الفصل السابع

مطبخ الكَمِّ

يحتاج الفيزيائيون إلى معرفةِ بضعةِ أمور بسيطة من أجل استخدام الوصفات الواردة في كتاب الطهي الخاصِّ بالكَمِّ. ولا يوجد نموذج معيَّن للشكل الذي تكون عليه الذرة والجسيمات الأولية، وليس هناك ما يخبرنا بما يحدث عندما لا نكون بصدد رصدها والنظر إليها. إلا أنه من الممكن استخدام معادلات ميكانيكا الموجات (وهي الصيغة الأشهر والأوسع استخدامًا في هذا الموضوع) للتنبؤ على أساس إحصائي. فإذا أجرينا رصدًا لمشاهدة نظامٍ كَمِّي وحصلنا على الإجابة (أ) لقياساتنا، فإن المعادلات الكَمِّية ستخبرنا باحتمال الحصول على الإجابة (ب) (أو الإجابة (ﺟ) أو (د) أو أي إجابة أخرى) إذا أجرينا المشاهدة نفسَها بعد وقتٍ معيَّن. ولا تخبرنا نظريةُ الكَمِّ بالشكل الذي تكون عليه الذرات، أو ما تفعله حال عدم النظر إليها ورصدها. وللأسف فإن معظم الأشخاص الذين يستخدمون المعادلات الموجية اليوم لا يحبذون ذلك، وإنما يؤيدون بالكلام فقط دورَ الاحتمالات. ويعرف الطلاب ما أطلقَ عليه تيد باستين «صورةً متبلورة للتفنُّن في استخدام الأفكار السائدة في نهاية عشرينيات القرن العشرين … ما الذي يستطيع عالِم الفيزيائي العادي، الذي لم يسأل نفسَه قط عن رأيه في المسائل الأساسية، العمل عليه لحل مشاكله التفصيلية.»1 لقد تعلموا التفكيرَ في الموجات على أنها حقيقية، والقليل منهم اجتاز دورةً دراسية في نظريةِ الكَمِّ دون أن يخرج منه بتصوُّر في مخيلته لما تكون عليه الذرة. يتعامل الناس مع التفسير الاحتمالي دون أن يفهموه حقًّا، وهذا دليلٌ على قوة المعادلات التي وضعها شرودنجر وديراك على وجه التحديد، والتفسير الذي قدَّمه بورن، حتى إنه في مقدور الناس التلاعبُ بالكَمِّ وتحضيرُ وجباتٍ كميَّة ناجحة دون فهْم السبب وراء نجاح هذه الوصفات.

كان ديراك أول رئيس طهاةٍ للكَمِّ. تمامًا مثلما كان أول شخص من خارج جوتينجن يفهم ميكانيكا المصفوفات الجديدة ثم يطوِّرها بعد ذلك؛ ومن ثَم كان هو الشخص الذي تناوَل ميكانيكا الموجات لشرودنجر ووضعها على أساسٍ أكثرَ إحكامًا مع تطويرها لأبعد من ذلك. وأثناء تعديل المعادلات بما يتناسب مع متطلبات نظرية النسبية، بإضافة الزمن كبُعد رابع، وجد ديراك سنة ١٩٢٨ أنه لا بد من إدخالِ الحد الذي يُعتبر اليوم أنه يمثِّل الحركة المغزلية للإلكترون، وبذلك قدَّم على نحوٍ غيرِ متوقَّع تفسيرَ الانقسام المزدوج لخطوط الطيف الذي حيَّر العلماء النظريين على مدى عَقدٍ من الزمن. وقد أسفرت عملية تحسين المعادلات عن نتيجةٍ أخرى غيرِ متوقعة، وهي النتيجة التي مهَّدت الطريق أمام التطوير الحديث لفيزياء الجسيمات.

المادة المضادة

وفقًا لمعادلات أينشتاين، فإن طاقة الجسيم الذي كتلته m وزخمه p هي:
وهي المعادلة التي تُختزَل إلى عندما يساوي الزخم صفرًا. إلا أن هذه ليست كل القصة. ذلك لأن المعادلةَ الأكثرَ ألفة تأتي من حساب الجذر التربيعي للمعادلة كلها، وفي الرياضيات لا بد من الإشارة إلى أن E إما أن تكون موجبة أو سالبة. فكما أن ٢ × ٢ = ٤، فإن −٢ × −٢ = ٤، وعلى وجه الدقة . عندما تظهر هذه «الجذور السالبة» في المعادلات، فإنها غالبًا تُستبعَد لكونها بلا معنًى، ومن «الواضح» أن الناتج الوحيد الذي يعنينا هو الجذر الموجب. لم يتخذ ديراك هذه الخطوة الواضحة لأنه عبقري، بل أخذ يفكِّر فيما يتضمَّنه ذلك من معانٍ. وعند حساب مستويات الطاقة في النسخة النسبية من ميكانيكا الكَمِّ، تظهر فئتان: إحداهما موجبة بالكامل، ويقابلها ، والأخرى سالبة بالكامل ويقابلها . وطبقًا للنظرية، فإن الإلكترونات لا بد أن تقع في أدنى حالة غير مشغولة للطاقة، ومعروف أنه حتى أعلى حالةِ طاقةٍ سالبةٍ تكون أقل من أدنى حالة طاقة موجبة. إذن، ما الذي تعنيه مستويات الطاقة السالبة؟ ولماذا لا تقع كل الإلكترونات الموجودة في العالَم في هذه الحالات وتختفي؟
اعتمدت إجابة ديراك على حقيقةِ أن الإلكترونات من الفرميونات، وأن إلكترونًا واحدًا فقط يستطيع الدخول إلى كل حالة ممكنة (إلكترونان لكل مستوًى، إلكترون واحد لكل حركة مغزلية). واستنتج أنه لا بد وأن الإلكترونات لا تقع في حالات الطاقة السالبة؛ لأن كل تلك الحالات ممتلئة بالفعل. وما ندعوه «فضاءً فارغًا» هو في الحقيقة بحرٌ من الإلكترونات السالبة الطاقة. ولم يتوقف ديراك عند ذلك. فإذا أعطيت الإلكترون طاقة، فإنه سينتقل إلى أعلى سُلَّم حالات الطاقة. وهكذا إذا أعطينا إلكترونًا في بحر الطاقة السالبةِ ما يكفي من الطاقة، فإنه سينتقل حتمًا إلى أعلى العالم الحقيقي ليصبح مرئيًّا مثل إلكترون عادي. وللانتقال من الحالة إلى الحالة ، فإن الأمر يستلزم بوضوحٍ إدخالَ طاقةٍ مقدارها ، وهي بالنسبة إلى كتلة الإلكترون حوالي مليون إلكترون فولت، ويمكن الحصول عليها بسهولةٍ في العمليات الذرية أو عندما تتصادم الجسيمات بعضها مع بعض. وأما الإلكترون ذو الطاقة السالبة الذي ارتقى حتى وصلَ إلى العالَم الحقيقي، فسيصبح إلكترونًا حقيقيًّا بكل المقاييس، ولكننه سيخلِّف وراءه فجوةً أو ثغرة في بحر الطاقة السالبة، وهي غياب إلكترون سالب الشحنة. يقول ديراك إن مثل هذه الفجوة أو الثغرة لا بد أن تسلكَ مسلكَ جسيمٍ موجبِ الشحنة (كما أن سالب زائد سالب يساوي موجبًا، فإن غياب جسيم سالب الشحنة من بحرٍ سالبٍ لا بد أن يظهر كشحنة موجبة). وعندما واتته الفكرة لأول مرة، استنتج أنه نظرًا لتماثل الوضع، فلا بد أن تكون لهذا الجسيم الموجب الشحنة نفسُ كتلة الإلكترون. ولكن عندما نشر الفكرة، اقترح في لحظةِ ضعفٍ أن الجسيم الموجب يمكن أن يكون البروتون، وكان هذا هو الجسيم الآخر الوحيد المعروف في نهاية عشرينيات القرن العشرين. وكما يصف ذلك في كتاب «اتجاهات في الفيزياء»، كان الصواب يجانبه في ذلك، وكان لا بد له أن يتحلى بالشجاعة للتنبؤ بأن العلماء التجريبيين سيكتشفون حتمًا جسيمًا غيرَ معروف مسبقًا له نفسُ كتلة الإلكترون إلا أنه موجب الشحنة.

لم يكن أحدٌ متأكدًا كيف ستكون وجهات النظر تجاه أبحاث ديراك في البداية. رُفِضَت فكرةُ أنَّ البروتون هو النظير الموجب للإلكترون، ولم يأخذ أحدٌ الفكرةَ على محمل الجِد، إلى أن اكتشف الفيزيائي الأمريكي كارل أندرسون آثارَ جسيم موجب الشحنة أثناء مشاهداته الرائدة للأشعة الكَوْنية سنة ١٩٣٢. والأشعة الكَوْنية عبارة عن جسيماتٍ حاملة للطاقة تصل إلى الأرض قادمةً من الفضاء. وقد اكتشفها النمساوي فيكتور هيس قبل الحرب العالمية الأولى، واقتسم مع أندرسون جائزة نوبل سنة ١٩٣٦. وقد تضمَّنت تجارب أندرسون تتبُّع مسار الجسيمات المشحونة أثناء حركتها في غرفة الضباب، وهي عبارة عن جهازٍ تترك فيه الجسيمات ذيلًا مثل ذيل التكاثف في الطائرات، واكتشفَ أنَّ بعض الجسيمات تنتج مسارات تنحني بفِعل المجال المغناطيسي بالمقدار نفسه الذي ينحني به مسار الإلكترون، ولكن في الاتجاه المضاد. وتكون لهذه الجسيمات نفسُ كتلة الإلكترون، ولكنها موجبة الشحنة، وقد أطلق عليها اسم «بوزيترونات». حصل أندرسون على جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف سنة ١٩٣٦؛ أي بعد ثلاث سنواتٍ من حصول ديراك على جائزته، وقد غيَّر الاكتشافُ وجهةَ نظر الفيزيائيين لعالَم الجسيمات. فقد ظنوا لفترة طويلة وجودَ جسيم ذري متعادل، وهو النيوترون، الذي اكتشفه جيمس تشادويك سنة ١٩٣٢ (وحصل عنه على جائزة نوبل سنة ١٩٣٥)، وكانوا متقبلين إلى حدٍّ ما فكرةَ أن نواة الذرة تتكوَّن من بروتونات موجبة ونيوترونات متعادلة، تحيط بها إلكترونات سالبة. إلا أنه لم يكن هناك مكان للبوزيترونات في هذا التصوُّر، وغيَّرت فكرةُ أن الجسيمات يمكن أن تنشأ من الطاقة من مفهوم الجسيمات الأساسية كليًّا.

من حيث المبدأ، يمكن توليدُ أيِّ جسيمٍ من الطاقة عن طريق عملية ديراك، بشرط أن يكون ذلك مصحوبًا بتوليد الجسيم المضاد المناظر له، أو «الثغرة» في بحر الطاقة السالبة. ومع أن الفيزيائيين يفضِّلون النُّسخ الأكثر شمولًا من قصة نشوء الجسيمات اليوم، فإن القواعد لا تزال هي نفسها في معظمها، وإحدى هذه القواعد الرئيسية أنه عند التقاء جسيم بالجسيم المضاد له فإنه «يسقط في الثغرة»، مُطلِقًا طاقةً مقدارها ثم يختفي، ولا يكون ذلك في صورةِ حَفنة من الدخان بقدرِ ما هو دُفقة من أشعة جاما. وقبل سنة ١٩٣٢ كان الكثير من الفيزيائيين قد شاهدوا مسارات الجسيمات في غرف الضباب، وكان الكثير من المسارات التي شاهدوها يُعزى حتمًا إلى البوزيترونات، ولكن كان الافتراض السائد حتى بحْثِ أندرسون أنَّ هذه المسارات دائمًا تُعزى إلى حركة الإلكترونات باتجاه أنوية الذرات وليس إلى حركة البوزيترونات بعيدًا عنها. كان الفيزيائيون متحيزين ضد فكرة وجود جسيمات جديدة، أما اليوم فالوضع تغيَّر إلى النقيض، وكما يقول ديراك: «لا يميل الناس إلى التسليم بوجود جسيم جديد إلا إذا توفَّر أقلُّ دليل على ذلك، سواء كان نظريًّا أو تجريبيًّا.» («اتجاهات في الفيزياء»، صفحة ١٨). وكانت النتيجة أن حديقة الجسيمات لا تشتمل فقط على الجسيمَين الأساسيين المعروفَين في عشرينيات القرن العشرين، بل على أكثر من ٢٠٠ جسيم، يمكن إنتاجها جميعًا بتزويدِ مُعجِّلات الجسيمات بالطاقة الكافية، ومعظمها غير مستقر استقرارًا تامًّا، و«يتفكك» بسرعةٍ ليعطي وابلًا من جسيماتٍ أخرى وإشعاع. ووسط تلك الحديقة، ضاعَ تقريبًا البروتون المضاد والنيوترون المضاد اللذان اكتُشِفا في منتصف خمسينيات القرن العشرين، إلا أنهما رغم ذلك كانا تأكيدًا قويًّا لصحة الأفكار الأصلية لديراك.
صدرت كتبٌ كاملة عن حديقة الجسيمات، وبنى كثير من الفيزيائيين مسيراتهم المهنية بوصفهم مختصين في تصنيف الجسيمات. ولكن يبدو لي أنه لا يوجد شيء جوهري بشأن وجود الجسيمات بهذه الوفرة، ويشبه ذلك ما كان عليه الوضع في علم التحليل الطيفي قبل نظريةِ الكَمِّ، عندما كان في مقدور علماء التحليل الطيفي قياسُ العلاقات بين الخطوط في الأطياف المختلفة وتصنيفها، ولكن دون أن تكون لديهم أدنى فكرة عن الأسباب الكامنة وراء العلاقات التي رصدوها. ولا بد أن يزوِّدنا شيء يستند حقًّا إلى أسسٍ جوهريةٍ أكثرَ بالقواعد الأساسية لإنتاج هذه الوفرة من الجسيمات المعروفة، وهي وجهة النظر التي صرَّح بها أينشتاين لكاتِب سيرته الذاتية أبراهام بيه في خمسينيات القرن العشرين: «كان واضحًا أنه شعر بأن الوقت لم يَحِن بعدُ للانشغال بهذه الأمور، وأن هذه الجسيمات من شأنها أن تظهر في النهاية كحلول للمعادلات في نظرية المجال المُوحَّد.»2 وعلى مدى ثلاثين عامًا، كان الأمر يبدو كما لو أن أينشتاين على صواب حقًّا، وسوف نتطرق في خاتمة الكتاب إلى وصفِ الخطوط العريضة التقريبية لنظريةٍ موحَّدة محتمَلة تتضمن حديقة الجسيمات. أما الآن، فيكفي أن نشير إلى أن الانطلاق الساحق لفيزياء الجسيمات منذ أربعينيات القرن العشرين يمتد بجذوره إلى التطور الذي أحدثه ديراك في نظريةِ الكَمِّ، أولى الوصفات في كتاب الطهي الكَمِّي.

داخل النواة

بعد الانتصارات التي حقَّقتها ميكانيكا الكَمِّ في تفسيرِ سلوك الذرات، كان من الطبيعي أن يحوِّل الفيزيائيون اهتمامهم نحو الفيزياء النووية، ولكن على الرغم من النجاحات الكثيرة على أرض الواقع (التي تتضمَّن المفاعلات النووية والقنبلة الهيدروجينية)، ومعرفتنا بسلوك الذرة، فإننا لا نزال نفتقر إلى وجودِ فكرةٍ واضحةٍ عمَّا يجعل النواة تنبض. وفي الواقع أنه أمرٌ غير مستغرب على الإطلاق. ذلك أنه بمعرفة نصف قطر النواة، يتَّضح أنها أصغر مائة ألف مرة من الذرة، وبما أن الحجم يتناسب مع مكعَّب نصف القطر، فإنه من الأجدى القول إن الذرة أكبر من النواة بمقدار ألف مليون (١٠١٥) مرة. ومن الممكن قياسُ أمورٍ بسيطة مثل كتلة النواة وشحنتها، وتقودنا هذه القياسات إلى مفهوم النظائر، وهي أنوية لها العدد نفسُه من البروتونات، ومن ثَم فإنها تكوِّن ذراتٍ لها العددُ نفسُه من الإلكترونات (والخصائص الكيميائية نفسُها)، لكنها تحتوي على أعدادٍ مختلفة من النيوترونات؛ ومن ثَم تكون مختلِفة الكتلة.

وبما أن البروتونات المكتظة داخل النواة تكون موجبة الشحنة؛ ومن ثَم فإنها تتنافر، فلا بد من وجود صورةٍ أقوى من «غراء» ما يجعلها تتماسك معًا، وهي قوة تعمل فقط عبر النطاقات المتناهية الصغر التي تقابل حجم النواة، وتسمَّى القوة النووية الشديدة (توجد أيضًا القوة النووية الضعيفة، وهي أضعف من القوة الكهربية لكنها تلعب دورًا مهمًّا في بعض التفاعلات النووية). ويبدو الأمر كما لو أن النيوترونات تلعب هي الأخرى دورًا في استقرار النواة؛ وذلك ببساطة لأنه بحساب أعداد البروتونات والنيوترونات في الأنوية المستقرة توصَّل الفيزيائيون إلى تصوُّرٍ أقربَ إلى تصوُّرِ أغلفة الإلكترونات حول النواة. وأكبر عدد من البروتونات الموجودة في أي نواة موجودة طبيعيًّا هو ٩٢، وذلك في اليورانيوم. ومع أن الفيزيائيين قد نجحوا في تصنيعِ أنويةٍ يصل فيها عدد البروتونات إلى ١٠٦، فإن هذه الأنوية غير مستقرة (باستثناء بعض نظائر البلوتونيوم التي يبلغ عددها الذري ٩٤)، وتتفكك هذه الأنوية إلى أنويةٍ أخرى. وإجمالًا، يوجد حوالي ٢٦٠ نواة مستقرة معروفة، ومعرفتنا بهذه الأنوية حتى اليوم أقلُّ توافقًا مما عليه نموذج بور كوصفٍ للذرة، إلا أن هناك إشاراتٍ واضحة إلى وجودِ تركيبٍ من نوعٍ ما داخل الأنوية.

إنَّ الأنوية التي تحتوي على أعداد ٢ و٨ و٢٠ و٢٨ و٥٠ و٨٢ و١٢٦ من النيوكليونات (نيوترونات أو بروتونات) تكون مستقرة بوضوح، والعناصر المقابلة لها تكون أكثر وفرةً بكثير في الطبيعة عن العناصر التي تقابل ذراتٍ تختلف قليلًا في أعداد النيوكليونات التي تحويها، ولذا تُسمَّى هذه الأعداد أحيانًا «الأعداد السحرية». لكن البروتونات تستحوذ على تركيب النواة، ويوجد لكل عنصرٍ مدًى محدودٌ من النظائر الممكنة التي تقابل أعدادًا مختلِفة من النيوترونات؛ فالعدد الممكن من النيوترونات يكون عمومًا أكبرَ قليلًا من عدد البروتونات، ويزداد في العناصر الأثقل. والأنوية التي تملك أعدادًا سحرية من كلٍّ من البروتونات والنيوترونات تكون مستقرة بوضوح، ويتوقَّع العلماء النظريون على هذا الأساس أن العناصر الفائقة الثِّقل التي تحتوي أنويتها على حوالي ١١٤ بروتونًا و١٨٤ نيوترونًا لا بد أن تكون مستقرة، إلا أن هذه الأنوية الثقيلة لم تُكتشف قط في الطبيعة ولم تُصنَّع في معجِّلات الجسيمات بتصادم المزيد من النيوكليونات مع أثقل الأنوية الموجودة في الطبيعة.

يُعتبر الحديد-٥٦ هو أكثر الأنوية استقرارًا على الإطلاق، و«تميل» الأنوية الأخف منه إلى اكتسابِ نيوكليونات لتصبح حديدًا، أما الأنوية الأثقل منه فإنها «تميل» إلى فقدِ نيوكليونات وتتحرَّك تجاه الصورة الأكثر استقرارًا. وفي داخل النجوم، تتحوَّل أخف الأنوية، وهي الهيدروجين والهيليوم، إلى أنويةٍ أثقلَ في سلسلةٍ من التفاعلات النووية التي تدمج الأنوية الخفيفة معًا لتصنع عناصرَ مثل الكربون والأكسجين على طول الطريق وصولًا إلى الحديد، مع إطلاقِ طاقةٍ نتيجةً لذلك. وعندما تنفجر بعض النجوم كما في المستعرات العظمى، فإن قدرًا كبيرًا من طاقة الجاذبية يدخل في العمليات النووية، مما يدفع عملياتِ الدمج لأبعدَ من الحديد من أجل إنتاجِ عناصرَ أثقل، بما في ذلك اليورانيوم والبلوتونيوم. وعندما تتحرك العناصر الثقيلة باتجاه الصورة الأكثر استقرارًا، وذلك بإطلاق نيوكليونات في صورة جسيمات ألفا أو إلكترونات أو بوزيترونات أو نيوترونات مفردة، فإنها تطلق طاقةً كذلك، وهي الطاقة المختزنة أساسًا منذ انفجار المستعر الأعظم منذ زمنٍ بعيد. وجسيم ألفا هو بالأساس نواةُ ذرة هيليوم ويحتوي على بروتونَين ونيوترونَين. وبإطلاق هذا الجسيم، تتراجع كتلة النواة بمقدارِ أربع وحدات، ويقلُّ عددها الذري بمقدار اثنين. وتفعل الذرة ذلك طبقًا لقواعد ميكانيكا الكَمِّ وعلاقاتِ عدم اليقين التي اكتشفها هايزنبرج.

fig13
شكل ٧-١: تقع بئر الجهد في قلب نواة الذرة. وعلى الجسيم في الموضع (أ) أن يظلَّ داخل البئرِ إلا إذا تمكَّن من اكتسابِ ما يكفي من الطاقة لاجتياز «القمة» إلى الموضع (ب)؛ حيث يندفع مبتعدًا باتجاه «أسفل التل». وفي بعض الأحيان، يسمح عدم اليقينِ الكَمِّي للجسيم أن «يخترق نفقًا» من (أ) إلى (ب) (أو من (ب) إلى (أ)) دون أن يكون لديه ما يكفي من الطاقةِ نفسِها لتسلُّق التل.
تتماسك النيوكليونات بعضها مع بعض داخل النواة بواسطة القوة النووية الشديدة، لكن إذا وُجِد جسيم ألفا خارج النواة مباشرةً فإنه يُطرَد بقوةٍ بفِعل القوة الكهربية. ويصنع التأثير المشترك للقوتَين ما يسميه الفيزيائيون «بئر الجهد». ولنتخيَّل قطاعًا عرضيًّا عبر بركانٍ له جوانب قليلة الانحدار وفوَّهة عميقة. إذا وُضِعت كرة خارج حافة الفوهة مباشرةً، فإنها ستتدحرج مبتعدةً إلى أسفل السطح الخارجي للجبل، أما إذا وُضِعت الكرة داخل حافة الفوهة مباشرةً، فإنها ستسقط في قلب البركان. وتكون النيوكليونات داخل النواة في وضعٍ مشابه؛ فتكون داخل البئر في قلب الذرة، ولكن إذا استطاعت أن تتخطَّى حتى الحافة — ولو بمقدارٍ ضئيل — فإنها «ستتدحرج بعيدًا»، مدفوعةً بالقوة الكهربية. وتكمن المشكلة، وفقًا للميكانيكا الكلاسيكية، في أن النيوكليونات أو مجموعات النيوكليونات مثل جسيمات ألفا، لا تملك الطاقة الكافية للتسلُّق إلى خارج البئر وتخطي حافتها، وإذا فعلت فلن تكون داخل البئر بأية حال. إلا أن الوضع يكون مختلِفًا من منظورِ ميكانيكا الكَمِّ. ومع أن بئر الجهد لا تزال تمثِّل حاجزًا، فإنها قابلة للتخطي، وهناك احتمال محدود — وإنْ كان صغيرًا — أن يوجد جسيم ألفا خارج النواة بالفعلِ وليس داخلها. ومن حيث عدم اليقين، تتضمَّن إحدى علاقات هايزنبرج الطاقة والزمن، وتنصُّ على أن طاقةَ أيِّ جسيم يمكن تعريفها فقط في مدى E خلال فترة زمنية t بحيث يكون t × ∆E أكبر من . وفي غضونِ فترةٍ زمنية وجيزة، يستطيع الجسيم «استعارة» طاقةٍ من علاقةِ عدم اليقين؛ حيث يكتسب ما يكفي من الطاقة لتخطي حاجز الجهد قبل أن يعيد هذه الطاقة. وعندما يعود إلى حالة الطاقة «المناسبة»، يصبح خارج الحاجز مباشرةً بدلًا من داخله، ويندفع مبتعدًا.
أو يمكنك النظرُ إليها من حيث عدم يقين الموضع. فالجسيم الذي «ينتمي» إلى داخل الحاجز قد يظهر خارجه؛ لأن موضعه لا يكون محددًا بوضوحٍ في ميكانيكا الكَمِّ. وكلما زادت طاقة الجسيم أصبح هروبُه أسهل، ولكن لا يشترط بالضرورة أن يكون لديه ما يكفي من الطاقة للتسلُّق إلى خارج بئر الجهد على النحو الذي تشترطه النظرية الكلاسيكية. وتبدو العملية كما لو أن الجسيم يخترق نفقًا عبر الحاجز للخروج منه، وهو تأثيرٌ كَمِّي تمامًا.3 وهذا هو أساس الانحلال الإشعاعي، لكن لتفسيرِ الانشطار النووي علينا أن نتَّجه إلى نموذجٍ مختلف للنواة.

لننسَ الآن النيوكليونات المفردة في أغلفتها، ونفكِّر في النواة كنقطةٍ من سائلٍ ما. تمامًا مثل نقطةِ الماء حين تتذبذب بنمطٍ متغيِّر من الأشكال، فكذلك بعض الخصائص المشتركة للنواة يمكن تفسيرها على أنها تُعزى إلى تغيُّر شكل النواة. ويمكن أن نفكِّر في النواة الكبيرة على أنها تتذبذب جَيئةً وذهابًا، مغيِّرة شكلها من كرةٍ إلى ما يشبه الدمبل الضخم، ثم تعود كرةً مرة أخرى. فإذا أضيفت طاقةٌ إلى مثل هذه النواة، فإن التذبذب قد يصبح هائلًا لدرجةِ أن النواة تنقسم إلى شطرين، فتنطلق نواتان صغريان، وتتناثر قطرات صغيرة جدًّا من جسيمات ألفا وبيتا والنيوترونات. وفي بعض الأنوية، من الممكن أن يُستحَث هذا الانشطارُ بواسطة اصطدام نيوترون سريع الحركة بالنواة، ويحدث تفاعل متسلسل عندما تنتج كل نواة منشطرة بهذه الطريقة عددًا كافيًا من النيوترونات ليضمن انشطار نواتَين أخريين على الأقل في الجوار. وأما اليورانيوم −٢٣٥ الذي يحتوي على ٩٢ بروتونًا و١٤٣ نيوترونًا، فإنه ينتج دائمًا نواتَين غير متساويتَين تتراوح أعدادهما الذرية ما بين ٣٤ و٥٨، بحيث يكون مجموعهما ٩٢، وتتناثر نيوترونات حرة. ويطلق كل انشطار نحو ٢٠٠ مليون إلكترون فولت من الطاقة، ويبدأ كل انشطار عدة انشطارات أخرى بشرط أن تكون كتلة اليورانيوم كبيرة بما فيه الكفاية حتى لا تهرب كل النيوترونات منها. ولو تُركت هذه العملية لتسيرَ بمعدلٍ تصاعدي هائل لتكوَّنت بذلك قنبلة ذرية، أما إذا أبطأنا من المعدَّل الذي تسير به هذه العملية باستخدامِ مادةٍ تمتص النيوترونات لتجعل العملية تسير بمعدلٍ متوسط، فإنه يكون مفاعل انشطار متحكَّم فيه يمكن استخدامه لتسخين الماء وتحويله إلى بخار ولتوليد الكهرباء. ومرة أخرى؛ الطاقة التي نستخلصها هي الطاقة المختزنة من انفجار نجم، منذ زمن طويل وعلى مسافة بعيدة للغاية.

في عملية الاندماج، يمكننا إجراءُ محاكاةٍ لإنتاج الطاقة من نجمٍ مثل الشمس هنا على الأرض. ولكننا حتى الآن لم نستطِع سوى محاكاة الدرجة الأولى من سُلَّم الاندماج، من الهيدروجين إلى الهيليوم، ولم نستطِع التحكم في التفاعل، وإنما تركناه يحدث حتى النهاية في القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة الاندماجية. والفكرة وراء الاندماج عكس الفكرةِ وراء الانشطار. فبدلًا من تشجيعِ نواةٍ ضخمةٍ على الانقسام، عليك تضييق الخناق على نواتَين صغيرتَين — في اتجاهٍ معاكس للتنافرِ الكهروستاتيكي الطبيعي بين شحنتَيهما الموجبتَين — حتى تصبحَا قريبتَين للدرجةِ التي تتغلب فيها القوى النووية الشديدة القصيرة المدى على القوى الكهربية وتجذبهما إحداهما للأخرى. وبمجرد حصولك على عددٍ قليل من الأنوية لدمجها بهذه الطريقة، فإن الحرارة المتولدة أثناء العملية ستؤدي إلى اندفاع الطاقة إلى الخارج، والذي يميل إلى تشتيت أي أنوية أخرى على وشك الاندماج، ويُوقِف العملية كلَّها في مساراتها.4 ويعتمد الأمل في الحصول على طاقةٍ غيرِ محدودةٍ لمستقبل الاندماج النووي على إيجادِ طريقةٍ لدمج أنوية كافية معًا في مكانٍ واحد لفترة طويلة بما يكفي للحصول منها على كميةٍ نافعة من الطاقة. ومن المهم كذلك إيجادُ عملية تطلِق طاقةً أكثرَ من الطاقة المستخدَمة في ضغط الأنوية معًا في المقام الأول. والأمر سهل بما فيه الكفاية في القنبلة؛ فما عليك في الأساس سوى إحاطة الأنوية التي ترغب في دمجها باليورانيوم، ثم تُحفِّز اليورانيوم لبدء انفجار انشطاري. وسيدفع الضغط الداخلي الناتج عن الانفجار المحيط ما يكفي من أنوية الهيدروجين إلى التلامس لبدء الانفجار الثاني الأكثر ضخامة، وهو الانفجار الاندماجي. أما ما يلزم لمحطات الطاقة المدنية، فإنه أهون من ذلك، وتشمل التقنيات الخاضعة للبحث والدراسة الآن استخدام مجالات مغناطيسية قوية مشكَّلة على نحوٍ معيَّن بحيث تكون بمثابة وعاء يُحتفَظ فيه بالأنوية المشحونة، ونبضات الضوء الصادرة من أشعة الليزر التي تضغط الأنوية معًا. ويُصنَّع الليزر بالطبع وفقًا لوصفةٍ أخرى من كتاب الطهي الكَمِّي.

الليزر والميزر

مع أن الأمر تطلَّب رئيسَ طهاةٍ متمكِّن مثل ديراك ليكتشفَ وصفاتِ تحضيرِ جسيماتٍ جديدة في مطبخِ الكَمِّ، فإن العمليات النووية تُفهَم بأمورٍ أقلَّ اكتمالًا من نموذج بور للذرة. ومن ثَم، لعله من غير المستغرب إلى حدٍّ كبير أن نجد أن نموذج بور لا يزال له استخداماته. ومن الممكن فهْم واحد من أكثر التطورات العلمية الحديثة غرابةً وإثارة، وهو الليزر، عن طريقِ أيِّ طاهٍ للوجبات الكمية السريعة ذي خبرة يكون قد سمعَ بنموذج بور، ولا يتطلب الأمر عبقرية كبيرة لفهمه. (يُقصَد بالعبقرية هنا تكنولوجيا تصميم الليزر، ولكن لذلك قصة أخرى.)؛ ومن ثَم فإننا مع فائق الاعتذار لكلٍّ من هايزنبرج وبورن وجوردان وديراك وشرودنجر، سنتجاهل كلَّ المهارات الكَمِّية لوهلةٍ، ونتجه للوراء إلى النموذج المنظَّم للإلكترونات التي تدور حول نواة الذرة. تذكَّر أن الذرة عندما تكتسب كمًّا من الطاقة ينتقل أحد الإلكترونات لأعلى إلى مدارٍ مختلِف وفقًا لهذا التصور، وأنه إذا تُرِكَت مثلُ هذه الذرة المثارة وحدَها فإن الإلكترون سيسقط عاجلًا أو آجلًا عائدًا إلى الحالة الأرضية، وسيطلِق كمًّا من الأشعة محدَّدًا بدقةٍ بالغة وذا طول موجي محدَّد. وتسمَّى هذه العملية بالانبعاث التلقائي، وهي عكس الامتصاص.

عندما كان أينشتاين يفحص هذه العمليات سنة ١٩١٦ ويضع القواعد الإحصائية الأساسية لنظريةِ الكَمِّ، التي استاء بعد ذلك منها، أيقن أن هناك احتمالًا آخر. فمن الممكن أن تُستحَث ذرةٌ مثارة لتطلِق الطاقةَ الفائضةَ وتعود إلى الحالة الأرضية — إنْ جاز التعبير — إذا وكزها إلكترون يمرُّ بها. وتُسمَّى هذه العملية الانبعاث المُستحَث، وهي لا تحدث إلا إذا كان الطول الموجي للفوتون المار مساويًا تمامًا للطول الموجي الذي تكون الذرة جاهزةً لإشعاعه. وعلى غرار سلسلة النيوترونات الداخلة في تفاعل انشطار نووي متسلسل، يمكننا أن نتخيَّل مصفوفةً من الذرات المثارة التي يمر بها فوتون واحد بالطول الموجي المناسب فيستثير ذرةً واحدة لتشعَّ، ويستثير الفوتون الأول مع الفوتون الجديد الذي انبعث من الذرة ذرتَين أخريين لتشعَّا، وتستثير الفوتوناتُ الأربعة معًا أربعَ ذراتٍ أخرى، وهكذا. ويكون الناتج سلسلةً من الإشعاعات التي لها جميعًا نفسُ التردد بالضبط. وعلاوة على ذلك، فإنه نظرًا للطريقة التي يُستحَث بها الانبعاث تتحرك كلُّ الموجات متوافقةً تمامًا بعضها مع بعض؛ حيث ترتفع كل القمم معًا «لأعلى» وتنخفض كل القيعان معًا «لأسفل» لينتج شعاعٌ نقي تمامًا مما يُسمَّى الإشعاع المترابط. ونظرًا لأن القمم والقيعان لا يلغي أحدهما الآخرَ في مثل هذه الإشعاعات، تظل كل الطاقة المنبعثة من الذرات موجودةً في الشعاع، ويمكن إسقاطها على مساحةٍ صغيرة من المادة التي يوجَّه إليها الشعاع.

عندما تُثار مجموعةٌ من الذرات أو الجزيئات بفِعل الحرارة، فإنها تملأ نطاقًا من مستويات الطاقة، وإذا تُركت لحالها فإنها تشعُّ أطوالًا موجية مختلفة من الطاقة بطريقةٍ مضطربة وغير مترابطة، حاملةً بذلك طاقةً أقلَّ فاعلية بكثير مما تطلقها الذرات والجزيئات. ولكن هناك حِيَلٌ يمكن استخدامها لملء نطاقٍ ضيق من مستويات الطاقة على أساسٍ تفضيلي، ثم تحفيز عودة الذرات المثارة في هذا النطاق إلى حالتها الأرضية. ويكون الحافز لسلسلةِ الذرات هو إدخال إشعاع ضعيف بالتردُّد المناسب، ويكون الناتج هو شعاع مضخَّم أقوى كثيرًا بالترددِ نفسِه. وُضِعَت هذه التقنيات لأول مرة في أواخر أربعينيات القرن العشرين على يد فريقَين يعمل كلٌّ منهما على نحوٍ مستقل من الآخر، في الولايات المتحدة وفي الاتحاد السوفييتي، وذلك باستخدام إشعاعٍ في نطاقِ موجات الراديو من الطيف، التي يتراوح طولها الموجي بين ١سم و٣٠سم، فيما يُسمَّى بنطاق الموجات الميكروية، وحصل الرواد على جائزة نوبل عن أبحاثهم سنة ١٩٥٤. ونظرًا لأن الإشعاع في هذا النطاق يُسمَّى بإشعاع الموجات الميكروية (أو إشعاع الموجات الصغرى)، ولأن العملية تتضمَّن تضخيمَ موجات الراديو بواسطة الانبعاث المستحث للإشعاع وفقًا لأفكار أينشتاين سنة ١٩١٧، دمج الرواد بين مسمَّى تضخيم الموجات الميكروية والانبعاث المستحث للإشعاع، ليقدموا اختصارًا لهذه العملية يحمل الأحرف الأولى للإجراءين في الإنجليزية وهو «ميزر».

وقد استغرق الأمرُ عشر سنوات قبل أن ينجح أحدٌ في إيجاد طريقةٍ لتطبيق هذه التقنية على الترددات الضوئية من الإشعاع، ثم حدث سنة ١٩٥٧ أن طرأت الفكرةُ نفسُها على ذهن شخصَين في الوقت نفسه تقريبًا. كان الشخص الأول (الذي يبدو أنه أول مَن خطرت له هذه الفكرة) هو جوردون جولد طالب الدراسات العليا وقتها بجامعة كولومبيا، أما الآخر فكان تشارلز تاونز، أحد رواد الميزر الذي اقتسم جائزة نوبل لسنة ١٩٦٤. وقد ظلَّ الجدل حول ماهيةِ كل اكتشافٍ ومَن اخترعه ومتى، خاضعًا لمعركةٍ قانونية بشأن حقوق براءات الاختراع؛ وذلك لأن الليزر، وهو المكافئ الضوئي للميزر (من «تضخيم الضوء …») قد أصبح الآن مجالًا كبيرًا ومصدرًا للأموال الطائلة، لكن لحسن الحظ أننا غير مضطرين إلى الخوض في هذا الموضوع. واليوم، يوجد العديد من أنواع الليزر المختلفة، أبسطُها الليزر الصلب بالضخ الضوئي.

في هذا التصميم، يُحضَّر قضيب من المادة (مثل الياقوت) ويُصقَل طرفاه المسطَّحان، ويُحاطان بمصدرِ وهج؛ أنبوب تفريغ غازيٍّ يومض بسرعة وينطفئ مولِّدًا نبضاتٍ من الضوء بطاقةٍ تكفي لإثارة الذرات في القضيب. ويُحافَظ على الجهاز كلِّه باردًا لضمان أقل تداخل من الإثارة الحرارية للذرات في القضيب، وتُستخدَم الومضات الساطعة من المصباح لحث (أو ضخ) الذرات إلى الحالة المثارة. وعند بدء تشغيل الليزر، تنطلق نبضةٌ من ضوء الياقوت الخالص، حاملةً معها كمياتٍ من الطاقة تبلغ آلاف الوحدات من الوات، من طرف الساق المسطَّح.

تتضمَّن أنواعُ الليزر الأخرى الليزرَ السائل، وليزر الصبغة الفلورسنتية، وليزر الغاز، وهكذا. وتشترك جميعُها في السماتِ الأساسيةِ نفسِها، وهي إدخال طاقة غير مترابطة وخروج ضوء مترابط في صورةِ نبضةٍ خالصةٍ حاملًا كميةً كبيرة من الطاقة. تُنتِج بعض أنواع الليزر، مثل ليزر الغاز، شعاعًا متصلًا نقيًّا من الضوء يمثِّل النهاية «الحافة المستقيمة» النهائية لأغراض المسح، ويُستخدَم هذا النوع على نطاق واسع في حفلات موسيقى الروك وفي مجال الإعلانات. وتُنتج أنواعٌ أخرى نبضاتٍ قصيرةَ الأجل ولكنها قوية من الطاقة، يمكن استخدامها لحفر الثقوب في الأجسام الصلبة (ولها استخداماتٌ عسكرية). وتُستخدم أدوات القطع بالليزر في حالاتٍ متنوِّعة مثل صناعة الملابس والجراحات الدقيقة، ويمكن أن تُستخدَم أشعة الليزر في نقل المعلومات بكفاءةٍ أعلى من موجات الراديو؛ حيث تزداد كميةُ المعلومات التي يمكن تمريرها في الثانية الواحدة مع زيادة تردُّد الإشعاع المُستخدَم. ويُقرأ الباركود الموجودُ على كثير من منتجات المُجمَّعات التجارية (وعلى غلاف هذا الكتاب) بواسطةِ ماسِح ضوئي يعمل بالليزر، كما أن أقراص الفيديو وأقراص الصوت المُدمَجة التي ظهرت في الأسواق في بداية ثمانينيات القرن العشرين يُجرى لها مسحٌ ضوئي باستخدام الليزر، كما يمكن إنتاج الصور الثلاثية الأبعاد أو الصورة المُجسَّمة (الهولوجرام) بمساعدة الليزر، وهكذا.

والقائمة فعليًّا لا حصر لها، حتى قبل إدخال تطبيقات الميزر في مجال تضخيم الإشارات الضعيفة (من أقمار الاتصالات، على سبيل المثال) والرادار وغيرها، ولكنها جميعًا لا تنبُع من نظريةِ الكَمِّ، وإنما من النسخة الأولى لفيزياءِ الكَمِّ. عندما تشتري كيسًا من رقائقِ الذرة ويُجرى له مسح ضوئي بشعاع الليزر في المتجر، أو عندما تذهب إلى حفلٍ لموسيقى الروك بعروض الليزر الملوَّنة المذهلة، أو عندما تشاهد حفلًا موسيقيًّا في التليفزيون عبر رابطِ قمرٍ صناعي ينقل الإشارات حول العالم، أو عندما تستمع إلى حفلٍ لهذه الفرقةِ نفسِها أو تشاهده على أحدثِ أنظمةِ الفيديو، أو تشاهد بإعجابٍ عرضًا ساحرًا لاستنساخِ صور الهولوجرام المجسَّمة، وهو ما يرجع الفضل فيه جميعًا إلى ألبرت أينشتاين ونيلز بور، اللذين وضعا مبادئَ الانبعاث المُستحَث منذ ما يزيد على تسعين عامًا.

المَيكرو الجبَّار

لا شكَّ أن التأثير الأوسع انتشارًا لميكانيكا الكَمِّ في حياتنا اليومية يقع في مجال فيزياء الجوامد (فيزياء الحالة الصلبة). والاسم «الحالة الصلبة» نفسُه غير عاطفي؛ فحتى لو كنت قد سمعت به، فإنك على الأرجح لا تربطه بنظريةِ الكَمِّ. ومع ذلك، فإنه فرع الفيزياء الذي قدَّم لنا راديو الترانزستور ووُكمَان «سوني» والساعات الرقمية وحاسبات الجيب، والحواسيب الصغيرة والغسالات القابلة للبرمجة. ولا يُعزى تجاهل فيزياء الجوامد إلى كونها فرعًا من العلوم مقصورًا على فئةٍ معينة، ولكن إلى كونها مألوفةً لدرجةِ أننا نأخذها كأمرٍ مسلَّم به. ومرة أخرى، فإننا لم نكن لنتوصَّل إلى أيٍّ من هذه الأجهزة لولا مستوى الاستيعاب المُرضي لما يدور في مطبخِ الكَمِّ.

تعتمد كل الأجهزة المذكورة في الفقرةِ السابقة على خصائص أشباه الموصلات، وهي أجسامٌ صلبة ذات خصائص وسيطة بين خصائص الموصلات وخصائص العوازل. ودون الخوض في التفاصيل، العوازل هي موادُّ غير موصلة للكهرباء، والسبب وراء عدم توصيلها للكهرباء أن الإلكترونات في ذراتها تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنواة، بما يتوافق مع قواعدِ ميكانيكا الكَمِّ. أما في الموصلات، مثل الفلزات، فإنه يتصادف أن يوجد في كل ذرة بعضُ الإلكترونات التي ترتبط ارتباطًا ضعيفًا بالنواة وتكون في حالاتٍ مرتفعة من الطاقة قربَ قمَّة بئر الجهد الذري. وعندما تتجمَّع الذرات معًا على صورةِ مادةٍ صلبة، تمتزج قمَّةُ إحدى آبار الطاقة في البئر التي تخصُّ الذرة التالية، وتصبح الإلكترونات في هذه المستويات المرتفعة طليقةً لتتجول من نواة إحدى الذرات إلى نواة ذرة أخرى؛ ومن ثَم فإنها لم تَعُد مرتبطة بأي نواة، ويمكنها أن تنقل تيارًا كهربيًّا عبر الفلز.

وفي النهاية، فإن خاصية التوصيل تعتمد على إحصاء فيرمي-ديراك الذي يمنع هذه الإلكترونات الضعيفة الارتباط من السقوط عميقًا في آبار الجهد الذري؛ حيث تكون كل حالات الطاقة للإلكترونات المرتبطة بقوةٍ مشغولةً بالكامل. وإذا حاولتَ ضغط الفلز، فإنه سيقاوم الضغط؛ لأن الفلزات قوية. والسببُ وراء قوة الفلزات ومقاومتها الشديدة للضغط أنه بناءً على مبدأ باولي للاستثناء الخاص بالفرميونات يستحيل ضغط الإلكترونات معًا بقوة.

تُحسَب مستويات الطاقة للإلكترونات في المادة الصلبة باستخدام المعادلات الموجية لميكانيكا الكَمِّ. ويُقال إن الإلكترونات المرتبطة بقوة بالنواة تكون في نطاق تكافؤ المادة الصلبة، في حين أن الإلكترونات الطليقة التي تتجوَّل من نواةٍ إلى أخرى يُقال إنها في نطاق التوصيل. جميع الإلكترونات في العوازل تقع في نطاق التكافؤ، بينما في حالة الموصلات تكون بعض الإلكترونات قد تدفَّقت إلى نطاق التوصيل.5 أما في أشباه الموصلات، فيكون نطاقُ التكافؤ ممتلئًا، ولا توجد سوى فجوة صغيرة من الطاقة بين هذا النطاق ونطاق التوصيل، مقدارُها عادةً إلكترون فولت واحد. ومن ثَم، من السهل للإلكترون أن يدخل إلى نطاق التوصيل وينقل تيارًا كهربيًّا عبر المادة. وعلى عكس الوضع في الموصلات، فإن هذا الإلكترون الذي اكتسبَ طاقةً يخلِّف وراءه فجوةً في نطاق التكافؤ. وعلى غرارِ ما حدث عندما استنتج ديراك أن الإلكترونات والبوزيترونات تنشأ من الطاقة، فإن غياب إلكترون سالب الشحنة من نطاق التكافؤ يسلك مسلكَ الشحنة الموجبة، وذلك فيما يتعلَّق بالخصائص الكهربية. ولذا، فإن أشباه الموصلات الطبيعية عادةً ما تتضمَّن القليلَ من الإلكترونات في نطاق التوصيل الخاص بها، والقليل من الفجوات الموجبة الشحنة في نطاقِ تكافؤها، وكلاهما يمكنه توصيل التيار الكهربي. ويمكنك أن تتخيَّل الإلكترونات المتتابعة وهي تسقط في الفجوة الموجودة في نطاق التكافؤ مخلِّفةً فجوةً وراءها ليقفز فيها الإلكترون التالي، وهكذا، أو يمكنك أن تتخيَّل الفجوات على جسيماتٍ موجبةٍ حقيقيةٍ تتحرك في الاتجاه المضاد. والتأثير سيان فيما يخص التيارات الكهربية.

قد تكون أشباه الموصلات الطبيعية مثيرةً للاهتمام بما فيه الكفاية، لا سيَّما بسببِ التشبيه المُحكَم الذي تقدِّمه لنشوء زوجٍ من الإلكترون والبوزيترون. غير أنه من الصعب جدًّا التحكُّم في خصائصها الكهربية، وهو ما جعل هذه الموادَّ على هذه الدرجة من الأهمية في حياتنا اليومية. ويمكن تحقيق التحكمِ بإنشاء أشباه موصلات صناعية؛ نوع تُهيمن عليه الإلكترونات الحرة، وآخر تُهيمن عليه «الفجوات» الحرة.

مرةً أخرى، من السهل فهْم الفكرة، ولكن من غير السهل تطبيقها عمليًّا. ففي بلورة من الجرمانيوم، على سبيل المثال، يكون لكل ذرة أربعة إلكترونات في غلافها الخارجي (هذه وصفة سريعة من مطبخِ الكَمِّ، ويناسبها نموذج بور)، و«تتقاسم» كل ذرة هذه الإلكترونات مع الذرات المجاورة لها لتصنع الروابط الكيميائية التي تجعل البلورة متماسكة. وإذا «عُولِج» الجرمانيوم بعاملِ إشابةٍ عبارة عن بضع ذراتٍ من الزرنيخ، فستظل ذرات الجرمانيوم هي المهيمنة على بنية الشبكة البلورية، وعلى ذرات الزرنيخ أن تنضغط على أفضلِ نحوٍ ممكن. وبلغة الكيمياء، فإن الفرق الأساسي بين الزرنيخ والجرمانيوم هو أن الزرنيخ يحتوي على إلكترون خامس في غلافه الخارجي، وأفضل طريقة لانضغاطِ ذرةِ الزرنيخِ نفسِها في الشبكة البلورية للجرمانيوم هي التخلص من الإلكترون الزائد وتكوين أربعة روابط كيميائية، متظاهرًا بأنه ذرة جرمانيوم. وتتجوَّل الإلكترونات الزائدة التي تطلقها ذرات الزرنيخ المنظومة عبر نطاق التوصيل الذي ينشأ لشبه الموصل بهذه الطريقة، ولا توجد فجوات في المقابل. وتُسمَّى مثل هذه البلورة شبه موصل سالب النوع.

والبديل هو معالجة الجرمانيوم (التزامًا بالمثال الأصلي) بعاملِ إشابةٍ هو الجاليوم، الذي يحتوي على ثلاثة إلكترونات فقط متاحة للارتباط الكيميائي. ويكون التأثير كما لو أننا ننشئ فجوةً في نطاق التكافؤ لكل ذرة جاليوم موجودة، وتتحرَّك إلكترونات التكافؤ عن طريق القفز في الفجوات، التي تسلك مسلكَ الشحنات الموجبة. وتُسمَّى هذه البلورة شبهَ موصل موجب النوع. وتصبح الأمور مثيرةً عندما يتلامس كلا النوعين من أشباه الموصلات بعضهما مع بعض. تؤدي زيادة الشحنة الموجبة على أحد جانبي الحاجز، والشحنة السالبة على الجانب الآخر، إلى توليد فرقِ جهدٍ كهربي يحاول دفع الإلكترونات في اتجاه معيَّن ومقاومة حركتها في الاتجاه الآخر، ويُسمَّى هذا الزوج المتصل من البلورات شبه الموصلة «ديود»، ويسمح بمرور التيار الكهربي بكفاءة في اتجاه واحد فقط. وبصورةٍ أدقَّ قليلًا، يمكن تحفيز الإلكترونات للانتقال من n (السالب) إلى p (الموجب) ومنها إلى داخل الفجوة؛ حيث تنبعث عنها في تلك الأثناء شرارةٌ من الضوء. وتُسمَّى الديودات المُصمَّمة لإنتاج الضوء بهذه الطريقة ديودات باعثة للضوء، أو اختصارًا «لِيد»، وتُستخدَم في إظهار الأعداد على شاشات بعض الأجهزة. أما الديود الذي يعمل في الاتجاه المضاد، حيث يمتص الضوء ويضخ إلكترونًا خارج الفجوة إلى نطاق التوصيل، فهو الديود الضوئي، ويُستخدَم لضمان عدم سريان التيار الكهربي إلا عند سقوطِ شعاعٍ من الضوء على شبه الموصل. وهذا هو الأساس في أجهزةِ فتحِ الأبواب الأوتوماتيكية التي تؤدي وظيفتها عند التحرُّك أمام شعاع الضوء. إلا أن هناك المزيدَ من الاستخدامات لأشباه الموصلات بخلاف الصمامات الثنائية أو الديودات.
عند وضع ثلاثة أجزاء من أشباه الموصلات معًا على شكلِ طبقةٍ بينيةٍ (pnp أو npn)، يكون الناتج هو ترانزستور (كل جزء من الترانزستور يكون موصَّلًا عادةً بدائرة كهربية؛ ولذا يمكن تعريف الترانزستورات بأنها الأطراف العنكبوتية الثلاثة التي تخرج من الصفيحة المعدنية أو البلاستيكية التي تحوي شبهَ الموصلِ نفسِه). وباستخدام المواد المعالجة بعوامل إشابة مناسبة، يمكن إعداد تصميم يؤدي فيه تدفقٌ صغير من الإلكترونات عبر وصلة np إلى تدفُّقٍ أكبرَ بكثير عبر الوصلة الأخرى في الطبقة البينية، ويكون الترانزستور في هذه الحالة بمثابة مُكبِّر. وكما هو معروف لأيِّ شخص مُولَع بالإلكترونيات، فإن الديود والمكبِّر مكوِّنان يمثِّلان الأساسَ في تصميمِ أيِّ نظام صوتي. ولكن حتى الترانزستورات قد عفا عليها الزمن اليوم، ولن تجد أيَّ صفيحة ذات ثلاثة أطراف في جهاز الراديو إلا إذا كان «عتيق الطراز».

حتى الخمسينيات من القرن العشرين، كنا نعتمد على جهاز اللاسلكي المزعج القديم في التسلية، وعلى الرغم من اسمه فإنه جهاز مليءٌ بالأسلاك وصِمَامات التفريغ المتوهِّجة التي كانت تؤدي الوظيفةَ نفسَها التي تؤديها أشباه الموصلات الآن. وبحلول نهاية الخمسينيات، بدأت ثورة الترانزستور تلوح في الأفق، وحلَّت الترانزستورات محلَّ الصِّمَامات الكبيرة المتوهِّجة، في حين حلَّت اللوحات التي طُبعت عليها الدوائر الكهربية محلَّ الأسلاك، ولُحِمَت الترانزستورات في هذه اللوحات. ولم تكن الدوائر المتكاملة إلا على بُعد خطوة صغيرة حيث أصبحت كل الدوائر والمكبِّرات وأشباه الموصلات والديودات وغيرها مُجمَّعةً معًا في قطعة واحدة، تُوصَل معًا ببساطةٍ لتشكِّل قلبَ جهاز الراديو، ومشغِّل جهاز التسجيل، أو أي شيء آخر، وفي الوقت نفسِه كانت ثورةٌ مماثلة بصدد الحدوث في صناعة الحواسيب.

كانت الحواسيب الأولى مثل أجهزة اللاسلكي القديمة كبيرةً ومزعجة. كانت مليئة بالصِّمَامات وتحتوي على أميال الأسلاك. وحتى عشرين عامًا مضت، وبينما كانت أول ثورة في الحالات الصلبة على أشدها، كان الحاسوب الذي يستطيع القيام بعمل أجهزة الكمبيوتر الصغيرة التي في حجم الآلة الكاتبة، يتطلَّب الطابَق الأرضي من المنزل لاستيعاب الأجزاء الخاصة ﺑ «عقل» الحاسوب، ويتطلب مساحةً أكبرَ لاستيعابِ مكيِّف الهواء المصاحِب له. والثورة التي وضعت ذلك النوع من قوة المعالجة المحاسبية في جهازٍ لوحي محمول باليد تبلغ تكلفته بضع مئات من الدولارات هي نفسُها التي حوَّلت جهاز الراديو اللاسلكي الذي كان أجدادنا يضعونه فوق المنضدة إلى راديو في حجم علبة السجائر، ونقلت ثورة الحالات الصلبة (الجوامد) من الترانزستور إلى الشريحة الإلكترونية.

يتعلَّق كلٌّ من العقول البيولوجية والحواسيب الإلكترونية بعمليات التحويل. يحتوي العقل البشري على حوالي ١٠ آلاف مليون محوِّل في صورةِ عصبونات مكوَّنة من الخلايا العصبية، أما الحاسوب فيحتوي على محوِّلات في صورةِ ديودات وترانزستورات. وسنة ١٩٥٠ كان من المفترض لحاسوبٍ يتألَّف من نفس عدد المحوِّلات الموجودة في العقل البشري أن يضاهي في حجمه جزيرةَ مانهاتن، أما اليوم فقد أصبح من الممكن تجميع العديد من المحوِّلات في حيزٍ يضاهي في حجمه العقلَ البشري، وذلك عن طريق لحام شرائح إلكترونية مصغَّرة معًا، ولكن تظل مسألةُ الوصلات السلكية الخاصة بهذه الحواسيب تمثِّل مشكلةً ولم يتم حسمُها بعد. وعلى أية حال، يوضِّح هذا المثال مدى صِغَر الشريحة الإلكترونية، حتى بالمقارنة مع الترانزستور.

إنَّ شبه الموصِّل المستخدَم اليوم في الشرائح الإلكترونية المصغَّرة القياسية هو السيليكات، وهو ببساطةٍ الرملُ المتعارف عليه. وإذا حُفِّزَت السيليكات بطريقةٍ سليمة، فإن الكهرباء ستسري خلالها، ولكنها لن تسري دون تحفيز. تُقطَّع البلورات الطويلة من السيليكات بعرضٍ حوالي ١٠سم إلى رقاقاتٍ تشبه الشفرات مكوِّنةً مئات الشرائح الصغيرة المستطيلة الشكل، بحيث تكون كل واحدة منها أصغرَ من رأس عود الثقاب، وتُضغَط كل شريحة منها على الأخرى، طبقات متتالية تشبه الفطائر الإغريقية الهشَّة، مكوِّنة مجموعةً معقَّدة وكثيفة من الدوائر الإلكترونية الدقيقة، المكافئة للترانزستورات والديودات والدوائر المتكاملة مجتمعةً. وتكون الشريحة الإلكترونية الواحدة في واقع الأمر بمثابةٍ حاسوب كامل، وتُعنى كلُّ العمليات الباقية للحواسيب المصغرة الحديثة بإدخال المعلومات إلى الشريحة وخارجها. وتكلفة تصنيعها زهيدة للغاية (بمجرد الوفاء بالتكاليف الخاصة بتصميم الدوائر وإعداد الأجهزة اللازمة لإعادة إنتاجها) حتى إنه يمكن إنتاجها بالمئات، واختبارها والتخلُّص ببساطةٍ من الشرائح التي لا تعمل. يمكن أن تصل تكلفةُ تصنيع شريحة واحدة من الصفر مليونَ دولار، ولكن كلُّ ما يلزم بعد ذلك لتصنيعِ أيِّ عددٍ من الشرائح المماثلة للشريحة الأولى هو بضعة بنساتٍ للشريحة الواحدة.

وهكذا، ثمَّة بعض الأمور الأخرى في العالَم اليومي التي يُعزى الفضل فيها إلى الكَمِّ. فقد قدَّمت لنا الوصفات المأخوذة من فصل واحد من كتاب الطهي الكَمِّي الساعات الرقمية، والحواسيب المنزلية، والعقول الإلكترونية التي توجِّه السفن الفضائية في مدارها (بل تقرِّر أحيانًا عدم السماح لها بالتحليق، مهما يكن رأي المشغِّلين البشريين)، والتلفزيون المحمول، والهواتف الجوالة، وأنظمة الاستريو الشخصية وأنظمة الصوت العالية الدقة (هاي فاي) القوية التي من الممكن أن تصيب الإنسانَ بالصمم، والأجهزة المساعدة لتعويضِ الصمم الناتج عن فقدِ السَّمْع. ولقد أصبحت الحواسيب المحمولة باليد أمرًا واقعًا، كما أصبحت الأجهزة الذكية احتمالًا واقعيًّا منطقيَّ الحدوث. وتُعدُّ الحواسيبُ التي تتحكَّم في مركَّبات الإنزال على سطح المريخ ومسابير النظام الشمسي الخارجي أبناءَ العمومة المباشرين للشرائح الإلكترونية التي تتحكَّم في الألعاب التي تعمل بالعُملات المعدنية، وكلُّها تَضرب بجذورها في السلوك الغريب للإلكترونات وفقًا لقواعدِ الكَمِّ الأساسية. ولكن حتى قصة المَيكرو الجبَّار لا تستنفد كلَّ ما تَعِد به فيزياء الحالة الصلبة.

المُوصِّلات الفائقة

للمُوصِّلات الفائقة اسمٌ منطقي على غرار أشباه الموصلات. فالمُوصِّل الفائق هو مادة موصِّلة للكهرباء دون أيِّ مقاومة ظاهرية على الإطلاق. وهذا يجعلنا أقرب إلى الحصول على الحركة الأبدية؛ وليس هذا بشيءٍ نحصل عليه دون مقابل، ولكنه مثالٌ نادر لحصولنا على كلِّ ما ندفع ثمنه في الفيزياء، دون بخسٍ أو نقص. ويمكن تفسير الأمر بحدوث تغيُّر يجعل أزواجًا من الإلكترونات تترافق وتتحرك معًا. ومع أن كل إلكترون له حركة مغزلية مقدارها نصف عدد صحيح؛ ومن ثَم تتَّفق مع إحصاء فيرمي-ديراك ومبدأ الاستثناء. فيمكن في بعض الحالات أن يسلك زوج الإلكترونات مسلكَ جسيمٍ واحد ذي حركة مغزلية صحيحة. ولا يتقيَّد هذا الجسيم بمبدأ الاستثناء، ويخضع لإحصاء بوز-أينشتاين نفسِه الذي يصف سلوك الفوتونات بلغةِ ميكانيكا الكَمِّ.

اكتشف عالِم الفيزياء الهولندي كامرلينج أونيس التوصيلَ الفائق سنة ١٩١١، عندما وجدَ أن الزئبق فقدَ كلَّ مقاومته الكهربية عند تبريده إلى ما دون ٤٫٢ درجات على مقياس درجة الحرارة المطلقة (٤٫٢ درجات كلفنية أو −٢٦٩ درجة مئوية). حصل أونيس على جائزة نوبل عن أبحاثه في درجات الحرارة المنخفضة سنة ١٩١٣، إلا أن ذلك كان عن بحثٍ آخر، وهو تحضير الهيليوم السائل، ولم يُقدَّم تفسيرٌ مقنع لظاهرة التوصيل الفائق إلا سنة ١٩٥٧ عندما وضعَ كلٌّ من جون باردين وليون كوبر وروبرت شريفر نظريةً حصلوا عنها على جائزة نوبل في الفيزياء سنة ١٩٧٢.6 يعتمد التفسير على الطريقة التي تتفاعل بها أزواج الإلكترونات مع الذرات في شبكةٍ بلورية. يتفاعل إلكترونٌ مع البلورة، وعلى أثرِ هذا التفاعل يُعدَّل تفاعل البلورة مع الإلكترون الآخر في زوج الإلكترونات. وهكذا، فإنه على الرغم من أنها تميل بصورةٍ طبيعية إلى التنافر أحدها مع الآخر، فإن زوج الإلكترونات يكوِّن ارتباطًا ضعيفًا يكفي لتفسير التغيُّر من إحصاء فيرمي-ديراك إلى إحصاء بوز-أينشتاين. ولا تستطيع كلُّ المواد أن تصبح موصِّلات فائقة، وحتى في المواد التي تستطيع ذلك سيؤدي أيُّ اضطراب بسيط من الاهتزاز الحراري للذرات في البلورة إلى كسر إقران الإلكترونات، وهو السبب وراء عدم حدوث هذه الظاهرة إلا عند درجات الحرارة المنخفضة جدًّا، في نطاقٍ يتراوح بين ١ كلفن إلى ١٠ كلفن. وتصبح بعض المواد موصِّلاتٍ فائقةً تحت إحدى درجات الحرارة الحرجة التي تختلف من مادةٍ لأخرى لكنها لا تختلف في المادة الواحدة، وفوق درجة الحرارة الحرجة هذه ينكسر إقران الإلكترونات وتصبح المادة ذات خصائص كهربية عادية.

تتأكَّد النظرية بحقيقةِ أن المواد التي تكون موصِّلات جيدة في درجة حرارة الغرفة ليست هي أفضل الموصلات الفائقة. فالموصلات «العادية» الجيدة تسمح للإلكترونات بحرية الحركة؛ ويُعزى ذلك على وجه التحديد إلى أنها لا تتفاعل كثيرًا مع ذرات الشبكة البلورية، ومع ذلك فإنه من دون حدوثِ تفاعلٍ بين الإلكترونات والذرات فلا سبيل إلى اقتران الإلكترونات الذي يؤدي بدوره إلى توصيلٍ فائقٍ فعَّالٍ في درجات الحرارة المنخفضة.

ولسوء الحظ، فإنه لا بد من تبريد الموصِّلات الفائقة قبل أن تصبح صالحةً لأداء هذه المهمة؛ ذلك لأن الاستخداماتِ المتوقَّعةَ للموصِّلاتِ الفائقةِ الأكثرِ توافقًا يسهُل تخيُّلها، وأوضح مثالٍ على ذلك ببساطةٍ هو نقل الطاقة على طول الكابلات دون حدوث أي فقدٍ في الطاقة. كما تؤدي الموصِّلاتُ الفائقةُ مهامَّ أخرى. فالفلزات الموصِّلة في حالتها الطبيعية يمكن اختراقُها بواسطةِ مجالٍ مغناطيسي، ولكن الموصِّلات الفائقة تنشئ تياراتٍ كهربية على سطحها تتنافر مع المجال المغناطيسي وتفصله، وهي الحائل المثالي دون حدوث التداخلات غير المرغوب فيها من المجالات المغناطيسية، ولكنها غير عملية ما دام أنه من الضروري تبريدُ الحائل إلى بضع درجات كلفنية. وعند فصل مُوصِّلَين فائقَين بواسطة عازلٍ ما، يمكنك أن تتوقَّع عدمَ سريان أي تيار بينهما، ولكن تذكَّر أن الإلكترون يخضع لقواعدِ الكَمِّ نفسِها التي تسمح للجسيمات بأن تخترق أنفاقًا إلى خارج النواة. فإذا كان الحاجز رقيقًا بما فيه الكفاية، فإن احتمالَ اجتيازِ أزواج الإلكترونات للفجوة يصبح كبيرًا، لكنه لا يعطي نتائجَ منطقية. ولا تُنتِج مثل هذه الوصلات (التي تُسمَّى وصلات جوزيفسون) تيارًا كهربيًّا في حالِ وجودِ فرقِ جهدٍ عبر الحاجز، ولكن يوجد تيار كهربي في حالة انعدام الجهد الكهربائي (الفولتية) من جانبٍ إلى آخر. ويمكن إعداد وصلة جوزيفسون مزدوجة، وذلك بأخذِ قطعتَين من الموصِّل الفائق وتشكيلِ كلٍّ منهما على هيئة شوكةٍ رنَّانة وضغط الطرفَين المزدوجَين معًا مع فصلهما بطبقةٍ بينية من العازل، وذلك لمحاكاة سلوك الإلكترون في تجربة «الشق المزدوج» وفقًا لميكانيكا الكَمِّ، وسنناقش هذه التجربة بالتفصيل في الفصل التالي، وتمثِّل هذه التجربة حجرَ الزاوية لعددٍ من أغربِ سماتِ عالَمِ الكَمِّ.

fig14
شكل ٧-٢: تحدُث أشياءُ غريبة عند وصلة جوزيفسون، عند الفصل بين قطعتَي الموصِّل الفائق بواسطة طبقة عزْل. وفي ظل الظروف المناسبة، تستطيع الإلكترونات أن تخترق الحاجز عبر نفق.
fig15
شكل ٧-٣: يمكن إعداد زوج من وصلات جوزيفسون لإنشاءِ نظامٍ شبيهٍ بتجربة الشقَّين المستطيلَين للضوء. وفي هذا التكوين، يمكن رصد التداخل بين الإلكترونات، وهو أحدُ المؤشرات الكثيرة للطبيعة الموجية لهذه «الجسيمات».

وليست الإلكترونات وحدَها التي تستطيع الارتباط ببعضها لصنْع بوزوناتٍ زائفة تتحدَّى قوانين الفيزياء العادية في درجات الحرارة المنخفضة. ولكن ذرات الهيليوم أيضًا يمكنها القيام بعملٍ مماثلٍ جدًّا، وهذا هو الأساس وراء خاصيةٍ معينةٍ من خصائص الهيليوم السائل تُسمَّى السيولة الفائقة. عندما تُقلِّب فنجانًا من القهوة ثم تتركه لحاله، تتباطأ الحركة الدوامية الدوارة للسائل ثم تتوقَّف، نظرًا لوجود قوة السيولة المكافئة لقوى الاحتكاك أو اللزوجة. جرِّب الأمرَ نفسَه مع الهيليوم المُبرَّد إلى ما دون ١٧٫٢ كلفن ولن يتوقَّف الدوران أبدًا حتى لو تركته تمامًا لحاله، وقد يتحرَّك السائل لأعلى على جانب الإناء وفوق حافة الإناء، وبدلًا من المرور بصعوبةٍ عبر أنبوب ضيق، فإن الهليوم الفائق السيولة يتدفَّق بسهولةٍ أكثرَ إذا ازداد الأنبوب الذي يمر خلاله ضِيقًا. ويمكن تفسيرُ كلِّ هذا السلوكِ الغريب طِبقًا لإحصاء بوز-أينشتاين، ومرةً أخرى، على الرغم من صعوبةِ إيجاد استخدامات عملية لهذه الظاهرة بسبب درجات الحرارة المنخفضة اللازمة، فإن سلوك الذرات عند هذه الدرجات المنخفضة — مثله مثل سلوك الإلكترونات في التوصيل الفائق — يقدِّم فرصةً لرؤيةِ العملياتِ الكَمِّية في أثناء حدوثها. وإذا وُضِع قليلٌ من الهيليوم الفائق السيولة في إناءٍ صغير عرضُه ٢ملم أو نحو ذلك، وجرى تقليب الإناء بحركةٍ دورانية، فإن الهيليوم سيظل ساكنًا في البداية. وعندما تزداد سرعة الدوران، وعند إحدى قيم الزخم الزاوي الحرجة يحدث للهيليوم كله تدفُّق زاوي، ويتغيَّر من حالة كمومية إلى أخرى. ولا يُسمَح بحالةٍ بينية — تقابل نوعًا من الزخم الزاوي البيني — طبقًا لقواعدِ الكَمِّ، ويمكن رؤية المجموعة الكاملة لذرات الهيليوم، وهي كتلة مرئية أكبر كثيرًا من الذرة المفردةِ أو جسيماتِ عالَمِ الكَمِّ، وهي تسلك وفقًا لقواعدِ الكَمِّ. وكما سنرى لاحقًا، يمكن أيضًا تطبيق التوصيل الفائق على أجسامٍ ذات مقاييس بشرية، وليست ذرية. ولكنَّ نظريةَ الكَمِّ ليست محدودةً بعالَم الفيزياء، ولا حتى العلوم الفيزيائية. وكما تذكر، فقد أصبحت الكيمياء كلُّها الآن مفهومةً بلغةِ قواعدِ الكَمِّ الأساسية. والكيمياء هو علم الجزيئات، وليس عالَم الذرات المفردة والوحدات الفرعية من الذرات، ويشمل ذلك أهم الجزيئات في حياتنا جميعًا وهي الجزيئات الحيَّة، بما في ذلك جزيء الحياة، الحمض النووي (اﻟ «دي إن إيه»). كما أن فهْمنا الحالي للحياةِ نفسِها له جذور راسخة في نظريةِ الكَمِّ.

الحياةُ نفسُها

بعيدًا عن الأهمية العلمية لنظريةِ الكَمِّ في فهْم كيمياء الحياة، فإن ثمَّة علاقاتٍ شخصية مباشرة بين بعض الشخصيات الرائدة في قصةِ الكَمِّ واكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي؛ جزيء الحياة. اكتشفَ لورانس براج ووالده ويليام القوانين التي تصفُ حيود أشعة إكس من البلورات أثناء عملهما في مختبر كافنديش في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وقد حصلا مناصفةً على جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف، وكان لورانس في سنٍّ مبكِّرة في ذلك الوقت (سنة ١٩١٥، عندما كان ضابطًا في الخدمة بفرنسا) وظل على قيد الحياة (مع أنه خدمَ في فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى) ليحتفل باليوبيل الذهبي لهذه المناسبة بعد خمسين سنة. اشتهر براج الأبُ في البداية في الفيزياء بدراساته لأشعة ألفا وبيتا وجاما، وقد أثبت في السنوات الأخيرة من العَقد الأول من القرن العشرين أن أشعة جاما وأشعة إكس تسلكان مسلكَ الجسيمات من بعض النواحي. ومع ذلك، يعتمد قانون براج لحيود أشعة إكس، الذي هو أساس حلِّ ألغاز بنية البلورات، على الخصائص الموجية لأشعة إكس التي ترتد عن الذرات في البلورة. وتعتمد أنماط التداخل الناتجة عن ذلك على مقدار المسافة بين الذرات في البلورة وعلى الطول الموجي لأشعة إكس، وقد تطوَّرت هذه التقنية على أيدٍ خبيرةٍ بحيث تحدِّد مواقع الذرات المفردة حتى في البِنى البلورية المعقَّدة.

ثم جاءت الفكرة التي أدَّت إلى قانون براج سنة ١٩١٢، وكانت في الأساس فكرةَ لورانس براج، الذي بحلول أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين كان يشغل منصب أستاذ الفيزياء بمختبر كافنديش في كامبريدج (خَلفًا لرذرفورد الذي تُوفِّي سنة ١٩٣٧) وكان لا يزال منهمكًا في أبحاثه في مجال أشعة إكس، ضِمن أشياء أخرى كثيرة. وشهد هذا العَقد بداية إحراز التقدُّم في علم «الفيزياء الحيوية» الجديد. وقد أسفرَ البحثُ الرائد لجيه دي برنال في تحديد بنية الجزيئات البيولوجية وتكوينها بواسطة حيود أشعة إكس عن دراساتٍ تفصيليةٍ لجزيئات البروتين المعقَّدة المسئولة عن تنفيذ الكثير من وظائف الحياة. وقد اقتسم الباحثان، ماكس بيروتس وجون كندرو، جائزةَ نوبل في الكيمياء لسنة ١٩٦٢ عن تحديد بِنى الهيموجلوبين (الجزيء الذي ينقل الأكسجين في الدم) والميوجلوبين (بروتين العضلات) نتيجةً للأبحاث التي بدأت في كامبريدج قبل الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، فإن الشخصَين اللذين يرتبط اسمهما دائمًا في هذا الاكتشاف بأصول البيولوجيا الجزيئية ونشأتها هما «الشابَّان الثوريان» فرانسيس كريك وجيمس واطسون، اللذان وضعَا النموذجَ الحلزوني المزدوج للحمض النووي في بداية خمسينيات القرن العشرين، وحصَلا على جائزة نوبل في «الفسيولوجيا أو الطب» (واقتسمَاها مع موريس ويلكينس) أيضًا سنة ١٩٦٢. ومن الجدير بالإعجاب تلك المرونة التي أبدتها لجنة نوبل في إدارتها لتكريم الرواد المختلفين في مجال الفيزياء الحيوية، وذلك بمنح الجوائز في السنةِ نفسِها تحت عنوان «الكيمياء» و«الفسيولوجيا»، ولكن مع الأسف حالت القواعد الصارمة التي لا تجيز منْح الجائزة بعد الوفاة دون منحِ جزءٍ من جائزة كريك-واطسون-ويلكينس إلى زميلة ويلكينس روزاليند فرانكلين، التي أنجزت القدرَ الأكبر من بحثِ عِلم البلورات الأساسي الذي اكتُشِفت من خلاله بنية الحمض النووي، بيدَ أنها تُوفِّيت سنة ١٩٥٨ في السابعة والثلاثين من عمرها. وقد أشار واطسون — الناشط النسوي اللاذع — في كتابه «الحلزون المزدوج» إلى دور فرانكلين في هذا الاكتشاف، والكتاب عبارة عن سردٍ شخصي رائع للفترة التي قضاها في كامبريدج، وهو مسلٍّ إلى حدٍّ كبير لكنه لا يقدِّم صورةً منصفة ودقيقة عن زملائه أو حتى عن نفسِه.

كانت الأبحاث التي قادت واطسون وكريك إلى اكتشافِ بنية الحمض النووي قد أُجريت في مختبر كافنديش؛ حيث كان براج ما زال في السلطة. ويصف واطسون، الذي كان وقتها شابًّا أمريكيًّا موجودًا في أوروبا لإجراء أبحاثِ ما بعد الدكتوراه، في كتابه كيف التقى براج لأول مرة عندما كان يسعى إلى الحصول على تصريحٍ للعمل في كافنديش. خرجَ الرجلُ ذو الشارب الأبيض، الذي كان في ذلك الوقت في بداية الستينيات من عمره، على واطسون الشابِّ كأحدِ المَعالم الأثرية من الماضي العلمي، ولا شك أنه أصبح حينئذٍ يُمضي معظم أيامه جالسًا في نوادي لندن. حصل واطسون على التصريح واندهش بالاهتمامِ البالغ الذي أبداه براج بالبحث؛ حيث قدَّم له إرشاداتٍ قيِّمة — وإن لم تكن دومًا موضعَ ترحيب، في سبيل حلِّ مشكلة الحمض النووي. أما فرانسيس كريك، فمع أنه كان أكبرَ سنًّا من واطسون إلا أنه كان من الناحية التخصصية لا يزال طالبًا يباشر رسالتَه لنَيل درجة الدكتوراه. واعترضت الحرب العالمية الثانية، مثل كثيرين من أبناء جيله، مسيرتَه العلمية، مع أن ذلك ربما لا يكون أمرًا غيرَ محمودٍ في حالته. وقد تلقَّى تدريبه في الأساس كفيزيائي، ولم يتحوَّل إلى العلوم البيولوجية إلا في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وهو القرار الذي كان إلى حدٍّ كبير بإيحاءٍ من كتابٍ صغيرٍ كتبَه شرودنجر ونُشِرَ سنة ١٩٤٤. كان عنوان الكتاب «ما الحياة؟» وهو كتابٌ كلاسيكي — ما زال قيدَ الطبع، وهو جدير بالمطالعة والبحث — يشرح فكرةَ أن الجزيئات الأساسية للحياة يمكن فهْمُها من خلال قوانين الفيزياء. والجزيئات المهمة التي ينبغي تفسيرُها في ضوء هذه القوانين هي الجينات التي تحمل معلوماتٍ عن كيفية بناء الجسم الحي وآلية عمله. عندما كتبَ شرودنجر كتابه «ما الحياة؟» كان يُعتقَد أن الجينات، مثل جزيئاتٍ حيةٍ أخرى كثيرة، مصنوعةٌ من البروتين، ولكن في ذلك الوقت تقريبًا كان يجري العمل على بحثٍ اكتشفَ أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة جزيئات حمضٍ اسمه الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين، وهو موجود في الأنوية المركزية للخلايا الحية.7 وهكذا اكتشفَ كريك وواطسون الحمضَ النووي وحدَّدا بنيته باستخدام بيانات أشعة إكس التي حصل عليها ويلكينس وفرانكلين.
استعرضتُ وصفًا تفصيليًّا لبنية الحمض النووي ودوره في العمليات الحيوية في كتابٍ آخر.8 ولكن السمة الأساسية هي أن الحمض النووي عبارة عن جزيء مزدوج، مكوَّن من جَديلتَين إحداهما ملتفة حول الأخرى. ويكون الترتيب الذي تنتظم به المركَّبات الكيميائية — المسماة قواعد — في سلسلة الحمض النووي حول محورها المركزي، هو المسئول عن نقل المعلومات التي تستخدمها الخلايا الحية لبناء جزيئات البروتين التي تنجز كلَّ الوظائف، مثل نقل الأكسجين في الدم، أو مساعدة العضلات على أداء وظيفتها. ويمكن أن تنحلَّ جديلةٌ من الحمض النووي جزئيًّا لتجعل سلسلةَ القواعد تعمل بمثابة «قالب» لبناء الجزيئات الأخرى، أو يمكنها أن تنحلَّ تمامًا وتكرِّر نفسَها بتوصيل كل قاعدة على طول سلسلة الجديلة بنظيرتها بحيث تبني جديلةً صورةً طِبْق الأصل ومعكوسةً من ذاتِها مكوِّنةً بذلك حلزونًا مزدوجًا جديدًا. تستخدم العمليتان الحساءَ الكيميائي الموجود داخل الخلية الحية كمادة خام، وكلتا العمليتَين أساسيةٌ للحياة. وأصبح الآن في مقدور الإنسان التلاعب بالرسائل المشفرة على طول الحمض النووي؛ حيث يعدِّل في التعليمات المشفرة في مخطط الحياة، وإنْ كان ذلك على الأقل في حالة بعض الكائنات الحية البسيطة نسبيًّا.

يُعدُّ هذا هو أساس الهندسة الوراثية. فمن الممكن تخليق أجزاء من المادة الوراثية — الحمض النووي — بواسطةِ مجموعةٍ من التقنيات الكيميائية والبيولوجية، ومن الممكن تحفيزُ الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا لالتقاط هذا الحمض النووي من الحساء الكيميائي في الوسط المحيط بها ودمجه في شفرتها الوراثية. وإذا أُعطيَت المعلومات المشفرة عن كيفية صنْع الأنسولين البشري سلالةً من البكتيريا بهذه الطريقة، فإن مصانعها البيولوجية ستؤدي المهمةَ نفسَها بالضبط؛ حيث تُنتِج المادة اللازمة تمامًا لإعانة مرضى السكر على أن يحيَوا حياةً طبيعية. ويُوشك أن يصبح الحُلم حقيقةً في تعديل المادة الوراثية البشرية للتخلُّص من العيوب التي تتسبَّب في مشكلاتٍ مثل مرض السكر في المقام الأول، ولا يوجد سببٌ نظري يحتِّم عدمَ تحقيقه. فقد تمكَّنا بالفعل من استخدامِ تقنيات الهندسة الوراثية في الحيوانات والنباتات الأخرى؛ حيث أنتجنا سلالاتٍ أجودَ من أجل الغذاء وغيره من المتطلبات البشرية.

مرةً أخرى، يمكن إيجاد التفاصيل في مواضعَ أُخر.9 ولعل النقطة المهمة هي أننا جميعًا قد سمعنا بالهندسة الوراثية وقرأنا عن التوقُّعات المذهلة — والمخاطر — التي تَعِدُ بها في المستقبل. ومع ذلك، قليلٌ من الناس هم مَنْ يدركون أن فهْم الجزيئات الحية التي تجعل الهندسة الوراثية أمرًا ممكنًا يعتمد على فهْمِنا الحالي لميكانيكا الكَمِّ، التي لولاها ما تمكَّنا من تفسير بيانات حيود أشعة إكس، فضلًا عن أي شيء آخر. وحتى نفهمَ كيفية بناء الجينات أو إعادة بنائها، علينا أن نفهم السببَ والكيفية التي تجعل الذرات لا تتَّحد بعضها مع بعض إلا في نسقٍ معيَّن، على مسافاتٍ محدَّدة بعضها من بعض، وبواسطة روابط كيميائية ذات قوة معينة. وهذا الفهم هو هدية فيزياء الكَمِّ إلى كلٍّ من الكيمياء والبيولوجيا الجزيئية.

لقد أسهبتُ في هذه النقطة على نحوٍ أكبرَ إلى حدٍّ ما عمَّا كنت لأفعل لو لم أكن عضوًا في كلية جامعة ويلز. وفي مارس ١٩٨٣، أشرتُ في عجالةٍ من خلالِ مقالٍ نقدي في مجلة «نيو ساينتست» أنه «لولا نظريةُ الكَمِّ لما كان هناك وجود للهندسة الوراثية، ولا حواسيب الحالة الصلبة، ولا محطات الطاقة النووية (أو القنابل).» وقد أثار ذلك حفيظةَ أحد المراسلين في هذه المؤسسة الأكاديمية الموقَّرة إلى الحد الذي جعله ضجِرًا برؤية الهندسة الوراثية تُجَر إلى كل سياقٍ بوصفها الكلمة العلمية الرنَّانة الجديدة، والتصريح بأن جون جريبين ينبغي ألا يُسمَح له بالذهاب طليقًا بهذه الملاحظات المفرِطة في الخيال. فماذا عساها أن تكون الصلة المحتمَلة، مهما كانت ضعيفة، بين نظريةِ الكَمِّ وعِلم الوراثة؟ وإنني أود أن تكون الصلة واضحةً هذه المرة. فمن جهة، من الممتع أن نستطيع الإشارةَ إلى حقيقةِ أنَّ تحوُّل كريك إلى الفيزياء الحيوية كان بإيعازٍ مباشر من شرودنجر، وأن البحث الذي أدَّى إلى اكتشاف الحلزون المزدوج للحمض النووي قد جرى تحت الإشراف الرسمي المباشر من لورانس براج، حتى وإن لم يكن موضعَ ترحيب أحيانًا، ومن جهةٍ أعمقَ كان السببُ وراء اهتمام الرواد مثل براج وشرودنجر والجيل التالي من الفيزيائيين أمثال كندرو وبيروتس وويلكينس وفرانكلين بالمشكلات البيولوجية، يُعزى بالطبع إلى أن هذه المشكلات كانت تمثِّل ببساطة نوعًا آخر من الفيزياء — كما أشار شرودنجر — وهو النوع الذي يتعامل مع مجموعاتٍ ذات أعداد كبيرة من الذرات في جزيئاتٍ معقَّدة.

وبدلًا من التراجع عن هذا التعليق العابر الذي قلته في مجلة «نيو ساينتست»، فقد وددتُ التأكيد عليه. إذا طلبت من شخصٍ ذكي وواسع الاطلاع — ولكنه ليس عالِمًا — أن يلخِّص أهمَ مساهمات العِلم في حياتنا الحالية، وأن يسرد فوائد التقدُّم العلمي ومخاطره في المستقبل القريب، فسوف تحصل بالتأكيد على قائمةٍ تتضمن تكنولوجيا الحواسيب (الأتمتة، والبطالة، والتسلية، والروبوتات) والطاقة النووية (القنبلة، والصواريخ الجوَّالة، ومحطات الطاقة) والهندسة الوراثية (العقاقير الجديدة، والاستنساخ، وخطر الأمراض المُخلَّقة، وسلالات المحاصيل المُحسَّنة) والليزر (الهولوجرام، وأشعة الموت، والجراحة المجهرية الدقيقة، والاتصالات). ومن المرجَّح أن الأغلبية العظمى من الأشخاص الذين طُلِب منهم ذلك قد سمعوا بنظرية النسبية، التي لا تلعب أيَّ دورٍ في حياتهم اليومية، وقلَّما أدرك أيٌّ منهم أنَّ كلَّ اسم في هذه القائمة له جذوره في ميكانيكا الكَمِّ، وهو فرع العلوم الذي ربما لم يسمع به أحدُهم قط، ولم يفهمه بكل تأكيد.

إنهم ليسوا وحدَهم في ذلك. فقد تحقَّقت كل هذه الإنجازات عن طريق فن الطهي الكَمِّي، باستخدام القواعد التي يبدو أنها تنجح على الرغم من أن لا أحد يعلم سببَ نجاحها. وعلى الرغم من الإنجازات التي حدثت خلال العقود الستة الماضية، فمن غير المؤكَّد ما إذا كان أيُّ أحد يفهم «السبب» وراء نجاح فن الطهي الكَمِّي. وسوف نكرِّس بقيةَ الكِتاب لسَبْر أغوار بعض الأسرار الأكثر غموضًا التي يُغض الطرف عن مناقشتها غالبًا، وللنظر في بعض الاحتمالات الواردة والمفارقات.

هوامش

(1) Quantum Theory and Beyond, page 1.
(2) Subtle Is the Lord, page 8.
(3) The same process operates in reverse when nuclei fuse together. When two light nuclei are pushed together by the pressure inside a star, they can only fuse if they overcome the potential barrier from the outside. The amount of energy each nucleus possesses in that situation depends on the temperature at the heart of the star, and in the 1920s astrophysicists were puzzled to find that the calculated temperature inside the sun is a little less than it ought to be—the nuclei at the heart of the sun do not have enough energy to overcome the potential barrier and fuse together, according to classical mechanics. The answer is that some of them tunnel through the barrier at a slightly lower energy, in line with the rules of quantum mechanics. Among other things, quantum theory explains why the sun shines, when classical theory says it cannot.
(4) One way to gain energy from fusion is by combining an isotope of hydrogen, which has one proton and one neutron (deuterium), with one which has one proton and two neutrons (tritium). The result is a helium nucleus (two protons, two neutrons), a free neutron, and 17.6 MeV of energy. Stars work by more complicated processes involving nuclear reactions between hydrogen and nuclei such as carbon that are present in small quantities inside the star. The net effect of such reactions is to fuse four protons into a helium nucleus, with two electrons and 26.7 MeV of energy being released, and the carbon put back into circulation to catalyse another cycle of reactions. But it is processes involving tritium and deuterium that are being investigated in fusion laboratories here on earth.
(5) There is actually another type of conductor in which the valence band itself is not filled, so that electrons can move about within the valence band.
(6) Bardeen had already made a name for himself in 1948 for his work with William Shockley and Walter Brattain on an invention that got the three of them the Nobel Prize in 1956. This little invention was the transistor, and Bardeen is the first person to have won the physics prize twice.
(7) The original use of the same term “nucleus” for the central part of an atom was a deliberate echo of the already existing biological terminology.
(8) The First Chimpanzee, with Jeremy Cherfas.
(9) For example, in Man Made Life, by Jeremy Cherfas.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤