اليوم الثالث عشر (الأربعاء ٢٥ أبريل سنة ١٩٠٠)

اضطرتني بعض الأشغال لتمضية هذا النهار في پاريس.

كنت قبل مبارحتي مصر يلومني كثيرون من إخواني وأصدقائي على تبكيري بالسفر خوفًا من البرد واشتداده في أوروبا، فلما ركبت الباخرة من الإسكندرية هبط ميزان الحرارة في اليوم الثاني إلى درجة ١٢ فوق الصفر، ثم صار يعلو وينزل متراوحًا بين ١٤ و١٧ حتى وصلنا مارسيليا فاستقرّ على ١٩، ولما وصلتُ إلى پاريس كان يتهادى بين ١٨ و٢٠ وبقي كذلك لحد هذا اليوم، فاستغرب الناس كلهم من هذه الحرارة غير المعتادة بأوروبا وتخوَّفوا شرّ العقبى، فقام العلامة الفلكي المحقق المشهور الموسيو فلاماريون (Flammarion) ونشر عليهم جوابًا آتِي هنا على خلاصته؛ ليتحقق أصحابي أنني لم أهلك من البرد، وإنما أهلكني الغلاء وغير الغلاء، وخصوصًا عدم تمام المعرض، وهذه خلاصة الجواب نقلًا عن بعض الجرائد الكبرى.
إلى هذا اليوم بقي الحر لطيفًا معتدلًا لا يشوبه برد حتى داخلت الدهشة أهل أوروبا، واستفهموا من عمدة علماء الفلك بپاريس وهو العلامة فلاماريون، عن سبب هذه الحرارة الصيفية التي خرجت عن الناموس المعتاد في شهر أبريل فقال:

إن التوازن من مستلزمات الطبيعة. فكما هو ضروري في أغلب الكائنات، كذلك لابد منه في انتظام حوادث الكون والفساد، فقد كان البرد قاسيًا في شهر مارس وحينئذ فلابد من موازنته بحر استثنائي يحصل في أبريل لينتظم التوازن في الطبيعة. ومن الخصائص التي انفردت بها هذه السنة والتي تقدمتها، أن يناير كان فيهما أشد بردًا من فبراير، وأن مارس كان أصقع من فبراير، وليس في أحوال الجو الحالية دليل ينبئنا عن المستقبل من حيث الحرارة والبرودة، فإن التغيرات في الجو تحدث عن تيارات هوائية يستحيل على أهل العلم والتحقيق الإنباءُ عن مجاريها مقدمًا، وغاية ما يقال: إن أعوام ٩٧ و٩٨ و٩٩ كانت درجة الحرارة فيها شديدة، ونظام الكون يستدعى وجود التوازن فلا بد حينئذ من ازدياد البرودة في سنة ١٩٠٠ أو سنة ١٩٠١. ولكننا لا يمكننا تعيين واحدة منهما، فإن ذلك من مكنونات الغيب، ولا يتكفّل بكشفه إلا المستقبل.

ولا بد لي في هذه اليوم من أترك القارئ في وديعة الله؛ لأنني سأزور بعض المتاحف والمكاتب والمطابع والمدارس، وليس له فائدة في اتِّباعي فيها أو في جرِّي إياه إليها، وفي غدٍ تكون المقابلة معه، إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤