شارع الأمم

جزء كبير من المعرض يمتدُّ على الضفة اليسرى من نهر السين، وهو من أغرب الغرائب التي قل أن يجتمع نظيرها على وجه الأرض؛ إذ تتلاقى فيه الأمم والشعوب، والقبائل والبطون، ويسمع الإنسان كافة اللغات، ويرى جميع الأجناس والأزياء. ويجد نفسه كأنه ينتقل في المنام من إقليم إلى إقليم، ومن مناخ إلى مناخ، ويشاهد حينئذ أصناف العمارة وطرازات البناء في سائر أرجاء العالم، فكيف لا يتصور بعد ذلك أن «الدنيا في پاريس»؟

اشتهر أحد القصصيين برواية خيالية، سماها: «الطواف حول الأرض في ثمانين يومًا».١

وفي هذا المعرض يتاح للزائر أن يرى أهم وأكبر وأجمل وأفخر، ما حوته الكرة الأرضية في ظرف ثمانية أيام أو ثماني ساعات، وصاحبنا بنى روايته على الأوهام، وأما الزائر فيجد الحقيقة في المعرض مجسَّمة للعيان. فانظر، يا رعاك الله! إلى هذا التقدم وهذا الاختصار، واحكم معي بأن الحقيقة قد فاقت الخيال.

هذا، وقد اجتهدت كل دولة في إظهار أحسن مآثرها ومفاخرها في فن العمارة والبناء، كما أنهن تنافسن في جعل قصورهن تحتوي على أثمن الكنز وأفخر الذخائر، حتى إن بعضهن (مثل ألمانيا وإسبانيا) عرض تحائف ونفائس تتعذر رؤيتها في بلادها الأصلية، اللهم إلا لأفراد قليلين يكادون يُعدّون على الأصابع.

وبعض هذه القصور مخصص للاحتفالات والاجتماعات الرسمية، وبعضها فيه معروضات أيضًا. ومنها ما هو محفوف بالجلال والوقار فلا يدخله الإنسان إلا باستئذان، ومنها هو أشبه بسوق عام أو بسويقة كلها ازدحام في اختلاط في اختباط، وهنالك قصور تزيد في شأن الأمم التي أقامتها، وبجانبها أخرى توجب الخجل والاستخفاف. وسنتكلم على هذه العمائر واحدة واحدة، وربما استطردنا في الكلام إلى ذكر ما امتاز به أهلوها من الاختراعات والصناعات، فإن الحديث شجون.

•••

فأول ما يصادفه الإنسان وهو ذاهب إلى برج إيڤل:

(١) قصر إيطاليا

وهو عبارة عن عمارة شامخة تكاد تناطح السحاب، وتستغرق الإعجاب، وتحتكر الاستحسان العام:
  • (١)

    لكونها أول ما يصادفه الإنسان فتحدث في نفسه ذلك التأثير المعروف عند علماء البديع ببراعة الاستهلال.

  • (٢)

    لكونها تفوق قصور الدول كلها في الاتساع والارتفاع، فإنها قائمة على مربع من الأرض طوله ٦٥ مترًا وعرضه ٢٨ مترًا ونصف متر.

  • (٣)

    لكونها تزدان بالقباب البالغة في الجسامة والضخامة.

  • (٤)

    لكونها تزدهي بالأصباغ الجميلة، والألوان الباهرة، وخصوصًا ما يشبه الذهب الإبريز، وولوع النفس به معلوم.

  • (٥)

    لكثرة ما بظاهرها وداخلها، وعلى شرفاتها من التماثيل والأنصاب التي فاقت حد النصاب.

  • (٦)

    لجمعها بين الدين والدنيا، فإنها من الخارج تمثل القصور الفاخرة التي تختال بها إيطاليا على ما عداها من الأقاليم، وأما الداخل فشكله يشبه الكنائس الكبرى الجامعة.

واعلم أن الحكومة الطليانية، على ما بها من الفقر والاحتياج، قد قررت نصف مليون من الفرنكات؛ لإقامة هذه العمارة الأنيقة وحدها، وجعلتها بحيث يخيل لزائرها أنه في إيطاليا نفسها؛ إذ يرى مصنوعاتها الفاخرة في الأواني الخزفية والنحاسية والزجاجية والبلورية (بلون واحد فأكثر) ومشغولات المينا والمعادن المطروقة.

وأما السقوف فتتدلى منها ثريات من البلور هي منتهى الجمال والإتقان في هذا الباب، تضاء في الليل بالكهرباء فيتألق بريقها، وينتهي البصيص والوبيص إلى درجة تحار فيها الأنظار والأفكار. وقد كثر إقبال الناس على هذه الثريات فبيع بعضها أكثر من مائة مرة.

ومن أعجب ما يراه الناظر في هذا القصر مشغولات التنتلة من الحرير، فإن شكلها يروق العيون وصناعتها تعرب عن دقة فائقة تقضي بالعجب العجاب، خصوصًا إذا علم القارئ أن القائمات بعملها فتيات لا تزيد أجرة الواحدة منهن عن فرنكين أو ثلاثة في الأسبوع، مع أن ما تصنعه الواحدة منهن في اليوم الواحد يباع بمئات الفرنكات، ومن أغرب ما في هذا القصر نادرة تدل على طول الصبر، الذي يكاد يقارع الدهر: كتاب يحتوي على تاريخ فرنسا من سنة ١٧٨٩ إلى سنة ١٩٠٠، وكله مكتوب بالقلم القوطي (Gothique)، وهو بالنسبة للكتابة الإفرنجية كالخط الكوفي بإزاء الحروف التي انتزعها منه الوزير ابن مُقْلَة البغدادي وجرينا عليها في الشرق إلى الآن. والكتاب مُؤَلَّف من رقوق تزدان بصور ملونة في غاية البهاء والجمال.

وهذا القصر كله مبني من الأخشاب، فلا يدخله الحديد إلا بالقدر اللازم لربط السقوف والجدران، ولكن يغشاه الجصّ والجبس على طبقات ومربعات تجعل البناء يتمثل أمام الأنظار كأنه من الصخور الصلدة، والأحجار الجامدة، ونفيس الرخام.

وقد اشتركت إيطاليا في ١٥ قسمًا من أقسام المعرض، وفي ثلاثة من ملحقاته، وصرفت على ذلك ٤٠٠٠٠٠ فرنك أخرى؛ لتظهر أنها قد عادت لها الحياة، وأنها دخلت في طور الشبيبة بين الأمم.

ومتى خرج الإنسان من عتبة إيطاليا وسار خطوتين وجد نفسه بأرض الدولة العلية إذ يرى:

(٢) القصر العثماني

يخفق فوقه الهلال، فترتاح الروح، وينشرح الفؤاد؛ إذ يجد الإنسان نفسه كأنه في بلاده وبين أقوامه. نعم، فهو قصر جليل يمثل العمائر الإسلامية الشرقية على أحسن مثال.

وقد أسفتُ كثيرًا من كون المهندس الذي أقامه وبناه ليس من الأتراك العثمانيين، بل من أبناء فرنسا، ومثل ذلك يقال أيضًا: عن القسم المصري والفارسي والمراكشي والصيني، والذي يوجب الأسف الأكبر، أن هذه السراي العثمانية الفاخرة عبارة عن سوق يكثر فيها ازدحام السوقة والباعة المتسببين في بيع السلع الإسلامبولية القليلة، والرومية الكثيرة. وأهم هذه البضائع وأكثرها عددًا، ما كان مصنوعًا في أوروبا برسم المشرق خاصة، فيعودون به إليها، ويتيسّر لهم بيعه على الإفرنج ونوال الأرباح الوافرة.
figure
صورة القصر العثماني.

لم أر شيئًا من خيرات الأرض في بلاد الدولة (العلية) (وهي كثيرة متعددة متنوعة) سوى بعض رواميز من أوراق الدخان، وقد احتكرته شركة أجنبية، وبعض أنواع معادن الصنفرة بإزمير: لشركة أجنبية أخرى، وبيانو لطيف ودراجة جميلة، ولكنهما ليستا من صنع العثمانيين، بل لبيت تجاري ألماني، ورأيت بعض قضبان للسكة الحديدية، وبعض نموذجات من الفحم الحجري: وكلاهما قد نال الامتياز باستغلاله واستخراجه بعض المتمولين من الإفرنج.

ورأيت محصولات النبيذ الذي تشتغله المستعمرة الإسرائيلية في فلسطين بأرض الشام: وهو من خيرات تلك البقعة الواسعة التي اشتراها البارون هرش، وجعلها ملجأً لفقراء اليهود المطرودين من ممالك أورپا، ورأيت أيضًا زجاجات كثيرة من كونياك بولاناكي الذي يصنعه بالإسكندرية. ورأيت الجدران كلها تغشاها سجاجيد وطنافس، وإذا بها كلها معدة للبيع وأثمانها مرموقة عليها، وهي لتجار من الإفرنج الأوروباويين، وخصوصًا محل تجارة ميدان كليشى بپاريس (A la place de Clichy).
فتركت ذلك كله أسفًا وخجلًا، ودخلت بهو الاستقبال أو «غرفة التشريفة» فابتهجت طربًا: إذ رأيت نفسي في قاعة كبيرة مفروشة بالسجاجيد الفاخرة الغالية، من أرضها لجدرانها لسقوفها، وفيها «كوشة» ثمينة مثل التي يعدها أكابر الأعاظم للعرائس في ليالي الزفاف. ورأيت الستائر من الأكلمة الفاخرة، وفي الغرفة أثاث نفيس من الصناعة الشرقية والطراز العربي. وكل هذه الموائد والكراسيّ ونحوها مغشى بسجاجيد ذات قيمة. وفي داخل الغرفة «خزنة» تليق بها من كل وجه، فوقفت لحظة أتردد بين الإعجاب والابتهاج، ثم جلست على ديوان هناك لأستريح قليلًا، وقلت في نفسي: «في هذا الكفاية: فكل الصيد في جوف الفرا.» وكأن الدهر أجابني: «يا لها من فرحة لو تمتِ.» فقد حانت مِنِّي التفاتة فرأيت على أحد الكراسي بطاقة من الورق السميك مكتوبًا عليها عبارة فرنساوية وبحروف فضية وذهبية: (A la place de Clichy) فعلمت وتحققت بمنتهى الأسف أن كل ما في هذه الغرفة والتي بجانبها لمحل تجارة كليشي أيضًا.
فمن لي بمن يبلغ العثمانيين بأن القليل الذي ظهر من صناعتهم وبراعتهم في پاريس، يستوجب الفخر الكثير والذكر الحميد، ويعود عليهم بالربح العظيم والخير العميم؟ فعساهم ينتبهون فينفعوا وينتفعوا، فإني رأيت أغلب العارضين من الحرافيش الذين ينتسبون إليهم لنوال الأرباح باسمهم وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ،٢ وإنا منهم لبريئون. ومن الذين أقبلوا على عرض بعض المصنوعات بالقصر العثماني يونان إسلامبول (وفي جملتهم حتى صانع أحذية) وكثير من الإفرنج المقيمين بأوروبا المتّجرين ببضائع المشرق.

حتى التياترو فهو ليس بعثماني، بل هو يضارع ويعارض المصري والفارسي في كون الراقصات والطبالين من أبناء وادي النيل، وفيه روايات باللغة العربية، والذين التزموا تشغيله واستغلاله هم الخواجات شيحه وفرعون، ومسديه وصهيون. وكان القائم بإدارة التشخيص وعمل الروايات صاحبنا خليل أفندي حصلب. ويا ليت الأول والثاني كانا انضمّا إلى القسم المصري لتتم المشاكلة والمطابقة.

وقد اجتهد بعض السوريين في تمثيل أورشليم بأعلى هذا القصر، فيراها المتفرج بقبورها وطلولها ومساجدها ومآثرها ونحو ذلك. وهي عبارة عن أقمشة كبيرة صوَّرها بعض مهرة الصناع الفرنساويين.

ثم بحثت كثيرًا وسألت طويلًا عما سمعته من أن الأميرال أحمد باشا صنع جملة مراكب حربية صغيرة من الخشب، تمثيلًا لدوننمة كبيرة، وأنها كلها من صنع يده. فلم أعثر عليها ولم أجد أحدًا يرشدني إليها، فخرجت من القصر، وطلبت ذلك في قصر الجيوش البرية والبحرية وفي الجواسق الملحقة به، وفي قصر الملاحة التجارية والحربية، وفي غير ذلك مما توهمت أن تكون به الدوننمة فلم أهتدِ لأحد يهديني. وقد بارحت پاريس في يوم ١٢ يوليو ولم أقف لهذه الدوننمة على أثر، وربما كان قد تأخَّر إرسالها لپاريس.

نرجع للقصر العثماني، فإنني أحمد الله الذي أتاح لي في الختام، رؤية شيء من المعروضات يستحقُّ الذكر ويوجب الفخر، ألا وهو:

المحراث البخاري

فتضاعف عندي الفرح والسرور، خصوصًا وأني رأيت هذه التحفة على غير انتظار، ولكونها منسوبة إلى مصر، فإن الذي اخترعه هو بوغوص باشا نوبار. ومما زادني ارتياحًا وابتهاجًا، أنه لما جاءت لجنة المحلفين ونظرت هذا المحراث، وفَّته حقه بالتمام من الإعجاب والاستحسان. وقد طلبتُ من الموكل به تسييرَه أمامي ففعل، ولعدم إلمامي بهذه الأمور، طلبت من أحد أصدقائي المصريين العارفين بالزراعة، فقدَّم لي شرحًا وافيًا، آتي هنا على ترجمة خلاصته، بغير إشارة إلى اسمه إجابة لطلبه وإلحاحه:

ساعدني الحظ فحضرت حفلة أقيمت بمصر لاختبار هذا المحراث في أرض طفلية، أي كثيرة الصلابة، فإذا هو عبارة عن «لوكوموبيل» معتاد مركب عليه المحراث مؤلفًا من ثلاث صفائح حديدية فيها أضراس من الفولاذ كثيرة العدد والمتانة، وهذه الصفائح تشابه المنشار المستدير، فمتى سار الوابور الزراعي (اللوكوموبيل) دارت الصفائح فحفرت الأرض، وجعلت عاليها سافلها، وقبلت أجزاءَها على بعضها، ثم سحقتْها سحقًا على امتداد ثلاثة أمتار. وبعد مرور الوابور، يجد الإنسان الأرض ممهدة كأحسن ما يكون، ومعدة لاستقبال «التقاوي» والبذور.

ومن أكبر مزايا هذا الاختراع أنه يعمل في الأرض في مرة واحدة كما لو جرى عليها المحراث المعتاد ست أو سبع مرات. ويمكن حرث ١٠ فدادين به في اليوم الواحد. ولا شك أنه سيترتب عليه انقلاب عظيم ومفيد في نظام الزراعات الواسعة والأباعد الكبيرة؛ لأنه يمتاز عن المحاريث البخارية المستعملة في مصر بما يأتي:
  • أولًا: أن ثمنه أقل منها بمقدار الثلث.
  • ثانيًا: أن المحاريث المستعملة في مصر وفي غيرها من الأقطار تقلّب الأرض، ولكنها لا تسحقها بل تتركها كتلًا (قلقيلًا) كبيرة بجانب بعضها فتستدعي الحال لمرورها عليها ثانية وثالثة مع المشط وغيره من الآلات الخاصة بذلك في المزارع.

ولا تزال بعض الكتل (القلقيل) باقية على حالها بعد تكرار العمل، مع أن تحويل الأرض لمسحوق ناعم مما يفيد الزراعة، من الوجهة الكيماوية والطبيعية؛ إذ يجعل الهواء وأشعة الشمس تتخللها كما ينبغي فتأتي بالمحصول الوافر.

وقد وجه العلماء عنايتهم في هذه السنين الأخيرة لهذه المسألة المهمة، وهي سحق الأرض، ولم يتوصلوا لوجود آلة عملية تفي بالمقصود. ولذلك قابلوا هذا الاختراع المصري الجديد بالاحتفال والاستحسان.

ومن مزايا هذا المحراث: عدم وجود الأحبال في أشباهه المستعملة بمصر، وسهولة الدوران والانتقال، وأنه بعد إتمام عملية الحرث يمكن استخدامه لرفع المياه وري الأرض بعد حرثها، ومتى جاء المحصول أمكن تشغيله لدرس الغلال.

•••

فخرجت من هذا القصر وأنا أتمنى لهذا الاختراع المصري نجاحًا لمصر، وفي مصر، بل وفي العالم كله.

واعلم أن مقدار ما أنفقته الدولة العلية على اشتراكها في المعرض بلغ ١٥٠٠٠٠٠ فرنك، وهو مبلغ لا شك جسيم.

ثم لا أدري كيف وجدتُ نفسي في عالم جديد إذ رأيت:

(٣) القصر الأمريكاني

قال هيرودوت: «إن مصر أرض العجائب.» ولكن ذلك قبل اكتشاف العالم الجديد بقرون وأجيال، أما الآن فأمريكا هي أم الغرائب ومعدن العجائب. وطالما سابقت أوروبا، فسبقتها؛ بل إنها لا تزال حائزة للقدح المعلَّى، في مضمار التقدم والاختراع. والدلائل أكثر من أن يحصيها سِفر أو أسفار.

وهذه الأمة تحب الانفراد والإغراب؛ لاستلفات الأنظار ونوال الامتياز على الدوام. فهذا القصر عبارة عن نادٍ يجتمع فيه أبناء تلك الأمة الجليلة للمحادثة والمسامرة. فيجدون فيه كافة التسهيلات التي توفر عليهم التعب، وتختصر لهم الوقت وتقرّب منهم البعيد، فيكون الرجل منهم فيه كأنه في بلاده وبين خلّانه، وجرائده ومرشديه، وناقلي خطبه وأقواله بالكتابة المختزلة (Sténographie) وآلات الكتابة التي تريحه من إمساك القلم (Type Writer). وهنالك تجيئه أسعار البورص فيما بين الساعة ٤ و٦ بعد الظهر، ويمكنه الاستعلام في الصباح عن مقادير الأسعار في نيويورك وشيكاغو. وليس في هذا القصر شيءٌ من المعروضات على الإطلاق سوى قائمة منقوشة على عضادات أحد الأبواب ببيان الأقسام التي تفتخر فيها أمريكا بعرض مصنوعاتها ومخترعاتها ودلائل تقدمها حسًّا ومعنى.
يتألف هذا القصر من ثلاثة أدوار، غير الطبقة الأرضية التي تحتوي على مكاتب للاستعلامات وللبوسطة والتلغراف وبنك مالي، حتى لا يحتاج أبناء أمريكا إلى غيرهم في شيء. وفيه دفتر كبير يكتبون فيه أسماءهم وعنواناتهم وأماكن إقامتهم؛ ليتعرفوا ببعضهم، ويتمكنوا من الاجتماع لقضاء الحوائج والأشغال، وفيه مصعدتان (Ascenseurs) من آخر طرز يفوق كل أمثاله في أوروبا، وهما مخصصتان لتوفير الوقت عليهم، ورفع المشقة عنهم في الصعود والنزول بواسطة السلالم إلى ومن الأدوار العليا وفي الدور الأول: غرف للمطالعة والجرائد الأمريكية كلها ومعظم الأوروباوية المهمة. وفيه غرف فرشتها رسميًّا بعض الولايات، لإظهار ما امتازت به من خيرات الطبيعة أو اجتهاد الإنسان. وأما الدور الثاني: فهو للمندوب العام ومساعده وكاتب أسراره وبقية رجال إدارة المعرض الأمريكاني في پاريس. والدور الثالث: مخصص للاجتماعات والاحتفالات العمومية وغرف للمحلفين وللمؤتمرات الخصوصية، وتأسيسات النساء ولغرفة التجارة الأمريكية بپاريس.

وتعلو هذا القصر قبة شاهقة داخلها مدهون بالألوان الباهية بحيث تمثل الراية الأمريكية في تجويف جميل على مثال بديع، ويوجد بأسفله لوكندة أمريكية وقهوة تشاكلها.

ومما يستحق الذكر في هذا المقام بمناسبة الإشارة إلى ما خصصوا له الدور الثالث في القصر المذكور أن رجلًا من أغنيائهم واسمه أنطوني پوللوك (Antony Pollok) غرق مع إحدى البواخر الأطلانطيقية الكبيرة وهي قادمة من أمريكا إلى فرنسا، فخصم ورثته من تركته مبلغ ١٠٠٠٠٠ فرنك وقرروه جائزة تعطى في القسم الأمريكي لأحسن آلة وأداة يخترعها الناس لنجاة الغرقى ويعرضونها في پاريس. فانظر إلى أين وصل التفنن بهم في فعل الخيرات ونفع الجنس البشري، فيا حبذا لو قرأ هذه السطور بعض أبناء الأغنياء في بلادنا وتنافسوا في هذا الطريق، بدلًا من الطرق الأخرى المعروفة لهم المأثورة عنهم، حتى إنه لا يمضي عليهم إلا زمن يسير، فيصبحون من ذوي المتربة، ويتقلَّبُون على الثَّرى (أو على الحديدة)، ويكونون مضغة في الأفواه، وسببًا في الخزي والعار.

وجميع القصر الأمريكي مبني من الأخشاب ورسمه وهندسته وأدواته وبناؤه وطلاؤه وزخرفته ونقشه كله من أمريكا، وبمعرفة الصناع الأمريكيين، وقد بلغ الاعتماد الذي قررته هذه الجمهورية لإقامة قصرها وللاشتراك في سائر أقسام المعرض مبلغ ٣٢٥٠٠٠٠ فرنك، وبلغ عدد العارضين من أبنائها ٧٠٠٠ نفس. وامتازوا بما قدموا في المعادن والمناجم والمنسوجات والملبوسات والميكانيكا والكهرباء والزراعة والصنائع الكيماوية وأعمال الهندسة الملكية ووسائط الانتقال والعلوم والمعارف والآداب والصنائع المختلفة، (وخصوصًا فيما يتعلق بالمفروشات على أنواعها) وفي أدوات الحرب في البر والبحر، وفي الرسوم والتصاوير، وفي الأزهار والأثمار، وفي المؤتمرات والاقتصاد الاجتماعي، وفي الملاحة التجارية وفي الغابات والصيد في البر والبحر وغير ذلك.

ولا يسعنا المقام لتفصيل كل ما رأينا من معروضاتها. وإنما نذكر شيئًا عن الزراعة التي هي أساس الثروة في مصر. فللأمريكان قسم مخصوص في رواق الآلات يتألف من ثلاثة أدوار، وفيه معرض مفيد جدًّا لأدوات الزراعة وكيفية تقدمها الفائق، منها ما هو متركب من جملة أدوات كثيرة متعقدة في بعضها، ولكنها تؤدي لأرباب الزراعات الواسعة أكبر خدمة وأجلَّ منفعة، فمثال ذلك آلة للحصيد من وظيفتها حصد الزرع ثم جمعه حزمًا حزمًا، ثم ربط كل حزمة على حدتها، ثم حمله إلى المكان الذي يريده سائق هذه الآلة النافعة.

أما الدور العلوي فهو أهم من ذلك، فإن فيه غرفة للمذاق مجانًا لوجه الله تعالى، ولذلك فهي كالمورد العذب يَؤُمّها الزائرون، وإن كانوا مثلي لا يدرون شيئًا في فن الفلاحة، فيتناولون بعض المشروبات، يرون مطابخ من آخر طراز يطبخ القوم فيها ألوانًا أمريكية مختلفة في كل يوم، وأنواعًا كثيرة من الفطير. وكل ذلك مصنوع من الذرة؛ لكي يتحقق الملايين الذين يزورون المعرض من فائدة هذا المحصول، ويتيسّر حينئذ للأمة الأمريكية، زيادة الاستفادة من كثرة تصديره إلى أوروبا، ورئيس هذا المطبخ أحد ميرالايات العسكرية، وفيه طاهيان وزنجيتان مشهورتان بعمل أنواع الفطير والحلوى من الذرة.

وقد كانت الحكومة الفرنساوسة قررت لهذه الأمة النشيطة مساحة قدرها ١٥٠٠٠ قدم مربع، متوزعة في سائر أرجاء المعرض وأقسامه، ولكن العارضين الأمريكيين وعددهم لا يقل عن ٧٠٠٠ مع بعد الشقة، ما زالوا يوالون الاعتراض بالرجاء، ويتابعون الاستعطاف بالإلحاح حتى نالوا ٢٥٣٧١ مترًا مربعًا، خلاف الأرض التي أقيم عليها القصر الرسمي.

ومما امتازوا به في معروضات المعادن هرم كله من خالص الذهب الإبريز، تبلغ قيمته مليونًا من الدولارات، أي: ٢٠٠٠٠٠ جنيه مصري.

أما الكهرباء والميكانيكا، فلهم فيهما المقام الأول والنصيب الأوفر. ولا غرو فمنهم أديسون، صاحب الاختراعات العجيبة التي لا تحصى في العدد، ولا يفوقها شيء في الأهمية والفائدة العامة. وهنالك يرى الإنسان مقدار ما أدخلوه من التحسينات في التلفون والتلغراف وجميع الأعمال التي تدخل فيها القوة الكهربائية.

ومن الغريب أنهم انفردوا عن سائر الأمم بالاشتراك في كافة أقسام المعرض حتى في القسم الاستعماري، مع حداثة عهدهم بالدخول في هذا الميدان، فإنهم لم ينتزعوا جزيرة كوبا من يد الأسبان إلا بالأمس.

وقد بلغ ما أنفقته هذه الجمهورية العظيمة على اشتراكها في المعرض ثلاثة ملايين وربع مليون من الفرنكات.

أقول الحق: إنني بعد أن طفت بالقصر الأمريكي، وفي سائر الأقسام الخاصة بالولايات المتحدة، عجبت لهذه الأمة التي ظهرت من عهد قريب على صفحات الوجود، ومع ذلك أفادت بني الإنسان بما لم تتوصل إليه أمة من الأمم الكبيرة القديمة.

وما خرجتُ من القصر الأمريكاني حتى رأيتُ نفسي في أوروبا ثانية إذ رأيت:

(٤) القصر النمساوي

أقامته مملكة النمسا المعروفة بأوستريا، وأتت بكل ما فيه من الزخارف والنقوش من بلادها حتى لا يكون لفرنسا فيه أثر سوى الأرض المقام عليها، ومساحتها ٦٠٠ متر مربع.

امتاز هذا القصر عن أمثاله باحتوائه على معرض الصحافة ففيه ١٢٠٠ جريدة نمساوية، تترجم عن أميال الأحزاب العديدة والطوائف المتباينة التي يتألف منها جسم هذه المملكة. وهي في أكثر من عشرين لغة، وتدل على مقدار تأثير الرأي العام في تلك الأصقاع. أما الصحائف والمجلات الخصوصية، أي العلمية والفنية، فلها أيضًا شأن خطير ومقام كريم. ورأيت هنالك بعض الأعداد الأولى من تلك الجرائد محفوظة مع تقادم الزمان، ولم أَرَ جريدة واحدة عربية أو تركية مع أن بلاد البوسنة والهرسك في قبضة النمسا الآن.

ومما انْفَرَدَ به هذا القصر أيضًا: احتواؤُه على معرض البوسنة والتلغراف، ولا يخفى على ذوي المعرفة والاطِّلاع، أن لأهل هذه البلاد اليدَ الطُّولى في تعميم المواصلات البريدية والبرقية في أوروبا، وأن لهم فيها الاختراعات الكثيرة المفيدة، وأخصها إرسال جملة رسائل برقية في آن واحد على سلك تلغرافي واحد إلى جهات مُتعدِّدة.

وقد اشتهرت أرض النمسا بينابيعها المعدنية، ولذلك ترى مياهها كلها معروضة فيه، وكل ينبوع يتفنَّن صاحبه في بيان فوائده ومزاياه، كأنه ماء الحياة.

وأجمل غرفة فيه هي المخصصة لبلاد دلماسيا، ففيها أنواع السلاح القديم الفاخر، والوشي المرقوم والتطريز والتدبيج بما يقرب من الصناعات الشرقية، وفيه أساور وجواهر وعقود وقراطق مرصعة بالأحجار الكريمة بحيث يخالها الإنسان آتية من بلاد عربية.

وقد أقامت هذه المملكة خمس عمائر أخرى في المعرض، أهمها في سراي الغابات والحراج، ثم القصر التيرولي وهو رشيق أنيق، تكتنفه أربعة أبراج، وحوله روض بسام له أريج وعبيق بحيث يخيَّل للزائر أنه في تلك البقعة البهيجة النضيرة، وهو جامع بين الحصن المنيع والقصر الرفيع. وكله من الأخشاب النفيسة التي تنتجها غابات تلك البلاد، وسينقلونه بعد المعرض إلى التيرول فلا يضيع عليهم شيء من المصروف، وبعض غرفه من عمل تلامذة مدرسة الصنائع. وفيه معروضات قليلة لم يستوقف نظري وفكري فيها إلا شيئان:
  • أولهما: كرسي شمعة مطعَّم بالعاج والصدف والباغة بالشكل الشرقي تمامًا، كما هو المعهود قديمًا بمصر في عهد المماليك، حتى البرامق شكلها مصري بحت، فيخاله الناظر إليه من أهل بلادنا أنه كان في ملك السلطان قايتباي، أو أنه مسروق من دار التحف العربية بالقاهرة، أو أنه مصنوع في ورشة برويزا وهاتون أو ملّوك أو نحوها من الذين أعادوا في هذه الأيام صناعة أجدادنا. وليس فيه شيء على الإطلاق يشير إلى أنه من بلاد الإفرنج، أو أنه من مصنوعاتهم المحلية الخاصة ببعض أصقاعهم، سوى أنه منسوب للتيرول ومصنوع في بلدة كورتينا دامبتزو Cortina d’Ampezzo، وهي منفردة إلى الآن بهذه الصناعة في تلك الأقطار الشمالية، وثمنه ٨٠٠ فرنك.
  • وثانيهما: مائدة تنطوي على بعضها، ويقال فيها مثل ما قيل في الكرسي، وثمنها ٩٠٠ فرنك.

وهنا محل للسؤال عن مناسبة وجود هذه الصناعة بتلك البلاد، وعن الداعي لبقائها فيها زاهرة رائجة إلى الآن، وعن الارتباط الذي ربما كان بين التيرول ومصر في وقت من الأوقات. وهنا أيضًا محل للعجب بل للخجل: إذ كيف تبقى هذه الصناعة الفائقة المعجبة في بلاد الشمال مع أن أهلها في مصر قد فَرَّطُوا فيها وفي المخلَّفات الجميلة التي أبقاها لهم الدهر حتى جاءهم أفرنكي فأعادها لهم وهو الخواجه برويز.

ومما امتازت به النمسا في المعرض آلات الجراحة. ولا غرابة فلأهلها الباع الطولى والقدح المعلّى في صناعة الطب والجراحة، وهم كعبة المرضى من جميع بقاع الأرض.

وامتازت أيضًا في صناعة الكراكات الهائلة التي تمهد الجبال وتفتت الصخور في قيعان البحور. وأهمها عبارة عن مركب بخاري كبير جدًّا فيه الماكينات بقواديسها، وبجانبه مركب آخر يشبه الصندل أو الماعون، فتُلقِي القواديس الموادَّ في المركب الثاني فتدخل في أنبوبة تتصل بأخرى موضوعة على عربات واقفة على سكة حديدية، وتتواصل العربات وعليها الأنابيب بالامتداد المطلوب؛ لإلقاء المواد في الجهة المقصودة بعيدًا عن الشاطئ، وقوة الدفع تستمر بواسطة الماكينات التي تُحدث تأثيرها في قاع البحر وفي القواديس وفي دفع المواد إلى المسافة المطلوبة.

وقد بلغ ما صرفته النمسا على اشتراكها في المعرض ٧ ملايين ونصف مليون من الفرنكات.

وبجانب هذا القصر عمارة شرقية إسلامية وهي عبارة عن:

(٥) قصر البوسنة والهرسك

فيه كثير من البوشناق يشتغلون أمام الجماهير الذين يتقاطرون على زيارة هذا الجوسق الظريف، ويرون فيه بدائع صناعتهم المشتقة من الصناعة العربية الإسلامية. فإن أهل هذه البلاد يبلغ مجموعهم الآن ١٥٠٠٠٠٠ نفس؛ منهم ٣٠٠٠٠ كاثوليكي و٦٠٠٠٠٠ أرثوذكسي، والباقون مسلمون، فهم يزيدون عن الثلث بقليل. وكل هؤلاء الأقوام من السلالة السلافية، وكلهم يتكلمون باللغة الصقلبية، غير أن المسلمين وعددًا عظيمًا من مواطنيهم يحسنون اللسان التركي أيضًا. واعلم أن المسلمين هنالك من ذرية أشراف تلك البقعة الذين دانوا للإسلام في أيام الفتح العثماني.

وقد رأيت أعمالهم في النقش على النحاس والخشب وتطريز الحرير، فإذا بها تماثل مصنوعات الآستانة المعروفة عندنا، وكلها تزدان بكلمات وعبارات حروفها عربية.

وفي هذا القصر مناظر تمثل عاصمة البلاد المعروفة باسم سراية فو، ويكتبها الإفرنج هكذا: (Serajewo) وعلى يمينها ويسارها صورة أجمل ما في هذه البلاد من المناظر، وهي: مساقط الماء في الجهة المعروفة بسراي يايتزه (Yaïtze) ومنابع بونا (Buna) وقد دبرو الماء بحيث يسيل ويتفجر حقيقة بجانب الرسوم والمشاهد، كما دبروا النور الكهربائي لإضاءة التصوير، ولكي يخال الإنسان نفسه قد انتقل حقيقة إلى تلك الأصقاع، خصوصًا وأن الأهالي من رجال ونساء، وجنود وحجَّاب كلهم يشتغلون في القصر بملابسهم الوطنية التركية.

وفي داخل القصر أيضًا تمثيل «حرملك» إسلامي «مفتخر» وهيئة بعض الدور البوشناقية الحديثة التي لعامة القوم هنالك. وفيهما تماثيل من الشمع تمثل الرجال والنساء والحشم والخدم بملابسهم المألوفة وعلى هيئاتهم المعتادة في داخل بيوتهم. والحرملك مزدان بأخشاب مخروطة ومصنوعة صناعة دقيقة على الشكل المتعارف في مشربيات القاهرة.

ومما استوقف نظري بنوع خصوصي في معروضات نظارة المعارف بالدور العلوي كثير من المطبوعات التي تدل على حركة التقدم العقلي. كما أن الطبقة السفلى مخصصة لإظهار الارتقاء المادي. غير أنني لم أجد به سوى ثلاثة كتب فقط بحروف عربية (ويا ليتها لم توجد): أحدها: كتاب صغير لتعليم اللغة التركية. وثانيها: سالامة. وثالثها: قرأت على الصحيفة الأولى منه ما نصه بالحرف الواحد:

حاشية حداد النصول على مرآة الوصول شرح مرقاة الوصول تأليف الفاضل المحقق والمولى المدقق مصطفى صدقي المفتي بمدينة موستار، طبع في مطبعة الحكومة في سراي بوسنة سنة ١٣١٦.

وحينئذ خرجت من هذا القصر، داعيًا لهذه الأمة بدوام التقدم والارتقاء مع المحافظة على القليل الذي أبقاه لها الزمان، وفي نفسي ما في نفسي من الأسف والأشجان. فرأيت قصر هنكاريا فكأنها محصورة بين النمسا والمجر حتى لا تفلت من أيديهما، والملك لله يؤتيه من يشاء.

(٦) قصر هنكاريا

من المعلوم أن هذه المملكة تابعة للنمسا، ولكن لها استقلالًا داخليًّا خاصًّا بها. فحكومتها مستقلة عن النمسا تمام الاستقلال ومن كل وجه بمجلس نوابها ونظارها، ولا ترتبط بالنمسا إلا بوجودهما معًا تحت سلطة إمبراطور واحد. وهذه هي أول مرة انفردت فيها بنفسها في المعارض العامة، ولذلك أرادت الظهور في ميدان الحياة وبين الأمم، فتأنقت في بناء قصرها حتى جعلته محطًا للزوار والأنظار. وهو عبارة عن بناء فخيم لا يقدر الإنسان أن يقول: إنه قصر أو كنيسة أو دير، بل هو كل ذلك، ولا شيء من ذلك في آنٍ واحد. وهو يحتوي على نفائس وذخائر ويبلغ عددها ٢٥٠٠ قطعة مع تمثيل الأواني والأسلحة التي كانت تستعملها الأمة المجرية قبل زمان التاريخ. ومتى دخل الإنسان من الباب وجد أمامه هيئة قبور أثرية فخيمة من المرمر ومن النحاس، أقيمت لبعض ملوكهم وملكاتهم وشجعانهم في القرن السادس عشر والسابع عشر للميلاد.

والقصر كله مبنيٌّ بالعقد، وفيه متحف من الآلات التي يستعملها الفرسان والنقود القديمة. وفيه عظام هيكل آدمي وجدوه في القرن التاسع للميلاد، واستدلوا مما بجانبه من عظام الحيوانات الهائلة والتمائم والتعاويذ ونحوها، على أنه لأحد الوثنيين. وأجَلُّ شيء فيه غرفة الفرسان المعروفين باسم الهوسار أي العشرينيين؛ لأن الحكومة المجرية في بعض حروبها مع الأتراك أخذت رجلًا من كل عشرين نفسًا من مجموع الأمة. وفي هذه الغرفة مجموعة فاخرة من الأسلحة والدروع والسيوف واليطقانات والخوذ والطاسات واللامات والسروج. وكل غرفة لها سقف مخصوص بنقوش تنفرد بها عما عداها، وفيها رايات من التي غنموها أثناء حروبهم.

وقد عرضت هنكاريا في غير هذا القصر مؤلفات رجل أريب له عندهم المكانة الأولى من الاحترام والإجلال؛ لأنه ألّف لهم روايات يبلغ عددها مائة مجلد كبير، وكلهم يقرؤونها كلها، بل قد ترجمت بحيث لو جمعوا الأصل والتراجم لتألفت منها مكتبة واسعة، وللمجر في عمل الأثاث (الموبيليات) امتياز كبير ظهر بمقارنتها على مصنوعات الأمم الأخرى في المعرض، وامتازت هنكاريا في غير هذا القصر بما أرسلته من الأحجار المختلفة الأنواع وخصوصًا الصخور الملحية.

وقد بلغ مجموع ما أنفقته مملكة هنكاريا على اشتراكها في المعرض مليونين من الفرنكات، ومن هذا القصر ننتقل إلى الغرب المطلق وندخل في:

(٧) القصر البريطاني

إذ يتصور الإنسان أنه انتقل إلى الجزائر البريطانية حقيقة، فإنه قصر بسيط من الظاهر يجلله السواد الوقار، بينا القصور التي تكتنفه تزدهي بالألوان والأنوار. ولكنه يحتوي على كل ما يلزم لراحة الإنسان، ويوجب على داخله الانبهار والاندهاش؛ إذ يرى فيه صورًا مرسومة على ستائر من الحرير ليس لها قيمة، وألواحًا نقشتها يد أبرع المتفننين، وجلَّت عن النظير والمثيل، وغرفة في الدور العلوي مغشّاة بالقطيفة الثمينة والمخمل النفيس، فيمكنهم نقلهما بعد المعرض والاستفادة منهما، بخلاف الدول الأخرى فإن الأصباغ والأدهان التي غرمت عليها الأصفر الرنان، ستدخل في خبر كان، هي والجدران تحت معول البناء. وفيه مجموعة من الأواني الصينية من أول صناعتها وترقيتها بالتدريج حتى وصولها إلى نهايات الإتقان والكمال في النقش والزخرفة والجمال: وليس لها نظير في سائر المعرض.

وفي إحدى غرف القصر سرير بسيط وثلاث سجاجيد عجمية، وبقية الغرف مفروشة بحصر من النخ تشبه الذي يستعمله البرابرة في مصر. ولها أبسطة فاخرة لم يفرشوها حتى لا يهلكها كرّ الغداة ومرّ العشي، بل كرّ الرجال ومر النساء (بفتح الميم وضمها).

وهذا القصر مُعَدّ لنزول ولي عهد السلطة الإنكليزية، حين قدومه لزيارة المعرض. ولذلك لا يدخله الناس جزافًا ولا يتقحّمونه أفواجًا، بل جماعات جماعات، وبانتظام، فمتى فرغت ثُلّة تلتها أخرى، بعد الاستئذان من الحجّاب.

فمن ذا الذي يفتكر أن هذه الدولة الفخيمة الهائلة، يكون قصرها في غاية البساطة؟ ولكن تلك سنة الإنكليزي على الدوام في كل مكان، وإذا أردت الوقوف على دلائل عظمتهم فاتبعني أيها القارئ العزيز إلى مستعمراتهم، فمثلهم كرجل آتاه الله بسطة في الرزق والجاه، وخصه بالأملاك الواسعة والضياع التي تدرّ البركات والخيرات، ومع ذلك تراه يقيم في منزل بسيط، ولكن لا ينقصه شيء من حاجات الرفاه والنعيم.

المستعمرات الإنكليزية

يبلغ مسطح الأرض المقامة عليها ٧٠٠٠ متر مربع في جهة التروكاديرو، تحيط بها قصور اليابان ومصر والترنسفال والمستعمرات الهولندية والجزائر.

وهي تنقسم إلى قسمين متجاورين: أحدهما لبلاد الهند، والثاني لسائر المستعمرات. ومن الغريب أن البناء الذي أقيم لها كله من أخشاب استحضروها من بلاد السويد في شمالي أوروبا، مع أن الهند والمستعمرات الإنكليزية مشهورة بغاباتها الكثيرة الكثيفة النفيسة، ولكن للقوم مقصد اقتصادي، وهو أن ثمن ومصاريف استحضار الأخشاب من السويد لا يذكر في جانب تكاليف الإتيان بها من الهند والمستعمرات.

•••

«فأما الهند» فموارد الثروة والصناعة فيها أشهر من أن تذكر وأعرف من أن تعرف. ونكتفي بالإشارة إلى قليل يدل على الكثير: رأيت فيها جميع العطور والأبازير والأفاوية والتوابل التي جعلت للهند شهرة طبقت الخافقين. وهذا خلاف الجواهر والأسلحة والأحجار الكريمة واللؤلؤ المختلف الألوان والباغة بأشكالها العجيبة، مما يقف الإنسان أمامه حائرًا مبهوتًا.

وقد امتازت معروضات بنجاب في مصنوعات الفضة والنحاس المموه بالمينا والحرير والخشب، ومعروضات مدارس بمصنوعات الذهب والأخشاب العطرية المشغولة بكيفية أنيقة وبأواني النحاس والفخار، ورأيت في معروضاتها صحونًا من الخشب لا يخالها الناظر إلا ذهبًا حوى جواهر.

وأما ولاية ميسور فقد امتازت بأعمال الحرير والتطريز والتدبيج والموائد المطعمة بسن الفيل، وولاية بنقال (Bengale) بسن الفيل، والتماثيل، والشفتشي، والزجاج الرقيق.

وفي داخل هذا القصر بوابة أثرية فخيمة، تمثل قنطرة مشهورة في بلاد بُرما، وهي كبيرة بحيث يتيسر للفارس أن يمر بجواده تحتها، وكلها من الخشب النفيس المنقوش نقشًا بديعًا، المفرَّغ تفريغًا عجيبًا، وفيه محاريب، وحنايا، وزوايا، وخبايا تحتوي على تماثيل صغيرة لآلهتهم الكثيرة.

ورأيت فيها صورة سمو النظام، ولفظة نظام عندهم مثل كلمة خديو عندنا، وهو صاحب حيدر آباد الدكن، ومن كبار ملوك الهند الذين حافظوا على الاستقلال، مع الارتباط ببعض قيود بحكومة الهند. رأيته بالملابس الإفرنكية من ساسه إلى راسه، ولا شيء فيه يدل على أنه من ملوك المشرق سوى عمامته الهندية الضخمة. فهو مثل الأتراك والمصريين في الاندفاع مع تيار الغرب وترك الزي الشرقي الأهلي.

والخلاصة: إن الإنسان بعد بضعة دقائق في هذا القصر تتمثل له حالة الهند وأهلها، ومصنوعاتها ونباتاتها، ومعادنها وحيواناتها، وسائر محصولاتها. ولكن الذي يفوق ذلك كله في الغرابة أن حكومة الهند أعلنت عدم إمكانها تقرير المصاريف اللازمة لاشتراكها في المعرض نظرًا لما حل بها من القحط والمجاعة والطاعون، بحيث أثقل كاهلها، ومد يدها للسؤال، فدبت النخوة في رأس رجل من دار الندوة البريطانية (البرلمان) وهو المستر ﻫ. سميور كنج وتبرع لذلك بمبلغ ١٢٠٠٠ جنيه إنكليزي من جيبه الخاص، ولكن لما عرضت لجنة المعرض الإنكليزي رسوم هذه السراي وتصميماتها على إدارة المعرض العام بفرنسا، قضت ببعض تعديلات وتغييرات، فجاراها المهندسون الإنكليزيون. ولكن ذلك لم يرق في عين المتبرع فسحب ماله وكاد المشروع يذهب أدراج الرياح، لولا أن تداركته حكومة الهند وأعلنت اللجنة بأنها مستعدة لتقديم مبلغ الاثني عشر ألف جنيه من خزينتها.

•••

«وأما سيلان» فهي الجزيرة المشهورة عند العرب وفي كتبهم باسم سرنديب، ويحق لنا أن نفيض قليلًا في الكلام عليها، لقلة العلم بها وبأحوالها، خصوصًا وقد رأينا في القسم المعدّ لها كثيرًا من البيانات والمعروضات التي أفادتنا في بضعة ساعات فوائد جمة عن ماضيها وحاليها وآتيها. ولا يطمعن القارئ في الإشارة إلى كل ما رأيناه، فإن ذلك يستغرق مجلدًا ضخمًا، ولا نكون قد وفَّيْنا الكلام حقه.

كانت هذه الجزيرة تسكنها في سالف العصور قبيلة من المتوحشين تسمى الودَّاه، ولا يزال بعض أفراد قليلين منها في أقاصي الغابات وأعماق الكهوف إلى هذه الأيام. ولو كنا من العالمين باللغة السرنديبية لتلونا أفكارهم ومعتقداتهم فيما تركوه من الصحائف المكتوبة على الخوص، وعرفنا كيف أن إلههم بوذه تقمّص ٥٥٠ مرة، ولوقفنا أيضًا على مذاهبهم في الفلسفة والأخلاق، وعلى عقيدتهم التي يدين بها أكثر من ٤٠٠ مليون من بني آدم، وهم يفاخرون بأن أبا البشر قد وضع قدمه في جزيرتهم في أول نزوله إلى هذه الأرض، وأن أثر قدمه لا يزال باقيًا على قمة أحد جبالهم.

هذه الجزيرة كائنة في الأوقيانوس الهندي، وموقعها في الجهة الغربية من الطرف الجنوبي لبلاد هندستان، ويبلغ عدد أهلها ٣ ملايين ونصف مليون من النفوس. ولا يتجاوز عدد الإفرنج فيها ٧٠٠٠ نفس بما فيهم الحامية الإنكليزية.

والسرداق المخصَّص لها في المعرض يشابه هيكلًا بوذيًّا، ويحتوي على بيان كافة محصولاتها الطبيعية. فترى الأشجار فيه بحيث تستدلُّ على مقدار الخصوبة العظيمة في أراضيها. ولها أزهار مختلفة الأشكال والألوان، وتحتها حيوانات كثيرة غريبة من أسود وفهود وقرود، وسبنديات وغيالس وسناجب، ودلادل وأيائل وأفيال وأفناك ويحامير محجلة وخفافيش وخنازير وسنانير وقطاط الزباد … وغير ذلك من الطيور والهوام والحشرات.

وقد رأيت هنالك أعجب مجموعة للأحجار الكريمة، ولا نظير لها في كثرة العدد وجسامة المقدار وصفاء المائية، وبجانبها اللآلي والدراري في أصدافها. ومن معادنها الرصاص الذي يستعمل في الأفلام وهو المسمى بالبلومباچين. ويبلغ ثمن ما تصدره منه سيلان إلى الخارج ١٢ مليونًا من الفرنكات في كل عام.

والشجرة الطيبة المباركة في تلك الأصقاع هي شجرة النارجيل، المعروف عندنا بجوز الهند: فمنها يستخرجون زيتًا يستعمل كثيرًا في اصطناع الصابون، ومنها يصنعون كثيرًا من الحلوى والمربيات اللذيذة، وفضلاتها تتغذى بها البهائم غذاءً نافعًا.

والخلاصة: إن جزيرة سيلان تستفيد من هذه الشجرة في كل عام مبلغًا قدَّروه بأربعين مليونًا من الفرنكات، وهم يصطنعون من أليافها وأوراقها حبالًا وأسفاطًا وأنخاخًا، ويستعملون أفلاقها في المباني والعمارات.

وقد كانت شجيرة البن من موارد الثروة الطائلة والرزق العظيم في تلك البلاد، غير أن حشيرة طفيلية تسلَّطَت عليها فأعدمتها. ولذلك رأت الحكومة الإنكليزية أن تسبدلها بما يعوض على الأهالي هذه الخسارة الجسيمة، فاستلفتت أنظارهم إلى الشاي بعد أن أدرّت عليهم الخيرات بإدخال شجرة الكنكينا إلى بلادهم، ولذلك عملوا بنصيحتها منقادين.

وقد كانت مساحة الأرض التي استنبتوا بها الشاي ١٠ فدادين في سنة ١٨٦٧. فلم تأت سنة ١٨٩٨ حتى بلغت ٢٦٤٠٠٠ فدان، وفي سنة ١٨٧٨ بلغ الشاي الصادر من الجزيرة ٢٣٢ رطلًا، فما جاءت سنة ١٨٩٩ حتى وصل إلى ١٢٩٨٩٤١٥٦ رطلًا، وفي سنة ١٨٨٣ كان الشاي المستهلك في إنكلتره بنسبة ٦٥ في المائة من وارد الصين و٣٣ في المائة من الهند و١ في المائة من سيلان. وفي هذه الأيام نزل وارد الصين إلى ٩ في المائة وبلغ وارد الهند ٥٤ في المائة ووصل وارد سيلان إلى ٣٧ في المائة، ومع ذلك فقد هبطت أسعاره في لوندره هبوطًا عظيمًا عن ذي قبل.

وقد رأيت الفرنساويين جميعهم يقرّون في هذا السرادق بأرجحية الطرق الإنكليزية في الاستعمار، ويعترفون بأن جيرانهم في هذا الميدان لا يُشقّ لهم غبار، ويُعيِّرون حكومتهم بالتأخُّر في هذا المِضْمار.

•••

«وأما كندا» فهي من أهم مستعمرات الإنكليز بأمريكا، كانت في الأصل ملكًا لفرنسا، ولا يزال أغلب المستعمرين بها من أبنائها. ثم استولت عليها بريطانيا العظمى، وتوصلت إلى جعلهم يخلصون لها الولاء. ويبلغ عدد سكانها خمسة ملايين من النفوس. وهم يحسنون التكلم بالفرنساوية والإنكليزية على حد سواء. ومعروضاتها تشغل أربعة أخماس القسم الخاص بالمستعمرات الإنكليزية. وأهلها يبارون الأمريكيين والأوروبيين في كل مضمار، فقد امتازوا بالبراعة في الزراعة والصناعة، كما اشتهروا بالمهارة في التجارة، حتى أصبحت بلادهم جنة تفيض عليهم الخيرات والبركات. وخص الله أرضهم بالغابات العظيمة والمعادن الوفيرة، وقد تقدّموا في المعارف لدرجة يغبطهم عليها كثير من الأمم المتمدِّنة التي تعدّ الآن في الطبقة الأولى، حتى لقد انبهر القائمون بالتربية والتعليم في أوروبا من المكانة العالية التي وصلوا إليها على حداثة عهدهم.

ووقفت أنا — بصفتي المصرية وصبغتي الشرقية — باهتًا حائرًا حاسرًا، وقلت: هكذا الدهر أدوار، والأيام دُوَل بين الناس.

رأيت معروضات هذه الأمة الجليلة بجانب معروضات إنكلترة في كافة أقسام المعرض، وكلها تشهد بفضلها وتدل على عظيم تقدمها وارتقائها، مع أن الأمم الصغيرة إذا وقفت بجانب الأمم الكبيرة، كان ذلك موجبًا للحطّ من مقامها. وهكذا كان لهذه الأمة مقام كريم في معروضات الفنون الجميلة، والآداب والمعارف والفنون، وعمل الآلات والكهرباء، والهندسة الملكية ووسائط الانتقال، والزارعة وتربية الأزهار والأثمار، والغابات، ومصائد الأسماك، والمحصولات الغذائية، والمناجم والمعادن، وزخرفة المساكن وتأثيثها، وصناعة المنسوجات، والمتحصّلات الكيماوية، والصنائع المختلفة مثل الورق ولوازم السفر والكاوتشوك (وخصوصًا اتخاذ الأحذية منه)، وفي الوسائط الصحية والأعمال الخيرية.

•••

«وأما أستراليا الغربية» فيخال الإنسان نفسه في منام، إذا علم بأن العلماء والمكتشفين كانوا منذ ثلاثين سنة فقط يرودونها ويتعرّفون مجاهلها، كما هو الشأن الآن في أواسط أفريقية، وقد وصلت في مدة قليلة إلى درجة عظيمة من التقدم الذي لا نظير له في التاريخ. وما أحسن شهادة الأرقام في هذا المقام: كان عدد سكانها في سنة ١٨٣٠ لا يزيد عن ١٧٦٧ نفسًا، فوصل في سنة ١٨٩٠ إلى ٤٦٢٩٠، وفي سنة ١٨٩٩ إلى ١٧١٠٢٢، أي إن مجموع سكان هذه المستعمرة كلها لا يكاد يساوي عدد النفوس في إحدى المديريات الصغيرة بالقطر المصري،٣ ومع ذلك فسأروي لك بعض ما رأيته في معرضها، وهو مما يقضي بالعجب العجاب.

أول ما يراه الداخل إلى سرادقها كتلة عظيمة الحجم من الفحم الحجري، وزنها أربع طولوناتات ونصف، ويقول الخبيرون: إنه من أجود الأنواع. وقد كان اكتشافه بأرضها في سنة ١٨٩١، ومتى تم استغلال مناجمه كلها تتضاعف ثروتها — بلا شك — مئات من المرات. فإن الذي عليه مدار سطوة إنكلترة وثروتها هو موقعها الجغرافي ووجود هذا المعدن في بواطنها حتى أطلقوا عليه اسمًا غريبًا وهو: «خبز الصناعة». فبلاد أوستراليا أصبحت تشابه إنكلترة من هذين الوجهين. فهل تكنّ الأيام للبلاد الشرقية إنكلترةً ثانيةً يكون لها في الشرق ما لمملكة البحار في الغرب.

رأيت في معرضها أيضًا جذوع أشجار هائلة من غاباتها الكثيفة المظلمة، حيث لا يندر أن يبلغ ارتفاع الشجرة ١٠٠ قدم.

ورأيت رواميز جليلة من الأصواف، ولا غرو فهي موطن أحسن أنواع الشعاري، ومنها تستورد المعامل في العالم كله المقدار الأعظم من أوبار الماعز والضأن. ومن ذا الذي يجهل وفرة اللحوم فيها، حتى إنها تصدِّر منها الكميات العظيمة إلى بلاد أوروبا وغيرها، محفوظة كما ينبغي بالوسائط التبريدية التي تقيها من العفونة والفساد، وتجعلها أمام المتناول كأنها مأخوذة من حيوان قد ذَبَحُوه منذ بضعة ساعات.

وهذه البلاد أصبحت بفضل العقل والاجتهاد تكاد تستغني عن صنائع بقية الأمم ومحصولاتها. ففيها معامل كبيرة كثيرة: للأحذية والصابون والشمع والسجائر والزيوت والمربيات والحلويات والسروج والعربات (بسائر أصنافها) والفُرَش (بضمة ففتحة) والإطارات (البراويز) والأمتعة والأثاثات والمفروشات ونحو ذلك. وقد رأيت في معروضاتها آثار هذه المصنوعات كلها، وهي دليل على استمرار التقدم والعمران.

ولكن أين هذه الصناعات، وأين هذه المصنوعات من تلك الحرفة التي تفوقها كلها في المال والجمال والجلال، واختلاب العقول واستهواء الأفكار؟ فلقد رأيت من آثارها ما يجعل الناظر والباحث في حيرة مستمرة أمام الذهب في هذه المستعمرة، رأيت التِّبْر بأصنافه وأنواعه وركائز الإبريز وقضبان النضار وسبائك العسْجد بدرجة تُسيل اللعاب وتسبي الألباب. ناشدتك الله! أنى يرى الإنسان (ولو في المنام) كنزًا مثل الذي رأيته بالعيان في المعرض العام. ومن الغريب أن هذا الكنز يشبه الدفائن والتي يذكرها أهل الخرافات والأوهام. نعم تحيط به الطلاسم والأرصاد، ويقف في وجه قاصده الموكّلون والأعوان، غير أنهم في صورة إنسان؛ إذ كلهم من الحجّاب والأعوان. فكنت أنظر، مثل أبطال الروايات والأقاصيص، إلى كتل الذهب كما هي في باطن الأرض، مختلطة بصخور الكوارتز أو بعد استخلاصها من الشوائب الأخرى، وكلها على حالها الطبيعية فليس للصانع فيها من أثر، كما لم يكن لي عليها من سلطان سوى النظر، فكانت العين بصيرة واليد قصيرة. ولكنني حمدت الله الذي لا يحمده على الضراء سواه، وتمثلتُ بقول الشاعر الأوَّاه:

وإنك إن أرسلت طرفك رائدًا
لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كُلّه أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ

ولقد آليت على نفسي في هذا المقام أن أتأسّى عن وضع اليد وحبسها، بإرسال العين إلى هذه العين وحسنها، وإطلاق العنان للسان والبنان في بيان وصفها، حتى يشاركني القراء في اللوعة والحسرة، ويعذروني ألف مرة ومرة.

فقد كان استكشاف أهم مروج الذهب في هذه المستعمرة في سنة ١٨٩٣ فقط، فبالغ القوم في العناية باستخراج دفائنه وكنوزه، وكل يوم جشعهم يزيد ويتجدد والمعدن لا ينفد. حتى لقد بلغ المتحصل منه ٤٠٠ مليون من الفرنكات، في ظرف سبع سنوات، أين منها السبع السمان في عصر فرعون وهامان؟ ولا يتصورنَّ القارئ أو السامع أن هذا المبلغ البليغ الهائل فيه شيء من المبالغة أو الإغراق أو المغالاة، بل هو ثابت من الأرقام الرسمية والإحصاآت الصحيحة المعتمدة، ولا غرابة في ذلك فإن مسطح مروج الذهب يزيد عن مليون كيلو متر مربع!!!

وقد رأيت الركائز الطبيعية من النضار على أشكال مختلفة وصور متنوعة كما وجدوها في دفائنها. وأغربها ما يخاله الناظر قد صنعته الطبيعة على مثال «التنتلة» التي يتأنق في صنعها العذارى. ومن هذه الركائز ما توازي قيمته أكبر ربح يناله الإنسان إذا أسعده الحظّ في يانصيب البنك العقاري — أي مائة ألف فرنك — ولكن الطبيعة أجود وأصدق من سراب البنك الكاذب: فقد شاهدت ركائز أخرى توازي قيمتها ضعفي ذلك، بل وثلاثة أضعافه: أي ٣٠٠٠٠٠ فرنك!!! وهي من النوادر في أسواق الذهب بل أسواق العجب. ولذلك يعتبرها العارفون (وخصوصًا الفقراء من الكتاب والقراء) من أغرب ما حواه هذا المعرض العام، ورأيت قطعة من الذهب الإبريز وزنها ٧١٣ جرامًا وقيمتها ٢٢٩٠ فرنكًا، قد وجدوها في سلالة «جيب» رجل ألقى بنفسه في أحد الأنهار، وغالب الانحدار «وقاوح التيار» حتى تحصّل على هذا النضار، ولكن ما لبث أن خانته قواه، وصرعته المياه، فذهب ضحية هواه، من حيث كان يرجو غناه، فرحمة الله، على شهيد الثروة والرفاه! وكلنا ذلك الرجل في هذه الحياة!

ورأيت نصفين آخرين من ركيزة واحدة قد عثر عليها رجلان من عَمَلَة المناجم، فاقتسماها بالعدل والإنصاف، فجاء الفرق بين الشطرين عبارة عن ٣٧ فرنكًا ونصف فرنك، ثم اقترعا عليهما فيما بينهما، والقسم الأكبر يزن ٩٩٧ جرامًا وثمنه ٢٦٨٠ فرنكًا، وقد اشترت الدولة منهما هذين النصفين لحسن نيتهما ومهارتهما في القسمة وعدم بغي أحدهما على الآخر. ورأيت بعيني رأسي، وقبضت بكلتا يديَّ ومنتهى قوَّتي على ستة قضبان من خالص الذهب الإبريز، فما استطعت حملها ولا زحزحتها عن مكانها. ولو كان في مكاني عنترة أو جبار الجبابرة لأقرَّ مثلي بالعجز وعدم المقدرة: ومجموع ثمنها ١١.٥٦٣ جنيهًا إنكليزيًّا، وهي عبارة عن محصول الذهب في شهر واحد من منجم واحد، وقد تكون منها ثروة طائلة لإحدى عشرة عائلة!

والخلاصة: إن الداخل إلى هذا القسم من المعرض يخرج منه (مثلي) وقد زهد في هذه الحياة أو بلغ منه الهوس مُنتهاه؛ إذ يكون قد رأى بعينيْ رأسه، أو لمس بأصابع يده أكبر كوم من الذهب في أصغر مكان بهذا المعرض العام، بل في هذا العالم كله، فكيف لا يحتقر بعد ذلك ما يقرأه أو يسمعه عن الكنوز والدفائن، والأرصاد والطلاسم، وهذا خيال، وذلك عيان؟ نعم! نعم! فإن قيمة الذهب الذي عرضته هذه المستعمرة (المبروكة أو الملعونة) يبلغ ثلاثة ملايين من الفرنكات.

وقد رأيت هنالك هرمًا، ولا كالأهرام؛ لأنه كتلة من الذهب الوهّاج يمثل بطوله وعرضه وارتفاعه وسمكه حجم الذي استخرجه القوم من هذه المستعمرة المسحورة، ورأيت عليه نقوشًا كثيرة ليست من الهيروغليفي في شيء، بل كلها أرقام أرشدتني إلى أن المتحصل من هذا المعدن الثمين كان في سنة ١٨٩٩ عبارة عن ١٦٤٣٨٧٥ أوقية ثمنها ٦٢٤٦٧٢٨ جنيهًا إنكليزيًّا، وأن عموم محصوله من سنة ١٨٨٦ إلى سنة ١٨٩٩ كان ٤٣٣٦٦٧٩ أوقية يبلغ ثمنها ١٦٤٧٩٣٨٣ من الجنيهات الإنكليزية. مع أن إيراد هذه المناجم كان في أول سنة استكشافها، وهي سنة ١٨٨٦ عبارة عن ٣٠٢ من الأواقي لا يتجاوز ثمنها ١١٤٧ من الجنيهات، فانظر يا رعاك الله! إلى اطراد هذه الزيادة التي يضيع معها الرشد والصواب، وسارع معي في البعد عن مكان الفتنة والغواية.

ولكنني على رأي المثل العامي «خرجت من العرب هاربة، فلقيت الترك والمغاربة.» إذ رأيت في ركن آخر أن عجائب البحر تفوق عجائب البر؛ ففضلًا عما حواه باطن هذه الأرض من الذخائر والكنوز، تحتوي بحارها على ثروة لا تنفد وأخصُّها اللؤلؤ. فقد رأيت إيوانًا شائقًا يتألّف من جدرانه لأعمدته لسقوفه لأفاريزه من أصداف الداري وهي كبيرة فسيحة، مصفوفة بتنسيق بديع يوجب الاستحسان ويقضي بالعجب العجاب. وفي وسطها تمثيل رجل من الغطاسين الذين ينزلون إلى أعماق البحر لالتقاط الدر، وهو بملابسه اللازمة من الكاوتشوك٤ لكي يمتنع نفوذ الماء إلى جسمه، وعليه الأثقال الكافلة لسرعة نزوله إلى هاوية اليَمِّ، وعلى رأسه ناقوس كبير بحيث يبقى رأس الرجل في تمام الحرية في حركاته، وفي الناقوس ثلاث فتحات عليها نظارات من البلّور؛ ليرى وهو في أعماق الماء مكامن اللؤلؤ سواء كانت أمامه أو عن يمينه أو عن يساره، وفوق الناقوس جهاز متصل بأنبوبة طويلة متينة تغوص معه ويبقى طرفها في البر، وبها يتحدد الهواءُ للرجل حتى يتمكن من البقاء في الماء ما شاء.

ولست أطيل عليك الكلام بوصف ما رأيته من اللآلئ والدراري التي يلتقطها هذا المسكين، وينتفع بها غيره من أهل الملايين سنة الله في خلقه، ولكنني أذكر لك صليب الجنوب: فكل في الصد جوف الفرا.

هذا الصليب الغريب العجيب عبارة عن سبعة دراري يتيمة كبيرة، مصفوفة بجانب بعضها على خط مستقيم، وعلى يمين الثانية ويسارها درّتان كبيرتان مثلها، فيتألف من هذه التسعة لآلئ صليب طبيعي. وهذه المجموعة النادرة المثال قد وجدها القوم في مصائد اللؤلؤ في سنة ١٨٩٤ في صدفة واحدة كما هي الآن بالتمام، ملتحمةً ببعضها تمام الالتحام. فحفظوها وحافظوا عليها؛ لجمالها، وصفاء مائها، وغرابة تركيبها الذي يعدُّ من فلتات الطبيعة، وهي كنز ثمين، وتبلغ قيمته ٢٠٠٠ جنيه إنكليزي.

نظرة عمومية على المستعمرات الإنكليزية

امتازت معارضها بالجد فلا يشوبها هزل؛ إذ جردوها من الملاهي والتياترات والحوانيت، ونحو ذلك من المساخر، وجعلوها كدرس مفيد من كل وجه فلا يخرج منها الزائر إلا وقد ازداد علمًا وعجبًا.

هذا، وقد اتَّفقت حكومات المستعمرات البريطانية على إقامة مطعم استعماري بجانب هذه المعروضات، بحيث لا يدخله شيء من المآكل والمشارب والمصنوعات والمحصولات إلا ما كان واردًا من إحدى تلك المستعمرات، وقد كان له نجاح باهر، خصوصًا وأنه كان سببًا (في بابه) في زيادة العلم بوجوه الارتزاق في هذه المستعمرات، فلله درهم!

وإني أكتفي الآن بما خطه اليراع في هذا المقام، وربما تكلمت عما يستحق الذكر من معروضات الإنكليز الواردة من بريطانيا العظمى نفسها، أثناء سياق الحديث عن القصور والجواسق والدساكر التي عرضت فيها الأمم كلها صنائعها ومآثرها مصفوفة إلى جانب بعضها. ولكنني أنبِّه القراء إلى أن القصر البريطاني أقيم هيكله من الحديد لا من الخشب، وفوقه طلاء من الجبس والجير؛ ليكون كغيره شبيهًا بالبناء، وقد خرجت منه فرأيت بجانبه:

(٨) قصر بلجيكا

وهو بناء فخيم جليل، يستوقف الأنظار، والحق يقال: أقامته هذه المملكة النشيطة على مثال دار أمانة إحدى حواضرها الشهيرة، وهي مدينة أودنارد (Audenarde). وقد انتهت في هذه الدار برعاية المهندسين في هاتيك الأقطار، وجاءت الصورة في پاريس طبق الأصل بالتمام، وهو مثل أغلب مباني المعرض: من حيث كونه مقامًا من الأخشاب، يغشاها الشيد والجبس، على مثال البناء المنسوب لبغداد، ولكنهم موّهوا هذه القشرة بطريقة تجعلها كأنها من الأحجار الصلدة قد مرّت عليها الأيام والأعوام، فيخدع الناظر حتى يخاله أثرًا عتيقًا، ولكن لم تعبث به صروف الزمان.
أما الأصل، فهو من صنع مهندس متفنِّن من أبناء بروسل٥ واسمه ڤان پيد (Van Pede) ويلقبونه «عاشق الأحجار». وما أصدق هذا النعت عليه! فإن غرامه بل هيامه بتعشيق الأحجار وتنسيقها وتزويقها على صور الأوراق والأزهار (وخصوصًا سلطان الجنان) وتخريمها، ونحتها على هيئة الحيوان (وخصوصًا الأفعوان الذي أخرج الإنسان من الجنان) كل ذلك يدل المتأمّل في بناء هذا القصر ونقوشه وأساطينه على هذا الغرام، بحيث يكاد يقول بلسان الحال: سبحانك ربي! إنْ هذه إلا صناعة عُباد الأحجار والأوثان!
figure
قصر بلجيكا.

في واجهته الأصلية بوابة عظيمة تحفُّ بها بوائك فوقها شرفة (بالكون). وفوق عقد البوابة صرح ممرّد كأنه «التنتلة» في الأحجار، يعلوه بطل من صناديد الشجعان.

وقد اكتفت بلچيكا في هذا القصر بإظهار ما وصلت إليه من الإبداع في صنعة المعمار. ولذلك ترى كل من نظر إليه يشهد لها بالسبق في هذا الميدان، أما مصنوعاتها ففي سائر أقسام المعرض، تشهد لها أيضًا بالتقدم والبراعة في مضماري التجارة والصناعة.

وفي الدور الأسفل من هذا الجوسق، بهو تكتنفه غرفتان لتمثيل أهم المناظر الشائقة في أكبر حواضر البلچيكا مع كافة البيانات التي تلزم للطائف في هذه البلاد، من جداول وبرنامجات ورواميز ومؤلفات ونحو ذلك، وأخصها البيانات التي تدلك على تقدم تجاراتهم ورواج سلعهم في البلدان الأخرى، حتى في نفس ألمانيا وإنكلترة وفرنسا، وكل ذلك تشويقًا وتحريضًا لزوّار المعرض على الرحلة إلى بلادهم وصرف المال في أرضهم. وهكذا هم يستجرُّون المكاسب والمغانم.

أما الدور العلوي: ففيه غرف الاحتفال والاستقبال. وفي وسطه بَهْوٌ كبير فيه تحف نادرة المثال.

ومما يجب ذكره في هذا المقام أنهم احتفلوا بافتتاح هذا القصر في يوم ١٠ مايو سنة ١٩٠٠، وقد زرته مرارًا، فما كان يؤذن لي ولا لغيري برؤية شيء سوى ما في الدور الأرضي. فكان اشتياقي يزداد في كل يوم لرؤية ما أعدَّه القوم في الدور العلوي؛ لأن الإنسان مطبوع على الولوع بالممنوع، أو كما قيل:

أحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا
فسعيت حتى توصلت بعد التعب لزيارة هذا الدور في يوم ٥ يوليو، فرأيت العمّال لا يزالون يشتغلون بتنسيق أبسطة عجيبة، وطنافس ثمينة، وغير ذلك من الأثاثات القديمة التي انتهت إليها صناعة أجدادهم الأولين، وهم بها يفاخرون الآخرين. ومن الغريب أن هذه التحف النادرة، قد أرسلها رجل واحد من أغنيائهم اسمه دسونزي Dsonzee، وكلها مما جادت به قرائح أرباب الفنون في متوسط القرون.

وليس لهذه المملكة نصيب في الاستعمار، فإن الكونجو البلچيكي الكائن في أواسط إفريقية هو عبارة عن ولاية مستقلّة تمام الاستقلال. وقد اتفقت السياسة الأوروباوية على تمليكها لشخص ملك البلچيكا الحالي وهو ليوپولد الثاني. ولم تشترك هذه الولاية المستقلة في معرض پاريس، ولكن أهل بلچيكا قد امتازوا بصنع ما يلزم للمستعمرات عمومًا والبلاد القاصية، حتى لقد احتكروا توريد ما يلزم من العربات والأدوات والقضبان والآلات لكافة السكك الحديدية في بلاد الصين. ولذلك اتفقت جمعية الصنّاع المتحالفين فعرضت في الجناح الأيسر من قصر التروكاديرو ومجموعة من مصنوعاتهم التي برسم المستعمرات، وأخصها الزجاج والخرز والمسامير ومشغولات الحديد المتنوعة والمنسوجات القطنية وغيرها.

نعم، إنك لا ترى فيها ما يدلُّ على التأنق في الصناعة، ولكنها دليل على تقدم القوم في التجارة، وفوقانهم على غيرهم في معرفة طرق الاكتساب. وقد بلغ ما قررته بلچيكا لاشتراكها في المعرض مليونًا واحدًا من الفرنكات، ثم خرجت من هذا القصر فدخلت في:

(٩) قصر النرويج

من المعلوم أن هذه البلاد واقعة في الشمال الغربي من أقصى أوروبا، ويتكوّن منها مع السويد شبه الجزيرة المشهورة باسم إسكنديناوة. وهما مملكتان مرتبطتان ببعضهما، ولكن لكل واحدة منهما نظام خاص، واستقلال تام بشؤونها الداخلية من جميع الوجوه: كما هو الشأن في النمسا والمجر، فلا يجتمعان أيضًا إلا في شخص الملك، وهو الآن أوسكار الثاني، الذي فاق كل ملوك عصره في تشجيع أهل العلم وإيصال الرفد إليهم وإغداقه الفضل عليهم، حتى الشرقيين والناطقين بالضاد.

ما أشبه أهل هذه المملكة بالمجريين في الغيرة الشديدة على استقلالهم، واغتنام كل فرصة للمناداة به والمحافظة عليه! حتى إنهم جعلوا بين سرادقهم في هذا المعرض العام وبين الجوسق الذي أقامته مملكة السويد سدًّا منيعًا، بل سدودًا عديدة من العمائر الخاصة بألمانيا وأسبانيا وموناكو واليونان، ولو استطاعوا لجعلوا بينهما بُعد ما بين المشرقين.

يمتاز هذا القصر بالألوان الزاهية من أخضر وأحمر وأبيض، كما جرت به العادة في أرياف تلك الأصقاع الباردة القريبة من المنطقة الجامدة، وكله من أخشاب الصنوبر المقطوعة من غاباتهم، وليس عليها مثل قصور الدول الأخرى طلاء من الجبس والجير. بل زينته وزخرفته منحصرة في تقطيع الأخشاب بالمنشار وتعشيقها مع بعضها، على أشكال رائقة جميلة، ومن المميزات الخاصة به أنه صنع كله في بلاد النرويج، ثم جاؤوا به قطعًا قطعًا إلى پاريس وركبوها على بعضها فجاء هذا الجوسق (الكشك) فتنة للأنظار ومحطًّا للزوار، وسينقلونه بعد انتهاء المعرض إلى بلادهم وينتفعون به. وقد قرر مجلس نوابهم مبلغ ٥٥٥٠٠٠ فرنك لاشتراكهم في المعرض العام.

ومن أكبر مميزات هذه الأمة: مهارة أبنائها في السباحة والملاحة، ولا يكاد يكون لهم مثيل في تربية الغابات والانتفاع بأخشابها وسائر محصولاتها. ولذلك امتاز قصرهم أيضًا بعرض كل ما له علاقة بهذه الأمور، وببيان تفنّنهم في وسائل الاستفادة من بحارهم وحراجهم. والذي يستوقف أنظار الزوار هو تمثال الرحالة الدكتور نانسن الذي كاد يصل إلى القطب الشمالي، وطبقت شهرته الخافقين. ترى نصفه العلوي من الرخام، بجانب سفينته المسمّاة (فرام Fram = إلى الأمام)، وهو كأنه يحدِّثك عما صادفه في رحلته العجيبة المجيدة، ويسرد لك ما لاقاه فيها من الغرائب والشدائد، ويقول لك بلسان الحال: كيف استخدم ما حوله من الكلاب والدوابّ، والآلات والأدوات، بينما كانت تتزاحم عليه جبال الثلوج وشدائد البرود التي تحرق (نعم تحرق!) الأبدان وتصقع الإنسان والحيوان.

ومما يجب ذكره في هذا المقام، وينبغي تداوله على ألسنة الخاص والعام أن جلالة إمبراطور ألمانيا الحالي وهو غليوم الثاني المشهور بسعة المدارك والتضلُّع من كافة المعارف، الممتاز على أمثاله بالبسالة والإقدام، قد بالغ في الاحتفال والاحتفاء بهذا البطل المقدام، حتى إنه في أثناء مقابلته استدعى أولاده في حضرته وقال لهم: يا بَنِيَّ إنكم لا تزالون في نعومة الأظفار وشَرْخ الصِّبا، فلستم تفقهون ما أتمه لكم هذا الإنسان الذي ترونه أمامكم الآن. ولكنكم متى علمتم تاريخه في مستقبل الأيام، ترنَّحَت أعطافكم عجبًا وخفق فؤادُكم طربًا؛ إذ تتذكرون أنكم رأيتموه بالعيان. فاحفظوا هذه الصورة الجليلة على صفحات الفؤاد، واجعلوا لها في نفوسكم محل الإجلال والاعتبار. فهكذا يكون الملوك، وهكذا تكون الأفكار والأقوال!

أما أنا … نعم لم يسعدني الحظ الأعمى بأن أكون من أبناء الإمبراطور، ولم يسعفني الطالع برؤية طلعة نانسن المشهور، ولكن ذلك لم يُنْسِني هذه الكلمات الحكيمة الرشيدة أمام هذه الصورة المجيدة. ومن فاتته العين اكتفى بالأثر، وعلى القارئ أن يقنع بالخبر.

وقد رأيت في القصر أساليب القوم في اصطياد الأسماك الهائلة، ولا سيما الحوت (الهائشة)، وبجانبها طيور الصخور ووحوش البرور والبحور. وهل كنت في منام أو ألعوبة في يد الأحلام والأوهام؟ ولكنني أحقق للقراء أنني كنت أشمّ رائحة البحر ومحصولات البحر، ولم يرع قلبي ولم يسترعِ ناظري مثل شيخ البحر (الفقمة) المسمى بالفرنساوية (Phoque) حيوان ضخم الجثة كأنه أسد الشرى، له يدان مثل قوائم الثيران، ونابان كأنياب الأفيال، بل كأنهما أوهما «أنياب أغوال»، بل انظر يا رعاك الله إلى هذا المثال.٦
وترى هنالك أيضًا صور ديار القوم في عصور مختلفة وطرائقهم في الانتقال، وخصوصًا الزحافات (Traineaux) التي تجرها الكلاب على صحاري الثلوج.

قلنا: إن ملك هذه البلاد أوسكار الثاني مشهور بمحبة العلم والعلماء، فلا غرو أن أصبحت بلاده كلها عكاظًا في عكاظ، ولا غرابة في أن نظارة المعارف كان لها في هذا القصر مكان رحيب بل أعظم نصيب. فهنالك ترى المعروضات التي أرسلتها مدارسها الكثيرة وهي لا تقل عن عشرين نوعًا، حتى الطباخة والملاحة وصيد البحر لها عند القوم مدارس خصوصية.

وقد امتازت النرويج في جملة أقسام من المعرض، ففاقت الأمم الأخرى في قسم التغذية بعرض المربيات والمأكولات المحفوظة من سائر الأصناف والأنواع، فإن لها في هذا النوع من التجارة أهمية عظيمة لا تزال آخذة في الزيادة والانتشار في سائر الأقطار، حتى لقد بلغت قيمة الصادر منها في سنة ١٨٩٧: ٧٢١٩٩١٨٠ فرنكًا. وقد امتاز أهلها أيضًا بصناعة البيرة (الجعة) المشهورة بصفائها وحسن مذاقها، كما شهد به السائحون في بلادهم، وكما تحققه الزائرون لمعروضاتهم.

وقد امتازت أيضًا بما عرضته من معادنها وأحجارها ومصنوعاتها، وخصوصًا سجاجيدها وأكلمتها وأبسطتها وطنافسها: فإنهم يصنعونها باليد بحيث تكون كل واحدة منها فريدة في بابها، ولا تماثلها قطعة أخرى، فانظر إلى ما يقتضيه هذا التفنن من إعمال الفكر مع اليد، في تجديد الاختراع بمقدار عدد القطع المصنوعة! ولما كانت هذه المصنوعات لا يتيسّر اقتناؤها إلا لمن آتاه الله بسطة في العيش، فقد قامت بينهم شركة تعضدها الحكومة بحولها وبمالها لإسعاف الفقير بما يلزم من الفراش والرياش. فنالت نجاحًا وقامت بخدم جليلة.

واشتهر أهل هذه البلاد بالدعة وبالميل إلى المسالمة، ومع ذلك فكأني بهم قد وصل إلى آذانهم قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.٧

فلذلك تفننوا أيضًا في اصطناع آلات القتال وعرضوها في قسم الجيوش البرية والبحرية، فحياهم الله وبَيَّاهم!

وعند خروجي من هذا القصر رأيت وجوب زيارة السويد معتذرًا إلى أصحابنا أهل النرويج، فإن السياسة والملك قَضَيَا بانضمام الأمتين إلى بعضهما، وحسبي أنني مَيَّزتهم بالتقديم.

(١٠) قصر السويد

يستوقف الأنظار بجلاله وفخامته، خصوصًا وأنه يعلوه صرح رفيع العماد يرسل سهمه في كبد الفضاء، على ارتفاع ٣١ من الأمتار.

امتاز نساء هذه البلاد بالمهارة في الترقيم، والرشاقة في التطريز، والإجادة في التدبيج. وقد رأيت في القصر بعض العذارى والفتيات يتنمَّقن في هذه المصنوعات أمام الزائرين والزائرات. وكذلك كثير من الصائغين يشتغلون بعمل الحليّ والحلل بأشكال تناسب ذوقنا، فترتاح النفس (خصوصًا الشرقية) من رؤية الصناعة والصانعين. كيف لا وأن منسوجات هذه الأقطار المترامية في الشمال، وهي بلاد النرويج وفنلنده والبلغار، تحاكي ما اشتهر به الشرق،٨ في حياكة الأقمشة والأبسطة وتزويقها بالأشكال والألوان، حتى خيل لي أن الفريقين تلقَّيَا عن أستاذ واحد، ونسجا على منوال واحد. فإذا قلنا: إن البلغار أخذت ذلك عن الأتراك، فمن أين وصل أهل أقاصي الشمال، وبقي فيهم إلى الآن، مع أنه كاد يضيع من المشرق أمام انهمار تيار المصنوعات والأساليب والتقاليد الغريبة؟ إن في ذلك لحكمة لمن يفقه أو يتدبر …
ومما أوجب عندي زيادة التأمل، صورة كبيرة تمثل هيئة القصر الملوكي في استكهلم عاصمة تلك البلاد. نعم، إن ذلك ليس بغريب في القصور الأخرى. ولكن إذا ظهر السبب زاد العجب، فإن صانع هذه الصورة … هو البرنس أوچين ابن ملك السويد والنرويج، رسمها بنفسه على أحسن مثال، لإظهار المكانة التي يجب أن يصل إليها أبناء الملوك في العلوم والفنون، والسعي في نوال الفخار بالكدّ والاجتهاد، لا عن طريق الميراث والميلاد، فمن لنا …؟
figure
تمثال الجمال في أقاصي الشمال «قصر السويد».

ويحك! … صهٍ! صهٍ!

•••

رأيت هنالك صورة الليالي في الشتاء وصورتها في الصيف بتلك الأصقاع، وهي تكاد تُغْنِي الناظرين عن رؤية الطبيعة، فإن الأولى تمثل أحد المعاهد فوق الدائرة القطبية بمائة كيلو متر نحو الشمال، وفيها غلام لاهستاني (أي لاپونيا = Laponie) يرعى قطيعًا من الرانات٩ في انتظار أهل القافلة، وترى الكواكب قد علاها الاصفرار، وفي أقصى الأفق نيران باهية تترامى كأنها الصواريخ والألعاب النارية في كبد السماء، دلالة على قرب بزوغ الشَّفَق الشمالي: والكهرباء هي التي تقرب الحقيقة بل تكاد تمثلها بالتمام.
أما المنظر الثاني: فيمثل حالة استكهلم في ليلة ٢٤ يونيو التي يكون فيها الاحتفال بعيد القديس يوحنا،١٠ ترى هذه العاصمة عند انتصاف الليل، ساكنة هاجعة كأنها في منام، وأرصفة البحر خالية من الأقدام، والماء يتسلسل بلطافة وانتظام. وهو ماء حقيقي يتموج ويجري فيه التيار، كما هو الحال في بحار تلك الديار، والماء لا يشق أديمه زورق ولا يعلوه غمام. وكل ذلك بقوة الكهرباء. وترى المنازل عاليها وسافلها يغشاها ضياء الزبرقان قد علاه الاكفهرار، مؤذنًا بانصرام الليل واقتراب النهار، ولكنه ليس بالفجر الصادق ولا الكاذب، بل هو وسط بين الخيط الأسود والخيط الأبيض، لا يمكث إلا لحظة أو بعض لحظة. وفي جهة الغرب ترى النار تتلهَّب في الفضاء منبعثة عن أشعة سلطان الضياء، الذي لا يكاد يحتجب في تلك الأنحاء، وهو منظر يقضي بالعجب العجاب على السائحين الذين يزورون هذا الصقع، وليس لهم به من عهد.

ومما امتاز به هذا القصر أن مصلحة البريد والتلغراف في بلاد السويد، قد ربطته مع كافة أقسام المعرض التي اشتركت فيها مملكتها بأسلاك التلفون، وجعلت المخاطبة بها مجانًا لجميع الناس، ووضعت مركز هذه الأسلاك فيما عرضته في القسم الخاص بالكهرباء. وأنت تعلم أن هذه البلاد قد اشتهرت بالبراعة في صناعة التلفون وأدواته، وكادت تحتكرها في كافة أقطار الأرض، حتى إن أغلب، بل كل، الجهازات التي تستخدمها الشركات الإنكليزية المؤسسة في القطر المصري، تستوردها من هنالك لأفضليتها من حيث العمل ورخص الأسعار. وقد انتشرت أسلاك التلفون في بلادهم انتشارًا يفوق التصديق، حتى ثبت من الإحصاء أن ثلث أهاليها قد أدخلوا التلفونات في دورهم وحوانيتهم، ولم تعادلهم في ذلك أمة من الأمم الأخرى.

وهذا القصر كله من باطنه وظاهره مركّب من الأخشاب ليس إلا، وقد أقامته شركة النجارين في استكلهم، ثم فكّوه قطعًا وأرسلوها بطريق البحر إلى النهر حتى رست في قلب پاريس، أمام الرصيف الذي أقاموها عليه، قصرًا أنيقًا يعجب الناظرين بلغت أكلافه ١٥٠٠٠٠ فرنك. وهو مقام على أرض لا تزيد مساحتها عن ٥٥٠ مترًا مربعًا. ومن المهارة والوطنية أنهم بعثوا إلى عاصمة فرنسا اثني عشر عاملًا فقط من بلادهم فركبوا القطع المفككة، وعشّقوا الأجزاء المتفرقة، من غير أن يحتاجوا لفرنسا ولا لأهلها في شيء ما.

ومن أعجب ما حواه مجموعة أنيقة في وسطه تتألف من التحائف والنفائس والحلي والجواهر التي قدمها الأهالي لمليكهم الحالي، بمناسبة أعياده العديدة. رأيت فيها صفيحة عليها نصُّ خطبة (يقولون إنها رشيقة اللفظ بليغة المعنى) قدمها البناؤون الأحرار (الماسون) إلى هذا الأخ المتوَّج في حفلة عيده الذهبي الماسوني، أي عند دخوله في السنة المتمِّمة للخمسين من انتظامه في هاتيك العشيرة، والخطبة مرقومة على صفيحة من الفضة الخلصاء دلالة على نقاء السرائر وإخلاص الضمائر.

واعلم أن أوسكار الثاني هو أول ملك زار المعرض، ثم تلاه جلالة الشاه المعظم مظفر الدين صاحب إيران، فعساه يجرى على أثره في ترقية أمته، وإعلاء منار المعارف؛ ليفتخر به الشرق، ويكون خير وارث لتاج الأكاسرة الكرام.

جائزة إنقاذ الغرقى

أشرت في (القصر الأميركاني) من «الدنيا في پاريس» إلى الجائزة الجليلة التي خصصها ورثة الأمريكي أنتوني پولُّك، لمن يخترع أحسن جهاز لإنقاذ الغرقى. وقد علمت من الجرائد الواردة في هذه الأيام أن أرباب القرائح والعقول الذين تسابقوا لنوال هذا المبلغ الطائل ١٠٠٠٠٠ فرنك وصل عددهم إلى ٤٣٥ مخترعًا. وقد اجتمع مجلس المحلفين للنظر في أساليبهم، فوجد مع الأسف أنها كلها لا تفي بحاجات الغرقى ولا بغرض المتبرعين. فلذلك حكم بأنه ليس فيهم من يستحق نوال الجائزة بأكملها، غير أن رجلًا من أبناء لوندرة واسمه المستر روپر (Roper) عرض جهازًا يمتاز على ما قدمه مسابقوه، وعلى ما تقدم من أمثاله إلى هذا اليوم، فرأى المحلفون فيه ما يوجب مكافأة بعشر الجائزة فقط: أي عشرة آلاف فرنك.

ثم قرر المحلفون جعل المبلغ الباقي جائزة جديدة لمن يوفقه حسن حظه وسلامه اختراعه، لإيجاد الوسيلة الكافلة لسلامة السفائن من الغرق (وبنوع أخص) لنجاة كافة ملاحيها وركابها، فيما إذا تغلَّب عليها اليمّ وقضي الأمر. وقرر المجلس المذكور إصدار برنامج ببيان تفاصيل المسابقة في هذا المضمار، والشروط الواجب مراعاتها على كل من يريد المباراة فيه. وسينشرها على العالم كله في أول يناير سنة ١٩٠١، ويبلِّغها إلى الحكومات بأجمعها؛ لتعميم العلم بها في كافة بقاع الدنيا.

وكنت أودُّ لو تأخرت عن مصر هذه المصيبة التي ألمَّت بأبنائها في هذا الشهر بغرق الباخرة «الشرقية»، بل كنت أودُّ أنه ما كان. ولكن بهذا قضت الأيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهل يتاح لرجل من أبناء مصر نوال هذه الجائزة أو الإقدام على الدخول في هذا الباب؟ …

لست من الأنبياء، ولكني أقول: كلا ثم كلا وألف كلا …

الإسكندرية في ٢٥ سبتمبر ١٩٠٠

جوائز لأهل العرفان في المعرض العام

للأوروباويين شغف عظيم بتنشيط أهل المعارف بالمال الذي هو حياة الوجود، وعلة الارتقاء والعمران. وقد ذهب عصر الخلفاء وانقضى من الشرق وكأني به لن يعود، إلا إذا صحّت الأحلام. ولكن أغنياءه الكثيرين يتفانوْن في جمع المال من الحرام ومن الحلال، ثم تراهم (وخصوصًا أبناءهم من بعدهم) يبذرونه فيما يعود عليهم وعلى بلادهم وأممهم بالخزي والعار والخسران. فلم يبقَ لأهل القلم وسيلة سوى ذكر مآثر أمثالهم في الغرب، ومعاودة الضرب على أسماعهم، كلما حانت الفرصة عساهم يفيقون، أو علّهم تتنبّه فيهم عاطفة من عواطف أجدادهم، فيكون لهم لسان صدق في الآخرين، وحسنة يوم لا ينفع مال ولا بنون.

وأقتصر الآن على ذكر ما جاد به واحد فقط من المحسنين بحجة هذا المعرض العام. وهم في كل يوم لهم حجة، وأغنياؤنا لهم في كل ساعة ألف حجة على التقتير والتبذير في غير مواضعهما، حتى ساءت سمعتهم بين الأمم.

ففي فرنسا رجل من الأغنياء اسمه أوسيرس (له نصيب أكبر من مسماه الذي كان إله الخير والبركة عند قدماء المصريين) قد تبرَّع بمناسبة معرض پاريس السابق (في سنة ١٨٨٩) بجائزة قدرها ١٠٠٠٠٠ فرنك لأعظم عمل يقام فيه، يجمع بين المهارة والجسارة، ونالها المهندس الذي بنى رواق الآلات.

ثم اغتنم فرصة هذا المعرض فتبرع بمائة ألف فرنك أخرى لمن يأتي بأجمل عمل أو بأفيد مشروع فيه، وعهد بتقرير هذه الجائزة إلى نقابة الصحافة في پاريس.

وكأني به لم يكتف بهذه الأريحية العظيمة؛ بل رأى أن هذه الجائزة لا تتكرر فلا يكون له يد في دوام التحريض على الإتيان بعظائم الأعمال، فسلك في سبيل الإيقاف خطة أرجو أن يكون لها صدى في بلادنا وتأثير على الواقفين من أبنائها: فإنهم لا يعرفون سوى تقرير المبالغ الطائلة على بعض القبور، فلا يكون من ورائها سوى زيادة عدد الكسالى بيننا وانغماسهم في الملاهي والمحرَّمات، وحرمان الأمة من أعمال أيديهم وعقولهم، وبئست العاقبة، ذلك أنه أوقف على مجمع العلماء بفرنسا (Institut de France) دُورًا وأملاكًا كثيرة يبلغ ريعها ٣٢٠٠٠ فرنك في كل عام. وقرر لهذا الوقف شروطًا تدل على سعة مداركه، وسموّ أفكاره، وطموح نظره العالي إلى موالاة الخير على بني الإنسان، وعندي أنه بذلك يخلد اسمه مقرونًا بالمدح والحمد، أكثر من ذلك الذي كان يعبده آباؤنا الأولون.

فقد قرر الموسيو دانيال أوسيرس أن إيراد هذه الأملاك يتجمّد في كل ثلاث سنوات، حتى يتحصل منه مبلغ مائة ألف فرنك، ويعطي جائزة لمن يأتي بأعظم اكتشاف أو بأجلِّ عمل في بحر الثلاث سنوات الماضية: في المعارف أو الآداب أو الفنون أو الصنائع أو (بطريقة الإجمال) في أي أمر يعود بالخير العام على جميع الأنام، وقال: إن أقصى أمانيه أن ينال هذه الجائزة المشتغلون بالجراحة والطب، إذا توصَّلُوا لإيجاد الدواء الشافي أو المخفف للأدواء والأسقام التي لا تزال إلى الآن بحيث لا ينجع فيها علاج أو دواء؛ حتى ولو لم يتيسّر لهم سوى الدلالة على الوسائل التي تكون ممهّدة لمقاومتها أو الشفاء منها.

واشترط أن المجمع المذكور يعقد جمعية عمومية في كل ثلاث سنوات، ويقرر الجائزة لمن يفوز بقصب السبق في هذا الميدان. وقد زاد هذا الجواد على كرمه، فقرنه بجميل اللطف وحسن الانعطاف؛ إذ قرر على المجمع المذكور أن لا يكتفي بمن يتقدم إليه من الطالبين، بل أوجب عليه البحث بنفسه أيضًا على أهل الفضل والاستحقاق؛ لأنهم يمتازون في الغالب بالتواضع والانزواء والاعتكاف. وقد نظر الرجل إلى وطنه وما له عليه من الحقوق، فقصر الجائزة على أبناء فرنسا دون سواهم. فإذا كان العمل قد اشترك فيه أكثر من واحد اشتراكًا أصليًّا جوهريًّا بطريقة متلازمة لا انفكاك فيها، وجب تقسيم الجائزة على المشتركين بقدر حصتهم في الاجتهاد والإيجاد. ثم نظر إلى بني الإنسان بوجه عامّ، فقضى أن الجائزة إذا صادف حلول ميعادها أحد المعارض العامة تُعطَى لمن يستحقُّها، فرنساويًّا كان أو غير فرنساوي، ولكنها على كل حال لا تعطى إلا لرجل واحد حتى يصح الانتفاع بها على وجه التحقيق. وإذا كان ميعاد المعرض يأتي بعد حلول ميعاد الجائزة بسنة أو سنتين وجب الانتظار وإضافة الريع إلى قيمتها حتى تبلغ ١٣٣٠٠٠ أو ١٦٦٠٠٠ فرنك.

فهكذا تكون الهمم! وهكذا يكون الكرم! وبمثل هذا تحيى الأمم!

تشخيص المعرض وبيان عظمته بالأرقام

طلب مني جماعة من أكبر أهل القطر فضلًا وعلمًا ومقامًا أن أتحف قراء «الدنيا في پاريس» بزيادة في التفصيل على عظمة المعرض فوق البيانات الوافية التي صدرت بها هذه الرسائل، فما رأيت أفضل من تعريفي القارئ بالطريقة التي كنت أقضي بها نهاري، وإيراد بعض إحصائيات رويتها عن الثقات.

•••

هذا المعرض قائم على فسحة مترامية الأطراف بحيث لا يمكن لأي إنسان أن يقول: إنه طافه كله أو رأى جميع ما فيه، أو فحص كافة المعروضات: فإن ذلك يحتاج لسنين تُعَدّ بالعشرات، وهيهات! هيهات! أن يلمّ العقل بما حواه، وإني أجاهر بأن نفس القائمين بنظامه لا يجسرون على الادعاء بالإحاطة بما فيه؛ بل إن المتولِّين ترتيب بعض الأقسام أو غرفة واحدة، لا يسعهم مثل هذا التصريح. ولا غرابة فإن القارئ قد يشتري لنفسه أو لبيته بعض الملابس والأثاث، وكثيرًا ما يذهل عنها، أو يجهل موضعها؛ بل ربما نسي وجودها، فجددها عند حاجته إليها.

ترى الرسوم والجداول والقوائم والتقاويم والرواميز وكافة أنواع المعروضات مصفوفة في الأرض، أو ملصوقة على الجدران، أو متعلقة بأهداب السقوف، سواء كان البناء من طبقة واحدة أو مثنى أو ثلاث. فكيف تتمكن من رؤيتها ومعرفة كل ما فيها؟

تدخل من أحد أبواب المعرض، وترسم لنفسك خطة تسير بمقتضاها، فلا تلبث أن ترى نفسك كبني إسرائيل في التيه. كلها تتجاذبك، فلا تعود تدري ماذا ترى وإلى أين تسير.

يفتح المعرض أبوابه من الساعة الثامنة فلا ترى سوى جيوش من الكناسين والفراشين والموردين والمتعهدين والبدالين والجزارين والسماكين والبستانيين ونحوهم ونحوهم، قد احتلُّوا رحباته وساحاته وباحاته وعمائره ودساكره بأنفسهم وبأتباعهم وبدوابهم وبمركباتهم للقيام بلوازم الحياة والنظام في هذا الكائن الهائل. حتى إذا جاءت الساعة العاشرة من الصباح، برز متبرجًا متبهرجًا يسترق الأنظار ويستغرق الأفكار، فتقضي فيه ساعة: ثلاثة أرباعها في التسيار والمزاحمة والانتقال، والربع الباقي في المشاهدة والاستقصاء. وحينئذ يحل وقت الطعام، فإن لم تبادر وجب عليك الصيام (ولا أجر لك).

علمتَ أن مسطح المعرض لا يقل عن ١٠٨٠٠٠٠ متر مربع، وأن مبانيه تشغل نحو النصف أو ٤٦٠٠٠٠ متر مربع على وجه التحقيق. وإذا قلت لك الآن: إن نصف هذا النصف مشغول بالمطاعم وما يلزمها ويتبعها من المرافق، فاعلم أني لا أكون بعيدًا عن الحقيقة؛ إذ لا تكاد ترى قصرًا أو أدوارًا أو جوسقًا أو دسكرة أو قمرية أو كوخًا أو أي مكان مسقوف — إلا وفي أحد أركانه أو تحته أو بلصقه أو فوقه مطعم، اللهم إلا إذا لم يكن هو كله مخصصًا للآكلين والشاربين.

وفضلًا عن ذلك فإن عامة الإفرنج وسوقتهم، وخصوصًا أهل الأرياف منهم، يدخلون المعرض ومعهم «الزوَّادة» فيأكلون ويشربون تحت ظل الأشجار أو فوق بساط الأعشاب. فإذا أتاح الله لك عدم الانشغال بالمعروضات، وتوجهت إلى أحد المطاعم في الوقت اللازم، فربما عثرت على مكان تجلس فيه وتستريح … حتى يأتيك الخادم بما تسدُّ به الرمق. نعم، إنك ترى في كل مطعم جيشًا من الخدم، وتراهم يهرولون في الإقبال ويسرعون في الإدبار، ولكنهم أقل من القليل في جانب الواردين والمتردِّدين، فلا تكاد ترى مقعدًا خاليًا ولا يدًا عاطلة ولا فمًا ساكتًا (عن طلب المآكل) أو ساكنًا (عن المضغ والازدراد والالتهام)، والناس كلهم في خبال واستعجال كأنهم يتزوَّدُون من هذه الحياة الدنيا. وقد علمني الاختبار أن أطلب ثلاثة أو أربعة ألوان في آنٍ واحد، وأكتب أسماءها للخادم: فيمضي ولا يأتي بها كلها؛ لأن غيري كلفوه أيضًا بطلبات أخرى. ولكنه كان يحضر لي لونًا بعد لون، فكنت أستحليها في المذاق بغير مرارة الانتظار. وبهذه الوسيلة كان يتوفر لي قليل من الوقت، أخصصه لرؤية المعرض في ساعة الأكل.

فكنت أراه بخلاف المعهود، في كل جهاته وسائر طرقاته وغالب عماراته؛ إذ يكون عبارة عن مطعم هائل قد اجتمع فيه الآكلون، وهم بعشرات الألوف يعدون: وقد برزت منهم الأحداق إلى الصحاف والأطباق، وفغرت الأفواه والأشداق، وامتدت الرؤوس والأعناق، حتى إذا أسعفهم الغلمان بالألوان، تناولوها مسرعين «مسعورين»، وعجلوا بها إلى هاوية البلاعيم، بعد أن أعملوا فيها الأضراس، واستعانوا على الازدراد والالتهام بالشراب الحلال والحرام، ثم يتعجلون في الخروج لإخلاء المكان لغيرهم من الواقفين لهم بالمرصاد، المتربصين نهايتهم بفارغ الاصطبار. فإذا كانت الساعة الثانية أقفلت المطاعم كلها أبوابها في أوجه المساكين المتأخِّرين، فيُقضى عليهم بالتبلُّغ حيثما كان وكيفما اتفق، وتتجدد هذه الحال من الساعة السادسة إلى التاسعة في كل مساء. وكنت في الغالب أتناول غذائي كل يوم في مملكة غير التي أكلت فيها بالأمس، حتى أكون طفت الأرض آكلًا … شاربًا … حامدًا … شاكرًا؛ وذلك لعدم الخروج من حومة المعرض وتوفيرًا للوقت … ولأجرة الدخول مرة ثانية.

وأعظم ما فقدته من الزمن كان في الانتقالات؛ لبعد المسافة، وانعدام وسائل المواصلات السريعة في داخل المعرض.

•••

كان يَرِدُ على المعرض في بعض الأيام نصف مليون من النفوس بل ٦٠٠٠٠٠، أي نحو عدد سكان القاهرة، وأنت تعلم أن أهل پاريس يزيدون قليلًا عن مليونين ونصف مليون، وعدد العربات التي فيها من جميع الأنواع لا يتجاوز ٥٠ ألف عربة، فلذلك كانت وسائل الانتقال من المعرض وإليه غير كافية على الإطلاق، حتى لقد تألّفت شركات كثيرة جديدة، وأُهرع الجم الغفير من الفلاحين ومعهم عربات «طوفانية» لتكثير وسائل الانتقال، وصارت المدينة وأهل المدينة ورجال البلدية والحكومة يصرخون — مع كل ذلك — ويتضجَّرون من عدم كفاءة شركات الأومنيبوس والترامواي الحيواني والبخاري والكهربائي والزوارق البخارية. فإذا كان الإنسان ساكنًا في أطراف المدينة، أو على مقربة من رأس أحد الخطوط أوجب عليه التبكير في القيام وأخذ تذكرته في أوائل المبكرين؛ ليضمن له مكانًا في إحدى العربات أو البواخر العمومية، وإلا اضطر لانتظار الباخرة أو العربة الثانية أو الثالثة وهلم جرًّا. فإن كان بعيدًا عن رأس الخط ضاع عليه الزمن الكثير إن لم يؤثر اتباع الطريقة الفضلى، وهي استخدام تلك الوسيلة الصادقة النافعة الناجعة التي منحها الباري لكل إنسان، وأعني بها الأقدام؛ لأن خسارة نصف ساعة في المشي أولى من انتظار ساعتين أو ثلاث، وهيهات أن يتسنَّى له الركوب مع تزايد الازدحام كلما مضت ساعة من النهار. أما استخدام عربات الركوب فلا ينبغي له أن يفتكر فيه إلا إذا كان من أصحاب اليسار أو كان مضطرًّا للإقرار رغمًا عن ميزانيتِه بأن «الوقت أثمن من المال.»

ولا تتصورنَّ أن الزحام في المعرض أَثَّر على پاريس في شيء ما، فهي هي المدينة المعروفة الموصوفة، المشهورة المشهودة، والمعرض مدينة طارئة مسحورة، قائمة إلى جانب الأولى مستقلة عنها في كل لوازمها الكثيرة.

•••

هذه المدينة المسحور تحتوي على أكثر من مائة ألف ساكن: من تاجر وصانع ومحترف ومتسبب (وهم العارضون) خلاف المستخدمين عندهم والمساعدين لهم (وهم أضعافهم)، ويزورها في اليوم أربعة أمثال من فيها على التعديل المتوسط. وفيها كل شيء حواه البر والبحر أو تضمّنه باطن الأرض، أو كانت له علاقة بالهواء والسماء. وفيها كافة أصناف الخلائق بجانب بعضها من أبيض إلى أصفر ومن أسود إلى أحمر. وفيها من بدء تلك الكراريس التي يخطها الأطفال في الكتاتيب (وهم لا يزيد سنهم عن الرابعة) لحد الآلات الضخمة الهائلة المخيفة التي تنقل في اليوم الواحد آلافًا من الناس إلى آلاف من الكيلومترات، وتعمل في الدقيقة الواحدة ما يعملُه آلاف من الناس في اليوم أو في الأسبوع، أو تبيد في الثانية الواحدة آلافًا من الأجساد، ويقف أمامها ابن آدم حائرًا باهتًا مذعورًا. وفيها أفخرُ الكنوز المجموعة في متاحف العالم كله.

وإنني أرجو القارئ أن يتبعني فيما يأتي؛ ليعلم شيئًا عن عظمة هذه المدينة الهائلة.

تقررت إقامة المعرض في ١٣ يوليو عام ١٨٩٢، فاهتمت بأمره الأمم الحية الحساسة كلها، واجتهد المجتهدون الذين يصح أن تطلق عليهم لفظة «إنسان» لإظهار ما وصلوا إليه من المكانة العالية في معترك الحياة، ومضمار الفخار. وتدرج الناس كلهم في سبيل نظامه وانتظامه، فما جاءت سنة ١٨٩٥ حتى وصل عدد القائمين بترتيبه ١٥٠٠ نفس من أرباب المدارك والاطِّلاع، وحينئذٍ استقرَّ مندوبو الدول في نفس پاريس لمباشرة العمل. فجاء على أثرهم العارضون من ٣٠٠٠٠ إلى ٥٠٠٠٠ إلى ٧٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠٠ بل أزيد. وتكاثرت العلاقات مع إدارة المعرض العامّ، حتى بلغ عدد المكاتبات الصادرة منها ٣٠٠٠٠٠٠ رسالة. ولا شك أن عدد الوارد يضاهيها، إن لم يزد عليها. وبلغ عدد العملة التابعين لهذا الديوان الكبير ٣٥٠٠٠ نفس من شغال ومستخدم وصاحب امتياز ورب التزام. أما الذين طلبوا من هذا الديوان الإذن بزيارة المعرض في الثلاثة شهور الأخيرة من عام ١٨٩٩، أي قبل الافتتاح الرسمي وانتهاء الأعمال، فقد زاد عددهم على ٩٠٠٠٠ نفس، ووردت إلى هذا الديوان طلبات تزيد على ١٣٠٠٠٠ لنوال التذاكر المجانية، وشفع أصحابها كتابتهم بمستنداتهم وصورتهم الفتوغرافية، فبحث فيها ورتبها ولصق الصور على التذاكر وختمها وسجّلها، وذلك غير الطلبات التي أهملها، وغير التي صرح بها بعد انقضاء شهر أغسطس الماضي.

•••

بلغ عدد العمال المشتغلين في القسمين الكبيرين من المعرض (الشانزليزيه والشان دومارس) ٣٠٠٠ عامل مستديم من عام ١٨٩٦ إلى ١٨٩٩، وكان هؤلاء هم الأساسيون (الثملية). أما المعاونون لهم (الظهورات) فكانوا كثيرين جدًّا، ومنتشرين في جميع أنحاء فرنسا وكافة بقاع الدنيا: يقطعون الصخور الكبيرة، ويصبُّون الكتل الهائلة من الحديد (في فرنسا)، ويصنعون أبوابًا لا يكاد العقل يتصور جسامتها وضخامتها (في الهند الصينية)، ويصبون في قوالب هائلة معبدًا وثنيًّا كبيرًا (في بلاد الجاوه) وغير ذلك، فكان ما يصنعه العامل الواحد في حومة المعرض مكملًا لما عمله عشرون آخرون على الأقل: بحيث لا يقل مجموع العمال الذين اشتغلوا بأحداث وتشييد هذه المدينة المسحورة عن ٥٠٠٠٠٠ نفس في مدة أربع سنوات متواليات.

أما الصخور التي استعملت في بناء القصر الكبير والصغير فقد بلغ وزن بعضها ٨٠٠٠ كيلو جرام: أي ثمانية طونولاطات، أي قريبًا من ١٨٠ قنطارًا. وكانوا يقطعونها بمناشير الألماس؛ لزيادة التعجيل في العمل والإتقان. وقد استنفد القوم مناجم كثيرة من الفحم والحديد اللذين أودعتهما فيها الطبيعة، وتركوها قاعًا صفصفًا. ولقد بلغ وزن الحديد المستخدم في بهو الاحتفالات وحده ٢٥٠٠٠٠ كيلوجرام، أما مجموعه في مباني المعرض وسقائفه فهو ٣٠٠٠٠٠٠٠ كيلوجرام، ومساحة الأرض المغطاة بسقائف الحديد تبلغ ٢٢٠٠٠٠ متر مربع. وقد كان نقل هذا الحديد على ٢٠٠٠٠ عربة من عربات البضاعة في السكك الحديدية، فلو جعلناها مصفوفة بجانب بعضها لتألَّف منها قطار طوله ١٤٠ كيلومترًا، أي أن أول هذا القطار يكون في القاهرة وآخره في دمنهور.

أما الآجُرّ والزجاج والأصباغ (البويات) والطلاء (الورنيش) والجبس والجص والجير والشيد، فقد كان استعمالها بما تُوجِبُه هذه النسبة الهائلة. واستشهد على ذلك بمثال واحد: وهو أن برج إيڤل وحده اشتغل بتجديد ألوانه ٥٠ عاملًا في مدة ستة شهور بلا انقطاع، وقد بلغ ثقل هذه الأصباغ وحدها ٦٠٠٠٠ كيلو.

ومن الغرائب أن هذه المدينة توجد تحتها مدينة أخرى لا يراها الناظرون، ولكن العلم بشيء منها يزيد في الحيرة والاندهاش. نعم، فإن تحت المعرض شوارع حقيقة يبلغ عرضها مترين و٦٠ سنتي، وارتفاع عقدها وقبوها متران و٧٠ سنتي، ومجموع طولها ١٥٠٠ متر، وهي عبارة عن قنوات تحت ميدان شان دومارس يجري فيها الماء والبخار والكهرباء. وكذلك الكتفان (أو البغلتان) الغائصان في أعماق الأرض على ضفتي النهر؛ لاستناد قنطرة إسكندر الثالث عليهما؛ فقد بلغ البناء فيهما ١٥٠٠٠ متر مكعب، وهذا البناء كله مدفون في الماء، فلا تكاد تراه العين أو يتخيَّله الذهن.

تلك بعض أرقام تدل على عظمة المدينة المسحورة وضخامتها، ولكن الرشاقة والخلاعة اللتين استأثر بهما أبناء الفرنسيس كان لهما فيها أكبر حظ وأوفر نصيب، فإنهم تعللوا بوجود المنفرجات والمنعرجات بين الدُّور والقصور والعمائر والدساكر، فجعلوها رياضًا غنَّاء وحدائق فيحاء مسطحها ١١٠٠٠٠ متر مربع، منها ٤٠٠٠٠ فَرَشُوه بالعشب النضير بساطًا عديم النظير. وفي هذه الحدائق ٣٠٠٠ شجرة، و٢٨٠٠ نجم، و١٠٠٠٠٠ نبات من ٥٠٠ نوع من الأزهار وغيرها، وهم يتعهدونها كلها بالعناية يوميًّا؛ بل وبالتجديد عند اللزوم، ويسقونها بما يعادل ٢٠٠٠٠٠ لتر من الماء تقريبًا في كل يوم.

أشهر ما امتاز به هذا المعرض توليد قوتي الحركة والكهرباء في مدينته العجيبة الغريبة، فإنه يرسل ما يلزم من الأولى للآلات والمعامل والمصانع، وكل ما له علاقة بالأعمال الميكانيكية في النهار، حتى إذا احتجبت الشمس ظهر المعرض كله مُتألِّقًا بالأنوار، ولأجل ذلك عرضوا في قسم الكهرباء والآلات جهازات لتوليد القوة المزدوجة اللازمة، ومنها ما تعادل قوته ٢٠٠٠ حصان بخاري، فتتولد عن مجموعها في كل دقيقة واحدة قوة تعادل ٢٠٠٠٠ حصان بخاري. وإذا دعت الضرورة أمكن لهم مضاعفة ذلك، أي جعلها ٤٠٠٠٠ حصان بخاري.

وحياة المعرض بالليل أكثر منها بالنهار، فتراه لذلك يستهلك من الأنوار ما يزيد على حاجة مدينة كبيرة يبلغ عدد سكانها ٤٠٠٠٠٠ نفس، وقد استخدموا فيه كافة وسائل الإضاءة من مصابيح الزيت والبترول والغاز والإسيتيلين … ولكن الفضل الأكبر واليد الطولى، هما للكهرباء بلا مراء. بل انظر إلى ما يأتي:

البوابة الأثرية وحدها تضيئها في كل ليلة ٣١١٦ مصباحًا من المصابيح المعظمة للنور و٢٦ فانوسًا كبيرًا، وفي قسم الشانزليزيه ١٧٤ فانوسًا كبيرًا، وفي قسم الأنواليد ٢١٥٤ مصباحًا، وعلى قنطرة الإسكندر الثالث ٥٠٨، وفي بهو الاحتفالات ٤٥٠٠، وفي القصر المنير ١٠٠٠٠ مصباح صغير (ولكن أنوارها تتضاعف إلى ما شاء الله بفضل البلّور والزجاج)، وفي قصر الكهرباء ١٢ فانوسًا كبيرًا و٥٠٠ مصباح معظم للأنوار، وفي قصر الماء ١١٠٠ مصباح متصل بالجهازات التي تنوع أنوارها وألوانها بما يدهش العقول وخصوصًا الأبصار! (وأسلاك هذا الاتصال لا يقل طولها عن ٨٠ كيلومترًا)؛ فإذا جمعنا كل هذه الأنوار إلى بعضها؛ لَتَألَّفَت منها ثريّا تتيه على الثريّا؛ إذ يكون ضوؤها معادلًا لسبعة آلاف ألف شمعة. وأما القوة التي تتولد عنها هذه الأنوار في ليالي الزينة والوقود المعتادة، فإنها تكفي لرفع برج إيڤل في مدة ٢٥ دقيقة فقط إلى ارتفاع ٣٠٠ متر في الفضاء. وأنت تعلم أن ارتفاعه ٣٠٠ متر وأن ثقله ٧٣٠٠٠٠٠ كيلوجرام.

وبهذه المناسبة أقول: إن الفحم الحجري الذي يستهلكه المعرض في كل يوم لتوليد هذه القوة الهائلة هو عبارة عن ٣٠٠ طونولاطه. وأما الماء اللازم لإدارة هذه الآلات فهو ١٥٠٠٠٠ لتر في كل ساعة واحدة؛ فلو تركوا حنفياته مفتوحة مدة عشر ساعات فقط، لأغرق ميدان شان دومارس كله وجعله بحيرة يبلغ عمقها ٤ سنتيمترات. وقد أخبرتك أن هذا الميدان تبلغ مساحته ٥٠ هكتارًا مربعًا. ولو أوقدوا تحت هذه البحيرة المتباعدة الأطراف، المائتي طن من الفحم التي يستخدمونها في المعرض يوميًّا، لأوصلت حرارة مائها كله إلى درجة ٢٠ فوق الصفر بميزان سانتيغراد. وليست الكهرباء وحدها هي التي تبتلع الماء، بل هنالك أيضًا نوافيره وفواراته ومساقطه الصناعية في القصر المخصص له، فقد يصل عرضها إلى ١٠ أمتار وارتفاعها إلى ٣٠ مترًا. ويلزم لها في الساعة الواحدة أربعة ملايين ونصف مليون لتر من الماء.

ولهذه المدينة حُرَّاس وأعوان، فإن حركتها لا تسكن إلا بعد انتصاف الليل بثلاث ساعات؛ إذ تنطفئ الأنوار كلها. ولكن لا ينقطع منها طواف العسس والنوبة، وهم لا يقل عددهم عن ٢٠٠ رجل، بخلاف الخفراء المخصصين لبعض الأقسام، بجانب كنوز نادرة وتحف نفيسة. ويتعاقب طوف العسس مع طوف المطافئ مبالغة في الحفظ والوقاية: فلا يكون السكون والهجوع تامّين على الإطلاق في هذه المدينة الوفيرة الغنى، حتى في أخص الأوقات بالمنام.

فإذا لاحت غرّة الصباح، أي في مبدأ الساعة الخامسة، استيقظ عمال البساتين والحدائق لكنسها ورشها وتجديد نظامها. ثم يتوارد المراقبون على أبواب المعرض حتى تكون الساعة السادسة، فتشتد الحركة وترتفع الجلبة بمجيء المورّدين وعمالهم وما معهم من الأصناف، وخصوصًا خدم القهاوي والمطاعم والتياترات والملاهي بلوازمهما. وفي الساعة الثامنة يأتي الوقّادون والميكانيكيون؛ لينفخوا روح الحياة في هذا الكائن العظيم، فترتفع في الفضاء قعقعةٌ يصحبها دويّ هائل وارتجاج متواصل، دلالة على أن دواليب الآلات البخارية والكهربائية قد أخذت في الدوران. فإذا جاءت الساعة الثامنة توافد السكّان الرسميون لهذه المدينة العجيبة على أبوابها، وهم: ٤٠٠ مراقب لدخول الجمهور، و١١٠٠ حارس في الأروقة والقصور، و٢٠ بستانيًّا للقيام بالرش في الحدائق والجنات، و٦٠٠ رجل من أرباب الحفظ والشرطة، و٣٠٠ فارس و٥٠٠ جندي من الحرس الجمهوري، وبعض رجال البوليس الدرّاجين (أي راكبي الدراجات) وفرقة الغطّاسين و٦٠ رجلًا من رجال المطافئ. فمجموعهم يبلغ نحو ٣٠٠٠ رجل كلهم بالكساوي الرسمية. وزد عليهم ١٥٠٠ غلام بالأقل من المستخدَمين في القهاوي، خلاف المتخصصين لخدمة المطاعم والملاهي الأجنبية١١ ودافعوا الكراسي المتحركة وعمال البريد والسكة الحديد، ونحو ١٠٠٠ نفس ممن يبيعون تذاكر الدخول على الأبواب. فلا يقل جمع الجموع الرسمية من هؤلاء السكان عن ١٢٠٠٠ إنسان، يكتسب الواحد منهم في المتوسط ١٥ فرنكًا في اليوم على الأقل.

أما عدد الداخلين يوميًّا إلى هذه المدينة فيبلغ متوسطه ٢٠٠٠٠٠ نفس بالأقل، ويقول أهل الإحصاء: إن مجموعهم سيصل عند انتهاء المعرض إلى ٤٠ أو ٤٥ مليونًا من بني آدم، ولا غرو فقد بلغ عدد القادمين من الأغراب عن طريق محطة الشمال بمدينة پاريس ١٤٦٨٤١٩، وذلك من ١٥ أبريل إلى ١٥ يونيو، ومن محطتي الشرق (ستراسبورغ والباستيل) في شهر مايو فقط ١٢٧١٤٨٠ ومن محطتي الغرب (سان لازار ومونبارناس) في النصف الأول من شهر يونيو ١٠٠٩٣٧٣، بل قد بلغ عدد الراكبين من سكان پاريس من محطة سان لازار إلى محطة الأنواليد بالمعرض في يوم أحد واحد في شهر يونيو ١٠٣٤٨١، بل قد اتفق كثير من أهل القرى، في فرنسا وبلچيكا وألمانيا، على التقتير والتوفير من قوتهم اليومي مدة بضعة شهور حتى تجمّد لهم مبلغ زاروا به المعرض: وكانوا يحضرون إليه زرافاتٍ زرافاتٍ وعلى رؤوسهم علامات اصطلاحية؛ ليتعارفوا بها، ويتجمعوا بالنظر إليها، فلا يضلُّون ولا يتفرقون في الازدحام الشديد.

بل فرض أمير بخارى جزية على رعاياه؛ ليجمع المال اللازم لزيارة المعرض والاشتراك فيه، بل جاءت إليه قوافل من بوادي بلاد العرب قطعت المسافة في ١٥ شهرًا مشتغلة بالكسب والتجارة في أثناء طريقها، بل إن رجلًا متوسط الحال من أهل ويانة عاصمة النمسا اصطنع لنفسه كرسيًّا كبيرًا له عجلات ووضع فيه زوجته وولديه، ثم صار يدفع الكرسي أمامه حتى دخل المعرض، بل إن أحد كبار المعامل في أسكتلندة (من أعمال بريطانيا العظمى) لم يَرَ طريقة لمكافأة الصادقين المجتهدين من عماله سوى أنه أرسل ٢٠٠٠ منهم على نفقته الخصوصية إلى ذلك المعرض، بل إن ٢٠٠ رجل من صائدي الأسماك في أحد ثغور فرنسا (وهو بولونيا) اشتركوا مع بعضهم فوفروا من ثمرة أتعابهم الزهيدة مبلغًا تيسر لهم به زيارة المعرض، بل إن ١٠٠ تلميذ من طلبة المدارس في بلاد السويد اقصدوا من مصروف «جيبهم» مبلغًا حجوا به إلى هذه الآية الكبرى؛ ليزدادوا علمًا واطِّلاعًا في وقت قصير وبمال يسير. بل إن اثنين من الشبان تراهنا مع جماعة آخرين على أن يذهبا من أطراف النمسا إلى وسط المعرض سائرين على الأقدام، وهما يدفعان أمامهما برميلًا كبيرًا مصنوعًا بإحكام، يدفعانه على الطرقات وعلى منزلقات الروابي والجبال في الصعود، ويحفظانِه من التهشم والانكسار في حالة الاندفاع والسقوط أثناء الهبوط، وقد كسبا الرهان؛ بل إن العَمَلة المشتغلين بالبساتين في بلاد الدانيمرك، وبالكروم في بلاد البرتقال، وبالحديد في بلاد المجر، وبالفنون في بلاد النمسا توافدوا جماعات جماعات بمثل هذه الوسائل للتمتّع بمجالي هذا المعرض الجميل الهائل. وبهذه المثابة كانت حومته تحتوي في كل يوم ٢٠٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف نفس من جميع الطبقات والعناصر والأصقاع والممالك.

وهذا بيان بسيط بليغ عن مقدار المأكول والمشروب في المعرض في شهر واحد:
  • أولًا: (بالكيلو جرام): ٩٠٠٠٠٠ من اللحوم، و٢٥٠٠٠ من الأسماك، و٥٠٠٠٠ من الطيور، و٢٠٠٠٠٠ من الزبدة والمسلي والجبن، و٩٠٠٠ من البيض، و٣٠٠٠٠٠ من الخبز، و٦٠٠٠٠ من الملح، و٤٠٠٠ من الفلفل، و٣٠٠٠ من الخردل (المستردة).
  • ثانيًا: (بالهكتولتر): ٥٦٠٠٠ من النبيذ، و٢٦٠٠٠ من الجعة (البيرة) و٣٠٠٠ من الكحول والمشروبات الروحية، وهذا وذاك خلاف الأصناف الأخرى التي لا تدخل تحت حصر، ولا يضبطها ميزان ولا مكيال.
ولأجل زيادة التقريب إلى الأذهان، أقول: إن المشروب في يوم واحد معتاد يبلغ ١٠٠٠٠٠ لتر من الجعة أي ٤٠٠٠٠٠ كوب١٢ و١٨٠٠٠٠ لتر من النبيذ، وأما المأكول من الأصناف الأساسية فكان عبارة عن ٢٠٠٠٠ رطل من الخبز، و١٠٠ ثور، و٢٠٠ رأس من الضأن، فتأمل!
أما ثروة هذه المدينة العديمة النظير، فتعد بالمليارات، ولا سبيل إلى التقدير. فإن المصنوعات الفنية المجموعة في القصر الكبير والصغير وفي قصور الأمم الأخرى، مما لا يكاد العقل يقبل قيمته؛ لأنها تفوق كل الحدود فنتركها وشأنها. واعلم أن بابًا واحدًا في ملهى واحد (وهو الطواف حول الأرض) جعلوه محاكيًا لباب أحد المعابد الهندية، فزادت أكلافه على ١٠٠٠٠ فرنك، ومعرض الجواهر وحده يساوي مئات الملايين؛ إذ فيه حجر واحد من البهرمان أي اللعل وهو الياقوت Rubis قوَّموه بمبلغ ٣٠٠٠٠٠ فرنك. وقد أفضنا لك في الكلام على الملايين المعروضة في القسم الخاص بأوستراليا في صحيفة ١٨٣ وما يليها، وقد عرضت مستعمرة الكاب أي «راس الرجا» حجر الماس واحد، وأمّنت عليه إحدى شركات التأمين من السرقة «السكورتاه» بمبلغ ١٠ ملايين من الفرنكات (وهو بعض قيمته). وبلغت قيمة التأمين من السرقة على القصر الكبير والصغير وحدهما ٨٠ مليونًا من الفرنكات، مع أنهم يؤكدون أن التحائف التي في القصر الصغير تزيد على ذلك زيادة فاحشة. ومعرض مدينة پاريس مؤمَّن عليه بمبلغ ٤٥٠٠٠٠ فرنك، ومجموعات بعض المعارض الرجعية (Expositions Rétrospectives) بمبلغ ٣٠ مليونًا. فإذا أضفنا إلى ذلك المبالغ المخصصة للتأمين على الحريق أيضًا وصل مجموعها عن هذه الأنواع الثلاثة فقط ٢١٠ ملايين.

ومع ذلك فهنالك معروضات كثيرة لم تجترئ شركات التأمين على ضمانها؛ لارتفاع قيمتها إلى ما هو فوق المعقول، فبقيت بلا تأمين تحت حراسة الأعوان والأرصاد والموكّلين؛ وذلك مثل قصر المجر وغيره، والحق يقال: إن ثروة هذا المعرض لا يمكن الوصول إلى معرفتها أو تقديرها، ولو بطريق التقريب والتخمين. وذلك بخلاف ميزانيته فإنها معلومة ظاهرة؛ إذ هي تتألف من ١٠٠ مليون من الفرنكات (٦٠ من البونات و٢٠ من الحكومة و٢٠ من بلدية پاريس) بخلاف ما يُستولَى عليه من قيمة الامتيازات والالتزامات والمزادات. وأما مصروفه فقد بلغ ٢٥ مليونًا لبناء القصرين، و٦٠٠٠٠ فرنك للبساتين والرياض، ومليونًا واحدًا لزخرفة قنطرة إسكندر الثالث، فهو ينفق عن سعة وبيد مبسوطة، حتى إن مصاريفه في ليلة الوقود الواحدة تكلفه ٥٠ ألف فرنك وزيادة.

وبلغت مقادير الاعتمادات التي قررتها الدول الأجنبية لاشتراكها في المعرض ٤٦ مليونًا، وأكبرها ما صرفته النمسا (٧٥٠٠٠٠٠)، فألمانيا (٦٦٠٠٠٠٠)، فالولايات المتحدة بأمريكا (٧٠٥٠٠٠٠)، وكل هذه الاعتمادات هي في الحقيقة إيرادات دخلت في خزينة المعرض.

أما الملاهي المتنوعة والالتزامات الصغيرة والامتيازات الحقيرة: فكان له منها دخل عظيم؛ فقد رسا المزاد على نشر البرنامج الرسمي، أي قائمة كافة المعروضات (Catalogue) بمبلغ ٣٥٣ ألف فرنك، ودفع قصر البصريات عن إيجار الأرض التي يشغلها ٨٥٠٠٠٠ فرنك، وقصر الأزياء ٤٥٠٠٠٠، وقرية سويسره ٣٠٠٠٠٠. بل إن أحد الملاهي في جهة التروكاديرو التزم بدفع مبلغ ١٣٠٠٠٠ فرنك … فقط لأجل أن ينال الإذن بفتح بابين موصِّلين لحومة المعرض. وبائع السجق أو تذاكر البوستة داخل المعرض يجب عليه أن يدفع رسمًا للإدارة قدره أربعة آلاف أو خمسة آلاف فرنك، وإدارة مناظر «الطواف حول الدنيا» التزمت باستعمال رأس مال قدره ٣ ملايين، وأقل ملهى في شارع پاريس المسمى بشارع التفريح تديره شركة رأس مالها ٢٠٠٠٠٠ فرنك.

فانظر بعد هذه الأرقام وهذه البيانات إلى ما يجرّه المعرض من تداول الأموال، وتبادل المنافع، واشتراك المصالح. فكل ذلك موجب لازدياد الثروة وتوسيع نطاق العمران. ولا شك أن الأمة والأفراد الذين قاموا بهذا العمل الجسيم الهائل خير قيام، قد وصلوا إلى درجة عالية ومكانة راقية من العلم والحضارة، ومن المقدرة على العمل وتذليل الصعوبات الحسية والمعنوية. وسيبقى هذا الأثر النافع من كل الوجوه خالدًا في النفوس والصدور، وبه يكون أفخر وأفخم ختام للقرن التاسع عشر الذي ينتهي في هذا العام.

عود إلى المحراث البخاري

أشرت في الرسالة التاسعة الصادرة في ٢٨ أغسطس سنة ١٩٠٠ إلى هذا المحراث الذي اعتبره علماء الفلاحة والميكانيكا من أفضل آيات المعرض، وأطنبتُ في شرحه، وبيان فوائده على قدر ما وسعه المقام.

ومن الغريب أن هذا البحث الذي كان يجب أن يهتمَّ له أهل مصر بنوع خصوصي؛ لكون الاختراع منسوبًا إليهم (ويؤجر المرء رغم أنفه.)، ولكون فوائده العظمى تعود على مزارعهم، لم يتفطَّنوا إليه بالكلّيَّة، إلا نفرًا قليلًا طلبوا مني زيادة الشرح والبيان. أما مجموع الأمة ومجموع جرائدها فقد بقيا في غفلة ومنام.

أفلا يحق لمصر أن تخجل من تركها هذا الأمر المهم في زوايا النسيان؟ وأن تتنبه له جريدة «البشير» الغرّاء؛ وهي كما يعلم الناس لسان حال الآباء اليسوعيين، وتطبع في بيروت، وقد وقفت نفسها على خدمة المذهب الكاثوليكي والأدب العربي. ولكنها بحق لها الفخر والشكر؛ لأنها رأت وجه الفائدة، فنقلت عبارة المحراث «عن الدنيا في پاريس» كيف لا وإن جريدة «صدى الأهرام» التي تطبع في الإسكندرية تنبّهت لهذا الفصل ولو بعد حين فنقلته في أواخر سبتمبر الماضي عن «البشير» عن «الدنيا في پاريس». نعم، كان الأجدر بها أن تكون السابقة في التنبيه إليه والتنويه به؛ لأنها سبقت «البشير» في الاطلاع عليه، ولأنها أحقّ منه بخدمة مصر. وعلى كل حال فهي جديرة بالثناء؛ لأنها انفردت عن سائر الجرائد المصرية بهذه المأثرة، ولو أنها جاءت متأخرة.

ولقد صدق القائل: «ليس لنبي كرامة في وطنه.» فإنني رأيت كثيرًا من الإفرنج بمصر يلهجون بأمر هذا المحراث، بناءً على ما رأوه في جريدة «إجبشان غازت»، وقد نشرت عنه فصلًا طويلًا باللغة الفرنساوية في عددها الصادر ٩ أكتوبر وما يليهِ، ولم تخرج عن حد الوصف والبيان اللذين سبقناها فيهما بإتحاف قراء العربية.

فحبذا لو أفاقت جرائدنا المصرية من غفوتها وغفلتها، وخصصت لمثل ذلك شيئًا من وقتها وكتابتها، ووفّرت جزءًا من مائة مما اعتادته من الثرثرة والمهاترة، والوقيعة ببعضها في المناظرة والمكابرة، فذلك أخلق بها وأيسر لما خلقت له، والله ولي التوفيق.

عود إلى آلة مسح الأحذية

ومما يدخل في هذا الباب أيضًا أنني أشرت في صحيفة ١٤٤ من الرسالة الثامنة الصادرة في الرابع من شهر أغسطس سنة ١٩٠٠ إلى الآلة الميكانيكية التي تمسح بنفسها الأحذية (الجزم). وهنا أستميح القراء في إبداء سروري الكثير؛ لأنني سبقت في ذلك جريدة «الديبا» الشهيرة التي تطبع في نفس پاريس، ويكاد يكون لها في فرنسا ما لجريدة التيمس من المكانة العليا في بريطانيا العظمى، فإنها إنما أشارت إلى هذا الاختراع في عددها الصادر في ٢١ سبتمبر الماضي، ولست أرى بعد ذلك موجبًا لزيادة الإطالة في الكلام، وإنما أشرت إلى هذا الأمر والذي قبله لخطارة الجرائد المذكورة، ولأهمية المواضيع التي دار البحث عليها.

أما كون البعض أو الأغلب اتخذوا كثيرًا من البيانات التي أوردتها، والتحقيقات التي تحصّلت عليها، ثم وسعوها ونفخوا فيها، فذلك مما يسرُّني أيضًا وإن كانوا لم … يعرفوا الفضل لأصحابه؛ لأن هذه عادة الكتّاب في الشرق، ولا أرى موجبًا للإيضاح؛ لأن الأمر عندي طفيف تافه، وإنما أسأله تعالى أن يكثر بيننا من الكتاب والباحثين الجديرين بهذا النعت؛ لنتعاون كلنا على رفع شأن الشرق، بنيّة خالصة، وقلب سليم.
figure
صورة الفقمة التي سبق الكلام عليها في الرسالة الحادية عشرة.
هذا، وقد سألني بعض المغرمين بالميكانيكيات عن اسم وعنوان الشركة القائمة بعمل آلات مسح الجزم فأفيدهم أنها تسمى: شركة الآلات الماسحة للجزم نمرة ٢٣ شارع جسر أنتين بپاريس Société Française Cireurs Automatiques 23 Rue de la Chaussée d’Antin Paris.

(١١) القصر الألماني

المعارض على العموم كلها ميدان مغالبة ونضال ومزاحمة ورجحان بين أهل الصناعات والتجارات وكل ما يدخل في حيِّز الأفكار والأعمال، فإذا كانت عمومية دولية، اتسعت فيها دائرة القتال، ولكنه قتال سكينة وسلام: يفوز فيها الغالب بالافتخار، ويستفيد المغلوب بالاعتبار والاستبصار، وكلاهما يقول:

وحيثما كلنا يسعى إلى غرضٍ
فحبذا فاضل منا ومفضولُ

وقد كانت للمعارض اليد الطولى في ارتقاء الشعوب والأجيال إلى الدرجة العصرية التي لا يكاد يدركها طائف الخيال، ولا يحوم حولها طائر الأفكار.

فلما عزمت فرنسا على إقامة هذا المعرض الهائل، دعت الدول كلها والأمم بأجمعها؛ للاشتراك معها في تمجيد هذا القرن التاسع عشر: تمجيدًا يليق بما تَمَّ فيه من الاكتشافات والاختراعات، وخصوصًا تقريب البعيد، وجعل المستحيل من الممكنات، فلبَّاها العالم بأسره، ووالت الأمم الحية الحساسة سعيها بالليل والنهار؛ لإبراز ما وصلت إليه من علالي الارتقاء وموجبات العزّ والفخار. وكانت ألمانيا (جارتها وخصيمتها) أوّل من أجاب النداء؛ لتثبت على رؤوس الأشهاد في هذه الفرصة السانحة، أنها قطعت في طريق التقدم والعمران شوطًا لا يدانيها فيه غيرها من الأمم والبُلدان، ولتبرهن أنها السابقة على حدٍّ سواء: في مضماري السيف والقلم، وأنها تكاد تكون المنفردة بين الأمم: في الأخذ بناصيتي العلم والعمل.

فتألَّفت آلاف من اللجنات في عواصمها وحواضرها وقواعدها؛ لإرشاد الأمة بأجمعها إلى الوسائل التي تضمن لها الحلول في المقام الأوَّل، والاستقرار في المركز المحمود، والرسوخ في المقام المغبوط، وساعدتها الصحافة على اختلاف المشارب والأميال، وتباين المقاصد والأغراض، وانبرى أهل اليَرَاع واللسان في ميادين الجرائد وفوق أعواد المنابر، وكان أهل المظاهر والحيثيات يستخدمون جاههم ونفوذهم في النوادي والمجتمعات: وكلهم يرمون إلى قصد واحد ألا وهو وجوب التعاون (بالإجماع والاجتماع) للوصول إلى هذه الغاية السامية التي لا تكاد تُنال في مثل هذا المجال. وتَخالَطَ الوزراء والحكام بأصحاب التجارة والصناعة والزراعة، يشجِّعونهم ويحضُّونهم بما هو أشبه بالأمر الواجب الامتثال، وكان مصدر هذه الحركة الجسيمة العميقة شخص ولا كالأشخاص، بل فرد واحد اجتمعت فيه الآلاف، وهو هو الغربيّ، الذي يصدق عليه قول العربي:

وليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمع العالم في واحدِ

هذا هو إمبراطورهم الهمام المقدام (غليوم الثاني) حامل لواءهم الأكبر، والمتحلي بتاجهم الأفخر، والقابض على صولجان ملكهم الأزهر، وقائد العسكر المظفَّر، المجدِّد في الغرب لسنَّة هارون والمأمون في الفوز بأكبر نصيب في جميع العلوم والفنون، وفي رفع شأن أهل المعارف وموالاتهم بالعنايات والعوارف، وإدنائهم إلى مقامه العالي، وغمرهم بفضله المتوالي. ومن كان هذا نعته فليس بعجيب ما نرويه عنه: من أنه كان لا يأنف من محادثة الصغير ومجاملته، وحث الكبير وملاطفته؛ ليجعل أمته في مقدمة الأمم، كما جعل لدولته المقام الأوَّل في سياسة الدول، حتى صَحَّ لها أن تتمثل بقول السموأل:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقولُ

فقد أمر بفتح اعتماد قدره ستة ملايين وربع مليون من الفرنكات؛ لاشتراك دولته في المعرض العام. ثم دلَّتْه بصيرته الكاشفة وحكمته السامية إلى أن هذا المبلغ البالغ لا يفي بما قام في نفسه الكبيرة، وطمحت إليه همته الجليلة من التوسع في الاشتراك والاجتهاد في الفوقان والرجحان؛ لإحراز قصب السَّبْق في كل ميدان، فزاده حتى أوصله إلى ٦٦٩٠٠٠ أي ٢٣١١١٥ من الجنيهات المصرية، ثم إنه أَمَرَ بعمل مسابقة بين نوابغ المهندسين الألمانيين لرسم القصر الذي تتمثل فيه دولته في شارع الأمم بمعرض پاريس. فلما تقدموا إليه بما ابتكرته قرائحهم عقد جمعية من أكابر العلماء تحت رياسته الفعلية (لا الفخرية)، وكان في وسطهم في برلين أشبه الملوك بالمأمون العباسي في بغداد، والحكم الأموي الأندلسي في قرطبة: يشاركهم في البحث والمناقشة، والتعقب والاستدراك، والاستحسان بالبرهان والتعليل بالدليل حتى قَرَّ الرأي على أحد المشروعات، ثم انفرد هو بهذا المشروع، وتولَّى تنقيحه بنفسه، تنقيحًا طأطأ له العارفون رؤوسهم؛ لا لكونه الإمبراطور، بل لأنهُ العالم العامل والحافظ العارف والحجة الثقة، أبدى من سُمُوّ الأفكار، وبُعد الأنظار ما جعلهم كلهم يشهد لهُ بإصابة المرمى وتوفيق الأمر طبق المرام.

وهكذا فلتكن الملوك والحكام.

هذا، وقد أعرب (بل ترجم) مدير المعرض الألماني عن رأي الإمبراطور في الغرض الذي تسعى وراءه ألمانيا، إذ قال: «إن الملأ يتغامزون علينا، ويعيروننا باصطناع الخسيس الرخيص. وسيتحقق الناس أجمعون بأن هذا الانتقاد ليس له نصيب من الصواب والسداد متى رأوا معروضاتنا سابقة فائزة في كل باب.»

وقد هَبَّت الأمة الألمانية عن بَكْرَة أبيها، فأظهرت أن هذا الظن كله إثم وإفك وبُهتان، إنما دعا إليه انخذال الأغيار في ميدان المناظرة في الاصطناع، والمزاحمة في الاتِّجار، وأن هذه كانت — ولا تزال — الحجة التي يتمسك بها المغلوب في أي مضمار.

ولم يكتفِ الإمبراطور بذلك؛ بل انتقى بنفسه جميع الأعضاء العاملين في القسم الألماني، وأمرهم أن يحيطوه علمًا بكل دقيق وجليل، وأشرف بنفسه على جميع أعمالهم، حتى تتحقق أمنيته في جعل المعروضات الألمانية — رسمية أو غير رسمية — ذات الفائدة الكبرى والمظهر الأَبْهَر؛ ليكون مجموعها من نوادر الزمان، يتحدث عنها الركبان وتُضرب بها الأمثال. وتعلقت إرادته بجعل القصر الألماني دليلًا على ثمرات العقول ونتائج الآداب في إمبراطوريته الواسعة الأطراف، فجاء هذا القصر جامعًا للأعمال التي ساعدت على تحرير الفكر وزينته، وللأعمال التي حولت الفكر إلى ما يعود بالخير العام على بني الإنسان.

ونحن نصف لك الآن هذا القصر الجليل بالتفصيل القليل، ثم نجري على عادتنا مع الأمم الأخرى في إتباعه بالكلام على معروضات الألمان بوجه عام.

•••

أرسلت ألمانيا عمّالًا من أبنائها؛ لتشييد هذا القصر على مسطح من الأرض لا يتجاوز ٧٠٠ متر مربع. وقد جعلوه دليلًا كاملًا على أساليبهم في العمارة والبناء، قديمًا وحديثًا. ولم يتفق ذلك لأمة أخرى، فكل واجهة من واجهاته الأربع لها رمز مخصوص، ومنظر مخصوص، وكلها تدل على الضخامة والفخامة، والمتانة والصلابة، مع ما فيها من أساليب الزخرفة والرفاهة.

ولا يدخله الناس جزافًا بل طائفة بعد أخرى، فلما تجاوزتُ بابه عَرَتْنِي (مثل الذين معي ومثل الذين سبقوني والذين لحقوني) دهشة يصحبها إعجاب وإجلال، وتملّكت فؤادي عواطف التبجيل والتوقير، وأرسلت الطرف إلى ما حواه، وجسماني كله خاضع رغمًا عني لعلامات الإكرام والإعظام.

فقد امتاز هذا القصر المتناهي في الجلال والجمال، من حيث التشييد والبناء، بأمرٍ لم يخطر على العقول والألباب. لذلك ترى العامة والذين ينظرون إلى الأشياء بنظر سطحي، وفكر بسيط، يخرجون منه وهم لا يدرون شيئًا سوى أنهم معجبون بما فيهِ من موجبات الأُبَّهة ومجالي البهاء. نعم، فقد جعلوه دليلًا على ما وصلت إليه العقول، وأبرزته القرائح في بلادهم من الوجهة العلمية فقط، وشحنوا أقسام المعرض الأخرى بنتائج هذه الأفكار وآثار هذه التصورات من الوجهة العملية. رأيت فيه مجموعة الكتب وكافة طرائق التدريس والطبع والنقش والتصوير والتعريف والإعلام والإعلان. فهو يحتوي على خلاصة ما جادت به العقول، ودلت عليه المدارك في سائر أنواع العلوم. وليس على التاجر والصانع والزارع وسائر طبقات الناس، سوى الاسترشاد بما حوته هذه الأوراق.

فالقصر هو إذن عبارة عن معرض للكتاب، وأنت أدرى أن الكتاب هو أقوى آلة وأفضل سلاح في ميدان الفوز والفتح والنجاح. فكأن هذا القصر مدرسة لكل داخل، إذا تصفّح الكتب وقف بالطريقة النظرية على حركة ألمانيا وتقدّمها المدهش. فإذا أراد أن يقرن العلم بالعمل، ويعرف مقدار ما وصلت إليه من العظمة والجلال، توجه إلى سائر أقسام المعرض فرأى ما يوجب له الحيرة والذهول.

وأول ما يراه الداخل هرم ضخم أقاموه في وسط البهو الكبير، من سائر أصناف حروف المطابع، ورأى على قمة الهرم تمثال غوتمبرغ الذي تفخر به ألمانيا على المتمدِّنين أجمعين؛ لأنهُ مخترع فن الطباعة التي هي أساس الحضارة العصرية.

وقد ازدانت جدران هذا البهو الشائق بتمثيل أطوار الإنسان من يوم بلوغه سن الرشاد، إلى أن يأتيه الكتاب، إلى أن يُحشر في يوم الجزاء؛ لينال حقه من العذاب، أو يصيبه نصيبه من العقاب، وفوق رؤوس الزائرين يرى الإنسان في السقف صورًا رمزية تمثل الحقد والحسد والحرب وكافة الرذائل والنقائص التي ينحصر فيها شقاء بني آدم.

فإذا صعد إلى الدور العلوي ارتاحت نفسه وانشرح صدره؛ إذ يرى ثلاث صور تمثل «الدين والوطن والعدل» أي ينابيع السعادة والهناء في هذه الدنيا، وهي بحيث تأخذ بالعقول وتستهوي الألباب، وإذا تنقّل في غُرَفِه زادت دهشته من معروضات ثمرات العقول في بطون الدفاتر والأوراق.

وفي هذا الدور يرى الممتازون (بتذاكر خصوصية صعبة المنال) غرف الاستقبال، وقد انتهت إليها أساليب الزخرفة وفنون الجمال؛ ذلك لأن الإمبراطور العظيم أراد أن يجعلها تحفة لا تخطر على البال، وتكون فتنة للعقول والألباب، فأرسل إليها طرفًا عديمة النظير، مما جمعه جده فردريك الكبير، وطال تشوف الناس لرؤيتها، وخصوصًا أهل فرنسا؛ لأنها من آثار أرباب القرائح من آبائهم الأولين، وهي عبارة عن تصاوير وتزاويق وموائد ومفروشات وأثاثات وستائر وأبسطة وطنافس … ونحو ذلك من بدائع التحف التي يقف العقل أمامها باهتًا حائرًا. فكنت أرى أعاظمهم يكادون يلتهمونها ولا يشبعون من النظر إليها، وتبدو عليهم علائم الحسرة واللهفة واللوعة والإعجاب والاستحسان التام. ويكاد لسان حالهم يقول: «هذه غنائم توازي ولايتي الألزاس واللورين.»؛ لأن ألمانيا أحرزتها في السلم بقوة الدرهم والدينار، كما استولت على المقاطعتين في زمن الحرب بقوة الصارم البتّار. وقد استحسن كتَّابهم وفضلاؤهم ذوق الإمبراطور في إرسال هذه التحف إلى معرضهم، ولطالما كانوا إليها مشتاقين، وعندي أنه رمى طائرين بحجر واحد: فإنه جاملهم، وأجاب أمنيةً كانت تتردّد في أفئدتهم من زمان مديد، وأظهر للناس فضل ألمانيا بتوصلها إلى الاستئثار بهذه الذخائر والأعلاق، ومحافظتها عليها.

أما الغرف التي وضعت فيها هذه النفائس فجديرة بالإعجاب من كل الوجوه؛ لأن سقف إحداها كأنه الفضة الخالصة، بل هو أحلى وأغلى؛ إذ هو الپلاتين إن لم يكن بعينه فبلونه، ومما يستحقّ الذكر لأبناء الشرق (الذين لا يدركون إلى الآن قيمة التصاوير والنقوش) سكردان بديع مغشّى بالذَّبَل (الباغة) كأنها قطعة واحدة، وهي مصفحة بالفضة والبلور. ورأيت في إحدى الغرف تمثالًا نصفيًّا لڤولتير حكيم فرنسا الشهير، وكان الناس يتقاطرون لرؤيته أفواجًا، وكان من أكبر أصدقاء فريدريك المذكور. وقد بالغوا في الاحتفاظ بالتحف التي فيه، فلا يراها إلا خواصّ الخواصّ، كأن أبناء الألمان أدركوا قول العربي: (كل معروض يهان)، ولو في المعرض العام.

والخلاصة: إن الطائف في غرف الدور العلوي يرى حركة العقل مستمرة، ويخرج من القصر متعجبًا مندهشًا، خصوصًا وأن ألمانيا ليست مثل بعض الدول والأمم الثانوية في جعل قصرها المنيف عبارة عن سوق وقهاوٍ ومراقص وملاهٍ … ونحو ذلك من السخريّات، بل هو عبارة عن معرض العقل والعلم والجدّ، ولله في خلقه آيات.

(١١-١) عموميات على المعروضات الألمانية

اشترك أهل هذه البلاد في أغلب أقسام المعرض، وناظروا بل فاقوا الجمّ الغفير، بل السّوادَ الأعظم من العارضين: في حسن الذوق، وكمال الإتقان، واسترعاء الأنظار، واختلاب الألباب.

وكأني بهم قد أرادوا جعل الضخامة رائدهم، فاتخذوا الضخامة شعارهم في كل معروضاتهم.

فلقد امتاز قصرهم الرسمي بالضخامة في البنيان، وفي السلم الكبير المنقور في الرخام، وفي الثريات المعلقة في السقوف، وفي التصاوير التي ازدانت بها الجدران.

وانفردت رسومهم وتصاويرهم في قصر الفنون الجميلة بالضخامة أيضًا، خصوصًا مع الستائر الصفيقة، والطنافس الكثيفة، التي كانت تخفت معها الأصوات، وتوجب على الطائفين خشوعًا تامًّا كأن على رؤوسهم الطير.

وتجلت الضخامة في أكبر مظاهرها في معروضات الصنائع المختلفة بقسم الأنواليد، حيث يرى الزائر في وسط القسم المخصص لألمانيا صخورًا كبيرة متراكمة على بعضها، وفوقها نسر ضخم، قد نشر جناحيه في الفضاء، وهو يصرع بمخلبيه تنِّينًا هائلًا، وحول هذا النسر الذي هو شارة الدولة ورنكها، حوانيت أرباب المصنوعات كأنها تستظل بجناحيه، وتستمد منه القوة والنشاط … وخصوصًا الضخامة.

وإذا ذهب الزائر إلى قسم الآلات التي عرضتها الأمم والشعوب استَرْعَت الضخامة أبصاره، وتملّكتْ فؤاده فانصرف بكليته إلى القسم الألماني. كذلك تسود الضخامة على مصنوعات الحديد الألمانية في سراي المعادن، فإذا ذهب الإنسان لمعروضات الزراعة رأى الضخامة في المحصولات الألمانية تكاد تفترس بكل ما حولها مما أبرزته أراضي الأمم الأخرى، باجتهاد العاملين في حرثها وغرسها، واستنباتها واستثمارها. وكأني بالقوم خافوا انطماس آثار الضخامة إذا ولَّى النهار، فجعلوها في الليل ترفع لهم المنار على سائر الأنوار. فلذلك ابتنوْا «فنارًا» أو منارًا تمثيلًا لواحد مما في بلادهم، فتراه بالليل يقذف بأنوار الكهرباء إلى جميع الجهات في أعالي الفضاء، بحيث تتضاءل أمامه أنوار الفنارات الأخرى، وتبقى كأنها قناديل الزيوت، أمام السراج الوهّاج. لعمري! لقد توصل القوم لإلزام تسعة أعشار الزائرين بالإقرار بأنهم المنفردون بالضخامة. ولذلك كان لهم النجاح التام في هذا المعرض العام.

وحيثما نظر الباحث في المعروضات الألمانية أخذه العجب والاندهاش من براعتهم في التنسيق، وإبداعهم في إظهار المعروضات، بما يستوقف الرائح والغادي، ويقضي لهم بالأفضلية والرجحان. حتى الأشياء الدقيقة والجواهر الأنيقة، تراها مجتمعة مع بعضها بما يوجب الإقرار بانفرادهم في إظهار الضخامة في أكبر مظاهرها، وأنهم دون سواهم المحتكرون لها، ولكن إذا نظرت إلى هذه المعروضات وجدتَها منسجمة برقّة، ومرتَّبة بلطافة، بحيث لا تفارقها العين، إلا بعد طول النظر والاستمتاع، وخوفًا من ضياع الوقت الثمين، وطمعًا في رؤية غيرها من الغرائب والتحائف. وطالما وقف الپاريسيون والپاريسيات معجبين ومعجبات بما عرضه أهل ألمانيا من الحلي والجواهر، والعقود والقلائد، وفضّلوها على ما اشتهرت به پاريس، وكادت تحتكره في العالم (هذا هو الذي سمعته ورأيته، وليس لي خبرة بهذه الأمور).

حتى الألاعيب بمناظرها وحركاتها كانت تستوجب انشراح أطفال الفرنساوية وغيرهم؛ فتفترّ ثغورهم وتبرق أسِرَّتهم،١٣ وتمتد إليها أيديهم اللطيفة ضاحكين فرحين منشرحين، ولا يبدو منهم نصف هذه العواطف أمام معروضات الأمم الأخرى التي تهتم بها أحلامهم الصغيرة، ويباتون يعلمون بها ومعها.

والخلاصة: أن الإجماع حكم بالأولوية للألمان في كل ميدان، وإذا قلنا: إن حكم العامة والجمهور، لا يعتدّ به في مثل هذه الأمور، وكذبنا قول القدماء: (ألسنة الخلق أقلام الحق.) فلا بد من أن نطأطئ الرؤوس أمام تأييد هذا الحكم من المحكمة المختصة بالفصل في هذه المسائل الفنية، فإن لجنات المحلفين المحكمين المختارين من جميع الأمم والشعوب، قد قضت للألمان بإحراز قصب السبق في كل رهان، وحكمت لهم بمكافآت لم تنلها أمة أخرى: لا في العدد، ولا في الأهمية، ولا علوّ الدرجات، وليس يمكن الطعن في أمثال هؤلاء القضاة بأنهم انخدعوا مثل العامة أمام الزخارف الظاهرية، أو حسن التنسيق وجمال الترتيب؛ فثبت من ذلك أن تقدمهم أصبح بديهيًّا في جميع الصنائع، وأنهم تقدموا بسرعة حتى أدركوا شأو الأمم الأخرى في زمن قصير، ثم فاقوها وفاتوها بمراحل كثيرة.

وقد طبعوا برنامجات ضخمة ببيان معروضاتهم على التفصيل. والأمر الذي يستحق الذكر في هذا المقام أنهم صبُّوا حروفًا قوطية مخصوصة لطبع هذه البرنامجات؛ لتأتي على غير مثال سابق بما حوته من النقوش والزخارف.

وحينئذ فلا غرابة في أن ينابيع الثروة قد تفجَّرت في بلادهم، وفاضت الأموال عليهم حتى توصلوا إلى رفاهة لم تكن معروفة عنهم، ولم يكونوا يعرفونها منذ عشرين عامًا. بل شكت الجرائد الفرنساوية نفسها، من أن كثيرًا من أبناء بلادها يرسلون بما يتوفر لديهم من المال إلى ألمانيا لاستغلاله واستثماره بما يعود عليهم بالنفع الكثير. بل لا غرابة أيضًا في كون أوساطهم أصبحوا يأنفون من الركوب في عربات الدرجة الثانية من قطارات السكة الحديدية مع أن الكثير من أغنياء الإنكليز لا يستنكفون الركوب في الدرجة الثالثة (في بلادهم!) إن لم نقل: إنهم يفضلونها تفضيلًا. ولقد كان أكثر السيَّاح الذين تتطلع لرؤيتهم في الشتاء الأقاليم التي خصها الله ببعض المزايا مثل بلاد مصر وجنوب فرنسا وإيطاليا أكثرهم من الإنكليز والأمريكان والروس، فأصبح الألمانيون الآن ولهم القدم المعلّى في هذا الميدان. ألا ترى أنهم يتوافدون في كل عام في بواخر مخصوصة إلى شطوط النيل؟ وما ذلك كله إلا بفضل العلم والصناعة والتجارة، فإنها أساس الثروة والرفاهة والاقتدار.

فسلامًا سلامًا على كل من عرف قدرها، وسعى في إعزاز وطنه بها، ويا حبذا لو كان لهذا الكلام صدى في ديار مصر وبين أهلها! اللهم اجعلهم ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه!!

(١١-٢) شذرات على بعض المعروضات الألمانية

من أغرب الغرائب التي لا يكاد يصدقها القارئ: أن أبناء ألمانيا هم الذين كانوا متعهدين بإضاءة القسم الأعظم من المعرض العام بالنور الكهربائي. (وأنت تعلم مقدار كراهة الفرنساويين لهم، ومقدار أثرتهم بأنفسهم وتفانينهم في الأنانية والوطنية … ولكن للضرورة أحكام!)

ولكن هذا الاستغراب يزول إذا علمنا أن الألمان قد كادوا يحتكرون الإضاءة بالكهرباء في سائر بقاع العالم، وأن في بلادهم شركة كبيرة توزع الكهرباء حتى في القرى الصغيرة والعزب والكفور، وتقدم لمشتركيها ما يلزمهم من حركة وحرارة ونور، ولذلك فلا غرابة في رجحانهم العظيم على سائر الأمم الأخرى من هذه الوجهة. وهم عرضوا في المعرض العام آلة لتوليد هذه القوة السحرية العجيبة، وهذه الآلة وحدها أكبر وأضخم وأعظم من كل آلة وُجدت فيه، وهي وحدها تكفي لإنارة پاريس كلها؛ لأن قوتها ٢٠٠٠٠ حصان! وقد اشترتها أمريكا بمبلغ جسيم جدًّا لا أتذكره الآن، فقد ضاع رقمه من المفكرات والمعلقات التي أخذتها من پاريس.

وامتازت ألمانيا في قسم الآلات امتيازًا ضخمًا هائلًا على جميع الأمم الأخرى. فمن أعجب العجائب أنها كانت أوَّل دولة أعدت إحدى الآلات الكبيرة التي تبلغ زنتها ٢٥ طونولاطه لتوليد الحركة في المعرض العام، فإنها شادت قنطرة متحركة ضخمة، استعان بها القوم على نقل ووضع الجهازات المجتمعة في رواق الآلات.

وهذه القنطرة تعدّ من معجزات الميكانيكا والكهرباء؛ إذ يكفي رجل واحد (إن لم نقل غلامًا) لحريكها وإدارتها، فيكون لها دويٌّ لطيف يشابه غطيط النائم، فترفع الأثقال التي لا تكاد تتصورها العقول بكل سهولة، ثم تحملها بلا عناء وتسير بها الهوينا، وتدور بها بغير مشقة بل برشاقة، حتى تضعها في المكان اللازم، وقد قضت هذه الآلة على كل من شاهدها من جميع الأمم الأخرى بالعجب العجاب. فشهدوا لألمانيا بالسَّبْق والبراعة والإبداع، فنالت بهذا أول نجاح ضخم هائل. ولكنها لم تقف عنده بل عقّبته بغيره وبغيره، حتى حيرت العقول والأفكار.

ولها في قسم الآلات آلة ثقلها ٣٠٠٠٠ كيلو، ولها أيضًا عجلة لمنشار كبير محيطها هائل جدًّا، بحيث اضطر العارضون لاستعارة عربة من عربات السكّة الحديدية المستعملة في عمل مدافع كروپ؛ لأجل نقل هذه الآلة وهذه العجلة من بلادهم إلى پاريس؛ لأن شركات السكك الحديدية المعتادة تعجِز عن عمل مثل هذه العربات البالغة في الكبر والضخامة.

ومن الغرائب أنني لما زرت قسم الطباعة في المعرض العام رأيت مطبعة عجيبة عرضتها إدارة إحدى الجرائد الفرنساوية التي لا تعادلها في الانتشار صحيفة أخرى عندهم، فإنها تطبع في كل يوم واحد مليون نسخة (١٠٠٠٠٠٠). وفي كل أسبوع يظهر لها ملحق أدبي مصور بالرسوم المختلفة، وتطبع منه مئات من الآلاف توزّعها في سائر الأقطار، بأزهد الأثمان: (ثمانية بارات أو ملّيمان في الجملة أو أقل). لا شك أن القُرَّاء أدركوا أني أشير بذلك إلى جريدة الپتي جورنال (Le Petit Journal) أي الجريدة الصغيرة. وهذه المطبعة عبارة عن أسطوانات كثيرة متوالية متصلة ببعضها، تشغل مسطحًا من الأرض لا يقل طوله على صحائف مستديرة من الفولاذ؛ ليتحمل قوة الضغط وكثرة الطبع، ويضعونها فوق هذه الأسطوانات. ثم يضعون بجانب هذه الآلة العظيمة لفائف كبيرة من الورق قد صنعته الفابريقات برسمها مخصوصًا بها، ثم يُدخلون طرف اللفة في فم الآلة، فتدور به وتنقله من أسطوانة إلى أخرى، حتى يخرج من الطرف الآخر مطبوعًا بالألوان المختلفة أو باللون الأسود فقط، وكل نسخة تكون منفردة عن الأخرى بمقص ميكانيكي، ومطوية على بعضها بتدبير الميكانيكا أيضًا، فيتسلَّمها الباعة أو توضع في الغلاف، وترسل للمشتركين في سائر أنحاء فرنسا وفي كافة أقطار المعمور.

فأعجبتُ بها كثيرًا ولكني مشَيْتُ بضعة خطوات، فرأيت للألمانيين بجانبها آلة أخرى شبيهة بها من كل الوجوه، وتؤدي جميع وظائفها بالتمام، ولا عيب فيها سوى أنها تزيل من نفس الناظر إليها كل أثر من الإعجاب الذي تملَّك فؤاده برؤية جارتها؛ ذلك لأنها تفوقها من حيث السرعة والإتقان … والاقتصاد. فإن الألمانيين رأوا المطبعة الفرنساوية تشغل مسطحًا كبيرًا من الأرض، وتمتد على مسافة طويلة هم في حاجة لاستعمالها في منافع أخرى، ورأوا أن أمتار الأرض تباع بالدنانير الكثيرة. وأما الارتفاع في طبقات الجوّ فهو ميسور لمن يملك مترًا أو مترين حتى يمكنه أن يصل بين الأرض والسماء، إن استطاع لذلك سبيلًا، فدعاهم حب الاقتصاد إلى وضع الأسطوانات كلها فوق بعضها بدلًا من اصطفافها بطريقة أفقية، وتوفر عليهم بذلك مسطح الأرض؛ ليضعوا فيه آلات أخرى. فأصبحوا لا يحتاجون إلا لغرفة يكون مسطحها عشرة أمتار مربعة بدلًا من اضطرار الفرنساويين لوضع آلتهم في غرفة يعادل مسطحها ضعف ذلك تقريبًا. وأما السقف فيمكن رفعه إلى ما شاء الله؛ بل إن في ارتفاعه مزايا صحية كثيرة لا تُنْكَر.

ومن الغرائب أيضًا، أنني رأيت بهذا القسم فتاة جالسة أمام ماكينة (ولا أريد وضع الاسم بالعربي) وهي ترفع قدمًا وتضع أخرى. والماكينة تشتغل بخياطة ملازم كتاب، بسرعة تقتضي بالعجب العجاب. وأقول الحق: إن الكتاب والماكينة لم يسترعيا نظري كثيرًا … ولكنني أردت التحكك (عفوًا) فقد جاءت النتيجة بفائدة كبيرة من حيث الاطلاع والمعرفة، وعادت على الألمان بالفخر (والفخفخة)، وذلك أنني جعلت الكتاب حجَّةً لي، فأخذت أنظر إليه وإذا به دليل للمعرض العام يطبعه مخزن البون مارشي (Au Bon Marché)، وهو أحد المخازن الثلاثة التي لا يعادلها غيرها في پاريس، من حيث الكبر والجسامة واتساع نطاق الأعمال.

فتَذَرَّعْتُ بهذه الوسيلة لفتح باب المسامرة مع تلك الفتاة الزاهرة، ولكنها، وآسفاه! لم تكن تعرف شيئًا من الفرنساوية، وأنا لست أدري كلمة واحدة من الألمانية، فقضت عليّ الظروف بالاستعانة بترجمان … وليته ما كان فعرفت منها (بواسطته) أن إدارة المخزن المذكور تطبع من هذا الكتاب نسخًا تُعد بمئات الآلاف، وستقدمها هدية لعملائها وزبائنها، زيادة في إشهار أعمالها والتعريف بتجارتها، وعرفت أن هذه الآلة واردة من ألمانيا. ولعلمي بما بين الألمانيين والفرنساويين من الضغائن والسخائم أظهرت عجبي من كون بيت من بيوتاتهم التجارية يعهد بهذا العمل الجسيم في نفس پاريس وفي قلب المعرض العام، لمن ينظر إليه قومه بعين العداوة والبغضاء، فقالت لي (دائمًا بواسطة الترجمان!): «إن هذه الآلة من أحدث اختراعات الألمان، وليس لدى الفرنساويين ولا غيرهم ما يضارعها في سرعة العمل وإتقانه مع رخص الأسعار، ولذلك اضطروا (رغمًا عنهم) لمقاولة الصانع الألماني على تجليد هذا الكتاب حتى يظهر في أقرب الأوقات، وتُعْطَى الهدية في أوانها.» ولما رأت مني علائم الاستغراب والاستنكار، أرشدتني للبحث فيما حولي وحولها من جميع آلات وأدوات التجليد التي عرضتها الأمم الأخرى. فرأيتها قد أخبرت بالواقع، وانصرفت من حضرتها تتناوبني عواطف الأسف والإعجاب!

•••

ومن الغرائب أنني لما دخلت في قصر الصحة أعجبت كثيرًا بما حواه من وسائط الوقاية من الأمراض وحفظ صحة الأجسام. ولا يخفى أن الذي له الفضل الأكبر على جميع بني الإنسان، في درء كروب المكروب، هو رجل الدنيا وواحدها «پاستور» (Pasteur) ولذلك جعلوا أهم غرفة في القصر باسمه، ولكن ماذا ينفع العلم بلا عمل، أو ما هي ثمرته إذا لم تتحقق نتائجه في الوجود؟ كيف لا وإنَّ أهل فرنسا لا يزالون يشكون من توالي النقص في عدد السكّان، ويسعون بكل الوسائل للوصول إلى زيادة نموّهم، حتى إن رئيس الجمهورية السابق المرحوم فيلكس فور لم يأنف من التوجه بنفسه، وبموكبه الرسمي إلى أحد المستشفيات؛ لتشجيع إحدى العذارى على … إتيانها بمولود، لم تعدمه الحياة كأمثالها ولم تتركه في الطرقات عرضة للأخطار وتحت رحمة البوليس، عساه يأخذه حيًّا إلى دار اللقطاء، بل غالبت الحياء وخضعت لعواطف الأمومة. ولذلك رأى الرئيس المذكور وجوب تشجيعها؛ ليأتي هذا المثال الصغير بالفوائد الكبرى في زيادة عدد السكان. فنفحها بِصِلَةٍ كبيرة من المال أملًا في استئصال العادة الجديدة التي تمكنت منهم ورسخت في نفوسهم؛ وهي عادة قطع النسل التي شاعت الآن في أوروبا، ولكن بطريقة جديدة مبتكرة منكرة، تنطبق على رذائل المدنية الحاضرة.

ذلك أن التنمق والرفاهية قد أخذا من القوم كل مَأْخَذ، حتى كثرت حاجاتهم فأصبحوا يخافون العيلة والعيال، ويخشون الإملاق على ما هم فيه من كثرة المال والنوال. فأما الطبقات العالية فيخشى السيدات فيها آلام الحَبَل وأوجاع الولادة. ولكن هذا الخوف أقل عندهن مما يتفانين في تحاشيه من ذبول زهرتهنَّ، وضياع بهجتهن بضخامة خصورهنَّ وذهاب نحو ذلك من المحسنات التي إذا أتت عليها الطبيعة مع توالي الأعوام أعادتها لهنَّ زخارف الصناعة، بما فيها من البهارج والتضليل، فاستعنَّ بتقدُّم الطبّ الحديث على … «تطويش» أنفسهنَّ! فبعد أن كانت الخصيان من خصوصيات الرجال في الأيام القديمة وببلاد المشرق، أصبح النساء في بلاد المغرب يستأصلنَ المبيض وبيت الولادة بواسطة الأطباء في آخر القرن التاسع عشر! وبذلك يمتنع الحبل والولادة على الإطلاق، ويبقى للمرأة رواؤها وبهاؤها ما شاء الله. كان السابق في هذا الميدان أولئك اللائي يتخذن عروضهنّ تجارة لاكتساب القوت، وسَرَتْ هذه العادة إلى نساء الطبقة العليا للمحافظة على الجمال. ثم انتقلت إلى الوسطى خوفًا من الإملاق، وبقيت الطبقة الدنيا، ولا شك أنها ستدانيها عما قريب.

– ما لنا ولهذا الاستطراد؟

– قد جرَّ إليه الحديث وهو شجون. ولكنني أعود إلى سراي الصحة فأقول: إنني رأيت فيه بين جهازات الصحة وأسباب الشفاء وموجبات العافية ودواعي إطالة الأعمار ثلاث شمعدانات من المعدن على طاولة بسيطة، فيمر أمامها الناس ولا يلتفتون إليها، منذهلين بما يرونه من تزويق البطاقات، وتنسيق القوارير والجهازات، وألوان المكروبات، وغير ذلك مما يستوقف الأنظار ويحبس الأفكار. ولكنني من باب الصدفة نظرت إليها، فإذا هي واردة من ألمانيا، وهي على هيئة برج إيڤل المشهور في پاريس، وليس عليها نقوش أو بجانبها زخارف، بل ترى على كل واحد منها ورقة بسيطة؛ ففي الأول بيان عدد سكان ألمانيا في سنة ١٨١٦، وفي الثاني مقدار عددهم في سنة ١٨٥٥، وفي الثالث عددهم في سنة ١٨٩٥. والأوَّل أصغر من الثاني، وكلاهما لا يداني الثالث في الارتفاع. وكان عدد القوم في السنة الأولى لا يزيد عن ٢٦ مليونًا من النفوس، فتضاعف في مدة ٧٤ سنة؛ إذ بلغ ٥٢ مليونًا وزيادة. مع أن الأمة التي ظهر فيها پاستور لا يزال عددها آخذًا في النقصان!!! فاعجب، إن كان بقي في نفسك مكان للإعجاب! أليس أن هاته الشمعدانات وحدها أفضل من كل تلك التجهيزات والتحضيرات والاستعدادات والأقرباذينات؟ لعمري! كان لألمانيا أن تكتفي بهذه النتيجة دلالة على تَوَخِّيها الفائدة العملية في كل أعمالها. بل إنها أظهرت فوق ذلك مقدار عنايتها بالصحة العمومية: ففيها مدارس خصوصية للصحة بلغ أساتذتها ٤٠ أستاذًا لكل واحد منهم دار مخصوصة ومعمل مستقل، وتمدُّهم الدولة بإعانات مالية جسيمة. وللألمان ملاجئ صحية لمعالجة الداء الخنازيري، وليس في فرنسا كلها ملجأ واحد من هذا القبيل.

ولذلك ترى هذا الداء الخبيث يحصد وحده من أبنائها في كل عام ١٥٠٠٠٠ إنسان: منهم ٢٠٠ نفس في كل أسبوع بمدينة پاريس وحدها!!! وبجانب الشمعدانات المذكورة تماثيل أبراج وأهرام وأساطين ومخاريط (تذكر الضخامة! الضخامة! حتى في التمثيل!) تختلف في الارتفاع، وتدل على عدد سكان المدائن الكبرى في تلك البلاد، وبجانبها قوارير أو أشكال هندسية ترتاح لها النفوس، وتبتسم الثغور باختلاف الألوان، وفيها بيان الأمراض السائدة في تلك البلاد، وطرق مقاومتها والوقاية منها.

•••

وقد رأيت في قصر الجيوش البرية والبحرية تمثيل أحد المستشفيات العسكرية الألمانية. ومساحته تبلغ ٨٤٦١٠ من الأمتار المربعة، ويسع ٣٠٩ من الأسرَّة؛ منها ثلاثة برسم الضباط. ولا يقل المسطح الذي يخصّ كل سرير فيها عن ٩ أمتار مربعة و٥ سنتي، ولا تقلّ كمية الهواء الخاصة به عن ٣٨ مترًا مكعبًا و٥ سنتي، وكمية عموم المباني هي عبارة عن ثمن مساحة عموم الأرض، والسبعة أثمان الباقية مخصصة للطرقات والمماشي والعرصات والفسحات والحدائق والبساتين.

وقد بلغت أكلاف البناء (بخلاف ثمن الأرض) عن كل سرير واحد ٤٦٠٢ مارك، ويدخل في هذه القيمة ما يخص كل سرير من عموم الأثاث والمفروشات. فإذا صرفنا النظر عنها كان ما يخص السرير الواحد من البناء ٤٤٦٩ ماركًا، وقد وضعوا في المستشفى جهازات ميكانيكية وآلات بخارية، يكون بواسطتها التسخين والتدفئة والتهوئة، ورفع الماء من الآبار العميقة والإضاءة بالكهرباء، وتشغيل المطابخ والمغاسل البخارية والجهازات في الحمامات، وجهازات التبخير والتطهير بالبخار، وفيها أيضًا أنابيب تأتي بالهواء النقي المفيد بنسبة ٦٠ مترًا مكعبًا لكل سرير، فإذا كان فصل الشتاء أرسلته الآلات ساخنًا إلى الغرف، فتكون حرارتها مناسبة لحالة العليل.

وهنالك طلبمات تمتص الهواء الفاسد وتقذف به إلى الخلاء بعيدًا عن المستشفى، والساعات كلها تديرها الكهرباء، وفيه التلفون للمخاطبة بين أجزائه مع بعضها وبين الخارج في المدينة وما يرتبط بها من الجهات، وهنالك أيضًا معمل صحي كيماوي لأجل الأبحاث البكتريولوچية والكيماوية. وأما غرفة العمليات فقد انتهت إليها براعة أهل الفن، وأصبحت مثال الكمال، وفيه أيضًا غرف لما يسمونه «المعالجة الطبية الميكانيكية» وللتكبيس وللمعالجة بالكهرباء، وله صيدلية خاصة به.

هذا هو مستشفى الحامية العسكرية في مدينة پوتسدام Potosdam، ولا أظن له مثيلًا عند الأمم المتمدّنة الأخرى، ولذلك ترى الألمان يباهون به ويفتخرون.

وقد اندهشتُ كثيرًا من ألمانيا؛ لأنها لم تعرض في هذا القصر شيئًا من أدوات الحرب وآلات الهلاك؛ بل أبقتها مثل الأمم الكبرى سرًّا مصونًا وخبرًا مكتومًا، فلا ترى هنالك إلا تمثيلات السفائن والدوارع الحربية كأنها ملكة البحار، أو كأنها أرادت أن تعارض إنكلترة في هذا المعرض العام.

ومما يدل على ذوق الألمانيين وحسن مجاملتهم لضيفانهم، أنهم لم يفعلوا مثلهم ولا مثل الأمم الأخرى في عرض مزايا وآثار انتصارهم في حرب السبعين، حتى لا يجرحوا خواطرهم ويثيروا أشجانهم. وقد اعترف لهم أخصامهم والناس أجمعون بهذه الكياسة وهذه المحاسنة في المعاملة!

ولا بأس من الاستطراد في هذا المقام بسرد بعض إحصائيات نقابل فيها بين ألمانيا وبين فرنسا على الخصوص، وبينها وبين أوروبا بطريق العموم؛ لإظهار درجة تقدمها العجيب.

السكان

يبلغ عدد السكان في ألمانيا ٥٢٢٧٩٩٠١ نفس في سنة ١٨٩٥، أي يخص الكيلومتر المربع فيها ٩٧ ساكنًا، وبلغ عدد زيادتهم ٥٧ في المائة من سنة ١٨٨٥ إلى سنة ١٨٩٠. وفرنسا عدد سكانها ٣٨٥١٧٩٧٥ في سنة ١٨٩٦ يخص الكيلومتر المربع منهم ٧٢ ساكنًا. وعدد سكان برلين ١٧٦١٣٥ يقابلهم في پاريس ٢٥١١٦٢٩ ولكن ألمانيا تحتوي على ٢٦ مدينة كبيرة يزيد عدد السكان في كل منها عن ١٠٠٠٠٠ نفس، وليس في فرنسا إلا ١١ مدينة من هذا القبيل.

الجيوش وصحتها والانتحار فيها

في السلم في الحرب
عساكر ألمانيا سنة ٩٩ ٥٨٥٢٦٦ ٣٩٧٥٠٠٠
عساكر فرنسا سنة ٩٨ ٥٨٩٥٤١ ٣٠٠٠٠٠٠

وكان عدد عساكر الألمان الذين لا يعرفون القراءة والكتابة في سنة ١٨٨٣ بنسبة واحد وربع في المائة، أي أربعة أنفار في كل خمسمائة عسكري، ولكن هذه النسبة أخذت في النقصان بطريق التدريج، تبعًا لزيادة تَرَقِّي هذه الأمة المتوالي، حتى وصلت إلى أقل من ربع جزء في المائة (٠٫٢٤)، أي أقل من نفر واحد في كل أربعمائة نفر، أي ثلاثة أنفار في الألف. مع أن عددهم في فرنسا هو ١٢٣ في الألف.

وبهذه المناسبة أقول: إنهم حسبوا مقدار خطوة العسكري الألماني بنسبة غيره من جنود الدول الأخرى، فوجدوا أنه في الدقيقة الواحدة يقطع ٩١ مترًا و٢ سنتي، مع أن الروسي يقطع ٨٠ مترًا و٩٤ سنتي، والنمساوي يقطع ٨٥ مترًا و٥ سنتي، والفرنساوي والطلياني يقطع كل منهما ٩٠ مترًا. فانظر إلى هذا التقدم الألماني المادي أيضًا.

وقد اعتنت كل دول أوروبا بصحة الجنود، حتى نزل عدد الوفيات فيها نزولًا كليًّا. ولكن الفائزة عليهن كلهن في ذلك أيضًا إنما هي ألمانيا. وأكتفي بسرد الجدول الآتي عنها وعن فرنسا فقط لتظهر المقابلة:
عدد الوفيات في الألف
فرنسا من سنة ١٨٦٢ إلى سنة ١٨٦٩ ١٠٫١٠
من سنة ١٨٨٠ إلى سنة ١٨٨٤ ٨٫٤
من سنة ١٨٨٥ إلى سنة ١٨٨٩ ٦٫٣
ألمانيا من سنة ١٨٤٦ إلى سنة ١٨٦٣ ٩٫٦٩
من سنة ١٨٧٣ إلى سنة ١٨٧٧ ٥٫٧
من سنة ١٨٨٠ إلى سنة ١٨٨٩ ٣٫٠٠

وفي نظير ذلك بلغ عدد الذين ينتحرون من كل ٣٠ ألف جندي ألماني ١٩ جنديًّا، وأمثالهم بنسبة هذا العدد في فرنسا ١٠ جنود فقط، فانظر إلى تقدم الألمان حتى في الانتحار!

البحرية

بخارية حمولتها بالطن شراعية حمولتها بالطن
مجموع سفائن ألمانيا (سنة ٩٠٠) ١٢٠٩ ٢٨٥٩٩١٩ ٥٠١ ٤٩٠١١٤
مجموع سفائن فرنسا (سنة ٩٠٠) ٦٦٢ ١٠٥٢١٩٣ ٥٥٢ ٢٩٨٣٦٩
السفائن المستجدة بألمانيا سنة ٩٨ ٧١ ٢٢٠٩٣١ ٢١ ٦٩٦٧
السفائن المستجدة بفرنسا سنة ٩٨ ١٦ ٢١٧٣٢ ٣٩ ٤٨٢٠١
السفائن التجارية بألمانيا (سنة ٩٨) ٣٠٧١٣ حمولتها ١٦٣٩٥٥٢ طولانوطة
السفائن التجارية بفرنسا (سنة ٩٨) ١٥٦١٥ حمولتها ٤١٤٦٧٣ طونولاطة
وأكبر شركات الملاحة في الدنيا على الإطلاق شركة الخط بين هامبورج وأمريكا، ومقرّها في هامبورج بألمانيا، ثم تليها شركة ألمانيا الشمالية ومقرها في بريمن Bremen من أعمال ألمانيا، وتأتي بعدها شركة الملاحة البريطانية الهندية ومقرها في لوندرة، ثم شركة الپننسولار الشرقية (P. & O.) ومقرها بلوندرة أيضًا، ثم شركة إيلدر ودمستر وشركاهما ومقرها بليفر پول من أعمال إنكلترة، ثم شركة الميساچيري ماريتيم الفرنساوية ومقرها في پاريس.

وأكبر سفائن العالم الباخرة أوسيانيك لإنكلترا حمولتها ١٧٢٤٧ طونولاطة.

ثم الباخرة دوتشلاند لألمانيا ١٥٥٠٠.

ثم الباخرة پوتسدام لهولندة ١٢٥٢٢.

ثم الباخرة سان لويس لأمريكا ١١٦٢٩.

ثم الباخرة لالورّين لفرنسا ١١٢٠٠.

السكك الحديدية والتلغرافات والتلفون

مجموع طول السكة الحديد بألمانيا (سنة ٩٨) ٢٩٢٢٦ ميلًا.١٤
مجموع طول السكة الحديد بفرنسا (سنة ٩٨) ٢٦٠٣٨ ميلًا.١٥

والتلغرافات فيها بهذه النسبة.

إيراد السكك الحديد بألمانيا من الركاب والبضائع (سنة ٩٨) ٨٣٨٦٠٠٠٠ جنيه إنكليزي.

إيراد السكك الحديد بفرنسا من الركاب والبضائع (سنة ٩٨) ٥٥٩٦٠٠٠٠ جنيه إنكليزي.

ومن دلائل الترقِّي الهائل في ألمانيا اتِّساع نطاق التليفون بها: ففي سنة ١٨٩٤ كانت ٢٥٠ بلدًا من بلدانها مرتبطة ببعضها بأسلاك التلفون مع العاصمة الكبرى (برلين). وقد بلغ طول أحد الخطوط ١٠٠٠ كيلو وزيادة، وعدد مكاتب التلفون في هذه البلاد يزيد على ١٠٠٠٠٠ مكتب: منها في برلين وحدها ٢٣ ألف مشترك، أي بقدر عدد المشتركين في فرنسا كلها!

الثروة العمومية

أما ثروة الأمم الكبيرة في سنة ٩٣ فكانت كما يأتي:
الولايات المتحد بأمريكا ٣٢٥ مليارًا من الفرنكات
بريطانيا العظمى ٢٦٠ مليارًا من الفرنكات
فرنسا ٢٢٥ مليارًا من الفرنكات
ألمانيا ١٦١ مليارًا من الفرنكات
روسيا ١٢٧ مليارًا من الفرنكات
النمسا والمجر ٨٢ مليارًا من الفرنكات
أسبانيا ٦٣ مليارًا من الفرنكات
إيطاليا ٥٤ مليارًا من الفرنكات

وكان بِنَاءً على ذلك متوسطُ الضريبة التي يدفعها كل فرد في فرنسا ٩٠ فرنكًا في العام، وفي إنكلترة ٥٩، وفي ألمانيا ٥٧، وأقل الأمم روسيا (٢٩ فرنكًا). ولكل أهل النعيم في هذا الموضوع هم أهل إمارة موناكو في جنوب فرنسا، فإنهم لا يعرفونها ولا تعرفهم. وفي نظير ذلك فإن متوسط ثروة كل فرد من أهل فرنسا ٢١٨ فرنكًا وفي ألمانيا ١٠٢ من الفرنكات وفي روسيا ٣٠ فرنكًا فقط.

أما مصاريف الدخان في سنة ١٨٩٣ فكانت باعتبار ثمانية فرنكات و١٠ سنتيم عن كل واحد من أهل فرنسا، وفرنك واحد وربع فرنك عن كل إنسان في أرض ألمانيا.

الميزانية العمومية والديون الأهلية

إيرادات مصروفات
في فرنسا بالجنية الإنكليزي (سنة ٩٠٠) ١٨٣٧٠٩٣٨٢ ١٣٨٠١٨٨٦١
في ألمانيا بالجنيه الإنكليزي (سنة ٩٠٠) ٧٦٣٠٩٠٠٠ ٧٧٥٨٥٠٠٠

مجموع دين ألمانيا (سنة ٩٨): ١١٥٢٤٤٠٠٠ جنية إنكليزي، وفوائدها ٣٧٨٠٦٦٠ جنيهًا.

مجموع دين فرنسا (سنة ٩٩):١٦ ١١٩٧٩٣٣٢٥٢ جنيه إنكليزي، وفوائدها ٣٢٣٨١٢٦٩ جنيهًا.

التجارة بين ألمانيا وفرنسا

الصادر من ألمانيا إلى فرنسا (سنة ٩٩) ١٣٧٨٥٦٤٠ جنيه إنكليزي
الصادر من فرنسا إلى ألمانيا (سنة ٩٩) ١٧١٣٧١٦٠ جنيه إنكليزي

ومن الغريب أن فرنسا مع كونها بلاد النبيذ، فإنها تحتاج كثيرًا إلى البلاد الأخرى. والدليل على ذلك أن الوارد لها من هذا الصنف يزيد كثيرًا على الصادر منها.

الاستعمار

دخلت فرنسا في هذا الميدان منذ قرون طوال، بخلاف ألمانيا فإنها حديثة العهد به. ومع ذلك فانظر إلى الجدول الآتي:
المساحة السكان
المستعمرات الفرنساوية (سنة ٩٧) ٢٩٨١٩٠٠ كيلومتر مربع ٣٢٠٨٣٢٧٣
المستعمرات الألمانية (سنة ٩٩) ١٠٢١٥٧٥ ميلًا مربعًا ٩٨٠٠٠٠

العلم والصناعة بألمانيا

كان بها (سنة ١٨٩٥) ٢١ مدرسة كلية جامعة فيها ٢٤٣٠ أستاذًا ومدرسًا و٣١٥٥٦ من الطلبة الرسميين. والتعليم في هذه البلاد إلزامي وشائع شيوعًا لا نظير له عند أمة أخرى. وقد انفرد الإغريق (اليونان) بالعلوم الفلسفية في العصور الخالية، والعرب في القرون الوسطى، والألمان في هذا الزمان. ولا تزال هذه البلاد تتقدم في الصناعة تقدمًا أوجب الخوف والاضطراب في نفوس الأمم التي كانت تعلوها قبل ٢٠ سنة من الزمان.

وفي سنة ٩٥ كان ٣٦ في المائة من أهاليها يشتغلون بالزارعة، و٣٩ في المائة يعيشون من عملهم في المناجم والصنائع، و١١ في المائة من التجارة ونقل الأرزاق. وفي سنة ١٨٨٣ كان مسطح أرضها منقسمًا بهذه الكيفية: ٤٨٧ في المائة مخصص للفلاحة والزراعة، و٢٠٣ في المائة للكلأ والمراعي، و٢٥٧ تغطيه الغابات.

انتشار اللغة الألمانية

وإذا نظرت إلى الجدول الآتي علمت تقدُّم الألمان في نشر لغتهم، وزيادة عدد المتكلمين بها، وإن كانوا أقل من الإنكليز والروس بكثير:
القرن السابع عشر القرن الثامن عشر القرن التاسع عشر
اللغة الإنكليزية ٨ ملايين ٢٠ مليونًا ١٢٥ مليونًا
اللغة الروسية ١٧ مليونًا ٣١ مليونًا ١٠٠ مليون
اللغة الألمانية ٢٢ مليونًا ٢٩ مليونًا ٧٠ مليونًا
اللغة الفرنساوية ٢٠ مليونًا ٣٠ مليونًا ٥٠ مليونًا
اللغة الأسبانية ١٨ مليونًا ٢١ مليونًا ٤٥ مليونًا
اللغة الطليانية ١٢ مليونًا ١٥ مليونًا ٣٢ مليونًا

تنبيه:

هذه الإحصائيات منقولة كلها عن المصادر الفرنساوية والإنكليزية الوثيقة، وأخصها تقويم هاشيت لعام ١٩٠٠ (Almanach Hachette 1900) وكتاب العلم العام Le Tout Savoir Universel، وتقويم ويتكر الإنكليزي لسنة ١٩٠١ Whitaker’s Almanach 1900، وغيرها من الجرائد والمجلات. وقد عرف القرَّاء أنني لا أدري شيئًا من الألمانية، وحسبي هذا القول برهانًا على وجوب الثقة بهذه الأرقام، والاعتماد على هذا الإحصاء؛ فإن الفضل ما شهدت به الأعداء.

(١١-٣) خصوصيات على المعروضات الألمانية

تجارة الكتب

في ألمانيا شركة تسمى «شركة صناعة الكتاب الألمانية» قد احتكرت كافة الصنائع والأعمال التي تتعلق بظهور الكتاب. وكان تأسيسها في سنة ١٨٨٤، فتقدَّمت ونجحت حتى إنها امتلكت أرضًا فسيحة في «ليپسك» Leipzig بلغت قيمتها ٢٠٠٠٠٠ مارك.١٧ وأقامت فيها دارًا وصلت أكلافها إلى ما يزيد عن مليون ونصف مليون مارك. وقد اتَّسَع نطاق أعمالها في البلاد الأجنبية حتى وصل عدد أصحاب المطابع غير الألمانيين المشتركين فيها إلى ١٠٢، مع أن مجموع أعضائها هو ٥٢٠. وهذا يدلك على مقدار أهميتها في غير ألمانيا.
ولكي تعرف أيها القارئ الفطين رجْحَان ألمانيا على سائر أمم الدنيا في تجارة الكتب، أنقل ذلك الإحصاء الآتي نقلًا عن أصدق المصادر الفرنساوية، وهو إنما يدل على التجار الألمانيين فقط في سائر أنحاء المعمور:
ففي ألمانيا ١٣٥٢ مدينة فيها ٧٠٨٣ تاجر كتب
وفي أوستريا ٢٥٣ مدينة فيها ٨٢٢ تاجر كتب
وفي أوروبا بأسرها ٢٢٥ مدينة فيها ١٠٠٨ تجار كتب
وفي أمريكا كلها ٥٠ مدينة فيها ١٥٩ تاجر كتب
وفي أفريقيا المسكينة ٧ مدينة فقط فيها ١٢ تاجر كتب
وفي آسيا المسكينة ١٢ مدينة فقط فيها ٢٢ تاجر كتب
وفي أوستراليا ٦ مدن ٧ تجار كتب
وهاك جدولًا آخر ببيان الكتب التي طبعها التجار الألمانيون:
في سنة ١٨٩٤ طبعوا ٢٢٥٧٠ كتابًا
في سنة ١٧٩٥ طبعوا ٢٣٦٠٧ كتب
في سنة ١٨٩٦ طبعوا ٢٣٣٣٩ كتابًا
في سنة ١٨٩٧ طبعوا ٢٨٨٦١ كتابًا
في سنة ١٨٩٨ طبعوا ٢٨٧٣٩ كتابًا

وكل كتاب يطبعون منهُ عشرات ومئات آلاف من النسخ. وهذا بخلاف الكتب الخاصة بالتلحينات الموسيقية، فإنها لم تدخل في هذا الإحصاء:

بل لها جدول خاص بها، وها هو:
في سنة ١٨٩٤ طبعوا ١٠٨١٤ تأليفًا موسيقيًّا
في سنة ١٨٩٥ طبعوا ١٠٩٣٦ تأليفًا موسيقيًّا
في سنة ١٨٩٦ طبعوا ١٣١١١ تأليفًا موسيقيًّا
في سنة ١٨٩٧ طبعوا ١٢٢٧٤ تأليفًا موسيقيًّا
في سنة ١٨٩٨ طبعوا ١٢٥٩٦ تأليفًا موسيقيًّا
وقد بلغ عدد المشتغلين بالعمولة في نشر وترويج هذه الكتب من أهل ليپسك وحدها ١٥٨: يتعاملون مع ٨.٣٨٥ تاجرًا. ومن أهل برلين ٤٢ وكيلًا (قومسيونجيًّا): يتعاملون مع ٤٤٠ تاجرًا، ومن أهل ستتوتجارت Stuttgard ١٥ وكيلًا: يتعاملون مع ٦٦٦ تاجرًا.

وقد سارت جرائدهم أيضًا في طريق التقدم على هذه النسبة: فقد بلغ عدد المجلات الدورية والجرائد السياسية المطبوعة والمنشورة في ألمانيا ٧٥٠٠ مجلة في آخر سنة ١٨٩٨، ومنها جريدة «الفرانكفورتر چورنال»، كان أول ظهورها في سنة ١٦١٥، وجريدة «مجدبورج زيتونغ» في سنة ١٦٢٦، وجريدة «لي پسكرزيتونغ» في سنة ١٦٦٠.

وإليك جدولًا آخر ببيان المطبوعات من الكتب العادية والتلحينات الموسيقية في كل عام بالممالك الكبيرة؛ ليظهر الفرق العظيم في جانب ألمانيا:
فرنسا ١١٠٠٠ كتاب
إيطاليا ٩٠٠٠ كتاب
بريطانيا العظمى ٦٠٠٠ كتاب
الولايات المتحدة ٥٠٠٠ كتاب

ومما امتازت به الطباعة الألمانية أنها احتكرت تقريبًا الكتب الشرقية. ونحن أعرف الناس بأن هؤلاء القوم ينقّرون عن آثار أسلافنا التي لا نكاد حتى إلى الآن نسمع بها، أو نتصوّر وجودها. وهم يطبعونها ويستفيدون منها مالًا وعلمًا وفضلًا. وأما نحن … نحن أبناءَ العرب الكرام، وسلالة الشرقيين الأماجد، فقد قنعنا بالافتخار بالعظم الرميم، وأصبحنا في هذا الأمر الخاصّ بنا، عالةً عليهم؛ نستقي من بحرهم، ونتناول من فضلاتهم. نعم، فقد طبع الألمان أهم كتب أئمتنا في التاريخ والجغرافية والأدب وسائر العلوم، ثم تجيء بعض مطابعنا فتسرق عنهم ولا تخجل من عدم نسبة الفضل إليهم في هذا الباب. ويا ليت أصحاب المطابع في مصر يعادلونهم في صحة الطبع ودقة التصحيح، وتقريب التناول وتسهيل المأخذ! بل إن الكتاب المطبوع أولًا في ألمانيا ثم في مصر بعد عشرات من السنين، لا يزال يساوي في القيمة (حسًّا ومعنى) عشرة أمثال تلك الهذيانات التي يطبعونها في مصر، (انظر كتاب تاريخ ابن الأثير، ونفح الطيب، وكتاب الكامل للمبرد، وسيرة صلاح الدين، والفخري، وكشف الظنون، وفصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال لابن رشد، وكتاب الحيوان والإنسان من رسائل إخوان الصفا، وغيرها وغيرها، تجد الفرق عظيمًا يوجب لهم الفخار، ويقضي علينا بالعار!)

وإليك أسماء كتب عربية نفيسة طبعوها ونحن لا نعلم ولا ندري:
  • الآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني.

  • عجائب المخلوقات للقزويني.

  • تاريخ الطبري الكبير (تاريخ الأمم والملوك).

  • أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم وهو المعروف بجغرافية المقدسي.

  • الأحكام السلطانية للماوردي.

  • الأخبار الطوال للدينوري.

  • أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر (ببلاد الأندلس).

  • الاعتبار لابن منقذ.

  • رحلة ابن جبير.

  • البيان والإعراب عمَّا بأرض مصر من الأعراب للمقريزي أيضًا

  • منتخبات للمقريزي.

  • أنساب الأشراف وأخبارهم للبلاذري.

  • كتاب البلدان لليعقوبي.

  • تاريخ الأصفهاني.

  • تاريخ اليعقوبي.

  • تواريخ مكة: للأزرقي والفاكهي وابن الفاسي وابن ظهيرة وابن النهرواني (ونحن أحق بها!)

  • كتاب الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري.

  • صفة جزيرة العرب لابن الحائك.

  • فتوح البلدان للبلاذري.

  • أثولوجيا أرسطاطاليس في الفلسفة.

  • اختصار رسائل إخوان الصفاء.

  • الإلمام بأخبار من بأرض الحبش من ملوك الإسلام للمقريزي.

  • تاريخ الوزراء السلجوقيين للأصفهاني.

  • شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون في تاريخ الأندلس.

  • عجائب الهند.

  • الفتح القسي في الفتح القدسي للعماد.

  • الفهرست للوراق.

  • تجارب الأمم لابن مسكويه.

  • أخبار المغرب لابن عذاري المراكشي.

  • مراصد الاطلاع.

  • مسالك الممالك للإصطخرى.

  • المسالك والممالك لابن خرداذبة.

  • معجم البلدان لياقوت الحموي.

  • المشترك لياقوت الحموي.

  • التنبيه والإشراف للمسعودي.

  • المعارف لابن قتيبة.

  • تلخيص أخبار المغرب للمراكشي.

  • أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.

  • مختصر كتاب البلدان لابن الفقيه.

  • المكتبة الصقلية: وفيها منتخبات من ٨٥ كتابًا عربيًّا على جزيرة صقلية Sicile.
  • النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة للمحقق المصري تغري بردي.

  • جغرافية الإدريسي (صفة جزيرة العرب والأندلس ومصر والسودان والمغرب).

  • رسالة حي بن يقظان.١٨
  • كتاب الأمانات والاعتقادات.

  • أسرار العربية للأنباري.

  • الأضداد للأنباري.

  • شرح مفصل الزمخشري لابن يعيش.

  • تهذيب الأسماء في اللغة للإمام يحيى النووي.

  • فصيح ثعلب (كان أول طبعه في ليبسك سنة ١٨٧٦).

  • لب اللباب في تحرير الأنساب للسيوطي.

  • معجم ما استعجم للبكري (طبعه رجل من علمائهم بخطه في مطبعة حجر، وليس فيه غلطة واحدة من حيث الشكل والضبط والدقة).

  • الحادي والعشرين من الأغاني.

  • ديوان علقمة الفحل.

  • ديوان صريع الغواني.

  • أشعار الهذليين.

  • طبقات الشعراء لابن قتيبة.

  • الموشى في الأدب.

  • المفضليات في المختار من أشعار العرب.

هذا قليل من كثير من الكتب التي طبعت في ألمانيا وحدها، ولا حاجة لنا في هذا المقام بالإشارة إلى الجمّ الغفير من المصنَّفات العربية النفيسة النادرة التي طبعت في پاريس وإيطاليا ولوندره وغيرها.

وإذا التمسنا عذرًا لإقدام الألمان وغيرهم من أهل أوروبا على طبع هذه المؤلفات المفيدة؛ لتعلُّقها بالجغرافية والتاريخ والفنون المتنوعة بل وبلغتنا وآدابها، وقلنا: إن حالة تقدمهم هي التي ساقتهم إلى ذلك، وتأسَّيْنا عن تأخُّرنا عنهم في هذا الميدان بمثل هذا الكلام، فكيف نغتفر لأنفسنا سبقهم لنا في أخص الدعائم التي يقوم عليها ديننا؟

نعم، قد طبع الألمانيون التوراة والإنجيل باللغة العربية في بلادهم. وربما كان لهم شبه حق في السبق إلى ذلك، لعلاقة العهد العتيق والعهد الجديد بدينهم. ولكننا نراهم أيضًا طبعوا التوراة السامرية، ولنا أن نقول: إن لها علاقة بدينهم وبتاريخ دينهم وبالخلافيات في مذاهبهم.

ولكن … ما قول سادات المشرق الأعلام، وجهابذة علماء الإسلام، الذين لا صفة لهم في الوجود إلا بخدمة الدين الحنيف، وإعلاء كلمة الإيمان الشريف؟ ألا يخجلون أمام أنفسهم، وأمام وسيلة ارتزاقهم وسبب جاههم، وأمام نبيِّهم وإلههم، إذا قلت لهم: إن هؤلاء الألمان قد طبعوا تفسير القاضي البيضاوي في ليپسك سنة ١٨٤٦ ميلادية، وأردفوه بفهرست جامع لبيان ما فيه من اللغات والاصطلاحات، وأسماء الرجال والنساء والأماكن، وبيان الملل والنحل والشواهد. فجاءت طبعتهم أكثر فائدة وأسهل تناولًا وأيسر استخدامًا بما لا يقدر.

أما دار الخلافة ومقر السلطنة الإسلامية الكبرى، فقد بقيت متأخِّرةً عنهم بنحو ٢٢ سنة، ولم تطبع هذا الكتاب النفيس إلا في سنة ١٢٨٥، وجاءت نسختها قاصرة عن نسخة الألمان، مع أنها كانت أحق بالزيادة في العناية والإتقان؛ لمجيئها متأخِّرة، ولظهورها في عاصمة عواصم الإسلام.

بل ما قول سادات المشرق وجهابذة علماء الإسلام الذين لا صفة لهم في الوجود إلا بخدمة الدين الحنيف، وإعلاء كلمة الإيمان الشريف؟ ألا يخجلون أمام أنفسهم، وأمام وسيلة ارتزاقهم وسبب جاههم، وأمام نبيهم وإلههم، إذا قلت لهم: إن هؤلاء الألمان قد طبعوا صحيح البخاري سنة ١٨٦٢ ميلادية، أي منذ ٣٨ سنة شمسية، مع أن القاهرة لم تطبعه على الحجر إلا في سنة ١٢٧٩، وبولاق لم تطبعه بالحروف إلا في سنة ١٢٨٠، أي منذ ٣٩ سنة هلالية، فكأنهم باشروا طبعه معنا أو بعدنا بقليل، والفرق بين الطبعتين يشهد لهم بالفضل ويعود عليهم وحدهم بالفخار؟

بل ما قول سادات المشرق الأعلام، وجهابذة علماء الإسلام، الذين لا صفة لهم في الوجود، إلا بخدمة الدين الحنيف، وإعلاء كلمة الإيمان الشريف؟ ألا يخجلون أمام أنفسهم، وأمام وسيلة ارتزاقهم وسبب جاههم، وأمام نبيِّهم وإلههم، إذا قلت لهم: إن هؤلاء الألمان قد طبعوا كتاب الله الكريم طبعًا مُتقنًا جميلًا جدًّا، وإنهم استنفدوا فيما بينهم جميع نسخ الطبعة الأولى، فاضطروا أمام تيار تقدمهم واندفاعهم المستمر في طريق العلم إلى طبعه مرة ثانية ثم ثالثة ورابعة١٩ بلغوا فيها النهاية والإتقان. ونحن قد روينا عن أشياخنا عن صاحب ديننا: «إن الله يحب من عبده إذا عمل عملًا أن يتقنه.»

يحزنني وايم الله أن أقابل بين جمال النسخ المطبوعة عندهم بما ظهر في بلادنا؟ لعل ساداتنا العلماء الأعلام وحماة دين الإسلام يجيبون بأن الله قضى على هذا الدين بأن يكون رفع شأنه وإعلاء كلمته، على يد أعاجم الغرب في هذا الزمان، كما قضى بذلك لأعاجم الشرق في صدر الإسلام.

فيا ضيعتاه! ويا ضيعتاه!!!

الفوتوغرافيا في ألمانيا

شاع التصوير الشمسي اليوم بين كل الطبقات شيوعًا لا نظير له في أي أمر آخر من أعمال الناس، ولذلك تقدم هذا الفن وسهل تناوله على كل إنسان، فتراه في يد الصانع المنقطع له والعالم الذي يتعمق في البحث والتحقيق والغاوي والرائح والغادي. وبناءً على ذلك تألفت مصانع خصوصية لكل ما يتعلق بالفوتوغرافيا في جميع أنحاء العالم. ولكن الفائزة على الجميع في هذا السبيل هي أيضًا مصانع ألمانيا، فإنها تصنع وتصدر عددًا يخرج عن حد المعقول من الجهازات والآلات والأدوات والمتحصلات الكيماوية. وامتازت الجرائد الألمانية المصورة على أمثالها في سائر أنحاء المعمور، بالاستفادة من المحسِّنات العصرية في هذا الموضوع، وأخصها ما جادت به قرائح الأمريكيين. وبالنظر لتقدم الكيميا الألمانية تقدمًا باهرًا، قد ارتقى هذا الفن عندهم بما لا تضارعهم فيه أمة أخرى، خصوصًا فيما يتعلق باصطناع الورق الفوتوغرافي، حتى أصبحوا كلهم عالة عليهم يؤدون لها الإتاوة عنه، فهكذا يكون الارتقاء.

الصناعة الزراعية في ألمانيا

بلغ عدد العارضين من أهل الصنائع الزراعية في ألمانيا ثلاثمائة وخمسين نفسًا، منهم نحو الثلث (١٠٠) عرضوا كل ما يتعلق بالتعليم الزِّراعي، ووسائل الاستغلال الزراعي، وعلم الزراعة، وإنشاء دُور التجارب والامتحان فيما يعود بزيادة المحصولات وتعدُّدِها وتنوُّعها. ومما شهد به الزائرون لهذا القسم: اجتهاد الألمان، وصرف عنايتهم الكبرى؛ لتحسين آلات الزراعة وأدواتها والوسائط التي يستغلُّون بها كل ما يمكن للأرض أن تُدِرَّه على المشتغلين العاملين من صنوف الخير ومصادر البركة: بشرط أن لا يتناولها الضعف وأن تعود لها قوتُها، وترجع إليها عناصرها الأساسية كأحسن ما كانت.

ويظهر من معروضاتهم أنهم يتوصَّلُون دائمًا للحصول على الثمرات والمحصولات السليمة الخالية من المفاعيل الكيماوية؛ لأنهم يعملون في كل أحوالهم طبقًا للأحكام التي يقرِّرُها أساتذة مدرسة الطب العليا، فيما يتعلق بتنظيف الجهازات والآلات على اختلاف أنواعها.

وأهم صناعة زراعية عندهم هي عمل السكر الذي يستخرجونه من البنجر فقط. ومن المعلوم أن علماء الكيمياء بفرنسا هم الذين اكتشفوا منذ قرون تقريبًا كيفية استخراج السكر من هذا النبات، وكأني بهم (مثل پاستور بعدهم) إنما أرادوا أن يخدموا الألمان!!! فإنهم صاروا يجاورونهم ويزاحمونهم في صناعة السكر، حتى كادوا يفوقونهم في ذلك؛ لأن كافة علماء الزراعة بألمانيا يهتمون اهتمامًا زائدًا بهذا النوع من الزراعة؛ فتحسّنت تحسنًا عظيمًا جدًّا، كما تدل علية الأوراق والإحصائيات التي عرضوها في رواق الآلات، وفي قصور شان دومارس. والدليل على ذلك أنهم توصلوا لاستخراج السكر من البنجر بمقدار ١٤ بل ١٨ في المائة بل ١٩ في الأعوام التي يجود فيها المحصول، ويكون الموسم طبق المرام.

وأهم معامل السكّر وأكبرها عندهم هي التي امتازت بها مملكة سكسونيا، ففيها أكثر من ٤٠٠ فابريقة بلغ مقدار ما عصرته في سنة ١٨٩٨ من البنجر ١٣ مليون طونولاطة، وذلك هو محصول ٤٣٧٠٠٠ هيكتار من الأرض فبلغ مقدار ما استخرجته من السكّر المختلف الأنواع ١٨٥٤٤٠٠ طونولاطة.

وعدد العمال في هذه الفابريقات يبلغ ٩٥٠٠٠ ذكورًا وإناثًا، وجهازاتها وآلاتها من أحدث الاختراعات وأكملها إتقانًا.

ولذلك فلا غرابة في كون الصادر من سكر ألمانيا إلى الخارج تبلغ قيمته ٢٠٠٠٠٠٠٠٠ من الماركات. بل أن تُصدر أيضًا إلى البلاد الأخرى عددًا عظيمًا من الآلات والمرشحات والمعاصر اللازمة لاستخراج السكر من البنجر.

وأغلب الفابريقات تصنع السكر «الخام»، ثم تتولاه معامل التكرير الخصوصية فتصفيه وتنقيه، ثم تسلِّمه للتجار.

وبعد صناعة السكر في الأهمية ببلاد ألمانيا تجيء صناعة الأرواح الكحولية (الكؤلات)، وهم يتحصلون عليها من المواد الزراعية فقط، ولا يلتجؤون مثل بعض الأمم الأخرى للحصول عليها بوسائل التقطير الصناعية. وتبلغ كميّتها في العام الواحد ٣٢٨٧٠٠٠ هيكتولتر، منها: ٢٢٥٨٠٠٠ يستهلكونها في نفس ألمانيا للقيام بالاحتياجات الأهلية العادية، و٨٨٩٠٠٠ للوازم الصناعة فيها، والباقي وقدره ٣٢٠٠ هيكتولتر يُصدِّرونه في تجارتهم مع الأمم الأخرى.

وبعد هاتين الصناعتين، تجيء صناعة تجفيف «رغاوي» البيرة٢٠ وقيمتها في السنة الواحدة ٣٠ مليونًا من الماركات، ثم صناعة النشا (٦٠ مليونًا من الماركات)، ثم تحضير الجعة أي البيرة (٣٨٥ مليونًا من الماركات)، ثم إن الفضلات والثفالات الزراعية المرتَجَعة من هاتيك الصناعات يستفيدون منها مبلغًا لا يقل في العام الواحد عن ٩٣ مليونًا من الماركات!!!

وليس في الأرض إنسان يجهل أهمية البيرة الألمانية وعموم انتشارها، كيف لا وهنالك ٨٠١ معمل لاصطناع الشعير الخاص بها وحشيشة الدينار اللازمة لها و١٢٠٠٠ معمل لاصطناع هذه الجعة المشهورة فيها أكثر من ١٠٠٠٠٠ عامل. وقد بلغ محصول البيرة في ألمانيا في سنة ١٨٩٧ أكثر من ٧٠ مليون هيكتولتر.

الكيمياء الألمانية

أكثر الفرنسانيون من تعيير الذين قالوا: إن معرضهم العام سيكون عنوان الفخار لصنائع الألمان، واكتفوا بالتعيير والتشهير والتحقير، وغفلوا عن المباراة والمجاراة والمنافسة والمناظرة. حتى إذا فتح المعرض أبوابه للناس جاء الحكم منطبقًا ومترتبًا على القياس. ولكن كان أهل العقول الراجحة منهم أوَّلُ المعترفين بهذه الحقيقة، ولذلك جاهروا بين قومهم بأن المعرض الصناعي الألماني هو أعجوبة الأعاجيب. نعم، فقد أجهد الألمان أنفسهم، وتوسَّعوا في صرف وقتهم ومالهم، واشتركوا فيه عن بَكرة أبيهم من الإمبراطور حتى أحقر العمال. ولذلك فازوا بالقدح المعلّى في كل ميدان، ونالوا قصب السبق في كل رهان: خصوصًا فيما يتعلق بالكيمياء والكهرباء.

ولقد شهد الناس قاطبة بأن قسم الكيمياء الألماني كان من أعجب عجائب المعرض العام، وعاد الذين شاهدوه من العوام حيارى مُنذهلين.

أما العلماء والعارفون من أبناء فرنسا فقد أقروا بهزيمتهم الأدبية أمام هذا الاجتهاد الفائق، ولا شك أنهم يداخلهم (رغمًا عنهم) الإعجاب بهؤلاء القوم مع الخجل أمامهم والغيرة منهم، خصوصًا إذا تذكَّروا أن الذي اخترع الكيمياء الحديثة هو أحد أجدادهم الأمجاد، وأعني به لاڤوازييه Lavoisier٢١ وأن هذا العلم الجليل النافع ارتقى إلى هذه المكانة العالية بفضل الأغيار والأضداد، كما حصل في استخراج السكر من البنجر!
هذا القسم الألماني كائن في وسط البهو المخصص لما عرضته الأمم كلها من صنائعها الكيماوية. ومعروضات أصحابنا مرصوفة في ٢٨ صندوقًا من الزجاج، كلها تشاكل بعضها في حسن الذوق، وجمال الصناعة، وفي وسطها هرم كبير من الملح (تذكر الضخامة!) وهي تنقسم إلى ثمانية فروع:
  • الفرع الأول: للصناعات الكيماوية الكبرى، وأهم ما فيه الطرائق المستعملة في اصطناع أملاح البوتاسا، التي اشتهرت بها ألمانيا وكادت تكون المحتكرة لها في العالم كله؛ فقد بلغت قيمة ما تصدِّره من هذا الصنف إلى الخارج في كل عام نحو ٢٠٠٠٠٠٠٠ من الفرنكات. ومما كان يستوقف الأنظار في هذا الفرع أيضًا ذلك السائل الأصفر الذي تذوب فيه المعادن كلها (ما عدا الحديد ففيه بأس شديد!) كما يذوب السكر في الماء: أعني به الكلور السائل الذي يتحصّلون عليه بالطرق الكهربائية؛ وذلك بتحليل الملح البحري المعبر عنه في اصطلاح أهل الكيمياء بكلورود الصوديوم، فترسب الصودا في قاع الأواني ويعلوها الكلور في حالة غازية، وحينئذٍ فليس أسهل من تحويله بعد ذلك إلى حالة السيولة. وفي هذا الفرع أيضًا رواميز كثيرة لمعادن متنوعة، تمتاز بما وصلت إليه من نهايات الصفاء والنقاء، وتشهد للألمان بحسن الأسلوب الذي ابتدعوه؛ لأجل تمام الانتفاع بدرجات الحرارة العالية في صهر المعادن وتنظيفها. وبيان ذلك: أنهم يسخّنون أحد الأكاسيد المعدنية المعروفة بجانب المعدن الجديد المشهور باسم الألومنيوم، فتحدث في داخل البوتقة حرارة فائقة الحدّ بحيث لا يقاومها شيء من المواد. وبهذه الطريقة يتحصّل القوم بكل سهولة على تنظيف المعادن من كل شائبة، وعلى لحامها ببعضها أيضًا، مهما كانت درجة تنافرها!

    ومما امتاز به هذا القسم أيضًا صناعة الحامض الكبريتيك. ولكي يفهم القارئون مقدار أهمية هذا الحامض يلزمنا أن نأتي لهم بشرح قليل: فقد أجمع العلماء، وتطابق أهل الرأي والمعرفة على أن درجة تقدم الأمم وارتقائها في سلم الحضارة والعمران تقاس بمقدار ما تنتجه مصانعها من الحامض الكبريتيك؛ ولذلك وجب علينا أن نظهر مقدار التحسين الجسيم والتسهيل العظيم اللذين فاق بهما الألمان أمم هذا الزمان، مع الإشارة إلى ما كان لأجدادنا العرب الكرام من سابق الفضل في هذا المقام. فإن أول من اكتشف هذا السائل النافع هو أبو بكر الرازي: فكان أعجوبة عند أهل الكيمياء، وطُرفة يتحدثون بها في زمانهم. فلما ارتقى هذا العلم إلى الدرجة التي وصل إليها الآن، صار هذا السائل العجيب من ألزم لوازم الحياة والعمران؛ لأنه أصبح الأصل الفعّال في كثير من الصناعات. لذلك عُنِي القوم بالاجتهاد في تيسير الحصول عليه، حتى نزل ثمن الكيلو منه — بفضل أولئك الألمان — إلى ملليمين اثنين فقط (أي أقل من نصف قرش صاغ) بعد أن كان ثمنه إلى عهد قريب لا يقل عن جنيه وربع، فتأمل! بل إن الطرق الألمانية ستسمح بتقليل ثمنه عن ذلك أيضًا. فهل بقي مجال للقول بتقدُّم الألمان؟

  • أما الفرع الثاني: فيشتمل على المتحصّلات الكيماوية. وفي هذا المقام تشهد الأمم كلها بالسبق أيضًا لأولئك الألمان. فقد قاموا في هذه المصنوعات من أدناها إلى أرقاها: من القلويات، إلى الأنتيپرين، إلى السَّكَّرين، لغاية ذلك المصل العجيب Serum المنسوب إلى بهرنغ وكوخ (من أكبر علمائهم، ومن أكبر علماء العالم في هذا الزمان)، بل لغاية تلك المواد العجيبة التي تستعمل بواسطة أشعة رنتجن في تصوير بواطن الأجسام، واختراق ما وراء الحجاب.
  • أما الفرع الثالث: فقد عرضوا فيه محصولات الصناعة الكيماوية الصغرى: فيه رواميز من لوازم التصوير الشمسي، ومن الأتربة النادرة التي تتولَّد بها الحرارة البالغة منتهى الدرجات.
  • والفرع الرابع: فيه الألوان والأصباغ المعدنية، والمواد الهلامية التي يستخرجونها من العظام مثل الجلاتين والغراء.

    ماذا يقال عن هؤلاء الألمان الذين توصَّلوا لاختراع عظلم صناعي (نيلة صناعية)، وألَّفوا للاتجار بهذه النّيلة شركة كبيرة من أغنيائهم، جعلت أسواق النيلة النباتية الواردة من الهند في اضطراب وارتباك، وأنزلت على أسعارها النزول الذي لا يلبث أن يتلوه الانحلال، فيزول هذا الصنف من النبات، كما دخلت الفوة من قبله في خبر كان.

    ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن الفرنساوية والإنكليزية كانوا السابقين إلى استخراج الألوان والأصباغ من الفحم الحجري، ولكن هذه الصناعة قد تلاشت عندهما، بل هجرت ديارهما، واستوطنت ألمانيا حيث رسخت قواعدها وعلا بنيانها، وتأصّلت عروقها؛ فزهت وأزهرت وأثمرت، وجنى منها أبناء الألمان الخير العميم، لقاء اجتهادهم المتواصل في كل ما يعود على بلادهم بالرفاهة والسعادة. لذلك كثرت عندهم معامل الإنيلين، وأهمها (معمل الإنيلين والصودا) في مدينة بادن، فإن عدد العمال فيه لا يقل عن ٦٥٠٠ يدير أمورهم ١٥٠ عالمًا كيماويًّا حائزًا لشهادة الدكتورية، فتأمل!

    وليس يسمح لنا المقام بتعداد النتائج التي حصل عليها الألمان بواسطة علم الكيمياء. ولكن لا بد لنا من الإشارة إلى أنهم أصبحوا يستحضرون الروائح والأعطار الزكية بطرق صناعية جعلتنا جميعًا في غِنًى عن المحصول القليل من الأزهار الطبيعية، وليس لهم من مناظر في هذا المجال؛ فهم السابقون فيه أيضًا بلا جدال! وراوميزها معروضة في الفرع السابع.

  • أما الفرع الثامن: فقد كان فيه عجيبة ولا كالعجائب: عجيبة تستوقف الأبصار وتحار فيها الأفكار، وأعني بها تلك الآلة الحديثة التي اخترعها أحد علمائهم، وهو الدكتور لينده Linde لصناعة الهواء السائل. وسيكون لهذا الاكتشاف شأن عظيم في مستقل الصناعة ومقتبل الأيام.

    فإن العلماء حينما توصَّلُوا لجعل الغازات سائلة كان الناس يظنون أن لا فائدة تُرْتَجى من وراء هذا الاكتشاف، سوى ترويح النفوس في المعامل بعد المتاعب اليومية. ولكن ما لبث أهل الجدِّ والاجتهاد في أوروبا حتى عرفوا بهذه الواسطة المواد التي تتركب منها الغازات، فاستخدموها في الصناعات بما عاد على التجارة بالنفع الجسيم، على ما هو مشاهد الآن. ونكتفي في التمثيل لذلك بما أشرنا إليه من سيولة الكلور، وهنالك غازات أخرى أسالوها وفائدتها معلومة عند أهل الفنِّ وأرباب الاطِّلاع.

أظن القارئ الكريم يوافقني بعد هذا البيان على ما قررته من تقدم أولئك الألمان، وبراعتهم في كل ميدان، وأنهم استفادوا من هذا المعرض العام أكثر من سائر الأنام. ولكن لا تسمح لي نفسي بختام هذا الفصل الطويل، بعدما شحنته بالشواهد والأرقام والتفاصيل، قبل أن أستميحه الإذن الشريف، في التنويه بأمر يستحق التعريف:

فمن أعجب العجائب أنني لمَّا زرت القسم الخاص بالعلوم والمعارف في المعرض العام، رأيت لألمانيا أيضًا اليد الطولى، والكعب الأعلى، وما لَكَ ولحكمي؟ بل اسمع ما حكم به ثقاة الفرنساويين أنفسهم في هذا الباب! وأنت تعلم أن «الفضل ما شهدت به الأعداء»، خصوصًا إذا كان الخصم هو الحكم، كما هو الشأن في هذه الحال. ولست أريد أن أذكر لك إلا أمرًا واحدًا يهمنا جميعًا: وهو تعلم اللغات الحية، أي التي لا تزال مستعمَلة بين الناس، لا التي أبادها الحدثان بانقراض أهلها الأقدمين من صحيفة الوجود. وذلك لأن اللغات الحية هي أسّ التواصل وواسطة الرواج الآن في التجارات والمعاملات. فاعلم — وفقك الله — أن نظارة المعارف الفرنساوية انتدبت لجنة من أكابر الأساتذة القائمين لديها بالتعليم الثانوي؛ لتنظر في البيانات والمعروضات التي قدمتها الأمم كلها في هذا المعرض العام، دلالة على درجتها في التربية وتثقيف الأذهان. فجاء في تقرير الأستاذ الفرنساوي المكلَّف بالبحث فيما يتعلق بتعليم اللغات الحية (ومن جملتها العربية وإن كان أهلها …) ما ترجمتُه بالحرف الواحد: «إن ألمانيا فاقت الأمم طرًّا في حسن التعليم بطريقة عملية توصل الطالب إلى المرام، في أقرب وقت ومن أيسر طريق»!!!

هذا، وقد برعت ألمانيا أيضًا، في القصر الذي أعدَّتْه إدارة المعرض العام للهندسة الملكية ووسائط الانتقال، بما قدمته من نموذجات القناطر و«الأهوسة» والتُّرَع والخلجان والسفن … ونحو ذلك، فقد رأيت هنالك آلة لرفع مياه المصارف والمجارير، تطردها بقوة هائلة إلى مكان سحيق؛ لكي تعالج هنالك بعيدًا عن المساكن والسكان، بما يعيدها صالحة للزراعة وري المحصولات، ورأيت سفائن مخصوصة لكسر ركائم الثلوج التي تصادفها أثناء سيرها في منجمد البحار، ورأيت أصناف النباتات التي يستعملونها في تثبيت تلال الرمال، حتى لا تنهال على أرض المزارع ومجاري المياه، ورأيت مثالًا لقطار بخاري مخصّص لارتقاء الجبال التي تكاد تكون قائمة عمودية. وهذا القطار التمثيلي الصغير يتحرَّك فيصعد في ثنايا الجبال وتضاعيفها، ثم ينزل عنها كما صعد «بامان وطمان»، مع أنه في الحالتين يوجب الدهشة في الأفكار والاقشعرار في الأبدان. فسبحان من سخَّر البخار والكهرباء لأهل هذا الزمان!

يجدر بنا الآن أن نحبس اليراع بعد أن أكثر الجوَلَان بين معروضات الألمان، راخيًا العنان للإعجاب والاستحسان، وحسبنا أن نقول: إن مشاهدتنا هي عشر معشار ما اعترف لهم به الأغيار قبل الأنصار، وعسى أن يكون لأقوالنا صدًى أو بعض صدًى في هذه الديار، فتعود على أهلينا بالنفع والفخار، إن شاء الله!

١  وقد ترجمها حضرة يوسف بك آصاف إلى اللغة العربية.
٢  البقرة: ١٤.
٣  أقل مديريات القطر المصري سكانًا إقليم بني سويف (٣١٤٤٥٤) ثم الفيوم (٢٧١٠٠٦) ثم القليوبية (٢٧١٤٦٥)، وهي المديرية الخصيبة الكائنة على أبواب القاهرة، وعدد السكان فيها يعادل ضعفهم في أوستراليا الغربية، ويزيد مع ذلك فلا يتجاوز إيرادها في العام ٢٦٨٠٠٠ جنيه مصري (انظر ميزانية سنة ١٩٠٠). وأما أوستراليا الغربية فلا يقل إيرادها عن مليونين من الجنيهات الإنكليزية. فتأمل.
٤  الكوتشُج كما يسميه المسلمون في السنكال حيث استفدت ذلك منهم في معرضهم.
٥  ولا تقل بروكسل، وإن كانت تكتب في الإفرنجية هكذا (Bruxelles) فإن أهلها يهملون النطق بالكاف فاحفظ ذلك وتنبه إليه، وهي عاصمة بلجيكا.
٦  سنصدر هذه الصورة المريعة البديعة في الرسالة القادمة (الإدارة).
٧  سورة الأنفال: من الآية: ٦٠.
٨  رأيت في معروضات فنلنده — التي سيأتي الكلام عليها — أحزمة من الصوف تخيلتها آتية من المحلة الكبرى، ولكنها قد ضلت محلها في معرض مصر!!! فاستقرت بجوسق هذه البلاد القريبة من المنطقة الجامدة … فرارًا من الحرّ وتبديلًا للهواء.
٩  الرانة (Le renne) حيوان خاص بالمنطقة الشمالية بمقدار البعير يستخدمونه في الجليد والزمهرير كما يستخدم الأعراب الجمل في الهجير والسعير.
١٠  أي بعد الانقلاب الصيفي بثلاثة أيام، فإن يوم ٢١ يونيو هو أطول أيام السنة.
١١  فقد بلغ عددهم ٢٠٠ نفس في تياترو الهند الصينية وحده.
١٢  الكوب لفظ عربي معروف، ومن الغريب أن مقلوبه (بوك = Bock) هو اللفظ الإفرنكي المستعمل بنوع خصوصي للدلالة على الكأس الذي يشربون فيه الجعة.
١٣  جمع سِرَار بكسر ففتح، وهو خطوط الكفّ والجبهة، والخطوط في كل شيء، يقال: شرقت أسرّة وجهه. ا.ﻫ.
١٤  تسعة أعشارها للحكومة، وبلغ مجموع أكلافها ٢٠٢٨٠ عن كل ميل، ومصاريفها (سنة ٨٩) ٤٧٥٨٢٠٠٠ جنيه إنكليزي، وعدد عمالها ١٦٨٠٠٠ نفس.
١٥  أغلبها لشركات مالية والقليل الطفيف للحكومة، وبلغ مجموع الركاب فيها (سنة ٩٨) ٤١٠٠٠٠٠٠٠ نفس.
١٦  لاتدانيها أية أمة أخرى في كثرة الديون الباهظة التي عليها.
١٧  المارك يساوي خمسة قروش صاغ تقريبًا.
١٨  طبعت في مطبعتي وادي النيل والوطن بمصر منذ ١٨ سنة، ثم طبعت في ليدن منذ ١١ سنة، لكن نحن في الثرى وهم في الثُّريّا كما هو شأنهم وشأننا حتى في الكتب التي سبقوا فطبعوها ثم تطفَّلنا عليهم فيها.
١٩  ولا بأس من زيادة البيان في هذا المقام، فإن الألمانيين طبعوا المصحف الشريف سنة ١٦٩٤ ثم في ليپسك في سنة ١٨٣٤، ثم فيها في سنة ١٨٣٧، ثم فيها في سنة ١٨٣٧، ثم فيها في سنة ١٨٤١، ثم فيها أيضًا في سنة ١٨٥٣. وقد سبق بعض علماء أوروبا فطبعوه أيضًا في غير ألمانيا في سنة ١٥٣٠ وفي سنة ١٥٤٣ وفي سنة ١٦٩٨، أي أن أول طبعه في بلاد أوروبا كان منذ ٣٧٠ سنة شمسية. أما بلاد المشرق فكان السابق فيها إلى طبعه أعجام شيراز، ولكن في سنة ١٢٧٠ هجرية، ثم أهل الهند في سنة ١٢٨٣. أما بولاق فجاءت على أثرهم في سنة ١٢٨٩ أي منذ ١٩ سنة هلالية فقط، وكانت أول طبعة له بالمشرق قد ظهرت منذ ٤٨ أي نصف قرن إلا قليلًا، مع أن أوروبا بدأت بطبعه منذ أربعة قرون إلا قليلًا فتأمَّلْ وتحسَّرْ!
٢٠  يجففون الزَّبَد الذي يطفو على هذا المانع، ثم يبيعونه للخبّازين، فيستخدمونه بدل الخميرة.
٢١  حتى لقد اكتفى العلّامة ورتز (Wurtz) بأن عرفها في قاموسه بأنها «علم فرنساوي»، ولكن أصبح هذا التفريق قاصرًا عن الحقيقة، بل بعيدًا عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤