الفصل الرابع

الذرة لدى بور

بحلول عام ١٩١٢، كانت قِطَع البازل الذري جاهزةً للتركيب بعضها مع بعض. فقد أثبت أينشتاين صحةَ فكرةِ الكَمِّ على نطاقٍ واسع، وأدخل فكرة الفوتون مع أنها لم تكن مقبولةً بشكلٍ عام بعدُ. وبتوسيع نطاق التشبيه الخاص بماكينة الصرف الآلي، فإن ما قاله أينشتاين هو أن الطاقة تأتي فقط في صورةِ حِزمٍ ذات مقدارٍ محدَّد؛ فالصراف الآلي يتعامل فقط بوحدات من مضاعفات ١٠ جنيهاتٍ إسترلينية لأن هذه هي أصغر فئات العملة الموجودة، وليس لأنه أمرٌ يخضع لهوى الشخص الذي برمجَ الآلة. قدَّم رذرفورد صورةً جديدة للذرة؛ حيث توجد لها نواةٌ مركزيةٌ صغيرة تحيط بها سحابة من الإلكترونات، وإن كانت هذه الفكرة لم تحظَ بعدُ بالدعم العام اللازم لها. ولكن، لم يكن من الممكن ببساطة لذرة رذرفورد أن تكون مستقِرةً طبقًا للقوانين الكلاسيكية للديناميكا الكهربية. وكان الحل هو استخدام قوانين الكَمِّ لوصف سلوك الإلكترونات في الذرة. ومرةً أخرى، جاء التقدُّم المفاجئ على يدِ باحثٍ شابٍّ انتهج أسلوبًا جديدًا ومبتكَرًا في التعامل مع المشكلة، وهو موضوع سنتطرق إليه باستمرار خلال سرد قصة تطور نظريةِ الكَمِّ.

كان نيلز بور فيزيائيًّا دانماركيًّا قد أكمل رسالة الدكتوراه في صيف ١٩١١ وتوجَّه إلى كامبريدج في سبتمبر من العامِ نفسِه ليعمل مع جيه طومسون في مختبر كافنديش. كان باحثًا ناشئًا وخجولًا ويتحدَّث الإنجليزيةَ بطريقةٍ غيرِ سليمة؛ ومن ثَمَّ وجد أن من الصعب عليه إيجادَ موقعٍ ملائمٍ في كامبريدج. ولكن أثناء زيارته مانشستر التقى برذرفورد ووجده شخصًا يمكن تبادلُ الحديث معه بسهولة، كما أنه مهتمٌّ ببور وأبحاثه. ولذا، انتقل بور في مارس ١٩١٢ إلى مانشستر ليبدأ العمل ضمن فريق رذرفورد، مُركِّزًا أبحاثه على مسألة تركيب الذرة.1 وبعد ستة أشهر، عاد بور إلى كوبنهاجن، ولكن لفترةٍ قصيرة، وظلَّ مرتبطًا بفريق رذرفورد في مانشستر حتى سنة ١٩١٦.

الإلكترونات المتنقِّلة

كان بور صاحبَ عبقريةٍ فَذَّة، وهو ما كان مطلوبًا بالضبط لإحراز التقدُّم في الفيزياء الذرية على مدى السنوات العشر إلى السنوات الخمس عشرة التالية. لم يكن بور يهتمُّ بشرح كل التفاصيل في نظريةٍ واحدةٍ مكتمِلة، لكنه كان على استعدادٍ تامٍّ للتوفيق بين الأفكار المختلِفة لوضع «نموذج» تخيُّلي يتَّفق ولو على نحوٍ تقريبي مع مشاهدات الذرات الحقيقية. وبمجرَّد أن تكوَّنت لديه فكرةٌ تقريبية عما يجري، استطاع التلاعب بها بتركيب الأجزاء معًا على نحوٍ أفضل، والعمل بذلك على إعطاءِ صورةٍ أكثرَ اكتمالًا. وعليه، فقد تناوَل بور صورةَ الذرة على أنها مجموعةٌ شمسيةٌ مصغَّرة، تتحرَّك فيها الإلكترونات في مدارات تبعًا للقوانين الكلاسيكية للميكانيكا والكهرومغناطيسية، وقال إن الإلكترونات لا يمكنها أن تغادرَ تلك المدارات إلى الداخل، بما يجعلها تطلِق إشعاعًا أثناء ذلك؛ لأنه مسموح لها فقط بإطلاقِ أجزاءٍ كاملةٍ من الطاقة — كموم كاملة — وليس إشعاعًا متصلًا كما تستوجب النظرية الكلاسيكية. ويقابل المداراتِ «المستقرة» للإلكترونات كمياتٌ ثابتةٌ معيَّنة من الطاقة، كلٌّ منها هو أحد مضاعفاتِ كَمٍّ أساسي، ولا توجد مداراتٌ بينية؛ لأنها بذلك ستتطلَّب كمياتٍ كسريةً من الطاقة. واسترسالًا مع تشبيه المجموعة الشمسية، فإن ذلك مِثلُ القولِ بأنَّ مدار الأرض حول الشمس مستقِرٌّ، وكذلك مدار المريخ، وأنه لا يوجد مدارٌ آخرُ مستقِرٌّ في أيِّ موضعٍ بينهما.

لم يكن ما فعله بور يصلُح للتنفيذ. تقوم فكرةُ المدار بأكملها على الفيزياء الكلاسيكية، أما فكرةُ حالات الإلكترون التي تقابل كمياتٍ محدَّدة من الطاقة — مستويات الطاقة، كما أصبحت تُسمَّى — فتأتي من نظريةِ الكَمِّ. ولم يكن لنموذج الذرة، الذي يجمع بين أجزاءٍ من النظرية الكلاسيكية وأجزاءٍ من نظريةِ الكَمِّ، أن يقدِّم منظورًا حقيقيًّا عمَّا يجعل الذرات تؤدي عملها جيدًا، لكنه في الواقع قدَّم لبور نموذجًا عمليًّا بما يكفي للمضي قُدُمًا. وقد اتضح فيما بعدُ أن النموذج الذي قدَّمه كان يجانبه الصواب من كل النواحي تقريبًا، بيْد أنه قدَّم نموذجًا انتقاليًّا لوضعِ نظريةِ الكَمِّ الحقيقيةِ عن الذرة؛ ومن ثَم كان نموذجًا انتقاليًّا فائقَ القيمة. ولسوء الحظ، ظلَّ هذا النموذج متداولًا ليس فقط في الإصدارات العلمية المبسَّطة ولكن أيضًا في كثير من الكتب المدرسية والجامعية، وذلك بسببِ مزْجِه الرائع والبسيط بين أفكارِ الكَمِّ والأفكار الكلاسيكية، وبسبب التشبيه الجذاب للذرة على أنها مجموعةٌ شمسيةٌ مصغَّرة. وإذا كنتَ قد درستَ أيَّ شيء عن الذرة في مرحلة الدراسة، فإنني على يقين من دراستك لنموذج بور، سواء أكان ذلك تحت هذا الاسم أم لا. ولن أطلب منك إغفالَ كلِّ ما عرفته، لكن عليك أن تهيئ نفسَك للاقتناع بأن ذلك لم يكن الحقيقة الكاملة. وينبغي أن تحاول طرحَ فكرةِ أن الإلكترونات «كواكب» صغيرة تدور حول النواة من ذهنك؛ فقد كانت هذه هي فكرةَ بور في البداية، لكنها في الواقع فكرةٌ مضلِّلة. فالإلكترون ببساطة هو شيءٌ ما يقبع خارج النواة ويمتلك كميةً معيَّنةً من الطاقة وبعض الخصائص الأخرى. ويتحرَّك بطريقةٍ غامضة كما سنرى.

كان النجاح الباهر الذي حقَّقته أبحاثُ بور في وقتٍ مبكِّر، سنة ١٩١٣، يرجع إلى تفسيره الموفَّق لِطيْفِ الضوء المنبعث من الهيدروجين، وهي أبسط الذرات. يَرجِع علمُ التحليل الطيفي إلى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، عندما اكتشف ويليام ولاستون خطوطًا معتمة في طيفِ الضوء المنبعث من الشمس، غير أن اكتشافه هذا لم يتبلور إلا مع أبحاث بور فقط ليصبحَ أداةً قائمةً بذاتها لسبْرِ أغوار تركيب الذرة. وعلى غرار ما فعله بور من مزجٍ بين النظرية الكلاسيكية ونظريةِ الكَمِّ لإحراز التقدُّم الذي بلغه، علينا أن نَرجع خطوةً إلى الوراء انطلاقًا من أفكارِ أينشتاين حول الكموم الضوئية لفهْم فكرةِ علم التحليل الطيفي وآلية عمله. ومن غير المنطقي في هذا النوع من الأبحاث أن نفكِّر في الضوء إلا على أنه موجاتٌ كهرومغناطيسية.2

يتكوَّن الضوء الأبيض، كما أثبت نيوتن، من كل ألوان قوسِ قُزَح، وهي الطيف. ويقابل كلَّ لونٍ طولٌ موجيٌّ مختلِفٌ للضوء، وباستخدامِ منشورٍ زجاجي لتحليل الضوء الأبيض إلى الألوانِ المكوِّنة له نكون في الواقع بصددِ تحليلِ الطيف بحيث تصطفُّ الموجات ذات التردُّدات المختلِفة بعضها بجوار بعض على شاشةٍ أو لوحٍ فوتوغرافي. يقع كلٌّ من الضوء الأزرق والضوء البنفسجي، وكلاهما ذو طولٍ موجيٍّ قصير، على أحدِ طرفَي الطيف الضوئي، ويقع الضوء الأحمر ذو الطول الموجي الطويل على الطرف الآخر، إلا أن الطيف يمتد على كلا الطرفَين إلى ما أبعد من نطاق الألوان المرئية لعيوننا. وإذا حلَّلنا ضوء الشمس بهذه الطريقة فسيتميَّز الطيف الناتج بوجودِ خطوطٍ معتمة وواضحة للغاية في مواضعَ محدَّدةٍ بدقةٍ في هذا الطيف، وهذه الخطوط تقابل تردداتٍ محددةً بدقَّة. ودون الإلمام بكيفية تكوُّن هذه الخطوط، أثبت باحثون — من أمثال جوزيف فراونهوفر، وروبرت بنزن (الذي خُلِّد اسمُه بإطلاقه على المَوقِد المعروف المستخدَم في المختبرات)، وجوستاف كيرشوف في القرن التاسع عشر — بالتجاربِ أن كلَّ عنصر ينتج فئةً خاصة به من خطوط الطيف. فعند تسخين عنصر (مثل الصوديوم) في لهبِ مَوقِد بنزن، ينتج عن ذلك ضوءٌ ذو لونٍ مميَّز (لون أصفر في هذه الحالة)، وهو ينتج عن انبعاثٍ قوي للإشعاع على شكل خط أو عدة خطوط شديدة التوهُّج في جزءٍ معيَّن من الطيف. وعند مرور الضوء الأبيض خلال سائل أو غاز يحتوي على العنصرِ نفسِه، حتى لو كان العنصر متحِدًا مع عناصرَ أخرى في مركَّبٍ كيميائي، فإن طيف الضوء يُظهِر خطوطَ امتصاصٍ معتمة، مثل تلك الموجودة في الضوء المنبعث من الشمس، وعند التردداتِ نفسِها المميزة لهذا العنصر.

ويُفسِّر ذلك وجودَ الخطوط المعتمة في طيفِ الشمس. ولا بد أن تكون هذه الخطوط قد نتجت عن سُحبٍ أكثرَ برودةً من المواد الموجودة في الغلاف الجوي للشمس؛ حيث تمتص الإشعاع عند الترددات المميزة من الضوء العابر خلالها من سطحِ الشمسِ الأكثرِ سخونةً بكثير. وقد قدَّمت هذه التقنية للكيميائيين وسيلةً مفيدةً لتحديدِ العناصر الموجودة في أي مركَّب. إذا ألقيتَ بملح الطعام على النار مثلًا، فإن اللهب سيتوهَّج باللون الأصفر المميز لعنصر الصوديوم (وهو اللون المألوف أيضًا لمصابيح الصوديوم الصفراء في الشوارع حاليًّا). وفي المختبر، يمكن مشاهدة الطيف المميز عن طريقِ غمسِ سلكٍ في المادة موضع الاختبار ثم تعريض السلك للهب مَوقِد بنزن. يعطي كل عنصر النسق الخاص به من خطوط الطيف، وفي كل حالةٍ يظل النسق واحدًا على الرغم من تغيُّر شدته، حتى لو تغيَّرت درجةُ حرارة اللهب. ويتَّضح من حِدة خطوط الطيف ووضوحها أن كل ذرة من ذرات العنصر تبعث الضوء أو تمتصُّه عند التردد نفسه بالضبط، دون حيود أيِّ ذرة منها. وبالمقارنة مع اختبارات اللهب، تمكَّن علماء التحليل الطيفي من تحديد معظم الخطوط في طيف ضوء الشمس، وفسَّروها بأنها راجعةٌ إلى وجود العناصر المعروفة على الأرض. وفي خطواتٍ عكسيةٍ لهذه الطريقةِ اكتشف عالِم الفلك الإنجليزي نورمان لوكير (مؤسِّس مجلة «نيتشر» العلمية) خطوطًا في طيف الشمس لم يتمكَّن من تفسيرها من حيث كونها طيفًا؛ أي عنصرًا معروفًا، وقرَّر أنها لا بد أن ترجع إلى عنصرٍ لم يكن معروفًا من قبلُ، وأسماه عنصر الهيليوم. وبعد فترةٍ وجيزة، اكتُشِف الهيليوم على الأرض، وثبتَ أن له نفسَ الطيف بالضبط الذي يتناسب مع خطوط طيف الشمس.

وبمساعدةِ علمِ التحليل الطيفي، يمكن لعلماء الفلك رصدُ المجرَّات والنجوم البعيدة لمعرفةِ الموادِّ المكوِّنة لها. ويمكن لعلماء الفيزياء الذرية حاليًّا اختبارُ التركيب الداخلي للذرة باستخدام الأدوات نفسِها.

يتميَّز طيف الهيدروجين بأنه بسيط للغاية، وطبقًا لما نعرفه الآن فالأمر يُعزى إلى أن الهيدروجين هو أبسط العناصر، ولا تحتوي ذرته إلا على بروتون موجب الشحنة هو النواة، وإلكترون واحد سالب الشحنة مرتبِط معها. وتسمَّى خطوط الطيف التي تمثل البصمة المتفرِّدة للهيدروجين باسم خطوط بالمر، على اسم يوهان بالمر، وهو معلِّمٌ سويسري وضع معادلةً تصفُ هذا النسق سنة ١٨٨٥، وهو العام الذي تصادف أن يشهد ميلاد نيلز بور. تربط معادلةُ بالمر تردداتِ الطيف التي تظهر عندها خطوط الهيدروجين بعضها ببعض. فبدءًا من تردُّد أول خطوط الهيدروجين، في الجزء الأحمر من الطيف، تعطي معادلة بالمر تردُّد خط الهيدروجين التالي في الجزء الأخضر من الطيف. وبدءًا من الخط الأخضر، تُطبَّق المعادلةُ نفسُها على هذا التردُّد لتعطي تردُّد الخط التالي في الجزء البنفسجي، وهكذا.3 ولم يكن بالمر عندما صاغ معادلتَه يعرف سوى الخطوط الأربعة للهيدروجين الموجودة في الطيف المرئي، لكنَّ خطوطًا أخرى اكتُشِفت وتوافقت تمامًا مع المعادلة، وعندما حُدِّدَت خطوطٌ أكثر في طيف الهيدروجين في المنطقة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، فإنها توافقت هي الأخرى مع هذه العلاقة العددية البسيطة. ومن الواضح أن معادلة بالمر كانت تقدِّم شيئًا ذا قيمةٍ عن تركيب ذرة الهيدروجين، لكن ما هو؟
كانت معادلة بالمر أمرًا معروفًا بين الفيزيائيين، وجزءًا من مقرَّر الفيزياء الجامعي، عندما ظهر بور على الساحة. لكن ذلك كان جزءًا من مجموعةٍ كبيرةٍ من البيانات المعقَّدة عن الأطياف، ولم يكن بور من علماء التحليل الطيفي. وعندما بدأ بور العملَ على فكِّ طلاسم تركيب ذرة الهيدروجين، لم يفكِّر على الفور في سلسلة خطوط بالمر بوصفها دليلًا واضحًا لحل هذا اللغز وسبْر أغواره، ولكن عندما أشار أحد زملائه المختصين في علم التحليل الطيفي إلى مدى البساطة التي تتَّسم بها معادلة بالمر في الواقع (بغض النظر عن التعقيدات في أطياف الذرات الأخرى)، وعندها فطَن بور سريعًا إلى قيمةِ هذه المعادلة. في هذا الوقت، في أوائل عام ١٩١٣، كان بور قد اقتنع بالفعل بأن جزءًا من حلِّ اللغز يكمُن في إدخال ثابت بلانك h في المعادلات التي تصف الذرة. ولم يكن لذرَّة رذرفورد إلا نوعان فقط من الأعداد الأساسية المضمَّنة في تركيبها وهما: شحنة الإلكترون e وكتلة الجسيمات الداخلة في تركيب الذرة. ومهما حاولت التلاعبَ بهذه الأرقام، لا يمكنك الحصولُ على عددٍ له أبعاد طول من هذا الخليط من الكتلة والشحنة؛ ومن ثَم لم يكن لنموذج رذرفور وحدةٌ «مألوفة» للحجم. لكن بإضافة وحدة شغل، مثل ثابت بلانك h، إلى المعادلة، يصبح من الممكن التوصُّل إلى عددٍ له أبعادٌ خاصة بالطول، ويمكن النظر إليه بصورةٍ مبدئية وتقريبية على أنه يعبِّر عن شيءٍ بخصوص حجم الذرة. التعبير يكافئ عدديًّا طولًا ما، حوالي ٢٠ × ١٠ −٨ سم، وهو يقترب كثيرًا من العدد المطلوب للتوافق مع خصائص الذرات، المستنتجة من تجارب التشتُّت والدراسات الأخرى. كان من الواضح لبور أن h ينتمي إلى نظرية الذرات. وقد أوضحت له سلسلة بالمر أين ينتمي هذا الثابت.
كيف يمكن لذرةٍ ما أن تُنتِج خطًّا شديدَ الوضوح من خطوط الطيف؟ هذا يكون إما بإطلاق أو امتصاص طاقة لها ترددٌ دقيق للغاية، . وتم ربط الطاقة بالتردد عن طريق ثابت بلانك ()، فإذا أُطلقَ إلكترون في ذرةٍ ما بكمٍّ من الطاقة ، فإن طاقة هذا الإلكترون لا بد أن تتغيَّر بمقدارٍ مساوٍ تمامًا لمقدارِ الطاقة المقابل E. وأشار بور إلى أن الإلكترونات تظل مستقرةً في مكانها «في مدار» حول النواة لأنها لا تستطيع أن تشعَّ طاقة باستمرار، لكن من الجائز طبقًا لهذه الصورة أن تكون قادرةً على إشعاع (أو امتصاص) كوانتم كاملٍ من الطاقة — فوتون واحد — لتقفز من مستوى طاقةٍ (مدار، حسب الصورة القديمة) إلى مستوى طاقةٍ آخر. وفي الواقع، تُبيِّن هذه الفكرة التي تبدو بسيطة تعارضًا آخرَ مع الأفكار الكلاسيكية. إنها كما لو أن كوكب المريخ قد اختفى من مداره وظهر في مدار الأرض لحظيًّا، بينما يبعث في الفضاء بدفعة من الطاقة (إشعاع الجاذبية في هذه الحالة). ويمكنك أن تدرك في الحال كيف أن فكرة تشبيه الذرة بالمجموعة الشمسية كانت عقيمة في تفسيرِ ما يحدث، وكيف أن الأمر سيكون أفضلَ كثيرًا لو اعتبرت أن الإلكترونات موجودة ببساطة في حالاتٍ مختلفة، تقابل مستوياتٍ مختلفة من الطاقة، داخل الذرة.
ويمكن أن يحدث الانتقال من حالةٍ إلى أخرى في الاتجاهَين، إلى أعلى سُلَّم الطاقة أو إلى أسفله. فإذا امتصت ذرةٌ ما الضوء، فإن الكوانتم يستخدم لنقل الإلكترون إلى مستوًى أعلى من الطاقة (إلى درجةٍ أعلى على السُّلم)، وإذا عاد الإلكترون إلى حالته الأصلية بالضبط، فسوف يشعُّ المقدارَ نفسَه من الطاقة . ويمكن بطبيعة الحال كتابة الثابت الغامض ٣٦٫٤٥٦ × ١٠ −٥ في معادلة بالمر بمدلول ثابت بلانك، ويعني ذلك أن بور تمكَّن من حساب مستويات الطاقة الممكنة «المسموح بها» للإلكترون الواحد في ذرة الهيدروجين، ومن الممكن الآن تفسيرُ التردد المقيس لخطوط الطيف على أنه توضيح فرق الطاقة بين المستويات المختلفة.4

تفسير الهيدروجين

بعد أن ناقش بور أبحاثَه مع رذرفورد نشر نظريته عن الذرة في سلسلةٍ من الأوراق البحثية سنة ١٩١٣. توافقت النظرية على نحوٍ جيد للغاية مع الهيدروجين، وبدا أن من الممكن تطويرها بحيث تُستخدم أيضًا في تفسير أطياف الذرات الأكثر تعقيدًا. وفي سبتمبر، حضر بور الاجتماع السنوي الثالث والثمانين للجمعية البريطانية لتقدُّم العلوم، وشرح أبحاثه للحضور الذين كان من بينهم الكثيرُ من علماء الفيزياء الذرية البارزين في ذلك الوقت. بوجهٍ عام، لاقى تقريره قبولًا لدى الحاضرين، ووصفه السير جيمس جينس بأنه رائعٌ ومقنع ويحمل فكرة. وظلَّ جيه طومسون ضمن الذين لم يقتنعوا، ولكن بفضل هذا الاجتماعِ سمع الجميعُ ببور وأبحاثه عن الذرة، حتى العلماء الذين لم يقتنعوا بالحجج التي ساقها.

بعد ثلاثة عشر عامًا من محاولة بلانك اليائسة في إدخالِ الكَمِّ في نظرية الضوء، أدخل بور الكَمَّ في نظرية الذرة. غير أن الأمر قد استغرق ثلاثة عشر عامًا أخرى لوضعِ نظريةٍ حقيقية عن الكَمِّ. كان التقدُّم في ذلك الوقت يحدث بوتيرةٍ بطيئة على نحوٍ مزعج؛ فكل خطوة للخلف تقابلها خطوتان للأمام، وفي بعض الأحيان خطوتان للخلف لكل خطوة بدت أنها تسير في الاتجاه الصحيح. كانت ذرة بور عبارةً عن مزيج. فقد مزجت هذه الذرة بين الأفكار الكمومية وأفكار الفيزياء الكلاسيكية، مستخدمةً كل مزيج بدا ضروريًّا لمعالجة أي تعارضات والحفاظ على سلامة النموذج واستمراريته. وقد سمح ذلك بعددٍ من خطوط الطيف يفوق كثيرًا ما يمكن مشاهدته في الضوء المنبعث من الذرات المختلفة، ولا بد من تطبيقِ قواعدَ صارمةٍ حتى يمكن القول إن بعض الانتقالات بين مستويات الطاقة المختلفة داخل الذرة «غير مسموح بها». وحُدِّدت خصائصُ جديدة للذرة — الأعداد الكمومية — لتتوافق خصيصى مع المشاهدات، دون أن يكون لها أيُّ أساسٍ نظري مضمون يفسِّر السببَ في ضرورة الاستعانة بهذه الأعداد الكمومية، أو السبب في عدم السماح بحدوث بعض الانتقالات. في خضم ذلك كله، عمَّت الفوضى العالَم الأوروبي باندلاع الحرب العالمية الأولى، في السنة التي تلت إعلان بور لنموذجه الأول للذرة.

ومثل أي جانبٍ آخرَ من جوانب الحياة، لم يكن مقدَّرًا للعلم أن يظل كما هو بعد سنة ١٩١٤؛ فقد حالت الحرب دون سهولة انتقال الباحثين من بلدٍ لآخر، بل إنه منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى وجد بعض العلماء في بعض البلدان صعوبة في الاتصال بكل زملائهم في مختلف أنحاء العالم. كما كان للحرب تأثيرٌ مباشر في البحث العلمي داخل المراكز الكبرى حيث كان الفيزيائيون يُحرزون الكثيرَ من التقدُّم في السنوات الأولى من القرن العشرين. فقد ترك العلماء الشبان في الدول المشاركة في الحرب مَعاملَهم، وذهبوا إلى الحرب تاركين وراءهم الأساتذةَ الأكبرَ سنًّا، مثل رذرفورد، ليواصلوا العمل على قدرِ استطاعتهم، وقد لقي الكثيرون من هؤلاء الشبان حتفَهم أثناء القتال، وهم الجيل الذي كان منوطًا به جمع أفكار بور ومعالجتها في السنوات التي تلت سنة ١٩١٣. وقد تأثَّرت كذلك أبحاث العلماء في الدول المحايدة، مع أن بعضهم ربما يكون قد استفاد بطريقةٍ ما من سوء حظ الآخرين. فقد عُيِّن بور نفسُه «أستاذًا» في مادة الفيزياء بجامعة مانشستر، وفي جوتينجن أجرى مواطنٌ هولندي اسمه بيتر ديباي دراساتٍ مهمة عن البنية البلورية، مستخدمًا أشعةَ إكس كمسبار. وقد ظلَّت هولندا والدنمارك في الواقع واحتَين عِلميتَين في ذلك الوقت، وعاد بور إلى الدنمارك سنة ١٩١٦ ليشغل منصب أستاذ الفيزياء النظرية في كوبنهاجن، ثم ليؤسس معهد الأبحاث الذي يحمل اسمه سنة ١٩٢٠. واستطاعت الأخبار التي جاءت من باحثٍ ألماني مثل أرنولد سومرفيلد (أحد الفيزيائيين الذين نقَّحوا نموذج بور الذري لدرجةِ أن النموذج كان يشار إليه أحيانًا باسم ذرة «بور-سومرفيلد») المرور إلى دولة الدنمارك المحايدة، ثم بعد ذلك من بور إلى رذرفورد في إنجلترا. استمر التقدُّم لكنه لم يكن التقدُّم نفسه الذي كان في السابق.

بعد الحرب لم يكن العلماء الألمان والنمساويون يُدعون إلى المؤتمرات الدولية لسنواتٍ عديدة، وكانت روسيا تموج بالثورة، وفقد العلمُ بعضًا من عالميته وجيلًا من الشباب. وآل الأمر إلى أن جاء جيلٌ جديد تمامًا ليأخذ نظريةَ الكَمِّ من النموذج الانتقالي الذي قدَّمه مزيج ذرة بور كحلٍّ وسط (وهو ما جرى تنقيحه باعتراف الجميع من خلال الجهود المضنية للعديد من الباحثين بحيث أصبح نموذجًا فعَّالًا على نحوٍ لافت، وإنْ كان متداعيًا) إلى النموذج الرائع الكامل لميكانيكا الكَمِّ. ودوَّت أسماءُ هذا الجيل في عالَم الفيزياء الحديثة: فيرنر هايزنبرج، وبول ديراك، فولفجانج باولي وباسكوال جوردان، وآخرون. كانوا أعضاء في الجيل الأول لمفهومِ الكَمِّ، الجيل الذي وُلد ونشأ في السنوات التي تلت مساهمة بلانك العظمى (وُلِد باولي سنة ١٩٠٠، وهايزنبرج سنة ١٩٠١، وديراك وجوردان سنة ١٩٠٢)، ودخلوا إلى مجال البحث العلمي في عشرينيات القرن العشرين. لم يتلقوا تدريبًا راسخًا في الفيزياء الكلاسيكية ليتغلبوا على تأثيرها، وكانت حاجتهم إلى الاحتفاظِ بجانبٍ من الأفكار الكلاسيكية في نظرياتهم عن الذرة أقلَّ مما نجده في عالمٍ بارعٍ مثل بور حين قدَّم أنصاف حلول. وكان من المناسب تمامًا، وربما الأمر لم يكن من قبيل المصادفة على الإطلاق، أن الزمنَ المستغرَقَ منذ اكتشافِ بلانك معادلةَ الجسم الأسود وحتى ازدهار ميكانيكا الكَمِّ هو ستة وعشرون عامًا فحسب، وهي فترةٌ زمنيةٌ كفيلة لأن يتطورَ جيلٌ من الفيزيائيين الجُدد ويصبحوا علماء باحثين. غير أن هذا الجيل كان قد ورث أمرَين عظيمَين من جيل السلف الذي ما زال فاعلًا، بعيدًا عن ثابت بلانك نفسه. الأمر الأول كان ذرة بور الذي زودهم بمؤشرٍ واضحٍ على أن الأفكارَ الكَمِّيةَ لا بد أن تُدمَج في نظريةٍ مقنعة عن العمليات الذرية، أما الأمر الثاني فقد جاء من عالِمٍ نابغةٍ في عصره، بدا أنه لم يتقيَّد بأفكارٍ في الفيزياء الكلاسيكية، وهو ما كان استثناءً من كل القواعد. سنة ١٩١٦ وفي أوج الحرب كان أينشتاين يعمل في ألمانيا، وقد أدخل مفهومَ الاحتمال في النظرية الذرية. وقد قام بذلك كوسيلة (مساهمة أخرى في المزيج الذي جعل آلية عمل ذرة بور مماثلة لسلوك الذرات الحقيقية المُلاحَظ)، إلا أن هذه الوسيلةَ عاشت فترةً أطولَ من ذرة بور لتصبح الركيزةَ الأساسية لنظريةِ الكَمِّ الحقيقية، وإن كان من دواعي المفارقة أن تبرَّأ منها أينشتاين فيما بعدُ في مقولته الشهيرة: «إن الرب لا يلعب النرد».

عنصر المصادفة: نَرْدُ الرَّب

بالعودة إلى العَقد الأول من القرن العشرين، عندما كان رذرفورد وزميله فردريك سودي يفحصان طبيعةَ النشاط الإشعاعي، اكتشفا خاصيةً مثيرةً وأساسية من خصائص الذرة، أو بالأحرى من خصائص نواة الذرة. لا بد أن يتضمَّن «التحلل» الإشعاعي، كما أصبح معروفًا بهذا الاسم، تغيُّرًا أساسيًّا في الذرة المفردة (معلوم لدينا الآن أنه يتضمَّن انشطار النواة وانطلاق أجزاء منها)، غير أنه فيما يبدو لا يتأثَّر بأيِّ مؤثرٍ خارجي. فسواءٌ جرى تسخين الذرات أو تبريدها، وسواءٌ وُضِعَت في فراغ أو في دلوٍ به ماء، فإن التحلُّل الإشعاعي سيستمر دون أيِّ مقاطعة. ويبدو أنه لا توجد طريقة للتنبؤ الدقيق بأن ذرةً بعينِها في مادةٍ مشعةٍ ما ستتحلَّل، وتبعث بجسيم ألفا أو بيتا وبأشعة جاما، إلا أن التجارب قد بيَّنت أن نسبةً معيَّنة من عددٍ كبير من الذرات النشطة إشعاعيًّا للعنصر نفسِه ستتحلل دائمًا في زمنٍ معيَّن. وعلى وجه التحديد، يوجد زمنٌ مميز لكل عنصرٍ مشع يسمَّى عمر النصف، تتحلل خلاله أنصافُ الذرات بالضبط في أي نموذجِ تحلُّل. يبلغ عمر النصف لعنصر الراديوم، على سبيل المثال، ٦٠٠ سنة، بينما يبلغ عمر النصف لعنصر الكربون-١٤ — وهو أحد نظائر الكربون المشعة — أقلَّ قليلًا من ٦٠٠٠ سنة، وهو ما جعله مفيدًا في التأريخ الزمني للاكتشافات الأثرية، وأخيرًا يبلغ عمر النصف لتحلُّل عنصر البوتاسيوم المشع ١٣٠٠ مليون سنة.

ومن دون معرفةِ السبب الذي يجعل ذرةً ما ضمن عددٍ هائل من الذرات تتحلَّل ولا تتحلَّل الذرات المجاورة لها، استخدم رذرفورد وسودي هذا الاكتشاف كأساسٍ لوضعِ نظريةٍ إحصائية عن التحلُّل الإشعاعي، وهي نظرية تَستخدم أساليبَ أكتوارية كالمطبَّقة في شركات التأمين، التي تعرف أن بعض الأشخاص المؤمَّن عليهم سيموتون في سنٍّ مبكرة وأن ورثتهم سيتسلمون من شركةِ التأمين مبالغَ تفوق كثيرًا ما دفعوه، في حين أن عملاء آخرين سيعيشون طويلًا وسيدفعون مبالغَ كافيةً لتعويض ذلك. ودون معرفة الوقت الذي سيموت فيه أيٌّ من العملاء، تتيح الجداول الأكتوارية لموظفي الحسابات ضبطَ الموازنة. وبالطريقة نفسِها، تتيح الجداول الإحصائية للفيزيائيين ضبطَ موازنة التحلل الإشعاعي، بشرط أن يتعاملوا مع مجموعاتٍ كبيرة من الذرات.

إحدى السمات اللافتة لهذا السلوك هي أن النشاط الإشعاعي لا يختفي أبدًا من عينةِ أيِّ مادةٍ مشعَّة. ذلك حيث يتحلل نصف ملايين الذرات الموجودة في فترةٍ زمنيةٍ معينة. وعلى مدى عمر النصف التالي — الذي يستغرق الفترةَ الزمنيةَ نفسَها — سيتحلَّل نصف العدد المتبقي، وهكذا. وكلما اقتربنا من الصفر تناقصَ عددُ الذرات المشعة المتبقية دون تحلُّل، ولكن كل خطوة نحو الصفر تقلِّل عمر النصف بما يتناسب مع نصف العدد المتبقي.

في تلك الأيام الأولى، كان الفيزيائيون من أمثال رذرفورد وسودي يتصوَّرون أن شخصًا ما سيأتي في النهاية ويكتشف بالضبط السببَ وراء تحلُّل ذرةٍ بعينها، وأن هذا الاكتشاف سيُفسِّر الطبيعةَ الإحصائية للعملية. وعندما طبَّق أينشتاين الأساليبَ الإحصائية على نموذج بور لتفسيرِ تفاصيلِ الطيفِ الذري، استبق الأمر أيضًا بأن الاكتشافات اللاحقة ستلغي الحاجة إلى «الجداول الأكتوارية». وكانوا جميعًا على خطأ.

fig7
شكل ٤-١: يمكن مقارنة مستويات الطاقة في ذرةٍ بسيطة مثل الهيدروجين بمجموعة من درجات السُّلَّم ذات أعماقٍ مختلفة. تمثِّل الكرةُ الموضوعة على الدرجات المختلِفة إلكترونًا في مستويات الطاقة المختلِفة في الذرة. وتقابل الحركة من درجةٍ أعلى إلى درجةٍ أدنى انطلاقَ كميةٍ محدَّدة من الطاقة، وهي المسئولة في ذرة الهيدروجين عن خطوطِ سلسلة بالمر في الطيف. ولا توجد خطوطٌ بينية؛ لأنه ليس ثمة درجاتٌ بينية لكي «يستقر» عليها الإلكترون.
يمكن النظر إلى مستويات الطاقة للذرة، أو للإلكترون في ذرةٍ ما، على أنها درجات سُلَّم. ولا يتساوى عمق كل درجة والأخرى من حيث الطاقة؛ فالدرجاتُ العلوية تكون متقاربةً بعضها من بعض أكثرَ من الدرجات السفلية. وقد أوضحَ بور أنه في حالة ذرة الهيدروجين، بوصفها أبسطَ الذرات، يمكن تمثيل مستويات الطاقة كدرجات سُلَّم بحيث يتناسب عمقُ كلِّ درجةٍ أسفل أعلى الدَّرج مع ؛ حيث n هو رقم كل درجة بدءًا من أسفل الدَّرج. ويتطلَّب انتقال إلكترون من المستوى واحد إلى المستوى اثنين على هذا الدَّرج كميةً من الطاقة مقدارها بالضبط ليتحرك أعلى هذه الدرجة من درجات السُّلَّم، وإذا عاد الإلكترون ليهبِط إلى المستوى الأول («الحالة الأرضية» للذرة)، فإنه يطلق الكَمِّيةَ نفسَها من الطاقة. ولا توجد وسيلة تجعل الإلكترون في الحالة الأرضية يمتصُّ طاقةً أقلَّ؛ لأنه لا توجد «درجة» بينية يستطيع الإلكترون أن يستقر عليها، ولا توجد وسيلة تجعل إلكترونًا في المستوى اثنين يطلق مقدارًا أقلَّ من هذه الكَمِّية من الطاقة؛ لأنه لا يوجد موضعٌ آخر ليهبط إليه الإلكترون سوى الحالة الأرضية. ونظرًا لوجود العديد من الدرجات التي يمكن للإلكترون الاستقرار عليها، ولأنه يستطيع القفز أو الهبوط من أيِّ درجةٍ إلى أيِّ درجةٍ أخرى، يوجد العديد من الخطوط في طيف كل عنصر. وكل خطٍّ منها يقابل انتقالًا بين درجتَين، بين مستويَين للطاقة لهما أرقامٌ كَمِّية مختلِفة. وتؤدي كل الانتقالات التي تنتهي بالحالة الأرضية، على سبيل المثال، إلى مجموعةٍ من خطوط الطيف على غرارِ سلسلةِ بالمر، وتؤدي كل الانتقالات من الدرجات الأعلى التي تنتهي في المستوى اثنين إلى مجموعةٍ أخرى من الخطوط، وهكذا.5 تتصادم الذرات في حالةِ الغازِ الساخنِ باستمرار بعضها مع بعض، وبذلك تثار الإلكترونات إلى مستوياتٍ أعلى من الطاقة ثم تعود لتهبط من جديد، وفي أثناء ذلك تشعُّ خطوطُ طيفٍ برَّاقة. أما عندما يمر الضوء خلالَ غازٍ بارد، فإن الإلكترونات في الحالة الأرضية ترتفع إلى مستوياتٍ طاقة أعلى، وفي أثناء ذلك تمتص الضوء تاركة خطوطًا معتمة في الطيف.

وعلى افتراض أن نموذجَ الذرة لدى بور كان يعني شيئًا على أية حال، فإن هذا التفسير لكيفيةِ إشعاعِ الذراتِ الساخنةِ للطاقة كان ينبغي حتمًا ربطه بقانون بلانك. ولكان ينبغي حتمًا أن يكون طيف إشعاع التجويف (إشعاع الجسم الأسود) ببساطةٍ هو التأثير المشترك لأعدادٍ كبيرة من الذرات التي تشعُّ طاقةً كلما قفزت الإلكترونات من مستوَى طاقةٍ إلى آخرَ.

أكمل أينشتاين نظريتَه عن النسبية العامة سنة ١٩١٦، ووجَّه اهتمامه مجددًا إلى نظريةِ الكَمِّ (قد يبدو ذلك تجديدًا أو إحياءً من جديد مقارنةً ببحثه الرئيسي). ولعل ما حمَّسه لذلك هو النجاح الذي حقَّقه نموذج بور للذرة، وكذلك نسخته الخاصة في ذلك الوقتِ من النظريةِ الجسيميةِ للضوء التي بدأت أخيرًا تكسب أرضًا وتحوز شيوعًا وتقدُّمًا. كان الفيزيائي الأمريكي أندرو ميليكان واحدًا من أشد المعارضين لتفسير أينشتاين للظاهرة الكهروضوئية، عندما ظهر هذا التفسير لأول مرة سنة ١٩٠٥. وقد استغرق عشرَ سنوات في اختبارِ الفكرةِ من خلال سلسلةٍ من التجارب المميزة، انطلاقًا من هدفه في إثبات خطأ أينشتاين وانتهاءً بالإثبات الذي توصَّل إليه سنة ١٩١٤ عن طريق التجربة المباشرة بصحةِ تفسيرِ أينشتاين للظاهرة الكهروضوئية بمدلولِ الكَمِّ الضوئي، أو الفوتون. وفي أثناء ذلك، استنتج طريقةً تجريبية لتحديد قيمة h بدقة، واكتمالًا للمفارقة حصل سنة ١٩٢٣ على جائزة نوبل عن أبحاثه وقياسه لشحنة الإلكترون.
أدرك أينشتاين أن تحوُّل ذرةٍ من حالة طاقة «مثارة» — يوجد فيها الإلكترون في مستوى طاقةٍ عالٍ — إلى حالةٍ ذاتِ طاقةٍ أقلَّ — يوجد فيها الإلكترون في مستوى طاقةٍ منخفض — يشبه كثيرًا التحلل الإشعاعي للذرة. وقد استخدم الأساليب الإحصائية التي طوَّرها بولتزمان (للتعامل مع سلوكِ مجموعاتٍ من الذرات) للتعامل مع حالات الطاقة المفردة، حيث توصَّل إلى حسابِ احتمالِ وجودِ ذرةٍ معينة في حالةِ طاقةٍ تقابل عددًا كموميًّا معينًا n، واستخدم «جداول التأمين الأكتوارية» الاحتمالية للنشاط الإشعاعي لحساب احتمال «تفكك» ذرةٍ ما في الحالة n أو «تحللها» إلى حالةٍ أخرى ذات طاقةٍ أقلَّ (أي ذات عددٍ كموميٍّ أقلَّ). وقد أدَّى ذلك ببساطة ووضوح إلى معادلة بلانك لإشعاع الجسم الأسود التي اشتقت بأكملها على أساسِ أفكارِ الكَمِّ. وفي فترةٍ قريبة من ذلك، تمكَّن بور باستخدامِ أفكارِ أينشتاين الإحصائيةِ من توسيع نطاق نموذجه الذري، مُقرًّا بالتفسير القائل بأن بعض الخطوط في الطيف تكون أكثر وضوحًا من غيرها لأن بعض الانتقالات بين حالات الطاقة تكون احتماليةُ — أرجحية — حدوثِها أكبرَ من غيرها. ولم يستطِع تفسيرَ السبب وراء ذلك، غير أن أحدًا لم يُولِ اهتمامًا كبيرًا بالأمر في ذلك الوقت.

كان أينشتاين، مثله مثل العلماء الذين درسوا النشاط الإشعاعي في ذلك الوقت، يعتقد أن الجداول الأكتوارية ليست كلمة الفَصْل الأخيرة، وأن الأبحاث القادمة ستحدِّد السبب وراء حدوثِ انتقالٍ بعينِه في اللحظةِ التي يحدث فيها بالضبط، وليس في أيِّ وقتٍ آخر. غير أن هذه هي النقطة التي بدأت عندها نظريةُ الكَمِّ تتحرَّر فعليًّا من سيطرة الأفكار الكلاسيكية، ولم يُكتشَف قط أيُّ «سبب كامن» وراء حدوثِ التحلُّل الإشعاعي أو انتقالات الطاقة الذرية حال حدوثها. وفي الواقع، يبدو أن هذه التغيرات تحدث كلها بمحض المصادفة، على أساسٍ إحصائيٍّ ما، وقد بدأ ذلك الأمر في إثارةِ تساؤلاتٍ فلسفيةٍ جوهريةٍ.

في العالَم الكلاسيكي لكلِّ شيءٍ سبب. ويمكنك تتبُّع سببَ أيِّ حدث بتسلسلٍ زمنيٍّ عكسي لاكتشافِ السببِ وراء ذلك السبب، والسبب الذي أدَّى إلى ذلك السبب، وهكذا حتى تصل إلى الانفجار العظيم (إذا كنت من علماء الكون)، أو حتى لحظة الخَلْق في السياق الديني، إذا كان ذلك هو النموذج الذي تقبل به. أما في عالَمِ الكَمِّ، فإن هذه السببية المباشرة تأخذ في الاختفاء بمجردِ فحصِ التحلُّل الإشعاعي والانتقالات الذرية. فالإلكترون لا يهبط من مستوًى معيَّن للطاقة إلى مستوًى آخر في زمنٍ معيَّن لأي سببٍ محدَّد. ومستوى الطاقة الأدنى هو الأكثرُ تفضيلًا لدى الذرة، بالمفهوم الإحصائي، ولذا فمن المرجَّح (يمكن قياس مقدار الأرجحية كميًّا) أن يقوم الإلكترون بهذا الانتقال آجلًا أو عاجلًا. ولكن لا توجد وسيلةٌ تخبرنا متى سيحدث هذا الانتقال. فلا يوجد عاملٌ خارجي يدفع الإلكترون، ولا يوجد توقيتٌ داخلي يفرض على الإلكترون القفز في توقيتٍ محدَّد. وكلُّ ما هنالك أن الانتقال يحدث في هذا الحين وليس ذاك دون سببٍ معيَّن.

وليس ذلك خروجًا عن السببية الصارمة، ومع أن الكثيرين من علماء القرن التاسع عشر ربما هالتهم الفكرة، فإنني يخامرني الشك في أن يكون أيٌّ من قراء هذا الكتابِ يكترثون كثيرًا لها. ولكن ليست هذه سوى أولِ قطرةٍ في الغيث، وأولِ مفتاحٍ لفك الطلاسم الحقيقية لعالَمِ الكَمِّ، وإن كان جديرًا بالذكر أن أهميتها لم تحظَ بتقدير في ذلك الوقت. وكان مولد الفكرة سنة ١٩١٦ على يد أينشتاين.

الذرات وعلاقة بعضها ببعض

لعله من المضجر التوسُّع في شرحِ كلِّ التنقيحات المفصَّلة التي شهدها نموذج بور للذرة حتى سنة ١٩٢٦، ولعل الأكثرَ ضجرًا أن يُكتشَف عندئذٍ فقط أن معظم هذه المحاولات لتلمُّس الطريق نحو الحقيقة كان يجانبه الصواب على أيةِ حال. غير أن ذرة بور كانت تغلب على الكتب الدراسية وكتب تبسيط العلوم على نحوٍ لا يمكن إغفاله، وهي تمثِّل في شكلها النهائي آخرَ نموذجٍ للذرة يرتبط بأي صلة بالصور التي اعتدنا عليها في حياتنا اليومية. وقد تبيَّن أن الذرةَ التي رآها القدماء مثل كرة البلياردو ولا تنقسم، قابلةٌ للانقسام وتتكوَّن في معظمها من فراغ، تملؤه جسيماتٌ غريبة تسلك مسلكًا غريبًا. وقد قدَّم بور إطارًا وضع بعض هذه التصورات الغريبة في سياقٍ يحاكي حياتنا اليومية، ومع أنه من الأفضل استبعاد كل الأفكار المتعلقة بحياتنا اليومية قبل الانغماس كليةً في عالَمِ الكَمِّ، فإن معظم الأشخاص يَبدون أكثرَ سعادةً عندما يستعرضون نموذجَ بور قبل هذا الانغماس. الآن وقد بلغنا منتصفَ الطريق بين الفيزياءِ الكلاسيكيةِ ونظريةِ الكَمِّ، دعونا نتوقَّف لنلتقط أنفاسنا ونستريح لوهلةٍ قبل أن ندخل إلى منطقةٍ مجهولة. ولكن دعونا لا نضيِّع الوقت والطاقة في تتبُّع كلِّ الأخطاء وأنصاف الحقائق التي تضمَّنها مزيج الجهود المشتركة لوضع نموذج بور والنواة حتى سنة ١٩٢٦. وبدلًا من ذلك، سأستخدم منظور ثمانينيات القرن العشرين لإلقاءِ نظرةٍ إلى الوراء على ذرةِ بور ولوصفِ نوعٍ من التوليفِ الحديثِ لأفكارِ بور وأفكارِ رفاقه، بما في ذلك بعض قِطَع البازل التي لم تُوضَع حقيقةً في موضعها الصحيح إلا مؤخرًا.

إنَّ الذرات متناهيةُ الصغر. وعدد أفوجادرو هو عدد ذرات الهيدروجين في جرامٍ واحدٍ من الغاز. ولكن غاز الهيدروجين ليس من قبيل الأشياء التي نقابلها في حياتنا اليومية؛ ومن ثَم لكي نأخذ فكرةً عن مدى صِغَر الذرات، دعونا نفكِّر بدلًا من ذلك في قطعةٍ من الكربون؛ الفحم أو الماس أو السناج. ولأن كل ذرة كربون يزيد وزنها عن ذرة الهيدروجين بمقدار ١٢ مرة، فإن العدد نفسه من ذرات الكربون المماثل لعدد الذرات في جرامٍ واحد من الهيدروجين يزن ١٢ جرامًا. ويزيد وزن العشرةِ جراماتٍ قليلًا عن ثُلث أوقية، ويقل وزن الاثني عشر جرامًا عن نصف أوقية. وتزن كل ملعقةٍ كبيرة من السكر، أو ماسة كبيرة، أو قطعةٍ صغيرة من الفحم حوالي نصف أوقية. وهذه هي كمية الكربون التي يحتوي عليها عدد أفوجادرو من الذرات، ٦ × ١٠٢٣ (العدد ٦ متبوعًا بثلاثة وعشرين صفرًا). كيف نقيس القيمة الحقيقية لهذا العدد؟ يُطلق عادةً على الأعداد الضخمة «أعداد فلكية»، والكثير من الأعداد الفلكية تكون كبيرةً بالفعل؛ ولذا دعونا نحاول إيجادَ عددٍ كبيرٍ مكافئ لذلك في علم الفلك.
يقدِّر الفلكيون عمرَ الكَون بأنه يقل قليلًا عن ١٥ مليار سنة، ١٥ × ١٠٩ سنة. ومن الواضح أن العدد ١٠٢٣ أكبر كثيرًا من العدد ١٠٩. لنحوِّل الآن عمرَ الكَون إلى عددٍ أكبرَ من ذلك، مستخدمين أصغرَ وحدات الزمن التي ربما تكون مألوفةً لنا، وهي الثانية. تحتوي كل سنة على ٣٦٥ يومًا، وكل يوم على ٢٤ ساعة، وكل ساعة على ٣٦٠٠ ثانية. وبتحويل الأعداد تقريبيًّا، فإن كل سنة تحتوي تقريبيًّا على ٣٢ مليون ثانية أي نحو ٣ × ١٠٧ ثانية. وبذلك، فإن ١٥ مليار سنة تحتوي على ٤٥ × ١٠١٦ ثانية، بتطبيق قاعدة جمع الأسس في حالة ضرب الأعداد المرفوعة لأسٍّ مثل ١٠٩ و١٠٧ ليكون الناتج ١٠١٦. ومرةً أخرى، بتحويلِ الأعدادِ تقريبيًّا، فإن عمر الكَون بالثواني يصبح ٥ × ١٠١٧.
ولا يزال هذا العدد أقلَّ كثيرًا من ٦ × ١٠٢٣؛ فالأس المرفوع له الأساس ١٠ أقل بمقدار ٦. ولا يبدو ذلك سيئًا جدًّا عندما نكون بصدد التعامل مع عددٍ أساسه ١٠ مرفوعًا لأس ٢٣، ولكن ماذا يعني ذلك؟ نقسم ٦ × ١٠٢٣ على ٥ × ١٠١٧، وبطرح الأسسِ فإننا نحصل على عددٍ يزيد قليلًا عن ١ × ١٠٦؛ أي مليون. والآن تخيَّل كائنًا خارقًا يراقب تطوُّر عالمنا منذ لحظة الانفجار العظيم حتى لحظةِ الخَلق. ويحمل هذا الكائن معه نصف أوقية من الكربون النقي وملقاطًا فائقَ الصِّغر بحيث يمكنه التقاطُ ذرةِ كربون واحدة من هذه الكَمِّية. وبدءًا من لحظة بداية الانفجار العظيم التي شهدت نشأة الكَون، يزيل هذا الكائن ذرة كربون واحدةً من هذه الكَمِّية كل ثانية ويلقي بها بعيدًا. وحتى الآن، يكون قد أزال ٥ × ١٠١٧ ذرة، فما هو المقدار المتبقي؟ بعد كل ذلك النشاط، والعمل على مدى ١٥ مليار سنة، سيكون الكائن الخارق قد أزال حوالي جزءٍ واحدٍ من مليون جزء من ذرات الكربون؛ ومن ثَم فإن ما تبقى في الكَمِّية التي معه لا يزال يزيد عن الجزء الذي أزاله بمقدار مليون مرة.

لعلك الآن قد استوعبت مدى صِغَر الذرة. وليس المستغرب في الأمر أن نموذج بور للذرة كان تقديرًا تقريبيًّا وسانحًا، ولا أن قوانين الفيزياء للحياة اليومية لا تنطبق على الذرات. المعجزة هي أن نفهم أيَّ شيء عن الذرات، وأن نستطيع إيجاد طرق لاجتياز الفجوةِ ما بين الفيزياءِ الكلاسيكيةِ لنيوتن وفيزياءِ الكَمِّ الذرية.

وبقدرِ الصورة الفيزيائية التي يمكن تكوينها لأي شيءٍ متناهي الصِّغَر، فهكذا هو مدى الصِّغر الذي تكون عليه الذرة. وكما أوضح رذرفورد، فإن النواة المتناهية الصِّغر التي تقع في مركز الذرة تكون محاطةً بسحابةٍ من الإلكترونات التي تدور حولها بزخم كالنحل. في البداية، كان الاعتقاد السابق هو أن النواة تتكوَّن من بروتونات فقط، وكل بروتون منها يحمل شحنةً موجبةً بنفس مقدار الشحنة السالبة للإلكترون، وبذلك فإن العدد المتساوي من البروتونات والإلكترونات يجعل كل ذرة متعادلة كهربيًّا، وقد اتضح فيما بعدُ أن هناك جسيمًا أساسيًّا آخرَ في الذرة يشبه البروتون لكنه لا يحمل شحنةً كهربية. إنه النيوترون، وفي كل الذرات باستثناء ذرة الهيدروجين، التي هي أبسط الذرات على الإطلاق، توجد النيوترونات إلى جانب البروتونات في النواة. ولكن عدد البروتونات يكون مساويًا حقًّا لعدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة. يحدِّد عددُ البروتونات في النواة نوعَ العنصر الذي تمثِّله هذه الذرة، ويحدِّد عددُ الإلكترونات في السحابة (المساوي تمامًا لعدد البروتونات) الخصائصَ الكيميائية لهذه الذرة، وهذا العنصر. ولكن، نظرًا لأن بعض الذرات التي يتساوى فيها عدد البروتونات والإلكترونات قد تحتوي على عددٍ مختلِف من النيوترونات، فإن العناصر الكيميائية يمكن أن تجيء في صورٍ مختلِفة تُسمَّى النظائر. وقد أدخل سودي هذا الاسم سنة ١٩١٣ مستعيرًا إياه من لفظةٍ إغريقيةٍ تعني «الموضع نفسه»، وذلك بسبب اكتشاف وجود ذرات ذات أوزانٍ مختلفة تنتمي إلى الموضعِ نفسِه في جدول الخصائص الكيميائية؛ الجدول الدوري للعناصر. وقد حصل سودي على جائزة نوبل (في الكيمياء) سنة ١٩٢١ عن أبحاثه حول النظائر.

إنَّ أبسط نظير لأبسطِ عنصرٍ هو الصورة الأكثر شيوعًا للهيدروجين التي تحتوي فيها الذرة على بروتونٍ واحدٍ مصحوبٍ بإلكترونٍ واحد. وفي الديوتيريوم، تحتوي كل ذرة على بروتونٍ واحد ونيوترونٍ واحد مصحوبَين بإلكترونٍ واحد، إلا أن الخصائص الكيميائية لذرةِ الديوتيريوم تكون مماثلةً للخصائص الكيميائية لذرة الهيدروجين العادية. ولأن كتلة البروتونات والنيوترونات تكون متساوية تقريبًا، وكلٌّ منها أثقل ٢٠٠٠ مرة تقريبًا من الإلكترون، فإن العدد الكلي للبروتونات والنيوترونات في النواة يحدِّد الكتلةَ الكليةَ للذرةِ بفارقٍ ضئيل للغاية. ويرمز إلى هذا العدد عادةً بالعدد A، ويُطلق عليه العدد الكتلي. ويُطلَق على عدد البروتونات في النواة الذي يحدِّد خصائص العنصر، العدد الذري Z. وتُسمَّى الوحدة التي تُقاس بها كتلة الذرة وحدة الكتلة الذرية، وهو اسمٌ منطقي جدًّا وفي محله، وتُعرَّف بأنها جزء من اثني عشر جزءًا من كتلة نظير الكربون، يحتوي على ستة بروتونات وستة نيوترونات في نواته. ويُسمَّى هذا النظير الكربون-١٢، أو يكتب اختصارًا ، ويوجد نظيران آخران للكربون هما و، ويحتوي كلٌّ منهما على التوالي على سبعة نيوترونات وثمانية نيوترونات في نواته.
تزيد النظائر بزيادة كتلة النواة (زيادة عدد البروتونات التي تحتويها). فالقصدير — على سبيل المثال — يحتوي على خمسين بروتونًا في نواته (Z = ٥٠) وله عشرة نظائر مستقرة يتراوح العدد الكتلي لكلٍّ منها من A = ١١٢ (٦٢ نيوترونًا) إلى A = ١٢٤ (٧٤ نيوترونًا). في الأنوية المستقرة (باستثناء ذرة الهيدروجين التي هي أبسط الذرات على الإطلاق) يكون عدد النيوترونات مساويًا دائمًا على أقل تقدير لعدد البروتونات، وتساعد النيوترونات المتعادلة في تماسك البروتونات الموجبة معًا التي تميل إلى التنافر فيما بينها. يرتبط النشاط الإشعاعي بالنظائر غير المستقرة التي تتحوَّل إلى صورةٍ مستقرةٍ وتبعث بالأشعة أثناء ذلك. وما أشعة بيتا سوى إلكترون انبعث لدى تحوُّل نيوترون إلى بروتون، وجسيمات ألفا هي أنويةٌ ذريةٌ قائمة بذاتها، فهي عبارة عن زوج من البروتونات وزوج من النيوترونات (نواة ذرة الهيليوم-٤) انبعث من نواة غير مستقرة أثناء تعديلها لتركيبها الداخلي، أما الأنوية غير المستقرة ذات الكتلة الكبيرة للغاية، فإنها تنشطر إلى اثنتين أو أكثر من الأنوية المستقرة الأخفِّ وزنًا، وذلك عن طريق العملية المعروفة بالانشطار النووي أو الذري، التي يصاحبها أيضًا انطلاق جسيمات ألفا وبيتا من هذا الوسط. ويحدث كل ذلك في حيزٍ ضئيل للغاية يصعب تخيُّله من الذرة نفسها. يبلغ قطر الذرة العادية ١٠ −١٠ مترًا، بينما لا يزيد نصف قطر النواة عن ١٠ −١٥ مترًا؛ أي أصغر من الذرة بمقدار ١٠٥ مرة. ولأن الحجم يساوي مكعب نصف القطر، فعلينا أن نضرب الأس في ثلاثة لنجدَ أن حجم النواة أصغرُ بمقدار ١٠١٥ مرة من حجم الذرة.

التفسير من منظور الكيمياء

تقدِّم سحابةُ الإلكترونات الجانبَ الخارجي للذرة والوسائل التي تتفاعل بها مع الذرات الأخرى. أما ما يرقد عميقًا في قلب السحابة الإلكترونية، فإنه على الأغلب ليس ماديًّا؛ ذلك أن ما «تراه» ذرة أخرى و«تشعر به» هو الإلكترونات نفسها، والتفاعلات بين سُحب الإلكترونات هي المسئولة عن الخصائص الكيميائية. وبشرح السمات العامة للسحابة الإلكترونية، وضع نموذج بور للذرة الخصائصَ الكيميائية على أساسٍ علميٍّ راسخ. كان الكيميائيون يعرفون بالفعل أن بعضَ العناصر كانت متشابهة جدًّا في خصائصها الكيميائية مع أن لها أوزانًا ذريةً مختلفة. وعندما جرى ترتيب العناصر في جدول تبعًا لأوزانها الذرية (ولا سيَّما عندما سُمِحَ بالنظائر المختلفة)، اتضح أن العناصر المتماثلة كانت تتكرَّر على فتراتٍ منتظمة، وكان أحد هذه الأنماط هو تكرار العناصر بحيث تفصل بينها ثمانية أعدادٍ ذرية. ولهذا السبب، عندما رُتِّبَ الجدول بحيث توضَع العناصر ذات الخصائص المتماثلة في مجموعاتٍ ما، سُمِّي الجدول «الدوري».

زار بور جامعة جوتينجن في ألمانيا في شهر يونيو سنة ١٩٢٢، ليلقي سلسلةً من المحاضرات حول نظريةِ الكَمِّ وتركيب الذرة. وكانت جوتينجن على وشك أن تصبح واحدة من ثلاثةِ مراكزَ رئيسيةٍ في تطوير النسخة الكاملة من نظريةِ الكَمِّ، تحت إشراف ماكس بورن، الذي أصبح أستاذًا للفيزياء النظرية هناك سنة ١٩٢١. وُلِد بورن سنة ١٨٨٢، وكان ابنًا لأستاذ تشريح بجامعة بريسلاو، وصار طالبًا في أوائل القرن العشرين عندما ظهرت أفكار بلانك لأول مرة. وقد درس الرياضيات في البداية، ولم يتحوَّل إلى الفيزياء (ويعمل لفترة في مختبر كافنديش) إلا بعد أن أتمَّ رسالةَ الدكتوراه سنة ١٩٠٦. وقد تبيَّن أن ذلك كان تدريبًا مثاليًّا للسنوات القادمة كما سنرى فيما بعدُ. كان بور يتصف دائمًا بالدقةِ الرياضية بوصفه خبيرًا في النسبية، وذلك على نقيضٍ واضح من مزيج التصوُّرات النظرية لبور الذي أسَّسه بمساعدةِ آرائه الثاقبة وحدْسه الفيزيائي، لكنه غالبًا ما يترك للآخرين أمرَ إدراك التفاصيل الرياضية وفهْمها. وقد كان كلا النوعين من النبوغ ضروريًّا للوصول إلى فهْم جديد للذرات.

fig8
شكل ٤-٢: يمكن تمثيلُ ذراتِ بعضِ أبسطِ العناصرِ لأغراضٍ عديدةٍ كنواةٍ تحيط بها إلكترونات في أغلفةٍ تُقابِل الدرجاتِ في سُلَّم مستويات الطاقة. وطبقًا لقواعدِ الكَمِّ، فإنه لا يُسمَح إلا بوجود إلكترونَين فقط في المستوى الأدنى؛ ومن ثَم فإن الليثيوم الذي يحتوي على ثلاثة إلكترونات لا بد أن ينقل إلكترونًا منها إلى الدرجةِ التي تعلوه في سُلَّم الطاقة. وهناك «متَّسع» في هذا الغلاف الثاني لثمانية إلكترونات، وهكذا فإن للكربون غلافًا ممتلئًا حتى نصف سعته بالضبط، وهو السبب وراء خصائص الكربون الكيميائية المهمة كأساسٍ للحياة.
كانت محاضرات بور في يونيو سنة ١٩٢٢ حدثًا رئيسيًّا في تجديد الفيزياء الألمانية بعد الحرب، وكذلك في تاريخ نظريةِ الكَمِّ. حضر هذه المحاضرات علماءُ من جميع أنحاء ألمانيا، وقد أصبحت تُعرف (دون تلاعبٍ مُبالَغ فيه بالألفاظ في بعض الاحتفاليات الألمانية المشهورة الأخرى) باسم «مهرجان بور». وقد قدَّم بور في تلك المحاضرات، بعد أن جهَّز حجَّته بعناية، أولَ نظريةٍ ناجحة للجدول الدوري للعناصر، وهي النظرية التي ظلَّت قائمةً بنفس صورتها في المقام الأول حتى يومنا هذا. وقد نشأت فكرةُ بور من صورة الإلكترونات التي تضاف إلى نواة الذرة. ومهما يكن العدد الذري لهذه النواة، فإن أول إلكترون سينتقل إلى حالة الطاقة التي تقابل الحالة الأرضية للهيدروجين. وسينتقل الإلكترون التالي إلى حالةِ طاقةٍ مماثلة؛ حيث يعطي مظهرًا خارجيًّا يشبه بالأحرى ذرة الهيليوم، التي تحتوي على إلكترونَين. إلا أن بور قد صرَّح بأنه لا يوجد متَّسع للمزيد من الإلكترونات في ذلك المستوى في الذرة، وسيتعيَّن على الإلكترون التالي الذي سيُضاف الانتقالُ إلى نوعٍ جديد من مستوى الطاقة. وبذلك، فإن الذرة التي تحتوي على ثلاثة بروتونات في نواتها وثلاثة إلكترونات خارجها لا بد أن تحتوي على زوجٍ من هذه الإلكترونات يكون مرتبطًا بقوةٍ مع النواة وإلكترون واحد مطروحًا خارجها، ولا بد أن تسلك الذرة كما لو كانت ذرةً لديها إلكترونٌ واحد (الهيدروجين) وذلك فيما يتعلَّق بالخصائص الكيميائية لها. والعنصر الذي فيه Z = 3 هو الليثيوم، وهو يُظهِر بالفعل بعضَ الخصائص الكيميائية المشابهة للهيدروجين. والعنصر التالي في الجدول الدوري الذي له خصائصُ مماثلةٌ لليثيوم هو الصوديوم الذي فيه Z = 11، ويشغل المرتبة الثامنة بعد الليثيوم. وهكذا دفع بور بأنه لا بد من وجودِ ثمانية مواضعَ متاحة في مستويات الطاقة الموجودة خارج الإلكترونَين الداخليَّين، وأنه عند امتلائها لا بد أن ينتقل الإلكترون التالي — الإلكترون الحادي عشر — إلى حالةٍ أخرى من حالاتِ الطاقةِ أقلَّ ارتباطًا بالنواة، ومن ثَمَّ تحاكي الذرةُ مرةً أخرى مظهر ذرة لها إلكترونٌ واحد فقط.
تسمَّى هذه الحالات من الطاقة ﺑ «الأغلفة»، وقد تضمَّن شرحُ بور للجدول الدوري امتلاءَ الأغلفةِ بنجاح بالإلكترونات مع زيادة Z. ويمكن التفكيرُ في الأغلفة على أنها طبقاتُ قشرة البصل الخارجية التي تُغلِّف إحداها الأخرى، وما يهمُّ من الناحية الكيميائية هو عدد الإلكترونات في الغلاف الخارجي الأكثر بُعدًا للذرة. أما ما يقع عميقًا داخل الذرة، فإنه يلعب دورًا ثانويًّا فقط في تحديد الكيفية التي تتفاعل بها الذرة مع الذرات الأخرى.
fig9
شكل ٤-٣: عندما تتَّحد ذرة كربون واحدة بأربع ذرات من الهيدروجين، فإنهما يتقاسمان الإلكترونات بحيث تبدو كل ذرة من ذرات الهيدروجين في ظاهرها وكأن لها غلافًا داخليًّا ممتلئًا (به زوج من الإلكترونات) و«ترى» ذرة الكربون ثمانية إلكترونات في غلافها الثاني. ويُعدُّ هذا تكوينًا ذريًّا مستقرًّا للغاية.
ومع التدرُّج إلى الخارج عبْر أغلفةِ الإلكترونات، وتضمين الأدلة المستخلصة من علم التحليل الطيفي، تمكَّن بور من تفسير العلاقات بين العناصر في الجدول الدوري من حيث التركيب الذري. لم تكن لديه أيُّ فكرة عن السبب الذي يستوجب النظر إلى الغلاف المحتوي على ثمانية إلكترونات على أنه غلافٌ ممتلئ (مغلق)، لكنه جعل جميع الحضور على يقين بأنه قد اكتشف الحقيقة الأساسية، ولم يترك مجالًا للشك لدى أيٍّ منهم. وكما قال هايزنبرج لاحقًا، فإن بور «لم يبرهن على أيِّ شيء رياضيًّا … وكلُّ ما هنالك أنه كان يعرف أن هذه هي الصلةُ بطريقةٍ أو بأخرى».6 وقد علَّق أينشتاين في كتابه «ملاحظات السيرة الذاتية» سنة ١٩٤٩ وهو يصف نجاحَ أبحاث بور القائمة على نظريةِ الكَمِّ بقوله: «إن هذا الأساس غيرَ المحكَم والمتناقض كان كافيًا ليُمكِّن رجلًا مثل بور له هذا الحسُّ المتفرد والبراعة المتميزة من اكتشافِ القوانين الرئيسية لخطوطِ الطيف وأغلفة الإلكترونات في الذرات، إلى جانبِ اكتشافِ أهميتها للكيمياء، الأمر الذي بدا لي أنه معجزة، وما زال يبدو لي معجزةً حتى اليوم».7

تُعنى الكيمياء بالطريقةِ التي تتفاعل بها الذرات وتتَّحد لتصنع الجزيئات. فلماذا يتفاعل الكربون مع الهيدروجين بحيث ترتبط أربع ذرات من الهيدروجين بذرةٍ واحدة من الكربون لتصنعَ جزيء الميثان؟ ولماذا يوجد الهيدروجين في صورةِ جزيئات، كل جزيء منها يتكوَّن من ذرتَين، بينما لا يكوِّن الهيليوم أيَّ جزيئات؟ وهكذا. جاءت الإجابات ببساطةٍ مذهلةٍ من نموذج الأغلفة. فكلُّ ذرة هيدروجين بها إلكترونٌ واحد، بينما الهيليوم به إلكترونان. يمتلئ الغلاف «الداخلي» الأقرب إلى النواة بإلكترونَين، (ولسببٍ غيرِ معروف) تكون الأغلفة الممتلئة أكثرَ استقرارًا؛ فالذرات «تميل» إلى أن تكون لها أغلفةٌ ممتلئة. عندما تتَّحد ذرتان من الهيدروجين لتكوينِ جزيءٍ ما، فإنهما تتقاسمان الإلكترونَين بحيث تستشعر كلُّ ذرة ميزةَ الغلاف المغلق (الممتلئ). أما الهيليوم، الذي به غلافٌ ممتلئ بالفعل، فإنه لا يكترث بأيِّ عَرَض من هذا القبيل، ويمتنع عن التفاعل كيميائيًّا مع أي شيء.

يحتوي الكربون على ستة بروتونات في نواته وستة إلكترونات خارجها. ويشغل اثنان من هذه الإلكترونات الغلافَ الداخلي المغلق، ليتبقى بذلك أربعة إلكترونات مرتبطة بالغلاف التالي، الذي هو نصف فارغ. وتستطيع الذرات الأربع من الهيدروجين طلبَ مشاركة واحد من الإلكترونات الأربعة الخارجية لذرة الكربون والمساهمة بإلكترونها الخاص في هذه العملية. وتنتهي كلُّ ذرة هيدروجين بغلافٍ شبهِ ممتلئ بإلكترونَين داخليين، بينما يصبح الغلاف الثاني لكل ذرة كربون شبهَ ممتلئ بثمانية إلكترونات.

ووفقًا لما قاله بور، فإنَّ الذرات تتَّحد بحيث تقرُب قدْر المستطاع من الحصول على غلافٍ خارجيٍّ مغلق. وفي بعض الأحيان، كما في حالة جزيء الهيدروجين، يكون من الأفضل أن نفكِّر في زوجٍ من الإلكترونات تتقاسمه نواتان، وفي حالاتٍ أخرى تكون الصورة المناسبة أن نتخيَّل ذرةً تحتوي على إلكترونٍ زائد في غلافها الخارجي (ربما ذرة الصوديوم مثلًا) وتتخلَّى عن هذا الإلكترون لصالحِ ذرةٍ يحتوي غلافها الخارجي على سبعة إلكترونات وبه مكانٌ شاغر لإلكترونٍ واحد (في هذه الحالة، قد تكون هذه هي ذرة الكلور). وتصبح كل ذرة سعيدة؛ الصوديوم سعيد بفقد إلكترون؛ مما يجعل الغلاف الداخلي الممتلئ «مرئيًّا»، والكلور سعيد باكتساب إلكترون يجعل غلافه الخارجي ممتلئًا. ولكن تكون المحصلة بذلك أن ذرةَ الصوديوم تصبح أيونًا موجبَ الشحنة بفقدها وحدةً واحدة من الشحنة السالبة، بينما تصبح ذرة الكلور أيونًا سالبًا. وحيث إن الشحنات المتضادة تتجاذب، فإن الأيونَين يتَّحد أحدهما بالآخر ليكوِّنا جزيئًا متعادلَ الشحنة من كلوريد الصوديوم؛ ملح الطعام.

fig10
شكل ٤-٤: تتوصَّل ذرة الصوديوم بتخلِّيها عن إلكترونها الخارجي الوحيد إلى التكوين المرغوب وفقًا لميكانيكا الكَمِّ، وتصبح الذرة موجبةَ الشحنة. ويملأ الكلور غلافه الخارجي بقبوله إلكترونًا إضافيًّا، ليصبح به ثمانية إلكترونات ويكتسب شحنةً سالبة. وتتماسك الأيونات المشحونة معًا لتصنع الجزيئات وبلورات ملح الطعام (NaCl) بواسطة القوى الكهروستاتيكية.

يمكن تفسير كل التفاعلات الكيميائية بهذه الطريقة؛ إما مشاركة إلكترونات أو مقايضتها بين الذرات بغرضِ الوصول إلى الاستقرار الذي يميِّزه امتلاء الأغلفة الإلكترونية. ويترتَّب على انتقالات الطاقةِ المتضمِّنة للإلكترونات الخارجية بصمةُ الطيف المميِّزة للعنصر، أما الانتقالات المتضمِّنة للأغلفة الداخلية (ومن ثَم المشتمِلة على كميَّةٍ أكبرَ من الطاقة، في جزء أشعة إكس من الطيف)، فلا بد أن تكون واحدة لكل العناصر، كما ثبت بالفعل. ومثل أفضل النظريات، تأكَّد نموذجُ بور بواسطة تنبؤٍ مُوفَّق. فمن خلال ترتيب العناصر في جدولٍ دوري، وحتى سنة ١٩٢٢، كانت هناك فراغاتٌ تُقابل عناصرَ لم تُكتشَف بعدُ بالأعداد الذرية ٤٣ و٦١ و٧٢ و٧٥ و٨٥ و٨٧. وتنبَّأ نموذجُ بور بالخصائص التفصيلية لهذه العناصرِ «الناقصة» واقترح أن يكون للعنصر ٧٢ على وجه التحديد، خصائصُ مماثلة للزركونيوم، وهو التنبؤ الذي يتعارض مع التنبؤات القائمة على النماذج البديلة للذرة. وقد تأكَّدت صحةُ هذا التنبؤ في غضونِ عامٍ واحد مع اكتشافِ الهافنيوم، العنصر ٧٢، الذي اتضح أن له خصائصَ طيفيةً متطابقةً تمامًا مع تلك التي تنبَّأ بها بور.

كانت هذه هي ذروة نظريةِ الكَمِّ القديمة. وقد أُطيحَ بهذه النظريةِ في غضون ثلاث سنوات، وإن كان يتوجَّب عليك فيما يتعلَّق بالكيمياء معرفةُ ما هو أكثر قليلًا من فكرة الإلكترونات على أنها جسيماتٌ دقيقةٌ تدور حول نواة الذرة في أغلفةٍ «تميل» إلى أن تصبح ممتلئة (أو فارغة، ولكن من المفضَّل ألا تكون في حالةٍ بين الوضعَين).8 وإذا كنت من المهتمين بفيزياء الغازات، فأنت تحتاج إلى ما هو أكثر قليلًا من صورةِ الذرات على أنها كرات بلياردو صلبةٌ غير قابلة للإتلاف. وسوف تصلح فيزياء القرن التاسع عشر للأغراض الحياتية اليومية، بينما ستصلح فيزياء سنة ١٩٢٣ لمعظم النواحي المتعلِّقة بالكيمياء، في حين تأخذنا فيزياء الثلاثينيات من القرن العشرين إلى ما هو أبعد من أي نقطةٍ بلغها حتى الآن أيُّ شخص خلال البحث عن الحقائق المطلقة. وعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، لم تحدث أيُّ طفرة يمكن أن تضاهي ثورةَ الكَمِّ، وطَوال هذا الوقت كانت بقيةُ العلوم تحاول اللَّحاق برَكْب حَفنةٍ من العباقرة وإدراكَ الآراء والأفكار التي قدَّموها. وقد جاء نجاح تجربة «أسبكت» في باريس في بداية ثمانينيات القرن العشرين لتعلن عن بداية نهاية هذه الفترة من اللَّحاق بالرَّكْب، وذلك مع أول إثبات عن طريق التجربة المباشرة على أنه حتى أكثر السمات غرابة لميكانيكا الكَمِّ تكون عبارةً عن وصفٍ حرفي للحالة التي عليها الأشياء في العالم الواقعي. وقد حان الوقت لنكتشف مدى الغرابة التي عليها حقًّا عالَمُ الكَمِّ.

هوامش

(1) One version of the story has it that the move was a result of a disagreement between Bohr and Thomson about Thomson’s model of the atom, which Bohr didn’t like, and that J. J. quietly suggested that Rutherford might be more receptive to Bohr’s ideas. See E. U. Condon, quoted by Max Jammer on page 69 of The Conceptual Development of Quantum Mechanics.
(2) The full quantum theory tells us that light is both particle and wave, but we haven’t got there yet.
(3) A simple version of the formula says that the wavelengths of the first four hydrogen lines are given by multiplying a constant (36.456 × ) by 9/5, 16/12, 25/21, and 36/32. In this version of the formula, the top of each fraction is given by the sequence of squares (32, 42, 52, 62); the denominators are differences of squares, 32 - 22, 42 - 22, and so on.
(4) When dealing with electrons and atoms everyday energy units are rather too large for convenience, and the appropriate unit is the electron Volt (eV), which is the amount of energy an electron would pick up in moving across an electric potential difference of one Volt. The unit was introduced in 1912. In more everyday terms, an electron Volt is 1.602 × joule, and one Watt is one joule per second. An ordinary light bulb burns energy at a rate of 100 Watts, which if you want to you can express as 6.24 × 1020 eV per second. It certainly sounds more impressive to say my light radiates six and a quarter hundred million trillion electron volts a second, but the energy is the same as when it was a hundred-watt lamp. The energies involved in electron transitions that produce spectral lines are a few eV—it takes just 13.6 eV to knock the electron right out of a hydrogen atom. The energies of particles produced by radioactive processes are several millions of electron Volts, or MeV.
(5) In fact, the Balmer series in hydrogen’s spectrum does correspond to the transitions that end on level two.
(6) Quoted in Mehra and Rechenberg, volume 1, page 357.
(7) Op. cit., page 359.
(8) I am, of course, exaggerating the simplicity of chemistry here. The “little more” that is needed to explain more complex molecules was developed in the late 1920s and early 1930s, using the fruits of the full development of quantum mechanics. The person who did most of the work was Linus Pauling, more familiar today as a peace campaigner and proponent of vitamin C, who received the first of his two Nobel Prizes for the work, being cited in 1954 “for his research into the nature of the chemical bond and its application to the elucidation of the structure of complex substances”. Those “complex substances” elucidated with the aid of quantum theory by Pauling, a physical chemist, opened the way to a study of the molecules of life. The key significance of quantum chemistry to molecular biology is acknowledged by Horace Judson in his epic book The Eighth Day of Creation; the detailed story, alas, is beyond the scope of the present book.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤