الفصل الثالث

الضوء والذرات

استندت المفارقة التي أثارها نموذج رذرفورد إلى الحقيقة المعروفة بأن الشحنة الكهربية المتحركة بتسارعٍ تشعُّ طاقةً على شكلِ إشعاعٍ كهرومغناطيسي؛ قد يكون في صورة ضوء، أو موجات راديو، أو شيءٍ من هذا القبيل. إذا كان الإلكترون يقبع دون حركة خارج نواة الذرة، فلا بد له من السقوط داخل النواة، وبذلك لن تصبح الذرة ثابتةً ومستقرة. وبانهيار الذرة، فإنها لا بد أن تطلِق حزمةً مفاجئةً من الطاقة تشبه الانفجار. والطريقة الواضحة للرد على ميل الذرة إلى الانهيار هي أن نتصوَّر أن الإلكترونات تدور في مداراتٍ حول النواة، مثل الكواكب التي تدور في مداراتها حول الشمس في مجموعتنا الشمسية. غير أن الحركة المدارية (الحركة في مدارات) تنطوي على تسارعٍ مستمر. وقد لا تتغير سرعة الجسم الذي يدور في مداره، إلا أن الاتجاه الذي يتحرَّك فيه يتغير، ويحدِّد كلٌّ من السرعة والاتجاه السرعةَ المتجهة، وهو الأمر الذي يعنينا. ومع تغيُّر السرعة المتجهة للإلكترونات، فإنها لا بد أن تشعَّ طاقة، ونظرًا لما تفقده من طاقةٍ من جرَّاء ذلك، فإنها لا بد أن تسقط في مسارٍ حلزوني إلى داخل النواة. ولم يستطِع الباحثون في الجانب النظري استبعاد احتمالية انهيار ذرة رذرفورد حتى بافتراض حدوث الحركة المدارية.

وعندما نُقِّح هذا النموذج، بدأ الباحثون في الجانب النظري من صورة الإلكترونات وهي تدور في مداراتٍ حول النواة، وحاولوا إيجادَ طرقٍ للاحتفاظ بهذه الإلكترونات في مداراتها دون أن تفقد طاقةً وتنهارَ في مسارٍ حلزوني إلى داخل النواة. ولم تكن تلك سوى نقطة بداية طبيعية تتواءم على نحوٍ جيدٍ مع التشبيه الواضح بالمجموعة الشمسية. إلا أن ذلك كان خطأً. وكما سنرى فيما بعدُ، فإن ذلك لا يختلِف عن التفكير في الإلكترونات على أنها تقبع دون حركةٍ في الفضاء على مسافةٍ معينةٍ من النواة، ولا تدور حولها. وتظل المشكلة قائمة: كيف نوقِف سقوطَ الإلكترونات إلى الداخل؟ ولكن الصورة التي أثارها هذا التساؤل في الأذهان مختلِفة جدًّا عن صورة الكواكب التي تدور حول الشمس، وهو أمرٌ جيد تمامًا. وكانت الحيلة التي استخدمها الباحثون النظريون لتفسير عدم سقوط الإلكترونات واحدةً، سواء استخدمنا تشبيهَ الحركة المدارية للكواكب أم لا، وهو تشبيهٌ متكرِّر ومضلِّل. فالصورة التي لا يزال معظمُ الناس يحتفظون بها في أذهانهم، سواء من الدراسة أو من المقالات المبسَّطة، هي أن الذرة تشبه بالأحرى المجموعةَ الشمسية؛ حيث تتكوَّن من نواةٍ دقيقة في المركز تدور حولها الإلكترونات في مداراتٍ دائرية. وبناءً على هذا الافتراضِ ينبغي لنا أن نتخلَّص من تلك الصورة، ونحاول الاقتراب من العالَم الغريب للذرة — عالَم ميكانيكا الكَمِّ — بعقلٍ متفتِّح. لنفكِّرْ ببساطة في النواة والإلكترونات الموجودَين معًا في الفراغ، ونسأل: لماذا لا يتسبَّب التجاذب بين الشحنات الموجبة والسالبة في انهيار الذرة وإطلاق طاقةٍ في هذه الأثناء؟

في هذا الوقت الذي بدأ فيه الباحثون النظريون محاولاتهم لحل هذه المفارقة في العَقد الثاني من القرن العشرين، حدثت الاكتشافات الحاسمة التي قدَّمت لهم نموذجًا منقَّحًا للذرة. وقد اعتمدوا في ذلك على دراساتهم للطريقة التي تتفاعل بها المادة (الذرات) مع الإشعاع (الضوء).

وفي بداية القرن العشرين كانت أفضل وجهة نظر علمية حول العالَم الطبيعي تتطلَّب فلسفةً مزدوجة. فمن الممكن وصف الأجسام المادية بمدلول الجسيمات أو الذرات، لكن الإشعاع الكهرومغناطيسي، الذي يتضمَّن الضوء، لا بد من وصفه بمدلول الموجات. ومن ثَم، قدَّمت الطريقةُ التي يتفاعل بها الضوءُ والمادةُ أفضلَ فرصةٍ فيما يبدو لتوحيد الفيزياء في بداية القرن العشرين. غير أن النقطة التي انهارت عندها الفيزياء الكلاسيكية، التي كانت قد نجحت في كل مجالٍ آخر تقريبًا، هي محاولة تفسير الطريقة التي يتفاعل بها الإشعاع مع المادة.

إنَّ أبسطَ طريقة لمشاهدة الكيفية (حرفيًّا) التي تتفاعل بها المادة مع الإشعاع هي النظرُ إلى جسمٍ ساخن. يشع الجسم الساخن طاقةً كهرومغناطيسية، وكلما كانت حرارة الجسم أعلى أطلق كميةً أكبرَ من الطاقة، بأطوالٍ موجية أقصر (تردُّدات أعلى). وهكذا فإن عصا المدفأة الساخنة لدرجةِ الاحمرار تكون أقلَّ سخونة من تلك الساخنة لدرجة البياض، وعصا المدفأة الباردة للدرجة التي لا تشعُّ عندها ضوءًا مرئيًّا ربما لا تزال دافئة؛ وذلك لأنها تطلِق أشعةً تحت حمراء منخفضة التردُّد. وحتى في نهاية القرن التاسع عشر كان من الواضح إلى حدٍّ ما ضرورة الربط بين الإشعاع الكهرومغناطيسي وحركة الشحنات الكهربية الدقيقة. كان الإلكترون نفسُه قد اكتُشِف حديثًا في ذلك الوقت، لكن كان من السهل رؤية الكيفية التي يتذبذب بها جزءٌ مشحون من ذرة (فيما نعرِّفه الآن بالإلكترون) للأمام وللخلف لينتج تدفقًا من الموجات الكهرومغناطيسية، بطريقةٍ لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي يمكنك بها صنْع تموجاتٍ مائية بتحريك إصبعك للأمام وللخلف في حوض الاستحمام. وكانت المشكلة أن أفضل النظريات الكلاسيكية — الميكانيكا الإحصائية والفيزياء الكهرومغناطيسية — تنبَّأت بشكلٍ من أشكال الإشعاع مختلِفٍ جدًّا عن النوع الذي شوهِد فعليًّا انبعاثه من الأجسام الساخنة.

لغز الجسم الأسود

للتوصُّل إلى مثل هذه التنبؤات، استخدم الباحثون النظريون، كعادتهم دائمًا، مثالًا نموذجيًّا خياليًّا، وهو في هذه الحالة ماصٌّ أو باعث للإشعاع. ويُسمَّى مثل هذا الجسم ﺑ «الجسم الأسود»؛ لأنه يمتص كل الإشعاع الذي يسقط عليه. ولكنه اختيارٌ غير موفَّق للاسم؛ إذ يتضح أن الجسم الأسود هو أيضًا الأكثر كفاءة في تحويل الطاقة الحرارية إلى إشعاعٍ كهرومغناطيسي، كما أن الجسم الأسود يمكن أن يكون ساخنًا لدرجةِ الاحمرار أو البياض، وفي بعض الأحوال يكون سطحُ الشمس نفسُه بالأحرى بمثابةِ جسمٍ أسود. ولكن على عكس الكثير من المفاهيم المثالية للباحثين النظريين، فإن من السهل تحضيرَ جسمٍ أسود في المختبر. كلُّ ما عليك هو أن تأخذ كرةً مجوَّفة أو أنبوبًا مغلقًا من طرفَيه، وتصنع ثقبًا صغيرًا في جانب الكرة أو الأنبوب. فإذا دخل أي إشعاع، كضوء مثلًا، من خلال الثقب، فإنه سيُحتجَز بالداخل، وسيرتدُّ على الجدران حتى يُمْتص، ومن المستبعد أن يرتد الشعاع ليخرج من الثقب الذي دخل منه، وبذلك فإن الثقب يصبح في الواقع جسمًا أسود. ومن ثَم، صيغ الاسم الألماني البديل للإشعاع وهو إشعاع التجويف.

ومع ذلك، فإن ما يعنينا بالقدْر الأكبر هو ما يحدث للجسم الأسود عند تسخينه. ومثلما يحدث مع عصا المدفأة، فإنه يسخن أولًا ثم يتوهَّج لدرجةِ الاحمرار أو البياض حسب درجة حرارته. ومن الممكن دراسة طيف الإشعاع المنبعث — كمية الإشعاع عند كل طولٍ موجي — في المختبر، بملاحظةِ ما يصدر عن ثقبٍ صغير في جانبِ وعاءٍ ساخن، وقد أثبتت مثل هذه الدراسات أن الأمر يعتمد فقط على درجة حرارة الجسم الأسود. ويوجد القليل جدًّا من الإشعاع عند الأطوال الموجية الشديدة القصر (تردُّدات عالية)، والقليل جدًّا عند الأطوال الموجية المفرطة الطول، وستقع معظم الطاقة المنبعثة في نطاقٍ متوسط من التردُّدات. وتُزاح النهاية العظمى للطيف (أي ذروته) تجاه الأطوال الموجية الأقصر كلما ازدادت سخونة الجسم وحرارته (من تحت الحمراء، إلى الحمراء، إلى الزرقاء، إلى فوق البنفسجية)، إلا أنه دائمًا ما يوجد انقطاع في الطيف عند الأطوال الموجية القصيرة للغاية. وهذا ما جعل قياسات إشعاع الجسم الأسود التي جرت خلال القرن التاسع عشر تتعارض مع النظرية.

وعلى الرغم من غرابة الأمر، فإن أفضل التنبؤات تبعًا للنظرية الكلاسيكية تتفق على أن التجويف المملوء بالإشعاع لا بد أن يحتوي دومًا على كميةٍ لا نهائية من الطاقة عند أقصر الأطوال الموجية؛ أي إنه بدلًا من النهاية العظمى في طيف الجسم الأسود والانخفاض إلى المستوى صفر من الطاقة عند طولٍ موجيٍّ مقداره صفر، من المفترض أن تزيد قيمُ القياسات زيادةً كبيرةً للغاية عند الطرف الخاص بالأطوال الموجية القصيرة. وقد صيغت العمليات الحسابية بناءً على الافتراض الذي يبدو طبيعيًّا في ظاهره بإمكانية التعامل مع موجات الإشعاع الكهرومغناطيسي في التجويف بالطرقِ نفسِها التي تُعامَل بها الموجات على الأوتار، كأوتار الكمان، وأنه من الممكن أن توجد موجات بجميع الأحجام؛ أي بأي طولٍ موجي أو تردُّد. ونظرًا لوجودِ أطوالٍ موجية (أنماط تذبذب) كثيرة للغاية للتعامل معها، فلا بد من الاستعانة بقوانين الميكانيكا الإحصائية والانتقال بها من عالَم الجسيمات إلى عالَم الموجات للتنبؤ بالمظهر العام للإشعاع في التجويف، الأمر الذي يؤدي مباشرةً إلى استنتاجِ أن الطاقة المشعَّة عند أي تردُّد تتناسب طرديًّا مع ذلك التردُّد. والتردُّد هو معكوس الطول الموجي، وبذلك فإن الأطوال الموجية القصيرة للغاية تكون ذات تردداتٍ عالية للغاية. وعليه، فإن كل إشعاعات الجسم الأسود لا بد أن تنتِج كمياتٍ ضخمةً من الطاقة العالية التردد، في المنطقة فوق البنفسجية وما بعدها. فكلما زاد التردُّد زادت الطاقة. ويطلَق على هذا التنبؤ «الكارثة فوق البنفسجية»، وهي توضِّح أنه لا بد من وجودِ خطأ ما في الافتراضات التي بُنيت عليها هذه التنبؤات.

غير أنه لم يثبت خطأ كل شيء. فعلى الجانب الخاص بالترددات المنخفضة في منحنى الجسم الأسود، جاءت المشاهدات متوافِقةً بصورةٍ جيدة جدًّا مع التنبؤات القائمة على النظرية الكلاسيكية، المعروفة باسم قانون رايلي-جينز. وعلى الأقل، فإن النظرية الكلاسيكية ليست صحيحةً تمامًا. وتكمُن المشكلة في أنَّ طاقةَ التذبذبِ عند التردُّدات العالية لا تكون كبيرةً للغاية، بل إنها في الواقع تنقطع وتصبح صفرًا عندما يزداد تردُّد الإشعاع.

وقد اجتذبت هذه المشكلة اهتمامَ كثيرٍ من الفيزيائيين في العَقد الأخير من القرن التاسع عشر. وكان أحد هؤلاء الفيزيائيين هو ماكس بلانك، وهو عالِمٌ ألماني من المدرسة القديمة. كان بلانك في أعماقِ نفسِه من أنصار الاتجاه المحافظ في العلم، وليس الثوري، وكان مجتهدًا ودقيقًا جدًّا في عمله. وكان اهتمامه الخاص ينصبُّ على الديناميكا الحرارية، وكان أمله الأكبر في ذلك الوقت أن يحُلَّ الكارثة فوق البنفسجية بتطبيق قواعد الديناميكا الحرارية. وفي أواخر العَقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت هناك معادلتان تقريبيتان معروفٌ عنهما أنهما تقدِّمان فيما بينهما تمثيلًا تقريبيًّا لِطَيف الجسم الأسود. تعاملت نسخةٌ مبكِّرة من قانون رايلي-جينز مع الأطوال الموجية الطويلة، ووضع فيلهلم فيين صيغةً توافقت تقريبًا مع المشاهدات المتعلِّقة بالأطوال الموجية القصيرة، و«تنبأت» كذلك بالطول الموجي الذي تقع عنده النهاية العظمى للمنحنى عند أي درجة حرارة. كانت نقطة الانطلاق التي بدأ منها بلانك هي النظر في الكيفية التي تشعُّ بها المذبذبات الكهربية الصغيرة وميضَ الموجات الكهرومغناطيسية وتمتصُّه، وهو نهجٌ مختلِف عما اتبعه رايلي في بداية القرن العشرين وجينز بعده بقليل، لكنه كان النهج الذي أعرب بدقةٍ عن المنحنى القياسي الذي اكتمل بالكارثة فوق البنفسجية. وقد عمل بلانك من سنة ١٨٩٥ وحتى سنة ١٩٠٠ على هذه المشكلة ونشر العديد من المقالات البحثية المؤثِّرة التي أرست العلاقة بين الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربية، لكنه لم يكن قد توصَّل بعدُ إلى حلٍّ للغز طيف الجسم الأسود. وسنة ١٩٠٠، أحدث طفرةً وأحرز تقدُّمًا مفاجئًا في هذا الصدد، ولم يكن ذلك نتيجةَ بصيرةٍ علمية تتسم بالتميز والرصانة والمنطقية، بل كان ذلك نتاج شعور باليأس امتزج فيه الحَظُّ والبصيرةُ مع ما حالفه به الحظُّ من فهمٍ خاطئ لواحدة من الأدوات الرياضية التي كان يستخدمها.

ولا شك أنه لا أحد اليوم يستطيع أن يجزم بصورةٍ قاطعة بما كان يدور في ذهن بلانك عندما اتخذ الخطوة الثورية التي أدَّت إلى ظهور ميكانيكا الكَمِّ، إلا أن أبحاثه قد خضعت للدراسة على نحوٍ مفصَّل على يد مارتن كلاين في جامعة يل، الذي كان في ذلك الوقت الذي شهِد نشأةَ نظريةِ الكَمِّ مؤرخًا متخصصًا في تاريخ الفيزياء. وقدَّم كلاين من خلال إعادة صياغته للأجزاء التي أسهم بها كلٌّ من بلانك وأينشتاين في نشأة هذه النظرية، تفسيرًا من أوثقِ التفسيرات التي يمكن الحصول عليها، ووضعَ الاكتشافاتِ في سياقِ تاريخٍ مقنع. جاءت الخطوة الأولى في أواخر صيف سنة ١٩٠٠ ولم يكن للحظ دور فيها على الإطلاق، بل كانت تُعزى برُمَّتها إلى بصيرةِ عالِم فيزياء رياضية متمرِّس. فقد أيقن بلانك أن الوصفَين غير المكتملَين لِطَيْف الجسم الأسود يمكن دمجهما في صيغةٍ رياضيةٍ واحدةٍ بسيطة تصفُ شكل المنحنى بأكمله، وقد استخدم في الواقع قدْرًا ضئيلًا من الخداع الرياضي لسد الثغرة بين الصيغتَين: قانون فيين وقانون رايلي-جينز. وحقَّق في ذلك نجاحًا هائلًا. فقد توافقت معادلة بلانك على نحوٍ رائع مع مشاهدات إشعاع التجويف. ولكن على النقيض من القانونَين غيرِ المكتملَين اللذين بُنيتْ عليهما، لم تكن معادلة بلانك تستند إلى أساسٍ فيزيائي. وقد حاول كلٌّ من فيين ورايلي — بل بلانك أيضًا في السنوات الأربع السابقة على ذلك — وضْعَ نظريةٍ تبدأ من افتراضاتٍ فيزيائية معقولة لتصل في النهاية إلى منحنى الجسم الأسود. وهكذا استطاع بلانك أن يتوصَّل إلى المنحنى الصحيح، ولكن لم يعرِف أحدٌ ما الافتراضاتُ الفيزيائيةُ المرتبِطةُ بهذا المنحنى. وقد اتضح أنها لم تكن معقولةً بدرجةٍ كبيرة على الإطلاق.

ثورة ليست موضع ترحيب

أُعلنَ عن معادلة بلانك في اجتماعٍ للجمعية الفيزيائية في برلين في أكتوبر ١٩٠٠. وعلى مدى الشهرَين التاليَين، انشغل بلانك كليةً بمسألةِ إيجادِ أساسٍ فيزيائي للقانون؛ حيث حاول الدَّمج بين افتراضاتٍ فيزيائيةٍ مختلفة ليرى أيُّها يناسب المعادلات الرياضية. وقد صرَّح فيما بعدُ بأن هذه الفترة كانت أكثر الفترات التي شهِدت عملًا مكثفًا في حياته كلها. وقد باءت محاولاته العديدة بالفشل إلى أن أصبح بلانك أخيرًا أمامَ بديلٍ واحد فقط، لم يكن موضعَ ترحيب من جانبه.

وقد وصفتُ بلانك على أنه فيزيائيٌّ من المدرسة القديمة، وكان كذلك بالفعل. فقد كان في أبحاثه المبكِّرة يعارض تقبُّل الفرضية الجزيئية، وكان يرفض على وجه الخصوص فكرةَ التفسير الإحصائي للخاصية المعروفة بالإنتروبيا (القصور الحراري)، وهو تفسيرٌ أدخله بولتزمان في علم الديناميكا الحرارية. والإنتروبيا مفهومٌ أساسي في الفيزياء، وتتعلَّق في أساسها بالتدفُّق الزمني. ومع أن القوانين البسيطة للميكانيكا — قوانين نيوتن — تقبَل العكس تمامًا فيما يتعلَّق بالزمن، فإننا نعلم أن العالَم الواقعي لا يكون كذلك. لنفترض أن حجرًا سقط على الأرض. عندما يصطدم الحجر بالأرض تتحوَّل طاقة حركته إلى حرارة. لكن إذا وضعنا حجرًا مماثلًا على الأرض وسخنَّاه بنفس المقدار، فإنه لن يقفز في الهواء. فلماذا لا يقفز؟ في حالة الحجر الذي يسقط على الأرض تتحوَّل صورةٌ منسَّقة من الحركة (كل الذرات والجزيئات تسقط في نفس الاتجاه) إلى صورةٍ فوضوية غير منسَّقة من الحركة (كل الذرات والجزيئات يتدافع بعضها تجاه بعض بقوةٍ هائلة ولكن بعشوائية). ويتَّفق ذلك مع أحد قوانين الطبيعة الذي يشترط فيما يبدو أن تزداد الفوضوية وعدم التناسق باستمرار، ويُعرَف عدمُ التناسق بهذا المفهوم بالإنتروبيا أو عشوائية النظام. وهذا القانون هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وينصُّ على أن العمليات الطبيعية تتجه دائمًا نحو زيادة الفوضوية وعدم التناسق، أو على أن الإنتروبيا تزداد باستمرار. فإذا وضعت طاقةً حرارية مضطربة في حجر، فإنه في هذه الحالة لا يستطيع استخدام هذه الطاقة لإحداثِ حركةٍ منسقة لكل الجزيئات في الحجر بحيث تقفز معًا إلى أعلى.

أم تُرى من الممكن ذلك؟ أدخل بولتزمان تعديلًا مغايرًا في هذا الموضوع. قال بولتزمان إن مثل هذا الحدث الاستثنائي قد يحدث، لكنه بعيد الاحتمال للغاية. وبالطريقة نفسها، ونتيجة للحركة العشوائية لجزيئات الهواء، من الممكن أن يتركَّز هواء الغرفة كلُّه فجأةً في الأركان (لا بد أن يوجد أكثر من ركن؛ لأن الجزيئات تتحرَّك في الفراغ في ثلاثةِ أبعادٍ مكانية)، إلا أنه من المستبعَد أيضًا حدوث هذا الاحتمال حتى إنه يمكن تجاهله فيما يتعلَّق بكل الأغراض العملية. عارض بلانك هذا التفسير الإحصائي للقانون الثاني للديناميكا الحرارية معارضةً شديدةً وطويلة الأمد، واتخذت هذه المعارضة شكلًا علنيًّا كما ضمَّنها في مراسلاته مع بولتزمان. فقد كان القانون الثاني بالنسبة إليه قانونًا مطلقًا؛ إذ يجب أن تزداد الإنتروبيا دائمًا، دون تدخُّل من الاحتمالات في ذلك. وعليه، فمن السهل أن نتفهَّم الإحساس الذي ألمَّ ببلانك قرب نهاية العَقد الأول من القرن العشرين عندما حاول على مضضٍ — بعدما استهلك كلَّ الخيارات الأخرى — أن يُضمِّن نسخةَ بولتزمان الإحصائية للديناميكا الحرارية في حساباته لِطَيْف الجسم الأسود، وتبيَّن له أنها تصلح لذلك. ولكن ازدادت حدةُ المفارقة التي انطوى عليها الوضع بحقيقةِ أنه نظرًا لجهله بمعادلات بولتزمان، فقد طَبَّقها بطريقةٍ متضاربةٍ وغير متسقة. وهكذا حصل بلانك على الإجابة الصحيحة، ولكن للتفسير الخطأ. ولم تتضح الأهمية الحقيقية لأبحاث بلانك إلا عندما تناول أينشتاين الفكرة وتولَّى توضيحها.

ويجدُر بنا التأكيد على أن بلانك عندما أثبت أن تفسير بولتزمان الإحصائي لزيادة الإنتروبيا هو أفضل وصف للواقع كان ذلك بمثابةِ تطوُّرٍ كبير في العلوم. وتبعًا لأبحاث بلانك، فإن زيادةَ الإنتروبيا هي في الواقع أمرٌ لا يحتمل الشكَّ مطلقًا، ولكنه لا يمكن أن يؤخَذ على محمل اليقين المطلَق على الرغم من احتماليته الكبيرة في الحقيقة. ولهذا الأمر نتائجُه المهمة في علم الكون، وهو علم دراسة العالَم ككلٍّ؛ حيث نتعامل مع امتدادات شاسعة للزمان والمكان. فكلما اتسع النطاق الذي نتعامل معه، زادت فرص حدوث الأشياء البعيدة الاحتمال في مكانٍ ما، وأحيانًا داخل هذا النطاق. بل من المحتمل أيضًا (وإن كان لا يزال احتمالًا بعيدًا للغاية) أن يمثِّل العالَمُ كلُّه، الذي هو مكانٌ منظَّم على العموم، نوعًا من التأرجحات الإحصائية الديناميكية الحرارية، وهو تراجعٌ هائل ونادر جدًّا أدَّى إلى نشوء نطاقٍ منخفضِ الإنتروبيا آخذ في التقلُّص حاليًّا. ومع ذلك، أوضحَ «خطأُ» بلانك أمرًا أكثرَ أهميةً عن طبيعة الكون.

تضمَّن المدخل الإحصائي الذي انتهجه بولتزمان في الديناميكا الحرارية تقسيم الطاقة إلى مقاديرَ صغيرةٍ رياضيًّا، والتعامل مع هذه المقادير الصغيرة على أنها كمياتٌ حقيقية يمكن التعامل معها بواسطة معادلات الاحتمالات. بالنسبة إلى الطاقة التي قُسِّمت إلى أجزاء قبل هذه الخطوة من العملية الحسابية، لا بد من تجميعها (دمجها) بعد ذلك في مرحلةٍ لاحقة، للحصول على الطاقة الكلية؛ وهي في هذه الحالة الطاقة المقابلة لإشعاع الجسم الأسود. وفي منتصف هذه العملية الحسابية، أيقن بلانك أنه قد حصل بالفعل على الصيغة الرياضية التي كان يبحث عنها. وقبل أن يصل إلى مرحلة دمج أجزاء الطاقة ليحصُلَ على الطاقة الكلية المتصلة، كانت معادلة الجسم الأسود قابعةً هناك في الرياضيات. ومن ثَم استخدمها بلانك. وكانت هذه خطوةً متطرِّفة للغاية، وغير مبرَّرة بالمرة في سياق الفيزياء الكلاسيكية.

ولو أن أيَّ عالِم من علماء الفيزياء الكلاسيكية الأكفاء بدأ بمعادلات بولتزمان ليضعَ صيغةً لإشعاع الجسم الأسود لكان قد أتمَّ عملية الدمج والتكامل لأجزاء الطاقة. وعندئذٍ، كما أوضح أينشتاين فيما بعدُ، كان تجميع أجزاء الطاقة سيؤدي إلى إعادة الكارثة فوق البنفسجية في واقع الأمر. وأشار أينشتاين إلى أن أيَّ تعامُلٍ كلاسيكي مع المشكلة سيؤدي حتمًا إلى هذه الكارثة. وفقط لأن بلانك كان يعرف الإجابةَ التي يبحث عنها، فقد كان قادرًا على التوقُّف دون استكمال الحل الكلاسيكي الكامل للمعادلات، والذي بدا حلًّا صحيحًا. ونتيجةً لذلك، وجد نفسه أمام أجزاءٍ من الطاقة تستوجب تفسيرًا لها. وقد فسَّر بلانك هذا التقسيم الظاهر للطاقة الكهرومغناطيسية إلى أجزاءٍ فرديةٍ بأنه يعني أن المذبذبات الكهربية داخل الذرة يمكنها فقط أن تبعث الطاقة أو تمتصها على شكلِ أجزاءٍ كبيرة ذاتِ مقدارٍ معيَّن، تسمَّى الكوانتا (الكَمِّ). وبدلًا من تقسيمِ الكَمِّية المتاحة من الطاقة بعددٍ لا نهائي من الطرق، فإنه من الممكن فقط تقسيمُها إلى عددٍ محدَّد من الأجزاء بين المذبذبات، وأن طاقة جزءٍ كهذا من الإشعاع لا بد أن تعتمد على تردُّدها (ويُرمز له بالحرف الإغريقي نو ) تبعًا للصيغة الجديدة:
حيث h ثابتٌ جديد، يُسمَّى الآن ثابتَ بلانك.

ما هو h؟

من السهل معرفةُ الكيفية التي حلَّت بها هذه المعالجةُ الكارثةَ فوق البنفسجية. عند التردُّدات المرتفعة للغاية، تكون الطاقةُ اللازمة لإطلاقِ كَمٍّ واحد من الإشعاع كبيرةً جدًّا، ولن يملِك مثل هذه الطاقة الهائلة إلا عددٌ قليل من المذبذبات (تَبعًا للمعادلات الإحصائية)، وبذلك لن ينبعث سوى عددٍ قليل من الكَمَّات العالية الطاقة. أما عند الترددات المنخفضة للغاية (الأطوال الموجية الطويلة)، فتنبعث أعدادٌ كبيرة جدًّا من الكوانتات المنخفضة الطاقة، ولكنَّ كلًّا منها لا يملك إلا مقدارًا ضئيلًا للغاية من الطاقة؛ ومن ثَم فإن مجموعها إذا أُضيف بعضها إلى بعض لا يعطي قيمة تُذكَر. وبالنسبة إلى المذبذبات التي تمتلك طاقةً كافية لانبعاث الإشعاع بمقاديرَ متوسطةِ الحجم، تضاف معًا لينتج عنها النهاية العظمى في منحنى الجسم الأسود، ولا توجد هذه المذبذبات بأعدادٍ وفيرة إلا في النطاق الأوسط من الترددات.

غير أن اكتشاف بلانك، الذي أُعلِن عنه في ديسمبر ١٩٠٠، قد أثار من الأسئلة أكثرَ مما أجابَ عنه، وفشل في إثارة الحماس في عالَم الفيزياء. وليست المقالات العلمية المبكِّرة التي قدَّمها بلانك عن نظريةِ الكَمِّ بالقدْر الأمثل من الوضوح (وهو ما قد يعكس الطريقةَ المضطرِبةَ التي اضطُرَّ فيها إلى إقحام فكرته في الديناميكا الحرارية المحبَّبة إلى نفسه)، وعلى مدى فترةٍ طويلة كان كثير من الفيزيائيين الذين على علمٍ بأبحاثه — بل معظمهم — ينظرون إليها على أنها ببساطة حيلةٌ رياضية، وذريعة للتخلُّص من الكارثة فوق البنفسجية التي لا تحظى إلا بأهميةٍ فيزيائيةٍ محدودة أو تكاد تكون منعدمة. بل حتى ليس لها منه شيء، وبالتأكيد كان بلانك نفسه مشوَّشًا، وقد كتب في أحد خطاباته إلى روبرت ويليام وود سنة ١٩٣١ ملقيًا نظرةً على أبحاثه سنة ١٩٠٠ قائلًا: «يمكن أن أصفَ الإجراء برُمَّته على أنه ضربٌ من اليأس … كان لا بد من إيجادِ تفسيرٍ نظري بأي ثَمن، مهما بلغت فداحته.»1 لكنه كان يعلم أنه قد عثر على شيءٍ ذي مغزًى، ووفقًا لهايزنبرج فإن ابن بلانك قد أخبره لاحقًا أن والده وصفَ بحثه في تلك الفترة أثناء تجولهما طويلًا في جرونفالد في ضواحي برلين، وشرح له كيف أن هذا الاكتشاف قد يرقى إلى مرتبةِ اكتشافات نيوتن.2
انشغل الفيزيائيون في العَقد الأول من القرن العشرين في استيعاب الاكتشافات الجديدة التي تضمَّنت الإشعاع الذري، ولا يبدو أن «الحيلة الرياضية» الجديدة لبلانك في تفسير منحنى الجسم الأسود كانت ذات أهميةٍ طاغية مقارنةً بهذه الاكتشافات. وفي الواقع، استغرق الأمرُ حتى سنة ١٩١٨ ليحصل بلانك على جائزة نوبل عن أبحاثه، وهي فترةٌ طويلة إذا قورنت بالسرعة التي حازت بها أبحاث آل كوري ورذرفورد هذا التقدير. (يرجع ذلك جزئيًّا إلى أن الإقرار بالإنجازات النظرية الجديدة والمثيرة يستغرق وقتًا أطول، فالنظرية الجديدة لا تكون محسوسةً مثل جسيمٍ جديد، أو أشعة إكس، ولا بد أن تثبت الأيامُ صحَّتها وتؤكدها التجارب قبل الإقرار الكامل بها.) كان هناك أيضًا شيء غريب بخصوص ثابت بلانك الجديد h. فهو ثابتٌ صغيرٌ جدًّا ٦٫٦ × ١٠ −٣٤ جول ثانية، إلا أن ذلك لا يمثِّل أيَّ لغز لأنه لو كان أكبر كثيرًا لأمكن التوصُّل إليه بسهولةٍ قبل أن يبدأ الفيزيائيون في محاولة فهْم إشعاع الجسم الأسود بمدةٍ طويلة. في الواقع، الشيء الغريب بخصوص الثابت h هو الوحدات التي يُقاس بها؛ الطاقة (بالجول) مضروبة في الزمن (بالثواني). وتسمَّى مثل هذه الوحدات «الشغل» أو «الأثر»، ولم تكن سمةً مألوفة من سمات الميكانيكا الكلاسيكية؛ فليس هناك «قانون الحفاظ على الشغل» ليضاهي قانون الحفاظ على الكتلة أو الطاقة. ولكن للشغل خاصية مهمة للغاية يشترك فيها، ضمن أشياءَ أخرى، مع الإنتروبيا. فالشغل الثابت يكون ثابتًا ثبوتًا مطلقًا ويكون له نفس المقدار لكل المشاهدين في الزمان والمكان. وهو ثابتٌ رباعي الأبعاد، ولم تتضح أهمية ذلك إلا عندما كشف أينشتاين النقاب عن نظرية النسبية.

ونظرًا لأن أينشتاين هو الشخصية المحورية التالية التي ستدخل إلى مسرح ميكانيكا الكَمِّ، فقد يستحق الأمر أن نتحوَّل بحديثنا قليلًا إليه لنرى ما يعنيه ذلك. تتعامل نظرية النسبية الخاصة مع الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمني الواحد على أنها كِيانٌ واحدٌ رباعي الأبعاد، متوالية الزمن الفراغية. وعليه، فإن المشاهدين الذين يتحرَّكون في الفراغ بسرعاتٍ مختلِفة يرون الأشياء بمنظورٍ مختلف؛ فلن يتفقوا — على سبيل المثال — بشأن طول عصًا يقيسونها أثناء عبورها بجوارهم. ولكن يمكن النظر إلى العصا على أنها موجودة في أربعة أبعاد، وتتحرك «خلال» الزمن لتصنع سطحًا رباعي الأبعاد؛ مستطيلًا زائديًّا ارتفاعه هو طول العصا وعرضه هو المدة الزمنية التي قطعها. وتُقاس «مساحة» هذا المستطيل بوحدات الطول × الزمن، وستصبح هذه المساحة هي نفسَها لجميع المشاهدين الذين يقيسونها، حتى مع عدم اتفاقهم بشأن قيم الطول والزمن التي يقيسونها. وبالطريقةِ نفسِها، فإن الشغل (الطاقة × الزمن) هو مكافئ رباعي الأبعاد للطاقة، ويكون الشغل هو نفسه لكل المشاهدين حتى عندما يختلفون بشأن مقدار الطاقة والزمن المكوِّنَين للشغل. وهناك قانون للحفاظ على الشغل في النسبية الخاصة، ويحظى بنفس أهمية قانون الحفاظ على الطاقة تمامًا. ومن ثَم لم يبدُ ثابت بلانك غريبًا إلا لأنه اكتُشِف قبل النظرية النسبية.

وربما يؤكِّد ذلك على الطبيعة الشاملة للفيزياء. وعندما ننظر إلى المساهمات العلمية الثلاث الجليلة لأينشتاين المنشورة عام ١٩٠٥، نجد أن نظرية النسبية الخاصة تبدو مختلفةً للغاية عن المساهمتَين الأُخريين، في مجال الحركة البراونية والظاهرة الكهروضوئية. لكنها جميعًا تشكِّل وحدةً مترابطة في إطار الفيزياء النظرية، وعلى الرغم من الشهرة التي حازتها النظرية النسبية، فإن أعظم مساهمات أينشتاين العلمية كانت تتمثَّل في أبحاثه حول نظريةِ الكَمِّ التي انطلقت من أبحاث بلانك عن طريق الظاهرة الكهروضوئية.

يتمثَّل التطور الجذري الذي قدَّمته أبحاث بلانك لسنة ١٩٠٠ في أنها أظهرت قصور الفيزياء الكلاسيكية. ولا يهمُّ الكشفُ عن ماهية هذا القصور بالضبط. فمجرَّدُ حقيقةِ وجودِ ظواهرَ لا يمكن تفسيرُها فقط بالأفكارِ الكلاسيكيةِ المبنيةِ على أبحاث نيوتن، كان كافيًا للتبشير بعصرٍ جديدٍ في الفيزياء. ومع ذلك، كانت النسخة الأصلية من أبحاث بلانك، محدودةً على نحوٍ أكبرَ بكثير مما تبدو عليه غالبًا من منظور الروايات الحديثة. هناك مدرسة في أدب المغامرات ينجو فيها البطل بأعجوبة من مواقفَ حابسةٍ للأنفاس في نهاية كل حلقة، فيما يمكن إيجازه في العبارة: «وفجأةً، تحرَّر البطل.» ويمكن قراءة العديد من الكتب المبسَّطة التي تحدَّثت عن نشأة ميكانيكا الكَمِّ على أنها كتاب مغامرات يتحدَّث عن مواقفَ خارقةٍ للعادة. «وصلت الفيزياء الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر إلى طريقٍ مسدود. وفجأة، اخترع بلانك الكَمَّ، وتحرَّرت الفيزياء.» ولكن كان الأمر على العكس من ذلك تمامًا. فكل ما هنالك أن بلانك أشار إلى أن المذبذبات الكهربية داخل الذرات يمكن تحديدُ كَمِّها. وكان يعني بذلك أن هذه المذبذبات يمكنها فقط أن تبعث بحِزَم من الطاقة ذات أحجامٍ معيَّنة؛ لأن هناك شيئًا بداخلها يمنعها من امتصاص أو إشعاع كميات الإشعاع الواقعة «بين تلك الأحجام».

يشبه هذا كثيرًا فكرةَ عملِ ماكينة الصرَّاف الآلي في البنك. فعندما أُدخِلُ بطاقة الصرَّاف الآلي تُخرِج لي الماكينة أيَّ مبلغٍ ماليٍّ أريده، بشرط أن يكون أحد مضاعفات ١٠ جنيهات إسترلينية. ولكن لا يمكنها إخراجُ المبالغِ المحصورةِ قيَمُها بين هذه المضاعفات (ولا تستطيع إخراجَ ما هو أقل من ١٠ جنيهات إسترلينية)، ولا يعني ذلك أن قيمَ المبالغِ المحصورة بين هذه المضاعفات مثل ١٢٫٤٧ جنيهًا إسترلينيًّا غير موجودة. ومن ثَم فإن بلانك نفسَه لم يقُل إن الإشعاع يمكن تحديدُ كَمِّه، ويبدو أنه كان عليه دائمًا أن يكون متحفِّظًا تجاه الآثار الأعمق لنظريةِ الكَمِّ. في السنوات التالية، ومع تقدُّمِ نظريةِ الكَمِّ أسهم بلانك في العلمِ الذي أسَّسه، لكنه قضى معظم حياته العلمية محاولًا التوفيقَ بين الأفكار الجديدة والفيزياء الكلاسيكية. ولم يكن ذلك عدولًا عن رأيه، لكنَّ كلَّ ما هنالك أنه لم يدرِك قط، بأيِّ حال، إلى أيِّ مدًى كانت معادَلة الجسم الأسود بعيدةً عن الفيزياء الكلاسيكية؛ فقد توصَّل إلى المعادلة عن طريق الدمج بين الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربية، وكلتاهما من النظريات الكلاسيكية. وبدلًا من انتهاجِ نهجٍ آخرَ، كانت جهود بلانك لإيجادِ حلٍّ وسط بين أفكارِ الكَمِّ والنظريات الكلاسيكية، تمثِّل في الواقع حيودًا مدويًا، من وجهة نظره، عن الأفكارِ الكلاسيكية التي شبَّ عليها. غير أن معرفته الأساسية بالأفكارِ الكلاسيكية كانت دقيقةً ومتعمقة بالدرجة التي لم يكن مستغرَبًا معها أن يكون التقدُّم الحقيقي على يدِ جيلٍ جديد من الفيزيائيين الذين لم يتوطَّد موقفهم بعدُ والذين هم أقلُّ التزامًا بالأفكار القديمة، والذين اشتعل حماسهم بالاكتشافات الجديدة في الإشعاع الذري، وكانوا يبحثون عن إجاباتٍ جديدة للأسئلة القديمة والجديدة على حدٍّ سواء.

أينشتاين والضوء والكَمُّ

كان أينشتاين يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا في مارس ١٩٠٠. وقد تقلَّد وظيفته الشهيرة في مكتب براءات الاختراع السويسري في صيف سنة ١٩٠٢، وقد كرَّس معظم اهتماماته العلمية في تلك السنوات الأولى من القرن العشرين للمسائل المتعلقة بالديناميكا الحرارية والميكانيكا الإحصائية. وكانت أولى المقالات العلمية المنشورة له تقليديةً في أسلوبها وفي المسائل التي عالجتها، على غرار المقالات المنشورة للجيل السابق بمَنْ فيهم بلانك. ولكن نجد أنه في أول بحث نشره أينشتاين وأشار فيه إلى أفكار بلانك حول طيف الجسم الأسود (نُشر سنة ١٩٠٤)، شقَّ أينشتاين طريقًا جديدًا ووضع أسلوبًا مبتكرًا لحل المفارقات الفيزيائية خاصًّا به وحدَه. ويصف مارتن كلاين كيف أن أينشتاين كان أول شخص يأخذ الآثار الفيزيائية لأبحاث بلانك على محمل الجِد، ويتعامل معها على أنها أكثر من مجردِ حيلةٍ رياضية،3 وفي غضونِ عامٍ واحد أدَّى قبولُ تلك المعادلات بوصفها لها أساس في الواقع الفيزيائي إلى وجهة نظر جديدة ومثيرة، وهي إعادة إحياء النظرية الجسيمية للضوء.

كانت نقطةُ الانطلاق الأخرى لأبحاثه المنشورة سنة ١٩٠٤، وكذلك أبحاث بلانك، هي دراسةَ الظاهرة الكهروضوئية على يد فيليب لينارد وجيه جيه طومسون، اللذين عملا كلٌّ منهما على نحوٍ مستقل عن الآخر، في نهاية القرن التاسع عشر. حصل لينارد، المولود سنة ١٨٦٢ في ذلك الجزء من المجر الذي أصبح الآن جمهورية التشيك، على جائزة نوبل في الفيزياء سنة ١٩٠٥ عن أبحاثه حول أشعة الكاثود. وقد أثبت سنة ١٨٩٩، من خلال التجارب التي أجراها في هذه الأبحاث، أن أشعة الكاثود (الإلكترونات) يمكن أن تتوَّلد بإسقاط ضوء على سطح فلز في الفراغ. وتتسبَّب طاقة الضوء بطريقة أو بأخرى في جعل الإلكترونات تقفز خارج الفلز.

تضمَّنت تجارب لينارد استخدامَ أشعةِ ضوءٍ أحادي اللون (ضوء متجانس)، بمعنى أن كل موجات الضوء لها التردد نفسه. وقد فحص الكيفية التي تؤثِّر بها شدة الضوء على الطريقة التي تنطلق بها الإلكترونات خارج الفلز، وتوصَّل إلى نتيجةٍ مفاجئة. باستخدامِ ضوءٍ أشدَّ سطوعًا (حرَّك في الواقع مصدر الضوء بحيث يقترب أكثر من سطح الفلز ليحدث التأثير نفسه) تسقط طاقةٌ أكثر على كل سنتيمترٍ مربَّع من سطح الفلز. وإذا امتص الإلكترون طاقةً أكثر، فإنه ينطلق خارجًا من الفلز بمعدلٍ أسرع، وينفصل عنها بسرعةٍ أكبر. غير أن لينارد قد اكتشف أنه ما دام الطول الموجي للضوء ثابتًا، فإن كل الإلكترونات المقذوفة تنطلق بالسرعةِ نفسِها. وبتقريب مصدر الضوء من الفلز ينطلق عددٌ أكبر من الإلكترونات، غير أن كل إلكترون منها سينطلق بالسرعةِ نفسِها التي تنطلق بها الإلكترونات المتولِّدة عن إسقاطِ شعاعِ ضوءٍ أضعفَ من اللون نفسه. ومن جهةٍ أخرى، تحرَّكت الإلكترونات بسرعةٍ أكبرَ عندما استخدم شعاع ضوء ذا ترددٍ أعلى — الأشعة فوق البنفسجية مثلًا — بدلًا من الأشعة الزرقاء أو الحمراء.

وتوجد طريقةٌ بسيطة جدًّا لشرح ذلك، بشرط أن تكون مستعدًّا للتخلي عن أفكار الفيزياء الكلاسيكية المتأصِّلة، وأن تأخذ معادلات بلانك على أنها ذات مغزًى فيزيائي. وتتضح أهمية هذه الشروط من حقيقةِ أن أحدًا لم يتخذ هذه الخطوة البسيطة فيما يبدو على مدى السنوات الخمس التي أعقبت أبحاث لينارد الأولى على الظاهرة الكهروضوئية وتقديم بلانك مفهومَ الكَمِّ. وفي الواقع، كان كلُّ ما فعله أينشتاين هو تطبيق المعادلة على الإشعاع الكهرومغناطيسي، بدلًا من تطبيقها على المذبذبات الصغرى داخل الذرة. قال أينشتاين إن الضوء ليس موجةً مستمرة — كما كان يعتقد العلماء على مدى مائة سنة — ولكنه يجيء بدلًا من ذلك في صورةِ حِزَمٍ محدَّدة أو كموم. فكلُّ الضوءِ ذي التردُّد المحدَّد ؛ أي الذي له لونٌ محدَّد، يجيء في صورة حِزَم لها الطاقة نفسها E. وفي كل مرة يصطدم فيها واحد من هذه الكموم الضوئية بإلكترون، تمنحه المقدارَ نفسَه من الطاقة؛ ومن ثَم المقدار نفسه من السرعة. ويعني الضوء الأكثر شدة أن هناك المزيد من الكموم الضوئية (وندعوها اليوم فوتونات) لها جميعًا الطاقة نفسها، غير أن تغيير لون الضوء يغيِّر من تردُّدها؛ ومن ثَم يغيِّر مقدار الطاقة التي يحملها كلُّ فوتون.
كان ذلك هو البحث الذي حصل بموجبه أينشتاين في النهاية على جائزة نوبل سنة ١٩٢١. ومرةً أخرى، كان لا بد للإنجاز النظري أن ينتظرَ الاعترافَ الكامل به. لم تحظَ فكرة الفوتونات بقبولٍ فوري، ومع أن تجارب لينارد جاءت متَّفقة مع النظرية بشكلٍ عام، فإن الأمر قد استغرق أكثرَ من عَقد للتنبؤ الدقيق بالعلاقة بين سرعة الإلكترونات والطول الموجي للضوء واختبارها وإثباتها. وتحقَّق ذلك على يدِ عالِم الفيزياء التجريبية الأمريكي روبرت ميليكان، الذي أرسى خلال هذه الفترة طريقةً في غاية الدقة لقياس قيمة h، ثابت بلانك. وقد حصل ميليكان بدوره سنة ١٩٢٣ على جائزة نوبل في الفيزياء عن هذه الأبحاث ولدقَّة قياساته لمقدار شحنة الإلكترون.

وهكذا قضى أينشتاين عامًا حافلًا للغاية. فهناك البحثُ الذي فاز عنه بجائزة نوبل، وبحثٌ آخرُ أثبت فيه بشكلٍ قاطعٍ حقيقةَ وجود الذرات، وبحثٌ ثالث شهِد ميلاد النظرية التي كانت من أكثرِ ما اشتُهر به أينشتاين؛ وهي النسبية. وفي الوقتِ نفسِه من عام ١٩٠٥، وعلى سبيل المصادفة تقريبًا، كان أينشتاين على وشك استكمال جزءٍ آخر من أبحاثه بخصوص حجم الجزيئات، وهو ما قدَّمه في شكل أطروحةٍ لنيل الدكتوراه من جامعة زيورخ. وقد مُنِحَ درجةَ الدكتوراه نفسها في يناير ١٩٠٦. ومع أن درجة الدكتوراه لم تكن تمثِّل نقطة انطلاق لحياةٍ حافلة بالبحث النشط على غرار ما تمثِّله الآن، فلا يزال من اللافت للنظر أن الأبحاث الثلاثة الكبرى لعام ١٩٠٥ منشورةٌ لرجلٍ لا يسعه التوقيع في ذلك الوقت إلا بلقبِ مستر ألبرت أينشتاين.

في السنوات القليلة اللاحقة، واصل أينشتاين العملَ على إدخال مفهومِ الكَمِّ لبلانك في مجالاتٍ أخرى من الفيزياء. وقد وجد أن الفكرةَ تفسِّر الإشكاليات الراسخة منذ زمنٍ بعيد فيما يتعلَّق بالحرارة النوعية (الحرارة النوعية لمادةٍ ما هي كمية الحرارة اللازمة لرفعِ درجةِ حرارةِ كميةٍ ثابتةٍ من المادة بمقدارِ درجةٍ واحدةٍ مختارة، وهي تعتمد على طريقة تذبذب الذرات واهتزازها داخل المادة، وقد اتضح أن هذه الذبذبات يمكن تمثيلها كَمِّيًّا). ويُعدُّ هذا الجزء من أبحاث أينشتاين هو الأقل إثارةً، وعادةً ما تغفُل عنه الكتاباتُ التي تتناول أبحاث أينشتاين، إلا أن نظريةَ الكَمِّ للمادة قد حظيت بالقبول أسرعَ كثيرًا من نظريةِ الكَمِّ لأينشتاين في الإشعاع، وبدأت تُقنِع الكثير من الفيزيائيين من أتباع المدرسة القديمة بأنه يجب أخذُ أفكارِ الكَمِّ على محمل الجِد. نقَّح أينشتاين أفكارَه حول الإشعاعِ الكَمِّي على مدى السنوات التالية وحتى سنة ١٩١١؛ حيث أثبت أن التركيبَ الكَمِّي للضوء نتيجةٌ حتميةٌ لمعادلة بلانك، وأشار إلى أن المجتمع العلمي لا يزال غيرَ مهيَّأ بعدُ، حتى إن السبيل إلى فهمٍ أفضلَ للضوء سيتضمَّن الدمج بين نظريتَي الموجات والجسيمات اللتين كانت المنافسة بينهما تدور على أشدِّها منذ القرن السابع عشر. وبحلول عام ١٩١١، تحوَّلت أفكاره إلى أمورٍ أخرى. فقد أقنع نفسه بحقيقةِ وجودِ الكَمِّ، ولم يكن يهمه سوى أفكاره الشخصية. فقد انصبَّ اهتمامه الجديد على مسألة الجاذبية، وعلى مدى السنوات الخمس التالية حتى سنة ١٩١٦ وضع نظريته حول النسبية العامة، وهي أعظم أعماله على الإطلاق. وقد استغرق الأمر حتى سنة ١٩٢٣ لإثبات حقيقة الطبيعة الكَمِّية للضوء بما لا يدَع مجالًا للشك، وقد أدَّى ذلك بدوره إلى جدالٍ جديد حول الجسيمات والموجات، وقد ساعد ذلك في تغيير نظريةِ الكَمِّ من هيئةٍ لأخرى، والإعلان عن النسخة الحديثة من النظرية، وهي ميكانيكا الكَمِّ. والكثيرُ من تلك الأفكارِ كان في محلِّه. جاء أول ازدهارٍ لنظريةِ الكَمِّ في العَقد الذي انصرف فيه أينشتاين عن الموضوعِ وركَّز على أمورٍ أخرى. وكان هذا الازدهار نتيجةَ ما حدث من دمجٍ بين أفكاره ونموذج رذرفورد للذرة، وكان في جزءٍ كبيرٍ منه نتاجَ أبحاثِ عالِمٍ دانماركي يُدعى نيلز بور الذي كان يعمل مع رذرفورد في مانشستر. وبعد أن وضع بور النموذجَ الخاص به للذرة، لم يَعُد أحدٌ يستطيع التشكيك في قيمة نظريةِ الكَمِّ باعتبارها تُقدِّم وصفًا للعالم الفيزيائي في المستوى المتناهي الصغر.

هوامش

(1) Quoted by Mehra and Rechenberg, volume 1.
(2) See Physics and Philosophy, page 35.
(3) See Klein’s contribution to Some Strangeness in the Proportion, edited by Harry Woolf. In the same volume, Thomas Kuhn, of MIT, goes even further than most authorities in arguing that Planck “had no conception of a discrete energy spectrum when he presented the first derivations of his blackbody distribution law” and that Einstein was the first to appreciate “the essential role of quantization in blackbody theory”. Kuhn says that “it is Einstein rather than Planck who first quantized the Planck oscillator”. That debate we can leave to the academics; but there is no doubt that Einstein’s contributions were crucial to the development of quantum theory.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤