمين: بوزون W+ وبوزون W-5 والجسيم المتعادل Z، هو شيلدون جلاشو من جامعة هارفارد سنة ١٩٦٠، ونشرها سنة ١٩٦١. ولم تكن نظريته قد اكتملت بعدُ، لكنها قدَّمت بصيصًا لإمكانيةِ ظهورِ نظريةٍ واحدة في النهاية تدمج كلًّا من تفاعلات القوة النووية الضعيفة والتفاعلات الكهرومغناطيسية. كانت المشكلة الرئيسية أن النظرية تطلَّبت وجود جسيمات W، وليس ذلك لحمل الشحنة فقط كما هي الحال مع الفوتونات، بل استلزمت أن يكون لهذه الجسيمات كتلةٌ أيضًا؛ مما يجعل إعادة تطبيع النظرية مستحيلة ويخلُّ بالتشابه مع الكهرومغناطيسية؛ حيث الفوتونات بلا كتلة. كان لا بد من وجودِ كتلةٍ للجسيمات؛ لأن التفاعلات الضعيفة قصيرةُ المدى، ومن دون كتلةٍ للجسيمات سيكون المدى لا نهائيًّا، مثل مدى التفاعلات الكهرومغناطيسية. بالرغم من ذلك، لم تكن المشكلة تتمثَّل في الكتلة نفسِها بقدرِ ما تمثَّلت في الحركة المغزلية للجسيمات. ذلك أنَّ قواعدَ الكَمِّ تقتضي أن تكون الحركة المغزلية لجميع الجسيمات العديمة الكتلة، مثل الفوتونات، موازيةً لاتجاه حركتها أو في الاتجاه المضاد لحركتها فقط. أما الجسيمات التي تمتلك كتلةً مثل جسيمات W، فمن الممكن أيضًا أن تكون حركتها المغزلية عموديةً على اتجاه حركتها، وهذه الحالة الزائدة من الحركة المغزلية تتسبَّب في كل المشكلات. لو كانت جسيماتُ W عديمةَ الكتلة لصار لدينا حينئذٍ نوع من التناظر بين الفوتونات وجسيمات W؛ ومن ثَم بين التفاعلات الضعيفة والتفاعلات الكهرومغناطيسية؛ مما يجعل من الممكن الجمعُ بينهما في نظريةٍ واحدةٍ قابلة لإعادة التطبيع تُفسِّر كلتا القوتَين. إنَّ اختلال هذا التناظر هو ما يسبِّب المشكلة.

كيف يختل التناظر الرياضي؟ يأتي أفضل مثال على هذا من المغناطيسية. لنتخيل قضيبًا من مادةٍ مغناطيسية يحتوي على عددٍ هائل من مغناطيساتٍ داخليةٍ دقيقة تشبه الذرات المفردة. وعندما تكون المادة المغناطيسية ساخنة، تتحرَّك هذه المغناطيسات الداخلية الدقيقة حركتَها المغزلية، ويزاحم بعضها بعضًا بصورةٍ عشوائيةٍ متحركة في جميع الاتجاهات، ولا يوجد مجالٌ مغناطيسي كلي للقضيب، ولا عدم تناظرٍ مغناطيسي. لكن عندما يبرد القضيب تحت درجة حرارة معينة، تسمَّى درجة حرارة «كوري»، يتخذ فجأة حالةً ممغنطة؛ إذ تصطفُّ كل المغناطيسات الداخلية الدقيقة بعضها مع بعض. في درجة الحرارة المرتفعة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ متاحةٍ تقابل صفرًا من المغنطة، وفي درجات الحرارة المنخفضة فإن أدنى حالةِ طاقةٍ تقابل اصطفاف المغناطيسات الداخلية الدقيقة (بصرف النظر عن طريقة اصطفافها). اختل التناظر وحدث التغيُّر لأنه في درجات الحرارة المرتفعة تتغلب الطاقة الحرارية للذرات على القوى المغناطيسية، أما في درجات الحرارة المنخفضة، فتتغلب القوى المغناطيسية على الحركة الحرارية للذرات.

في أواخر ستينيات القرن العشرين كان عبد السلام يعمل في الكلية الإمبريالية بلندن، وكان ستيفن واينبرج في هارفارد، وقد توصَّل كلٌّ منهما على حدةٍ إلى نموذجٍ للتفاعلِ الضعيفِ مطوَّرٍ من التناظر الرياضي الذي ابتكره جلاشو في بداية الستينيات من القرن العشرين، وطوَّره عبد السلام منفردًا بعد ذلك ببضع سنوات. في النظرية الجديدة، يتطلب اختلال التناظر مجالًا جديدًا، هو مجال هيجز، والجسيمات المصاحبة له والتي سمِّيت أيضًا بجسيماتِ هيجز. وقد دُمِجَت الكهرومغناطيسية والتفاعل الضعيف في مجالٍ مقياسي متناظرٍ واحد: التفاعل الكهربي الضعيف، وذلك من خلال البوزونات الوسيطة العديمة الكتلة. ونتيجةً لأبحاث الفيزيائي الهولندي جيرالد تهوفت، اتضح بعد ذلك في عام ١٩٧١ أن هذه النظرية قابلة لإعادة التطبيع، وحينها بدأ الناس يأخذون النظرية على محمل الجِد. وبظهور دليل على وجود الجسيم Z سنة ١٩٧٣ ترسَّخت النظرية الكهربية الضعيفة. وهذا التفاعل المدمج لا «ينجح» إلا في ظروف الطاقة العالية الكثافة فقط، مثل تلك التي وُجِدت في الانفجار الكبير، وفي ظروف الطاقة الأقل كثافة، يتعطل التفاعل بالطريقة التي تظهر بها جسيمات W وجسيمات Z الكثيفة الكتلة، وتنفصل كلٌّ من التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة كلٌّ في طريقه.
يمكن تقييم هذه النظرية الجديدة من حقيقةِ أن جلاشو وعبد السلام وواينبرج قد اقتسموا جائزةَ نوبل في الفيزياء عنها سنة ١٩٧٩، بالرغم من عدمِ وجودِ برهانٍ تجريبيٍّ مباشرٍ على صحةِ فكرتهم في ذلك الوقت. ومع ذلك، ففي بدايات عام ١٩٨٣ أعلن فريق المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف، نتائجَ تجاربَ أُجريَت على الجسيمات في ظروفِ طاقةٍ عاليةٍ جدًّا (تحقَّقت هذه الظروف بتصادم شعاع بروتونات عالية الطاقة مباشرةً بشعاع من البروتونات المضادة العالية الطاقة)، وتُعَدُّ الطريقة الأفضل لشرحها بأنها جسيمات W وجسيمات Z تبلغ كتلتها ٨٠ مليون إلكترون فولت و٩٠ مليون إلكترون فولت، على التوالي. جاءت هذه النتائج متطابقة على نحوٍ جيد للغاية مع تنبؤات النظرية، وتُعدُّ نظريةُ «جلاشو-سلام-واينبرج» نظريةً «جيدة» لأنها تقدِّم تنبؤات يمكن اختبارها، على خلافِ نظريةِ جلاشو السابقة التي لم تقدِّم ذلك. وفي الوقت نفسِه لم يجلس المنظِّرون خاملين؛ إذا أمكن دمج تفاعلَين في نظريةٍ واحدة، فلماذا لا يكون من الممكن إيجادِ نظريةٍ عظمى موحَّدة تضم كلَّ التفاعلات الأساسية؟ صار حلم أينشتاين قريبًا للغاية من التحقُّق بدرجةٍ أكبرَ من أي وقتٍ مضى، وليس في صورة التناظر فحسب، بل في صورة التناظر الفائق والجاذبية الفائقة.
fig59
شكل ٥: يحدث اختلال التناظر عندما يبرُد قضيب من مادة مغناطيسية.

الجاذبية الفائقة

إضافةً إلى صعوبة إعادة التطبيع، تكمُن المشكلة مع نظريات المقياس في أنها ليست فريدة. فمثلما أنَّ نظريةَ مقياس واحدة تتضمَّن لا نهائيات لا بد من تكييفها لتلائم الواقع عن طريق إعادة التطبيع، يوجد أيضًا عددٌ لا نهائي من نظريات القياس المحتملة، وتلك النظريات المختارة لوصف تفاعلات الفيزياء لا بد أن تُكيَّف بالطريقةِ نفسِها، وعلى أساسٍ مخصَّص بالدرجةِ نفسِها، لتلائم مشاهدات العالم الواقعي. الأسوأ من ذلك أنه لا يوجد في نظريات المقياس ما يوضِّح العدد الذي ينبغي أن يوجد من أنواع الجسيمات المختلفة؛ أي لا يوجد ما يوضِّح عدد الباريونات أو اللبتونات (جسيمات من عائلة الإلكترونات)، أو بوزونات المقياس، أو أي شيءٍ آخر. من ناحيةٍ مثالية، يودُّ الفيزيائيون التوصُّل إلى نظريةٍ فريدة لا تستلزم إلا عددًا معينًا من أنواعٍ معينة من الجسيمات لتفسير العالم الفيزيائي. وفي عام ١٩٧٤، تحققت خطوة في اتجاه تشكيل مثل هذه النظرية مع ابتكار التناظر الفائق.

fig60
شكل ٦: يمكن فهْم اختلال التناظر المغناطيسي في الشكل ٥ بتخيُّل كرةٍ في وادٍ. في حالة وجود وادٍ واحد، تكون الكرة في حالةِ تناظر مستقرة. وفي حالة وجود واديين، يصبح التناظر غير مستقر، ولا بد من أن تقع الكرة عاجلًا أو آجلًا في أحد الواديين فيختل بذلك التناظر.

جاءت الفكرة من أعمال يوليوس وايس من جامعة كارلسروه، وبرونو زمينو من جامعة كاليفورنيا بولاية بيركلي. بدأ الاثنان بتخمينِ ما يجب أن تكون عليه الأمور في عالمٍ مثالي التناظر، وهو أن يكون لكل فيرميون بوزون مقابلٌ مساوٍ له في الكتلة. إننا لا نرى في الطبيعة هذا النوع من التناظر فعليًّا، لكن تفسير ذلك قد يكون أنَّ التناظر اختلَّ مثل التناظر الذي يتضمَّن التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة. ومن المؤكَّد بما فيه الكفاية أنك إذا أجريت العمليات الرياضية، فستجد طرقًا تصف التناظرات الفائقة التي وُجدت خلال الانفجار الكبير، لكنها اختلت بحيث اكتسبت الجسيمات اليومية في الفيزياء كتلةً صغيرة بينما اكتسبت شريكتها الفائقة كتلةً كبيرة جدًّا. لم يكن من الممكن للجسيمات الفائقة حينئذٍ أن توجد إلا لزمنٍ قصير قبل انقسامها إلى فيضٍ من الجسيمات الأقل كتلة، ولتكوين مثل هذه الجسيمات الفائقة اليوم، فإننا نحتاج إلى تهيئةِ ظروفٍ مثل ظروف الانفجار الكبير، وتلك ظروف تتسم بطاقةٍ هائلةٍ بالطبع، فلن يكون من المستغرب إذن أن تفشل حتى أشعة البروتونات/مضادات البروتونات المتصادمة في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في إنتاجها.

إنَّ ذلك كلَّه قائم على الاحتمالات. غير أنَّ ذلك ينطوي على ميزةٍ عظيمة. لا يزال هناك أنواعٌ مختلِفة من نظريات المجال للتناظر الفائق تمثِّل تنويعات على الفكرة الأساسية، لكن قيود التناظر تعني أن كل نسخةٍ من النظرية لا تسمح إلا بوجود عددٍ محدودٍ من أنواع الجسيمات المختلفة. بعض النسخ تحتوي على مئات من الجسيمات الأساسية المختلفة، وهو احتمال مخيف، لكن بعضها الآخر يتضمَّن عددًا أقل كثيرًا، ولا تتنبأ أيٌّ من النظريات باحتماليةِ وجودِ عددٍ لا نهائي من الجسيمات «الأساسية». والأفضل من ذلك أن الجسيمات مرتَّبةٌ بانتظامٍ في مجموعاتٍ عائلية في كلٍّ من نظريات التماثل الفائق. في النسخة الأبسط، يوجد بوزون واحدٌ فقط حركتُه المغزلية تساوي صفرًا مع شريكٍ حركته المغزلية تساوي −١ / ٢؛ بينما تتضمَّن إحدى النسخِ الأكثرِ تعقيدًا لها اثنين من البوزونات بحركةٍ مغزلية تساوي −١ وفيرميون واحدًا حركتُه المغزلية −١ / ٢ وفيرميون آخرَ حركتُه المغزلية ٣ / ٢ وهكذا. لكنَّ أحسنَ الأخبارِ لم تأتِ حتى الآن. وهو أنه في نظريات التناظر الفائق لا يكون عليك دائمًا أن تقلق بشأن إعادة التطبيع. ففي بعض هذه النظريات تلغي اللانهائيات بعضها بعضًا تلقائيًّا وليس بطريقةٍ معينة، متبعةً بذلك القواعدَ السليمة للرياضيات مع التخلي عن الأعداد المحدودة والمعقولة.

يبدو التناظرُ الفائقُ جيدًا، لكنه ليس الجواب النهائي حتى الآن. فثمَّة شيءٌ ناقص لا يعرفه الفيزيائيون. تتلاءم النظريات المختلفة مع السمات المختلفة للعالم الحقيقي بصورةٍ جيدة، لكن لا توجد نظريةٌ مفردة للتناظر الفائق تفسِّر العالم الحقيقي كله. ومع ذلك، ثمَّة نظرية بعينها للتناظر الفائق تستحق الذكر بصفةٍ خاصة. إنها نظرية الجاذبية الفائقة N = 8.
تبدأ نظرية الجاذبية الفائقة هذه بجسيمٍ افتراضي يُسمى «جرافيتون» هو الذي يحمل مجال الجاذبية. إضافةً إلى هذا الجسيم، توجد ثمانية جسيماتٍ أخرى تُسمى جرافيتونات؛ (ومن هنا يأتي الاسم N = 8)، و٥٦ جسيمًا «واقعيًّا» مثل الكواركات والإلكترونات، و٩٨ جسيمًا تشترك في توسط التفاعلات (فوتونات، وجسيمات W والكثير من الجليونات). هذا عددٌ هائلٌ من الجسيمات، لكن النظرية تحدِّده على وجه الدقة، دون أي مجالٍ لجسيماتٍ أخرى. يمكن معرفةُ نوع الصعوبات التي يواجهها الفيزيائيون في اختبار النظرية من خلال النظر في أمر الجرافيتونات. فهذه الجسيمات لم تُكتشَف قط، ويعود ذلك لسببين متضادَّين تمامًا. ربما تكون هذه الجرافيتونات جسيماتٍ مراوغةً شبحيةً ذات كتلةٍ ضئيلةٍ جدًّا ولا تتفاعل مع أي شيء بالمرة. أو ربما تكون كتلتها كبيرةً للغاية حتى إن أجهزة توليد الجسيمات المتاحة لدينا في الوقت الحالي غير كافية لتقديم الطاقة اللازمة لتخليقها ورصدها.
إنَّ المشكلات التي تواجه النظرية هائلة بالطبع، لكن النظريات المشابهة للجاذبية الفائقة متسقة على الأقل ومحدَّدة، ولا تحتاج إلى إعادة التطبيع. ثمة شعور بأن الفيزيائيين على المسار الصحيح. بالرغم من ذلك، إذا كانت معجِّلات الجسيمات غير مناسبة لاختبار النظرية، فكيف يمكنهم التأكُّد منها؟ وهذا هو السبب في أن علم الكونيات، من مجالات العلم المزدهرة في هذه الأيام. ومثلما قال هاينز باجليز، المدير العام لأكاديمية العلوم بنيويورك في عام ١٩٨٣: «لقد دخلنا بالفعل عصر فيزياء ما بعد المعجِّلات، الذي يجعل من تاريخ الكون بأكمله أرضًا لاختبار الفيزياء الأساسية وإثباتها.»6 وليس علماء الكون أقلَّ حماسًا لتقبُّل فيزياء الجسيمات.

هل الكون تقلبات فراغية؟

ربما يكون علم الكونيات في الواقع فرعًا من فيزياء الجسيمات. ذلك أنه وفقًا لإحدى الأفكار التي تطوَّرت من اعتبارها محضَ فكرةٍ مجنونة تمامًا إلى أن حظيت بالتقدير باعتبارها فرعًا من فروع علم الكونيات، ربما يكون الكون وكل شيء فيه، ليس سوى واحد من تلك التقلبات الفراغية التي تسمح لمجموعاتٍ من الجسيمات بأن تنبثق من لا شيء، وتعيش لفترة ثم يُعاد امتصاصها ثانيةً داخل الفراغ. ترتبط هذه الفكرة ارتباطًا وثيقًا باحتمالية أن يكون الكون مغلقًا فيما يتعلَّق بالجاذبية. فكونٌ وُلِد في لهيب انفجارٍ كبير ويتمدَّد لفترة من الزمن ثم يتقلص مرةً أخرى إلى كرة من اللهب ويختفي، «هو» تقلُّبٌ فراغي بالفعل، لكن على مستوًى ضخمٍ جدًّا. وإذا كان الكون متوازنًا تمامًا على مستوى الجاذبية بين التمدُّد اللامحدود والانهيار المحتوم، فلا بد أنَّ طاقةَ الجاذبية السالبة للكون ستلغي بالضبط كتلةَ الطاقة الموجبة لكل المادة الموجودة فيه. إنَّ إجمالي الطاقة في كونٍ مغلقٍ تساوي صفرًا، وليس من الصعب جدًّا تكوين شيءٍ ما بطاقةٍ كليةٍ صفرية من إحدى التقلبات الفراغية، حتى وإن كان الأمر ينطوي على خدعةٍ محبوكة بعض الشيء لكي تتمدَّد جميع الأجزاء الصغيرة مبتعدةً بعضها عن بعض، وتسمح — مؤقتًا — بوجود كل ذلك التنوُّع المثير للاهتمام الذي نراه حولنا.

إنني مولَع بهذه الفكرةِ على نحوٍ خاص؛ إذ كان لي دور في ظهورها بشكلها الحديث في سبعينيات القرن العشرين. يمكننا أن ننسب الفكرةَ الأصلية إلى لودفيج بولتزمان، وهو فيزيائي من القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الديناميكا الحرارية الحديثة والميكانيكا الإحصائية. لقد افترض بولتزمان أنه بما أنَّ الكون ينبغي أن يكون في حالةِ اتزانٍ ديناميكي، لكنَّ ذلك لا يبدو ظاهريًّا، فربما يكون مظهره الحالي نتيجةَ انحرافٍ مؤقت عن الاتزان الذي تسمح به قواعد الإحصاء، شريطة الحفاظ على الاتزان في المتوسط، على المدى الطويل. إنَّ احتمالية حدوث مثل ذلك التقلُّب على مقياس الكون المرئي ضئيلة، لكن إذا كان الكون موجودًا في حالةٍ مستقرة على مدارِ زمنٍ لا نهائي، فثمَّة يقينٌ افتراضي بوقوع شيء من هذا النوع في نهاية المطاف، وحيث إن انحرافًا عن الاتزان هو وحده ما يمكن أن يسمح بوجود الحياة، فليس من الغريب أن نكون هنا خلال حدثٍ نادر من انحراف الكون عن الاتزان.

لم تلقَ أفكارُ بولتزمان القبول قط، لكن بعض التنويعات على هذه الفكرة قد استمرت في الظهور من حينٍ لآخر. وفي عام ١٩٧١ ظهرت تلك التنويعة التي راقت لي كثيرًا، وكتبتُ عنها في مجلة «نيتشر»، وهي احتمالية أن يكون الكون قد وُلِد من نارٍ وهو يتمدَّد وسيتقلَّص بعد ذلك إلى لا شيء.7 وبعد ذلك بسنتَين قدَّم إدوارد من جامعة سيتي بنيويورك، بحثًا إلى مجلة نيتشر طوَّر فيه فكرة الانفجار الكبير بصفته تقلبًا فراغيًّا، لكنه أشار في الخطاب المرفق بالبحث إلى أنَّ مقالي غير الموقَّع هو نقطة البداية لافتراضاته.8 ولهذا فإنني مهتم على نحوٍ خاص بهذا النموذج الكوني على وجه التحديد، ومن الملائم بالطبع أن يُنسب الفضل الآن كاملًا إلى ترايون في التوصل إلى تلك الفكرة الحديثة عن الكون بصفته تقلبًا فراغيًّا. لم يفكِّر بها أحد في البداية، لكن كما أشار هو حينذاك أنه إذا كانت محصلة الطاقة في الكون تساوي صفرًا، فإنَّ مقدار الزمن المسموح بوجوده بما يتماشى مع المعادلة:

يمكن أن يكون طويلًا جدًّا بالفعل. وقال: «لست أزعم أنَّ أكوانًا مثل كوننا تظهر كثيرًا، وإنما الوتيرة المتوقَّعة لظهورها لا تساوي صفرًا فحسب.» وأوضح أيضًا: «إنَّ منطق الظروف يقتضي على كل حالٍ أن يجد المراقبون أنفسهم دائمًا في أكوانٍ قادرةٍ على توليد الحياة، ومثل هذه الأكوان كبيرة بدرجةٍ مثيرة للإعجاب.»

ظلت هذه الفكرة مهملةً لعشر سنوات. لكن في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الناس يأخذون نسخةً جديدةً منها على محمل الجِد. وبرغمِ آمالِ ترايون الأولية، أظهرت الحسابات المقترحة أن أي «كون كمِّي» جديد يتكوَّن من تقلبٍ فراغي سيكون في الواقع ظاهرةً دقيقة، وقصيرة الأجل، ولا تشغل سوى حجمٍ صغيرٍ للغاية من الزمكان. غير أنَّ علماء الكون قد اكتشفوا بعد ذلك طريقةً تؤدي بهذا الكون المتناهي الصِّغر إلى تمددٍ دراماتيكي يمكن أن يضخِّمه حتى يصل إلى حجم الكون الذي نعيش فيه في أقلَّ من طرفةِ عين. صار مصطلح «التضخم» هو الكلمة السحرية في علم الكون في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ويفسِّر التضخم كيف أن تقلبًا فراغيًّا متناهي الصِّغر يمكن أن ينمو إلى الكون الذي نعيش فيه.

التضخُّم والكون

كان علماء الكونيات مهتمين بالفعل بأي جسيماتٍ إضافية قد تكون موجودةً في الكون، لأنهم يبحثون دائمًا عن «الكتلة المفقودة» اللازمة لكي يصبح الكون مغلقًا. يمكن للجرافيتونات التي تبلغ كتلةُ الجسيم الواحد منها ١٠٠٠ إلكترون فولت أن تكون مفيدةً للغاية هنا؛ إذ إنها لن تساعد في غلق الكون فحسب، بل إن وجودها سيكون ملائمًا تمامًا لتكوينِ تكتلاتٍ من المادة في حجم المجرات، وذلك وفقًا للمعادلات التي تصف تمدُّد الكون من الانفجار الكبير. وقد تكون النيوترينوات التي تبلغ كتلة الواحد منها ١٠ إلكترون فولت ملائمةً تمامًا لتشجيع نمو تكتلات من المادة على مستوى تجمُّعات المجرات، وهكذا. غير أنَّ علماء الكونيات أصبحوا أكثرَ اهتمامًا بفيزياء الجسيمات، لأن أحدث التأويلات لاختلال التناظر تشير إلى أن هذا التناظرَ المختلَّ نفسَه ربما يكون هو القوة الدافعة التي فجَّرت فقاعتنا من الزمكان إلى حالتها المتمددة.

جاءت الفكرةُ في الأساس من آلان جوث الباحث بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. تتلخَّص الفكرة في صورةٍ للكون في مرحلةٍ كان فيها ساخنًا جدًّا وكثيفًا جدًّا وكانت كل التفاعلات الفيزيائية (ماعدا الجاذبية؛ إذ لا تتضمَّن النظرية التناظر الفائق بعد) متحدةً في تفاعلٍ تناظريٍّ واحد. وبينما بدأ الكون يبرد، اختلَّ التناظر واتخذت كلٌّ من القوى الأساسية للطبيعة، الكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة، مسارَها المنفصل. ومن الواضح أن حالتَي الكون قبل اختلال التناظر وبعده، مختلفتان إحداهما عن الأخرى تمامًا. إنَّ التغيُّر من حالةٍ إلى الأخرى يشبه التغير الطوري، مثل تغيُّر الماء إلى الثلج عند التجمُّد، أو إلى البخار عند الغليان. بالرغم من ذلك، فبخلاف تغيُّر الأطوار على مستوى الحياة اليومية، فإنَّ اختلال التناظر الذي حدث في الكون المبكِّر ينبغي، وفقًا للنظرية، أن يكون قد ولَّد قوةَ جاذبيةٍ طاردة طاغية، فينفجر كل شيء مبتعدًا بعضه عن بعض في جزء من الثانية.

إننا نتحدَّث عن الأصول المبكِّرة جدًّا للكون، أي قبل ١٠ −٣٥ ثانية تقريبًا، عندما كانت «درجة الحرارة» ربما أكثر من ١٠٢٨ كيلفن، فيما يتعلَّق بأي معنًى لدرجة الحرارة في مثل هذه الحالة. كان لا بد لهذا التمدُّد الناتج عن اختلال التناظر أن يكون أُسِّيًّا، فيؤدي إلى تضاعفِ حجمِ كلِّ جزءٍ دقيقٍ جدًّا من الفضاء كل ١٠ −٣٥ ثانية. وفي غضون زمنٍ أقل كثيرًا من الثانية، يتضخَّم هذا التمدد المباشر من منطقةٍ في حجم البروتون إلى حجمِ الكونِ الذي نستطيع رصده اليوم. وبعد ذلك، تتكوَّن في تلك المنطقة المتمددة من الزمكان الفقاعات التي نعتقد اليوم أنها زمكانٌ عاديٌّ، وتنمو عن طريقِ تحوُّلٍ طوريٍّ إضافي.

لم تحاول نسخة جوث الأولية للكون التضخمي أن تفسِّر المكان الذي أتت منه الفقاعات الأولية الدقيقة، لكن من المغري جدًّا أن نكافئها بتقلباتٍ فراغية من النوع الذي وصفة ترايون.

إنَّ هذه الرؤية الدرامية للكون تحلُّ الكثيرَ من الألغاز الكونية، ولا سيما المصادفة البارزة المتمثِّلة في أن فقاعة الزمكان التي يوجد فيها كونُنا تتمدَّد فيما يبدو بمعدلٍ على الحدود بين أن يظل الكون مفتوحًا أو مغلقًا. وهذا التصوُّر للكون التضخمي «يستلزم» وجود هذا التوازن، بسبب العلاقة بين كثافة الكتلة/الطاقة للفقاعة وبين القوى التضخمية. والأمرُ الأكثرُ إثارةً هو أن هذا التصوُّر يعهد بنا إلى دورٍ تافهٍ جدًّا في الكون؛ إذ يضع كلَّ ما نستطيع رؤيته في الكون في فقاعةٍ داخلَ فقاعةٍ أخرى لِكُلٍّ آخرَ يتمدَّد بدرجةٍ أكبرَ كثيرًا.

إننا نعيش في زمنٍ مثير، ويبدو أننا على شفا فتحٍ كبيرٍ لفهمنا عن الكون يتسم من الأهمية، كما تنبَّأ ديراك، بما تتسم به خطوة الانتقال من ذرة بور إلى ميكانيكا الكَمِّ. وإنني أجد أنه من المثير للاهتمامِ للغاية أن ينتهي بحثي عن قطة شرودنجر بالانفجار الكبير، وعلم الكون، والجاذبية الفائقة والكون التضخمي؛ ذلك أنني بدأت في كتابي السابق «انثناء الفضاء» في سرد قصة الجاذبية والنسبية العامة، وانتهيت إلى المكانِ نفسِه. لم يكن ذلك هو مخطَّطي الأصلي في كلتا الحالتين، وفي كلتا الحالتين أيضًا يبدو أن الجاذبية الفائقة هي نقطةُ النهاية الطبيعية، وربما تكون تلك إشارة إلى أن التوحيد بين نظريةِ الكَمِّ والجاذبية يلوح في الأفق. بالرغم من ذلك، فليس لدينا نهايةٌ واضحة بعدُ، وأنا آمُل ألا يحدث هذا أبدًا. وكما قال ريتشارد فاينمان «من الطرق التي تؤدي إلى توقُّف العلم ألا نجري التجارب إلا حيثما نعرف القانون». والفيزياء هي استكشاف المجهول، وأضاف:

ما نحتاج إليه هو الخيال، على أن يكون خيالًا محكمًا. وعلينا أن نجد رؤيةً جديدةً للعالم تتوافق مع كل شيءٍ معروف، لكن تختلف معه في تنبؤاتها في بعض المواضع، وإلا فلن تكون مثيرةً للاهتمام. وفي ذلك الاختلاف يجب أن تتفق مع الطبيعة. فإذا استطعت أن تجد أيَّ رؤيةٍ أخرى للعالم تتفق مع النطاق الكامل لما هو مرصود بالفعل لكن تختلف في موضعٍ آخر، فستكون قد توصَّلت بذلك إلى اكتشافٍ كبير. قد يكون ذلك محالًا تقريبًا، لكن ليس تمامًا …9

إذا انتهى عمل الفيزياء في أيِّ يوم من الأيام، فإن العالم سيصبح مكانًا أقلَّ إثارةً فيما يتعلَّق بالحياة، ولهذا فإنني سعيدٌ لأنْ أتركك مع هذه النهايات المفتوحة، والتلميحات المغرية، واحتمال وجود المزيد من القصص التي لم تُروَ بعدُ، وكلٌّ منها لا تقل في عنصر الإثارة عن قصة قطة شرودنجر.

هوامش

(1) Directions in Physics, Chapter Two. Dirac is not alone in his concern; Banesh Hoffmann, in The Strange Story of the Quantum, page 213, describes renormalization as leading physics into a culde- sac. “The audacious juggling with infinities is extraordinarily brilliant. But its brilliance seems to illuminate a blind alley.”
(2) If you really want to know, the Planck length is given by the square root of Gh/c3 and the Planck time is the square root of.
(3) For example, see Wheeler’s contribution to Mehra’s The Physicist’s Conception of Nature.
(4) This borrows heavily from the approach used by Paul Davies in his book The Forces of Nature, Cambridge University Press, 1979.
(5) The W+ and W- can also be considered, of course, as one particle and its antiparticle, like the electron (e-) and the positron (e+). In case you aren’t confused enough, the W also has another name, the intermediate vector boson.
(6) Quoted in Science, 29 April 1983, volume 220, page 491.
(7) Nature, volume 232, page 440, 1971.
(8) Nature, volume 246, page 396, 1973.
(9) The Character of Physical Law, page 171.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤