اليوم العاشر (الأحد ٢٢ أبريل سنة ١٩٠٠)

افتح عينًا وأغمض الأخرى.

نظرت بعيني جميعًا إلى جهة الرّكز والهمس فلم أر أحدًا، وحينئذٍ لم أعبأ بالأمر، وبقيت مستمرًّا في طريقي …

– افتح عينًا وأغمض الأخرى وأطع.

في هذه المرة سمعت الصوت واضحًا، وأحسست بلكزة آلمتني فتلفتُّ حولي فلم أجد شيئًا فتعوذتُ بالله وبسملت وحوقلت وسجلت وهيللت، وسرت إلى مقصدي من هذه الرحلة …

– افتح عينًا وأغمض الأخرى.

عزيف مرعب شديد، خرق آذاني مع ما بها من الوقر. صحبته رعدة قوية في جسماني، مع ما به من الثبات، فداخلني الخوف والاضطراب، فرأيت وجوب الامتثال، وأغمضت العينين.

إذا بي في مدينة النحاس أو غيرها من مدائن الجان التي وصفها صاحب ألف ليلة وليلة، أسير بين قصور فاخرة شاهقة وأشجار زاهرة باسقة ومياه زاخرة دافقة، وغرائب وعجائب، وتماثيل وأنصاب، ومراكب في البحر وركائب في البر وخلائق لا تحصى، بأشكال لا تُستقصى، ودخان يرتفع إلى عنان السماء، ونقيع يثور في الفضاء وأصوات بكل اللغات، وازدحام عام وعجيج وضوضاء، كأنه قد نُفخ في الصور، فبُعثر من في القبور وسيق الناس إلى المحشر، بل إلى المعرض المنتظر.

هذا هو المنام الذي رأيته في اليقظة، حينما قصدتُ المعرض في هذا اليوم، فإنني بمجرد ما تجاوزت ميدان الائتلاف (پلاس دولا كونكورد) ورأيت الأبواب والبروج، والأعلام والبنود، ودخلت الدور والقصور وشاهدت ما فيها من الغرائب والبدائع، ابتهَجَت النفس، وقرَّت العين، وهام الفؤاد في وادي الخيال.

وقد كنت قبل مبارحتي القاهرة بشهر واحد، توفَّرت على قراءة «ألف ليلة وليلة» و«قصة سيف بن ذي يزن» لعلي أتوصل إلى معرفة مؤلفي هذين الكتابين أو عصرهما أو البلاد التي صنفاهما فيها، وغير ذلك من المباحث التحقيقية الوافية، وقد ظفرتُ بالمراد، وربما نشرتُ خلاصة هذا البحث فيما بعد، فبقي في النفس أثر من هذه الخوارق، ولا زال الخاطر متشبِّثًا بما مر عليه من تلك الغرائب، فكان ذلك سببًا في حلم المستيقظ الذي لا يكاد يراه النائم، إلا إذا حضر پاريس، فقد صحَّت فيها الأحلام، وأضغاث الأحلام.

غير أن الكمال لله وحده فإن المعرض لم يتمَّ للآن، ولا بد له من شهر أو شهرين حتى يكون حقيقة أعجوبة پاريس، بل أعجوبة الدنيا، وآية العصر بل آية الأعصار. فعلى المصري أن يتربَّص في بلاده حتى ينتهي الميعاد في المعرض، بين القصور التي هي منتهى الجمال والإبداع، تحفّ بها المعارج والأخشاب ويعلوها الغبار والتراب. وصرت أتنقَّل بين أنجاد ووِهاد وطرق معوجّة، وأخرى صاعدة هابطة، مدة ساعة وزيادة، حتى وصلت إلى القسم المصري، فوجدته للآن، مثل بقية الأقسام، بعيدًا عن التمام، ولكن القوم فيه وفي كافة أقسام المعرض، يبذلون قصارى الجهد، ومنتهى العناية للإتمام في أقرب وقت.

والخطأ كل الخطأ ناتج من افتتاح المعرض قبل الاستعداد، فكان من اللازم تأخيره المدة الكافية، حتى لا يضيع على الغريب وقته ودرهمه نظير هذا التسرع الذي يستحق من التاريخ اللَّوْم الشديد.

نعم، إن بعض الأقسام قد انتهى تمثيلها للأنظار، ولكنها من الملاهي التي اجتهد أصحابها في إتمامها، حتى لا تفوتهم دقيقة واحدة في اقتناص الدرهم والدينار.

فلهذه الأسباب حكمت محكمة التمييز بوجوب الانتظار، وإعادة النظر لاستيفاء التحقيق، حتى تصبح الدعوى صالحة للحكم، ويتيسر لكاتب المجلس أن يستحضر كافة الأوراق والمستندات، ويشرح المسألة عن تحقيق وتدقيق ومعرفة ويقين، وحكمت أيضًا بتأجيل ذلك مدة أسبوع، وألزمت المعرض بالمصاريف الرسمية وغير الرسمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤