الفصل الأول

الضوء

استحدث إسحاق نيوتن الفيزياء، وجاءت كل العلوم لتعتمد عليها. ولا شك أن نيوتن قد أسَّس أبحاثه على أبحاثِ آخرين غيره، إلا أن نشر قوانينه الثلاثة عن الحركة ونظرية الجاذبية منذ أكثر من ثلاثمائة سنة هو الذي وضع العِلم على الطريق الذي أدَّى إلى انطلاق رحلات الفضاء، واكتشاف أشعة الليزر، والطاقة الذرية، والهندسة الوراثية، وتكوين فهمٍ للكيمياء، وبقية العلوم كافة. على مدى مائتَي عام، سادت فيزياء نيوتن (التي تسمَّى الآن «الفيزياء الكلاسيكية») بقوةٍ وتصدَّرت القمة، وفي القرن العشرين ظهرت آراءٌ ثوريةٌ جديدة أخذت الفيزياء إلى ما هو أبعد كثيرًا من نيوتن، إلا أنه من دون هذين القرنَين من التقدُّم العلمي لم يكن لهذه الآراء الجديدة أن تتحقَّق. لا يرصد هذا الكتاب تاريخ العلوم، وهو معنيٌّ بالفيزياء الجديدة — فيزياء الكَمِّ — أكثر من تلك الأفكار الكلاسيكية. إلا أنه حتى في أبحاث نيوتن منذ ثلاثة قرون كانت هناك إشارات عن التغيرات التي ستحدث لاحقًا، والتي لم تنشأ عن دراساته لحركة الكواكب ومداراتها، ولا عن قوانينه الثلاثة الشهيرة، ولكن عن أبحاثه حول طبيعة الضوء.

تُعزى أفكار نيوتن عن الضوء كثيرًا إلى أفكاره عن سلوك الأجسام الصلبة ومدارات الكواكب. أدرك نيوتن أن خبراتنا اليومية عن سلوك الأجسام قد تكون مضلِّلة، وأن جسمًا ما — وليكن جُسيمًا — غيرَ خاضع لأي قوًى خارجيةٍ لا بد أن يختلف كثيرًا في سلوكه عن جسيمٍ موجود على سطح الأرض. وتدُلنا خبرتنا اليومية على أن الأشياء تميل إلى البقاء في مكانٍ واحد ما لم تتعرَّض للدفع، وأنه بمجرد توقُّفك عن دفعها فإنها ستتوقف قريبًا. إذن لماذا لا تتوقَّف أجسامٌ مثل الكواكب أو القمر عن الحركة في مداراتها؟ وهل يدفعها شيءٌ ما؟ أبدًا على الإطلاق. الكواكب بطبيعتها لا تكون خاضعةً لأي تدخُّلٍ خارجي، ولكنها تتدخَّل في الأجسام التي على سطح الأرض. إذا حاولتُ أن أجعل قلمًا ينزلق على سطح مكتبي، فإن دفعي القلمَ يقاومه احتكاكُ القلم بسطح المكتب، وهذا ما يجعل القلم يتوقَّف عن التدحرج عندما أتوقَّف عن دفعه. أما إذا لم يكن هناك احتكاك، فإن القلم يظل في حركةٍ دائمة. وينص القانون الأول لنيوتن على أن الجسم يظل في حالةِ سكون، أو يتحرك بسرعةٍ ثابتة، ما لم تؤثِّر عليه قوةٌ خارجية. ويخبرنا القانون الثاني بمدى التأثير الذي تمارسه قوةٌ خارجية — قوة دفع — على جسمٍ ما. فهذه القوة تغيِّر من سرعة الجسم، ويسمَّى التغيُّر الحادث في السرعة التسارع؛ وبقسمة القوة على كتلة الجسم الذي تؤثِّر فيه القوة الخارجية، يكون الناتج هو التسارع الناشئ عن تأثير القوة على الجسم. وعادة ما يُصاغ القانون الثاني بطريقةٍ مختلفة نوعًا ما: القوة تساوي حاصل ضرب الكتلة في التسارع. ويخبرنا قانون نيوتن الثالث بشيءٍ عن ردِّ فعلِ الجسم حال دفعه: لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضادٌّ له في الاتجاه. إذا ضربتُ كرة تنس بمضربي، فإن القوة التي يدفع بها المضرب كرة التنس تساوي تمامًا القوة التي تدفع المضرب إلى الخلف، والقلم الموجود على سطح مكتبي المنجذب لأسفل بفِعل الجاذبية تؤثِّر فيه قوة دفعٍ مساوية تمامًا لرد الفعل الذي يمارسه سطح المكتب نفسه، وقوة المادة المتفجرة التي تدفع الغازات إلى خارج غرفة الاحتراق في الصاروخ تُنتِج قوةً ذات ردِّ فعلٍ مساوٍ في مقداره ومضاد في اتجاهه لرد فعل الصاروخِ نفسِه، مما يدفعه في الاتجاه المضاد.

قدَّمت هذه القوانين، مع قانون الجاذبية لنيوتن، تفسيرًا لمدارات الكواكب حول الشمس ومدار القمر حول الأرض. وعندما يؤخَذ الاحتكاك في الاعتبار، فإن هذه القوانين تفسِّر كذلك سلوك الأجسام على سطح الأرض، وتكون بذلك قد شكَّلت أساس الميكانيكا. غير أنها اشتملت أيضًا على تضميناتٍ فلسفيةٍ محيِّرة. فتبعًا لقوانين نيوتن، يمكن التنبؤ بسلوك جُسَيمٍ ما بدقةٍ على أساس تفاعلاته مع الجسيمات الأخرى والقوى التي تؤثِّر عليه. ولو كان من الممكن معرفة موضعِ كلِّ جُسيم في الكون وحركته، لأصبح من الممكن إذن التنبؤ بدقةٍ تامةٍ بمستقبل كل جُسيم؛ ومن ثَم بمستقبل الكون. فهل يعني ذلك أن الخالق قد سيَّر الكون بوتيرةٍ منتظمة وأتمَّه وحرَّكه في مسارٍ يمكن التنبؤ به بدقةٍ تامة؟ أيَّدت الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن هذه النظرة الحتمية للكون ودعمتها كثيرًا، وهي نظرة لم تدَعْ للإنسان سوى القليل من حرية الإرادة أو المصادفة. فهل يمكن في الواقع أن نكون جميعًا دمًى نسير في مساراتنا المحدَّدة سلفًا في حياتنا، من دون أيِّ اختيارٍ حقيقي على الإطلاق؟ كان معظم العلماء مقتنعين بترك هذه المسألة للفلاسفة يتجادلون بشأنها. غير أن الأمر تغيَّر؛ فعادت هذه المسألة بقوة في صميم الفيزياء الجديدة في القرن العشرين.

موجاتٌ أم جُسيمات

على ضوءِ ما حقَّقته فيزياء نيوتن عن الجُسيمات من نجاح، فإنه من غير المستغرَب تمامًا أن نيوتن عندما حاول تفسير سلوك الضوء قد فسَّره من حيث الجُسيمات. ففي النهاية، يُلاحَظ أن أشعة الضوء تنتقل في خطوطٍ مستقيمة، والطريقة التي يرتدُّ بها الضوء عن سطح المرآة تشبه كثيرًا الطريقةَ التي ترتدُّ بها الكرة عن جدارٍ صلب. وقد بنى نيوتن أول تلسكوبٍ عاكس، وفسَّر الضوء الأبيض على أنه تراكبٌ من كل الألوان في قوسِ قُزَح، وأجرى الكثير من الدراسات عن علم البصريات، إلا أن نظرياته ظلت تستند إلى افتراض أن الضوء يتألَّف من تدفُّقٍ من دقائقَ صغيرة، تُسمَّى الجسيمات. تنكسر أشعة الضوء عندما تجتاز السطح الفاصل بين مادتَين، إحداهما قليلة الكثافة والأخرى كثيرة الكثافة، كأن تمرَّ من الهواء إلى الماء أو الزجاج (ولهذا السبب يبدو عودُ مزجِ المشروبات وكأنه مثنيٌّ عند وضعه في شراب الكوكتيل)، وتفسِّر نظرية الجسيمات هذا الانكسار بجلاء، شريطة أن تتحرَّك الجسيمات الدقيقة بسرعةٍ أكبرَ في المادة ذات «الكثافة الضوئية» الأكبر. ومع ذلك، فحتى في عهد نيوتن كانت هناك طريقةٌ بديلة لتفسير كل ذلك.

fig1
شكل ١-١: تمرُّ موجاتُ الماء المتوازية عبر ثقبٍ صغير في حاجز؛ حيث تنتشر من الثقب على هيئة دوائر، دون أن تترك «ظلالًا».

كان الفيزيائي الهولندي كريستيان هوجنس من معاصري نيوتن، لكنه كان يكبره بثلاثة عشر عامًا حيث وُلد سنة ١٦٢٩. وقد استحدث فكرة أن الضوء ليس تدفقًا من الجسيمات لكنه موجة، أقربُ شبهًا بالموجات التي تتحرَّك على سطح بحر أو بحيرة، إلا أنها تنتشر عبر مادةٍ غير مرئية تسمَّى «الأثير الناقل للضوء». وعلى غرار الموجات التي تحدثها حصاةٌ أُلقيت في بِركة، فإن موجات الضوء يمكن تصوُّرها على أنها تنتشر من مصدر الضوء في جميع الاتجاهات. وقد فَسَّرت النظريةُ الموجية الانعكاسَ والانكسار تمامًا مثل نظرية الجسيمات. وعلى الرغم مما قيل عن أن موجات الضوء تتحرك أبطأ خلال المادة ذات الكثافة الضوئية الأكبر بدلًا من أن تتحرك بسرعةٍ أكبر، فإنه لم تكن هناك وسيلةٌ متاحةٌ لقياس سرعة الضوء في القرن السابع عشر، ومن ثَم لم يستطِع هذا الاختلاف أن يحل التعارض بين النظريتَين. غير أن الفكرتَين تختلفان على نحوٍ ملحوظ في تنبؤاتهما، وذلك في جانبٍ أساسيٍّ واحد. فعندما يجتاز الضوء حافةً حادَّة، فإنه يُنتِج ظلًّا ذا حافةٍ حادة. وهذه هي بالضبط الطريقة التي يُفترض أن تسلكها تدفُّقات الجسيمات التي تنتقل في خطوطٍ مستقيمة. أما الموجة فإنها تنكسر، أو تحيد، متخذة طريقها خلال الظل (تذكَّر الموجات المتكوِّنة على سطح البِركة حال انكسارها حول الحصاة). منذ ثلاثمائة سنة مضت، كان هذا الدليل يصبُّ بوضوح في صالح نظرية الجسيمات، واستبعدت النظرية الموجية، وإن كانت لم تُنسَ. ولكن، بحلول القرن التاسع عشر، انعكس الوضع تمامًا بالنسبة إلى النظريتَين.

fig2
شكل ١-٢: تنتشر أيضًا الموجات الدائرية، التي تشبه تلك الموجات الناتجة عن إلقاء حصاةٍ في بِركة، في صورة موجاتٍ دائرية عبر فتحةٍ ضيقةٍ حال مرورها عبرها (وتنعكس بالطبع الموجات التي تصطدم بالحاجز مرتدةً مرةً أخرى).
في القرن الثامن عشر كان القليل جدًّا من الأشخاص يعلِّقون أهمية على النظرية الموجية للضوء. وكان أحد هؤلاء القلة والذي لم يعلِّق أهميةً على النظرية فحسب بل كتب مؤيدًا لها، العالِمَ السويسري ليونارد أويلر، رائد الرياضيات في عصره، الذي أسهم بمساهماتٍ كبيرة في تطوير الهندسة وحساب التفاضل والتكامل وحساب المثلثات. تُصاغ مبادئ الرياضيات والفيزياء في صورةِ حدودٍ حسابية باستخدام المعادلات، وقد طوَّر أويلر التقنيات التي يعتمد عليها هذا التوصيف الحسابي بصورةٍ كبيرة، وفي أثناء ذلك أدخل أويلر طرقَ الاختزال بالرموز التي ظلَّت مستخدَمة حتى الآن — يرجع إليه استخدام الاسم باي pi للإشارة إلى نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، والحرف i للإشارة إلى الجذر التربيعي لسالب واحد (الذي سنقابله مرةً أخرى، مع باي pi)، وهو الذي أدخل الرموز التي يستخدمها علماء الرياضيات لشرح العملية المسماة بالتكامل. ومع ذلك، من الغريب أن دائرة المعارف البريطانية لا تذكر آراءه حول النظرية الموجية للضوء، وهي الآراء التي قال عنها أحد معاصريه إنها لم يأتِ بها «فيزيائيٌّ واحد من علماء الفيزياء البارزين».1 كان بنجامين فرانكلين الشخصية البارزة الوحيدة بين المعاصرين لأويلر التي شاركته آراءه تلك، في حين تجاهلها الفيزيائيون بكل بساطة حتى أجرى الفيزيائي الإنجليزي توماس يونج تجاربه الجديدة الحاسمة في بداية القرن التاسع عشر، وتبِعه الفرنسي أوجستين فرينل بعد ذلك بفترةٍ وجيزة.

نجاح النظرية الموجية

استخدم يونج معرفتَه بطريقة تحرُّك الموجات على سطح بِركة ليصمِّم تجربةً لاختبارِ ما إذا كان الضوء ينتشر بالطريقةِ نفسِها أم لا. ونحن نعرف جميعًا شكلَ موجات الماء، وإن كان من المهم أن نفكِّر في التموُّجات بدلًا من الموجات المتكسِّرة الكبيرة ليكون التشبيه دقيقًا. وما يميز الموجات هو أنها ترفع مستوى الماء إلى أعلى قليلًا ثم تخفضه بمرور الموجة، ويسمَّى ارتفاعُ قمَّة الموجة فوق مستوى الماء غير المضطرب سعةَ الموجة، وفي حالة الموجة المثالية تكون هذه السعة مساويةً تمامًا لمقدار الانخفاض في مستوى الماء عند مرور الموجة. وعلى غرار التموُّجات الناتجة عن إلقاء حجرٍ في البِركة، تتتابع التموُّجات واحدةً تلو الأخرى بمسافةٍ منتظمة، تسمَّى طول الموجة، ويُقاس بين قمتَين متتاليتين. وتنتشر الموجات على شكل دوائر حول النقطةِ التي سقطت فيها الحصاة في الماء، غير أن موجات البحر أو التموُّجات التي تحدث على سطح بحيرةٍ بفعل هبوب الرياح، قد تنتشر على شكل سلسلةٍ من خطوطٍ مستقيمة من موجاتٍ متوازية الواحدة تلو الأخرى. وفي كلتا الحالتين، فإن عدد قمم الموجات التي تعبُر نقطةً ثابتةً معينة — صخرة مثلًا — في كل ثانية يخبِرنا بتردُّد الموجة. والتردُّد هو عدد الأطوال الموجية التي تمرُّ كل ثانية، وبذلك فإن سرعة الموجة، أو السرعة التي تتقدَّم بها كل قمة، تساوي طول الموجة مضروبًا في التردُّد.

fig3
شكل ١-٣: تعني قدرةُ الموجات على الانحناء حول الأركان أنها تستطيع أيضًا ملء الظل خلف حاجزٍ ما، بشرط ألا يكون الحاجز أكبرَ كثيرًا من الطول الموجي للموجات.

تبدأ التجربة الحاسمة بموجاتٍ متوازية، تشبه بالأحرى خطوطَ الموجات التي تتقدَّم نحو الشاطئ قبل تكسُّرها. ويمكنك تخيُّل هذه الموجات على أنها كالموجات الناتجة عن إلقاءِ جسمٍ كبير جدًّا في الماء على مسافةٍ كبيرة. تشبه «التموُّجات» المنتشرة في دوائرَ متناميةِ الموجات المتوازية أو المستوية إذا كنتَ بعيدًا بما يكفي عن مصدر التموُّجات؛ لأن من الصعب اكتشافَ انحناء الدوائر الكبيرة للغاية التي يقع مركزها في الموضع الذي يمثِّل بداية الاضطراب. ومن السهل التحقُّق مما يحدث لهذه الموجات المستوية في خزان مياهٍ عند وضع حاجزٍ في مسارها. إذا كان الحاجز صغيرًا، فإن الموجات ستنحني حوله وستملأ ما وراءه بواسطة الحيود، تاركةً «ظلًّا» صغيرًا جدًّا، أما إذا كان الحاجز كبيرًا جدًّا مقارنةً بالطول الموجي للتموُّجات، فإنها تنحني قليلًا باتجاه الظل المتكوِّن خلف الحاجز تاركةً مجالًا من المياه غير المضطربة. وإذا كان الضوء موجة، فلا يزال من الممكن الحصول على ظلالٍ ذات حوافَّ حادة، شريطة أن يكون الطول الموجي للضوء صغيرًا جدًّا مقارنةً بحجم الجسم الذي يلقي بظله.

fig4
شكل ١-٤: يمكن اختبار قدرة الضوء على الحيود حول الأركان وعبر الثقوب الصغيرة باستخدامِ شقٍّ أحاديٍّ لإحداث موجةٍ دائرية، وشقٍّ مزدوجٍ لإحداث تداخل.
fig5
شكل ١-٥: على غرار التموُّجات المائية المارة عبْر ثقبٍ ما، تنتشر الموجات الضوئية في دوائرَ من الشق الأول، وتتحرَّك معًا في تناغم.

والآن لنشرحِ الفكرة من ناحيةٍ أخرى. تخيَّل مجموعةً جيدة من الموجات المستوية تتقدَّم عبْر خزانِ مياه وتقترب، لا من حاجزٍ صغيرٍ محاطٍ بالماء، بل من جدارٍ كامل يسدُّ مسارها، وبه فتحة في المنتصف. إذا كانت الفتحة أكبرَ كثيرًا من الطول الموجي للموجة المضطربة، فإن جزء الموجة المواجهَ لهذه الفتحة هو فقط ما سيمرُّ؛ حيث ينتشر إلى حدٍّ ما تاركًا معظم الماء على الجانب الآخر من الحاجز دون أي اضطراب، مثل الموجات التي تضرب حاجزَ الأمواج في الموانئ وتدخل من فتحة الميناء. أما إذا كان الثقب في الجدار صغيرًا جدًّا، فإن الثقب سيكون بمثابةِ مصدرٍ جديد للموجات الدائرية، كما لو أن الحصى قد أُلْقِيَ في الماء عند هذا الموضع. وعلى الجانب الأبعد من الجدار، تنتشر هذه الموجات الدائرية (أو بتعبيرٍ أدقَّ نصف الدائرية) عبر سطح الماء دون أن تترك جزءًا دون اضطراب.

تبدو الأمور واضحةً حتى الآن. والآن نصل إلى تجربة يونج. لنتخيلِ التجربة بنفس النسق السابق، وهو خزان مياه تتحرَّك فيه موجاتٌ متوازية باتجاه حاجز، لكنه هذه المرة حاجزٌ به ثقبان صغيران. سيكون كل ثقب بمثابةِ مصدرٍ جديد للموجات نصف الدائرية في جزء الخزان الواقع خلف الحاجز، ولأن هاتين المجموعتَين من الموجات قد ولَّدتهما الموجاتُ المتوازية نفسُها على الجانب الآخر من الحاجز، فإنهما ستتحرَّكان في تناغمٍ أو في الطَّور نفسه. عندنا الآن مجموعتان من التموُّجات المنتشرة عبر المياه، الأمر الذي ينتج عنه نسقٌ أكثرُ تعقيدًا من التموُّجات على السطح. بما أن كلتا الموجتَين ترفع سطح الماء إلى أعلى، فإننا نحصل على قمةٍ أكثرَ وضوحًا، وبما أن إحدى الموجتَين تحاول إنشاء قمة والأخرى تحاول إنشاء قاع، فإنهما تتلاشيان ويبقى مستوى الماء غير مضطرب. ويطلق على هذين التأثيرَين التداخل البنَّاء والتداخل الهدَّام، ومن السهل رؤيتهما بطريقةٍ أبسطَ إذا ألقيتَ بحصاتَين في بِركة ماء في نفس اللحظة. إذا كان الضوء موجة، فإنه يمكن من خلالِ تجربةٍ مكافئة إثباتُ حدوثِ تداخلٍ مماثل بين الموجات الضوئية، وهذا بالضبط ما اكتشفه يونج.

fig6
شكل ١-٦: تتداخل الموجات الدائرية التي تتحرَّك خارجةً من كل ثقب في حاجز الشق المزدوج لتوليد نسقٍ من الضوء والظل على الشاشة، وهو ما يثبت بوضوح، في سياق هذه التجربة، أنَّ الضوء يماثل في سلوكه سلوكَ الموجات.

سلَّط يونج ضوءًا على حائلٍ يعترض مسار الضوء وبه شقَّان رفيعان. خلف الحائل، انتشر الضوء من الثقبَين وتداخل. وعلى افتراض أن تشبيه الضوء بموجات الماء صحيح، لا بد أن يتكوَّن نسقُ تداخلٍ خلفَ الحائل يتضمَّن على التناوب مناطقَ شديدةَ الإضاءة وأخرى معتمة، وهو ما يرجع إلى التداخل البنَّاء والتداخل الهدَّام للموجات المارة عبْر كل شق. وهذا بالضبطِ ما شاهده يونج عندما وضع شاشةً بيضاء اللون خلف الشقَّين؛ حيث انتشرت نطاقاتٌ متناوبة من الضوء والظل على طول الشاشة.

غير أن تجربة يونج لم تُشعِل حماس عالَم العلوم، لا سيَّما في بريطانيا. فقد كانت المؤسَّسة العلمية هناك تنظر إلى معارضةِ أي فكرة من أفكارِ نيوتن على أنها ربما تكون ضربًا من الهرطقة، وأنها بالتأكيد خيانةٌ للولاء الوطني. مات نيوتن سنة ١٧٢٧، وسنة ١٧٠٥ — أي قبل أن يُصرِّح يونج باكتشافه بأقلَّ من مائة عام — أصبح أولَ عالِمٍ يحصل على لقب «فارس». وكان من السابق لأوانه أن يُخلَع هذا الشخص المبجَّل لدى شعبه عن عرشه في إنجلترا، ومن ثَمَّ ربما كان من المناسب في عصر حروب نابليون أن يتبنَّى رجلٌ فرنسي، وهو أوجستين فرينل، هذه الفكرةَ «غير الوطنية» ويضع في نهاية المطاف التفسير الموجي للضوء. ومع أنه لم يفصِل بين أبحاث فرينل وأبحاث يونج سوى بضع سنوات، فإنها كانت أكثرَ اكتمالًا؛ حيث قدَّمت تفسيرًا موجيًّا لكل الجوانب تقريبًا المتعلقة بسلوك الضوء. على سبيل المثال لا الحصر، فسَّر فرينل ظاهرةً مألوفة لنا جميعًا اليوم، وهي الانعكاسات الملوَّنة الجميلة التي تحدُث عند سقوط الضوء على طبقةٍ رقيقة من الزيت. ويرجع السبب مجددًا في هذه الظاهرة إلى تداخل الموجات. ينعكس بعض الضوء من السطح العلوي لطبقة الزيت، بينما ينفُذ البعض الآخر وينعكس على السطح السفلي لطبقة الزيت. ومن ثَم، فهناك شعاعان مختلفان ينعكسان ويتداخلان أحدهما مع الآخر. ونظرًا إلى أن كل لون من ألوان الضوء يقابله طولٌ موجيٌّ مختلِف، والضوء الأبيض يتألَّف من تراكبٍ من كل ألوان قوسِ قُزَح، فإن انعكاس الضوء الأبيض من طبقة الزيت سيولِّد كتلةً من الألوان؛ لأن بعض الموجات (الألوان) تتداخل على نحوٍ هدَّام، بينما يتداخل بعضها الآخر على نحوٍ بنَّاء، وذلك تبعًا للنقطة التي تنظر منها إلى طبقة الزيت.

وعندما توصَّل عالِمُ الفيزياء الفرنسي ليون فوكو — الذي اشتهر بالبندول الذي يحمل اسمه — في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن سرعة الضوء أقلُّ في الماء عنها في الهواء، على عكس تنبؤات نيوتن في نظرية الجسيمات، لم يزِد ذلك عما توقَّعه أيُّ عالِم حَسن السمعة. وبحلول ذلك الوقت، كان «الجميع يعرف» أن الضوء شكلٌ من أشكال الحركة الموجية تنتشر خلال الأثير، أيًّا كان ما يعنيه الأثير. ومع ذلك، ربما كان من الجيد معرفة الشيء الذي «يسلك سلوك الموجة» في شعاع الضوء. وفي فترتَي الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، بدا أن نظرية الضوء قد اكتملت أخيرًا عندما أثبت عالِم الفيزياء الاسكتلندي العظيم جيمس كلارك ماكسويل وجود موجات تتضمَّن مجالاتٍ كهربيةً ومغناطيسيةً متغيرة. وقد تنبَّأ ماكسويل بأن هذه الإشعاعات الكهرومغناطيسية تتضمَّن أنماطًا من مجالاتٍ كهربية ومغناطيسية أقوى وأضعف بالطريقة نفسِها التي تتضمَّن بها موجات الماء قممًا وقيعانًا في منسوب الماء. وقد نجح هاينريش هيرتز سنة ١٨٨٧ في بث واستقبال إشعاع كهرومغناطيسي على هيئة موجات راديو، تشبه موجات الضوء لكنها ذات أطوالٍ موجيةٍ أطول. وأخيرًا اكتملت النظرية الموجية للضوء، في فترةٍ انقلبت فيها المفاهيم من جرَّاء الثورة العظمى التي شهدها التفكير العلمي منذ عهد نيوتن وجاليليو. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن ليقترح أحد أن الضوء عبارة عن جُسيمات إلا إن كان عبقريًّا أو أحمق. وكان اسم هذا الشخص ألبرت أينشتاين، ولكن قبل أن نفهم السبب الذي دفعه إلى اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، لا بد لنا من معرفة المزيد عن أفكار الفيزياء في القرن التاسع عشر.

هوامش

(1) Quote from page 2 of Quantum Mechanics, by Ernest Ikenberry; see bibliography.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤