اليوم الثامن عشر (الاثنين ٣٠ أبريل سنة ١٩٠٠)

ألم يَصدُق الأقدمون؟ نعم، إن العجلة معها الندامة، وأي ندامة بل أي شؤم تنفطر له القلوب وتذوب منه المرائر، أكثر من الحادثة القارعة والمصيبة الجامعة التي وقعت بالأمس في المعرض؟

انهدمت قنطرة أو ممشاة معلق في الهواء للتوصيل بين المعرض وبين القبة التي صنعوها تمثالًا وتقريبًا للسماء ذات البروج.

لا بد أن التلغراف طنّ ورنّ، وأَنَّ وَنَشَرَ الشجن والحزن في كل مسكن ووطن.
figure
منظر القنطرة بعد سقوطها.

في هذا الصباح دوى خبر هذا الحادث الأليم في كل الأرجاء، فتنبهت من نومي بين أشجان البلابل، وبلبال الشجون، وتغريد الطيور، وانهمار الدموع، وإشراق الشمس، وظهور اليأس على كل نفس.

فسألت عن الخبر، فعلمت بهذه الفاجعة. ويا لها من فاجعة! أقامت قيامة الأمة كلها على الحكومة، فأكثرت من تعنيفها ولومها على افتتاح المعرض قبل تمامه، مع أن الحادثة وقعت خارج دائرة المعرض، ولا ذنب فيها للقائمين بتنظيمه.

وتحرير الخبر أن الجماهير تقاطرت بالأمس بكثرة زائدة على المعرض؛ لكون أغلب الناس في فراغ من الأعمال في يوم الأحد، وكانت دائرة المعرض تموج بهم كأنها البحر الزاخر، فإنهم كانوا يعدون بمئات الألوف حتى بلغ عددهم ٢٣٠١٦٠ نفسًا، وقد أقامت إحدى الشركات المالية قبة سماوية هائلة تمثل فيها الكواكب والنجوم والبروج بأكبر شكل وأبهى مثال، ولكنها خارجة عن دائرة المعرض، ولذلك طلبت الإذن بإقامة قنطرة هوائية ترتفع عن الأرض سبعة أمتار وتمتد على مسافة ١٠٠ (بثقل ١٨٠ كيلو عن كل متر مربع) حتى لا يضطر زائرو المعرض للخروج منه؛ لأجل الدخول فيها، ثم العودة إلى المعرض ودفع الأجرة مرتين.

وقد أتمت هذه الممشاة، لكن الحكومة لم ترضَ به، وظهر لها خلل فيه، وأوعز مهندسوها إلى الشركة المذكورة بتلافيه، ولذلك يحمد القوم هذه العناية الربانية، فلولاها لكان الخطر أكبر والمصيبة مضاعفة؛ إذ كان الناس يزدحمون عليها ازدحامًا فوق العادة، كما هو شأنهم في الإقبال على كل جديد، خصوصًا في پاريس، وعلى الأخص في المعرض، فكان عدد القتلى يعد حينئذ بالألوف من فوقها ومن تحتها. فالحمد لله الذي لطف بعباده في قضائه المحتوم.

فلما انتصفت الساعة الرابعة من النهار، انتشر صوت مريع بين الناس، وجهر الناعون على رؤوس الجماهير، بخبر هذه الفاجعة المحزنة، وإنها قضت على حياة الكثيرين وجرح فيها جمٌّ غفير، ثم جاءت الأنباء الرسمية مؤيدة بصحة هذا المعنى، فتبدّلت الأفراح وبكت العيون، وساد الحزن، وانفطرت القلوب، وهرع القوم إلى مكان الحادث ينتحبون ويبحثون على ذوي قرباهم ومودَّتهم.

كان هذا الممشاة مقامًا على دعائم من خشب، فلما تمَّ نزعوا الدعائم من تحته، فلم يلبث إلا أربع ساعات حتى انهار، فكان له قصيف يشبه هزيم الرعد، ودويّ المدافع، فتساقطت على المساكين المارّين، كُتل كبيرة من الأحجار والأخشاب والحبال المعدنية والقضبان الحديدية، فَعَلَا الصياح والصراخ إلى عنان السماء، حتى انفطرت القلوب وانشقت المرائر، وطلب الناس الفرار فترك الرجل زوجته، والأمُّ ابنَها، والأخ شقيقته، وكان كل إنسان يطلب النجاة لنفسه، وهو لا يصدق بها، ولذلك انتشر هول الفزع في دائرة كبيرة حول مكان الحادثة حتى تصور الناس أن النار أخذت في التهام المعرض بما فيه، وبمن فيه.

فبادر رجال المطافئ والعملة لإنقاذ الناس من الردم، فلاقوا المشاق التي لا توصف، وبادر الأطباء لإسعاف المجروحين والمحتضرين. وفي كل لحظة كانوا يسمعون الأنين والحنين والزفير والشهيق والحشرجة والكرير، فيرتفع العويل والنحيب بين الحاضرين، ثم استحضروا جميع الفعلة الذين يشتغلون في كافة أقسام المعرض، وشغلوهم طول الليل في إزالة الردم والبحث عن بقية القتلى والجرحى، ولا تسل عن إخلاص رجال الإنقاذ، وإلقائهم بأنفسهم في مهاوي الأخطار الأكيدة، والهلاك المحقق؛ لتخليص الأرواح والأشباح، حتى استوجبوا الثناء العام، كما هي عادتهم على الدوام، وأمروا بإبطال الزمور والطبول في تلك الليلة في المعرض، إشعارًا بالحداد العام، ثم حضر رجال النيابة والقضاء وشرعوا في التحقيق.

ثم أتى المحافظ وشاهد إخلاص بعض العملة في الإنقاذ، فنقد الفقراء منهم في الحال ١٠٠ فرنك لكل واحد، وحرَّر قائمة يطلب بها وسامات الامتياز لهم ولغيرهم.

وقد بلغ عدد القتلى ١٢، وأما الجرحى فكثيرون جدًّا، ذهب معظمهم إلى منازلهم، والذين بهم جراح جسيمة نقلتهم الحكومة إلى المستشفى، بعد أن أسعفهم الأطباء بالعلاجات المستعجلة في مكان قريب من ميدان الحادثة.

هذه هي خلاصة ما سمعته ممن رأوا الحادثة، وشاهدوا أعمال الإنقاذ، فعساها لا تتجدد، والحمد لله الذي جعلني أفضّل في يوم الأحد الماضي النزهة في الخلوات والرياضة في الغابات! ولو كنت أوتيت العلم بحصولها، لحضرت إلى مشهد الواقعة ووقفت بعيدًا عنها حتى أذكر للقراء ما تأثرت به الباصرة والبصيرة، أو كنت أخبرت القوم بالاحتياط والاحتفاظ، ولو أنهم ما كانوا يسمعون قولي، ولا ينفعهم نصحي، ولكن كنت أتسلّى بقول من قال: «إن المحب عن العذَّال في صممِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤