كيمياءُ الأفكارِ والعواطفِ

كان القدماء يفهمون من «الكيمياء» الإكسير المنشود الذي إذا عُثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهبًا إبريزًا.

وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه ثم لم يصلوا، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه ثم لم يعثروا، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو استحالته.

إنما يعنينا هنا أن نقول: إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت مقصورة على المادة؛ فسمى «الغزالي» كتابًا من كتبه «كيمياء السعادة» يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه إنسان حظي بالسعادة.

وقد استعملها ابن الرومي استعمالًا ظريفًا في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصّقر:

عَجب الناسُ من أبي الصّـ
ـقْر إذ ولي — بعد الإجارة — الديوانا
إنّ للجدّ كيميـاءً إذا مـَـا
مَسَّ كلبـًا أحـاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا
ء متى شاء كائنًا ما كانا

•••

ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغير — فيما غيره — مدلول كلمة «الكيمياء» وجعله قسيمًا للطبيعة؛ فكما أن الطبيعة اختصت بدراسة الظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه.

والحق أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلأ أنها أعقد منها، وأصعب حلًّا، وأغمض اكتشافًا. وإلى الآن لم توضع كتب — على ما أعلم — في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة، وإن كانت كتب علم النفس أحيانًا تمس هذا الموضوع مسًّّا رفيقًا.

•••

فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها؛ ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات — ولها رموز وقوانين أدق من رموز الكيمياء المادية وقوانينها، ولها معادلات أصعب حلًّا وأبعد منالًا.

هل علمت — مثلًا — أن الماء يتكون من غازي الأوكسيجين والأيدروجين — بنسبة واحد من الأول واثنين من الثاني باعتبار الحجم؟ فكذلك الشأن في الأفكار والعواطف، فقد يكون لديك فكرة من نوع ما، أو عاطفة من نوع ما، ثم تسمع فكرة من محدث، أو تقرأ فكرة في كتاب، وتكون فكرتك من وزن خاص، والفكرة التي سمعتها أو قرأتها من وزن آخر، فتتحد هاتان الفكرتان، وتتولد منهما فكرة جديدة لا هي من النوع الأول وحده، بل هي نوع خاص، علاقته بالفكرتين كعلاقة الماء بالأوكسجين والأيدروجين.

وهل علمت أنك إذا ملأت قارورة ثلثها بالأوكسجين وثلثيها بالأيدروجين ثم قربت فوهتها من لهب تسمع لذلك دويًّا هائلًا؟ كذلك الشأن في العواطف، فقد يكون لديك عاطفة من نوع خاص، ثم تسمع خطبة من نوع يناسبها فتتفجر نفسك لهذا الاتحاد انفجارًا هائلًا، وتحس نارًا تملأ نفسك وتذكي حسك. أو ليس الغضب — يحمرُّ وجه صاحبه وتنقدح عيناه، ويجعله يقذف الكلمات الحادة العنيفة، ولا تهدأ ثائرته حتى ينتقم — ضربًا من ضروب هذا التفاعل الذي يشبه تفاعل الغازين؟ أوليست الحماسة — تدفع الجندي ليرمي بنفسه في خط النار، ولا يقيم للحياة وزنًا — أثرًا من آثار ما يسمع من كلمات القائد وما يشعر من جو وبيئة؟ أوليس الحب — يذيب النفس، ويرهف الحس، ويملأ القلب أسًى حينًا، وفرحًا وغبطةً حينًا — إلا نوعًا من هذا التفاعل دونه التفاعل المادي والاتحاد الكيمياوي؟

وكل ما ندرك من فرق بين التفاعل المادي والتفاعل الروحي أنا استطعنا أن نخضع المادة لبساطتها، فنحلل أجزاءها بالكهرباء أو ما أشبهها، ونقيس مقدار العنصرين أو العناصر المتحدة، ونعرف مقدار كل منها، ونرصد أثر التفاعل. أما في الأفكار والعواطف فليس الأمر بهذه السهولة، فلكل إنسان آراؤه وعواطفه، وهي تختلف فيما بينها كل الاختلاف، في جوهرها، وفي قابليتها لأفكار الآخرين وعواطفهم؛ فقد نلقي الكلمة على عدد محدود من الناس فنشعر بأن أثرها عند كل إنسان يخالف أثرها عند الباقين، كضوء النهار يفتح أعيننا ويغمض عين الخفاش؛ وقد يقرأ شخص كتابًا فيزعم أنه غيّر مجرى حياته، وقلب تفكيره رأسًا على عقب، وألهمه من المعاني ما استحال بها إنسانًا آخر، وأحدث في نفسه ثورة فكرية لم يحدثها أي كتاب غيره، ويقرؤه إنسان آخر فلا يشعر هذا الشعور ولا قريبًا منه، ولا يحس له ميزة ولا يجد له طعمًا. وهذا بعينه ما يحدث في الأجسام، تقرب عود ثقاب مشتعل من ورق فيشتعل، وتقربه من ثلج فيذوب، وتقربه من رخام فلا يشتعل ولا يذوب. وأؤكد لك أن الرواية تعرض في السينما أو تلقى في المسرح على عدد كبير من الناس تؤثر في كل ناظر بمقدار لا يتفق تمامًا وأثر الباقين، وإن كانت واحدة وممثلوها متحدين، فإن هناك عاملًا آخر من عوامل الوزن مختلفًا كل الاختلاف، وهو عواطف الناظر وآراؤه، وأن نتيجة التفاعل تختلف دائمًا باختلاف أحد الممزوجين المتفاعلين.

إن أردت التوسع في تطبيق هذه النظرية وجدت القول ذا سعة؛ فالبائع الناجح في المتجر ليس هو الذي يكثر الكلام أو يُقل الكلام، وليس هو الخفيف الحركة ولا هو المهندم الثياب، وإنما هو الذي يعرف شيئًا واحدًا ويتقنه وهو «قانون التفاعل»، ينظر إلى المشتري نظرة نافذة فيعلم نفسه، ويعلم نواحيها، ويعلم المواضع الحساسة منها، ويعرف في مهارة نقط التأثر عنده، ومقدار الأثر، ثم يستعمل في العرض وفي الكلام ما يتفق وما درسه من نفس المشتري، وإذا الذي يصدر من البائع مناسب لنفس المشتري ومنفعل معها على نحو خاص، وإذا الصفقة قد تمت في سهولة ويسر، على حين أن زميله ومن بجواره لا يبيع مثل بيعه؛ لأنه يخطىء في فهم نفس المشتري، فيتفاعل تصرفه تفاعلًا عكسيًّا مع نفس المشتري، فيتفاعل تصرفه تفاعلًا عكسيًّا مع نفس المشتري، فينتُج من ذلك نوع من الغضب أو نوع من الغضاضة ينتهي عادة بالإعراض عن الشراء. فإن سألت: كيف جهل هذا وعلم ذاك، وأين درس أحدهما ولم يدرس الآخر فنجح الدارس وفشل الجاهل؟ قلت: إن هذا الدرس لا يتعلم في المدرسة، وإنما يتعلم في السوق، وتعلمه من حسن استعداده الفطري وغريزته الطبيعية، بل إن شئت طبقت هذه النظرية على كل ناجح وفاشل في الحياة، فالمدرس الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر عنه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبته فيما يقول، وتأثير بما يشير إليه.

وما الأسرة السعيدة؟ وما الأسرة الشقية؟ أليست السعيدة من عرفت فيها الزوجة نفسية زوجها والزوج نفسية زوجته، وعمل كل منهما على أن يصدر منه ما يتفاعل ونفس الآخر حتى ينتج هذا التفاعل تآلفًا، فإذا انحرف أحدهما عن هذا الوجه عن جهل أو عن علم ساء البيت ونشأ تفاعل من جنس آخر نتج عنه البغض والكراهية والشقاق.

الحق أن هذه كلها معادلات في الكيمياء النفسية تشبه تمام الشبه المعادلات الكيمياوية التي تجرب في المعمل. ومع الأسف لم يصل الناس إلى حد بعيد في دراسة الكيمياء النفسية، ولم ينشئوا لها المعامل الناجحة نجاح المعامل الكيمياء المادية. والخطأ في النفس كثير الوقوع لصعوبة تعرف الذرات النفسية وتكوين المعادلات الدقيقة.

وإذا أدرك الإنسان هذا التفاعل واختلافه ودقته أدرك خطورته، وخاصة فيمن يتصل مركزه بنفوس كثيرين كالصحفي والأديب، والمعلم والخطيب، والزعيم؛ فقد يصدر عنه ما ينفعل ونفوس الناس فيكون سمًّا ناقعًا، وقد ينتج عنه ما يكون دواءً ناجحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤