يوحنا المجنون

١

في أيام الصيف كان يوحنا يسير كل صباح إلى الحقل سائقًا ثيرانه وعجوله، حاملًا محراثه على كتفه، مُصغيًا لتغاريد الشحارير وحفيف أوراق الغصون، وعند الظهيرة كان يقترب من الساقية المتراكضة بين منخفضات تلك المروج الخضراء، ويأكل زاده تاركًا على الأخشاب ما بقي من الخبز للعصافير، وفي المساء عندما ينتزع المغرب دقائق النور من الفضاء، كان يعود إلى البيت الحقير المُشرف على القُرى والمزارع في شمال لبنان، ويجلس بسكينة مع والديه الشيخين مُصغيًا لأحاديثهما المملوءة بأخبار الأيام، شاعرًا بدنو النعاس والراحة معًا.

وفي أيام الشتاء كان يتَّكئ مُستدفئًا بقرب النار، سامعًا تأوُّه الأرياح وندب العناصر، مُفكرًا بكيفية تتابع الفصول، ناظرًا من الكوة الصغيرة نحو الأودية المُكتسية بالثلوج والأشجار العارية من الأوراق، كأنها جماعة من الفقراء تركوا خارجًا بين أظافر البرد القارص والرياح الشديدة.

وفي الليالي الطويلة كان يبقى ساهرًا حتى ينام والده، ثم يفتح الخزانة الخشبية ويأتي بكتاب العهد الجديد، ويقرأ منه سرًّا على نور مسرجة ضعيفة، مُتلفِّتًا بحذر بين الآونة والأخرى نحو والده النائم الذي منعه عن تلاوة الكتاب؛ لأن الكهنة ينهون بُسطاء القلب عن استطلاع خفايا تعاليم يسوع، ويحرمونهم من «نِعَم الكنيسة» إذا فعلوا.

هكذا صرف يوحنا شبيبته بين الحقل المملوء بالمحاسن والعجائب وكتاب يسوع المفعم بالنور والروح. وكان سَكوتًا كثير التأملات، يُصغي لأحاديث والديه ولا يجيب بكلمة، ويلتقي بأترابه الفِتيان ويجالسهم صامتًا ناظرًا إلى البعيد حيث يلتقي الشفق بازرقاق السماء، وإذا ما ذهب إلى الكنيسة عاد مُكتئبًا لأن التعاليم التي يسمعها من على المنابر والمذابح هي غير التي يقرؤها في الإنجيل، وحياة المؤمنين مع رؤسائهم هي غير الحياة الجميلة التي تكلم عنها يسوع الناصري.

جاء الربيع واضمحلَّت الثلوج في الحقول والمروج، وأصبحت بقاياها في أعالي الجبال تذوب وتسير جداول جداول في منعطفات الأودية، وتجتمع أنهرًا غزيرة تتكلم بهديرها عن يقظة الطبيعة، فأزهرت أشجار اللوز والتفاح، وأورقت قضبان الحور والصفصاف، وأنبتت الروابي أعشابها وأزهارها، فتعب يوحنا من الحياة بجانب المواقد، وعرف بأن عجوله قد ملَّتْ ضيق المرابض واشتاقت إلى المراعي الخضراء؛ لأن مخازن التبن قد شحَّتْ وزنابل الشعير قد نفدت، فجاء وحلَّها من معالفها وسار أمامها إلى البرية، ساترًا بعباءته كتاب العهد الجديد كيلا يراه أحد، حتى بلغ المرجة المنبسطة على كتف الوادي بقرب حقول الدير القائم كالبرج الهائل بين تلك الهضاب،١ فتفرقت عجوله مرتعية الأعشاب، وجلس مستندًا إلى صخرة يتأمل تارةً بجمال الوادي، وطورًا بسطور كتابه المتكلمة عن ملكوت السموات.

كان ذلك النهار من أواخر أيام الصوم، وسكان تلك القرى المنقطعون عن اللحوم أصبحوا يترقبون بفضلات الصبر مجيء عيد الفصح.

أما يوحنا فمثل جميع المزارعين الفقراء لم يكن يفرق بين أيام الصيام وغيرها، فالعمر كله كان صومًا طويلًا عنده، وقُوته لم يتجاوز قط الخبز المعجون بعرق الجبين والثمار المُبتاعة بدم القلب، فالانقطاع عن اللحوم والمآكل الشهية كان طبيعيًّا، ومشتهيات الصوم لم تكن في جسده بل في عواطفه؛ لأنها تعيد إلى نفسه ذكرى مأساة «ابن البشر» ونهاية حياته على الأرض.

كانت العصافير ترفرف مُتناجيَةً حول يوحنا، وأسراب الحمام تتطاير مُسرعة، والزهور تتمايل مع النسيم كأنها تتحمم بأشعة الشمس، وهو يقرأ في كتابه بتمعُّن، ثم يرفع رأسه ويرى قبب الكنائس في المدن والقرى المنثورة على جانبي الوادي ويسمع طنين أجراسها، فيغمض عينيه وتسبح نفسه فوق أشلاء الأجيال إلى أورشليم القديمة، متبعة أقدام يسوع في الشوارع سائلة العابرين عنه، فيجيبونها قائلين: هنا شفى العميان وأقام المقعدين، وهناك ضفروا له إكليلًا من الشوك ووضعوه على رأسه. في هذا الرواق وقف يكلم الجموع بالأمثال، وفي ذلك القصر كتَّفوه على العمود وبصقوا على وجهه وجلدوه. في هذا الشارع غفر للزانية خطاياها، وفي ذاك وقع على الأرض تحت أثقال صليبه.

ومرت الساعة ويوحنا يتألم مع الإله الإنسان بالجسد ويتجمد معه بالروح، حتى إذا ما انتصف النهار قام من مكانه ونظر حوله فلم يرَ عجوله، فمشى مُتلفِّتًا إلى كل ناحية مُستغربًا اختفاءها في تلك المروج السهلة، ولمَّا بلغ الطريق المنحنية بين الحقول انحناء خطوط الكف رأى عن بُعد رجلًا بملابس سوداء واقفًا بين البساتين، فأسرع نحوه، ولمَّا اقترب منه وعرف أنه أحد رُهبان الدير حيَّاه بإحناء رأسه ثم سأله قائلًا: «هل رأيتَ عجولًا سائرة بين هذه البساتين يا أبتاه؟» فنظر إليه الراهب متكلفًا إخفاء حنقه وأجاب بخبث: «نعم رأيتها، فهي هناك، تعالَ وانظرها.» فسار يوحنا وراء الراهب حتى بلغا الدير، فإذا بالعجول ضمن حظيرة واسعة موثقة بالحبال يَخفرها أحد الرهبان وفي يده نبُّوت يجلدها به كيفما تحركت، وإذ همَّ يوحنَّا ليقودها أمسك الراهب بعباءته والتفَت نحو رواق الدير وصرخ بأعلى صوته: «هو ذا الراعي المجرم قد قبضت عليه.» فهرول القسس والرهبان من كل ناحية يتقدمهم الرئيس، وهو رجل يمتاز عن رفاقه بنحافة أثوابه وانقباض سحنته، وأحاطوا بيوحنا كالجنود المتسابقة إلى الغنيمة، فنظر يوحنا إلى الرئيس وقال بهدوء: «ماذا فعلت لأكون مجرمًا؟ ولماذا قبضتم عليَّ؟» فأجابه الرئيس وقد بانت القساوة على وجهه الغضوب، وبصوتٍ خشن أشبه بصرير المناشير قال: «قد ارتعت عجولك زرع الدير وقضمتْ قضبان كرومه، فقبضنا عليك لأن الراعي هو المسئول عمَّا تُخربه مواشيه.» فقال يوحنا مستعطفًا: «هي بهائم لا عقل لها يا أبتاه، وأنا فقير لا أملك غير قوى ساعدي وهذه العجول، فاتركني أقودها وأسير، واعدًا إياك بألا أجيء إلى هذه المروج مرة أخرى.» فقال الرئيس وقد تقدم قليلًا إلى الأمام ورفع يده نحو السماء: «إن الله قد وضعنا هنا، ووكل إلينا حماية أراضي مختاره اليشاع العظيم، فنحن نحافظ عليها ليلًا ونهارًا بكل قوانا لأنها مقدسة، وهي كالنار تحرق كل من يقترب منها، فإذا امتنعت عن محاسبة الدير انقلبتِ الأعشاب في أجواف عجولك سمومًا آكلة، ولكن ليس من سبيل إلى الامتناع لأننا نُبقي بهائمك في حظيرتنا حتى تفي آخر فلس عليك.»

وهمَّ الرئيس بالذهاب فأوقفه يوحنا وقال مُتذلِّلًا مُتوسلًا: «أستحلفك يا سيدي بهذه الأيام المقدسة التي تألم فيها يسوع وبكتْ لأحزانها مريم أن تتركني أذهب بعجولي. لا تكن قاسي القلب عليَّ، فأنا فقير مسكين والدير غني عظيم، فهو يسامح تهاملي ويرحم شيخوخة والدي.» فالتفت إليه الرئيس وقال بهزء: «لا يسامحك الدير بمثقال ذرة أيها الجاهل فقيرًا كنت أم غنيًّا، فلا تستحلفني بالأشياء المقدسة لأننا أعْرَف منك بأسرارها وخفاياها، وإن شئت أن تقود عجولك من هذه المرابض فافتدها بثلاثة دنانير لقاء ما التهمَتْ من الزرع.» فقال يوحنا بصوتٍ مختنق: «إنني لا أملك بارة واحدة يا أبتاه، فأشفق عليَّ وارحم فقري.» فأجاب الرئيس بعد أن مشَّط لحيته الكثيفة بأصابعه: «اذهب وبِع قسمًا من حقلك وعُد بثلاثة دنانير، فخير لك أن تدخل السماء بلا حقل من أن تكتسب غضب اليشاع العظيم باحتجاجك أمام مذبحه، وتهبط في الآخرة إلى الجحيم حيث النار المؤبدة.»

فسكت يوحنا دقيقة وقد أبرقت عيناه وانبسط مُحيَّاه وتبدلت لوائح الاسترحام بملامح القوة والإرادة، فقال بصوتٍ تمتزج نغمة المعرفة بعزم الشبيبة: «هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه ومورد حياته ليضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالفضة والذهب؟ أمن العدل أن يزداد الفقير فقرًا ويموت المسكين جوعًا كيما يغفر اليشاع العظيم ذنوب بهائم جائعة؟» فقال الرئيس هازًّا رأسه استكبارًا: «هكذا يقول يسوع المسيح: «من له يُعطى ويُزاد، ومن ليس له يؤخذ منه.»

سمع يوحنا هذه الكلمات فاضطرب قلبه في صدره وكبرت نفسه وتعالت قامته عن ذي قبل، كأن الأرض قد نمت تحت أقدامه، فانتشل الإنجيل من جيبه كما يستل الجندي سيفه للمدافعة، وصرح قائلًا: «هكذا تتلاعبون بتعاليم هذا الكتاب أيها المُراءون، هكذا تستخدمون أقدس ما في الحياة لتعميم شرور الحياة. فويلٌ لكم إذ يأتي «ابن البشر» ثانيةً ويخرب أديرتكم، ويلقي حجارتها في هذا الوادي، مُحرقًا بالنار مذابحكم ورسومكم وتماثيلكم. ويلٌ لكم من دماء يسوع الزكيَّة ودموع أمه الطاهرة إذ تنقلب سيلًا عليكم وتجرفكم إلى أعماق الهاوية. ويلٌ وألف ويل لكم أيها الخاضعون لأصنام مطامعكم، الساترون بالأثواب السوداء اسوداد مكرهاتكم، المحركون بالصلاة شفاهكم وقلوبُكم جامدة كالصخور، الراكعون بتذلل أمام المذابح ونفوسُكم متمردة على الله. قدمتموني بخباثة إلى هذا المكان المملوء بآثامكم، وكمجرم قبضتم عليَّ من أجل قليل من الزرع تستنبته الشمس لي ولكم على السواء، ولمَّا استعطفتكم باسم يسوع واستحلفتكم بأيام حزنه وأوجاعه استهزأتم بي كأني لم أتكلم بغير الحماقة والجهالة. خذوا وابحثوا في هذا الكتاب وأروني متى لم يكن يسوع غفورًا؟ اقرءوا هذه المأساة السماوية وأخبروني أين تكلم بغير الرحمة والرأفة؟ أفي موعظته على الجبل؟ أم في تعاليمه في الهيكل أمام مُضطهِدي تلك الزانية المسكينة؟ أم على الجلجلة عندما بسط ذراعيه على الصليب ليضمَّ الجنس البشرى؟ انظروا يا قُساة القلوب إلى هذه المدن والقرى الفقيرة، ففي منازلها يتلوَّى المرضى على أَسِرَّة الأوجاع، وفي حبوسها تفنى أيام البائسين، وأمام أبوابها يتضرَّع المتسولون، وعلى طرقها ينام الغرباء، وفي مقابرها تنوح الأرامل واليتامى، وأنتم ها هنا تتمتعون براحة التواني والكسل، وتتلذذون بثمار الحقول وخمور الكروم. فلم تزوروا مريضًا، ولم تتفقَّدوا سجينًا، ولم تطعموا جائعًا، ولم تُئووا غريبًا، ولم تُعزُّوا حزينًا. وليتكم تكتفون بما لديكم وتقنعون بما اغتصبتم من جدودنا باحتيالكم، فأنتم تمدُّون أياديكم كما تمدُّ الأفاعي رءوسها، وتقبضون بشدة على ما وفَّرته الأرملة من عمل يديها وما أبقاه الفلاح لأيام شيخوخته.»

وسكتَ يوحنا ريثما استرجع أنفاسه ثم رفع رأسه بفخرٍ وقال بهدوء: «أنتم كثار ها هنا وأنا وحدي. افعلوا بى ما شئتم، فالذئاب تفترس النعجة في ظُلمة الليل، لكن آثار دمائها تبقى على حصباء الوادي حتى يجيء الفجر وتطلع الشمس.»

كان يوحنا يتكلم وفي صوته قوة علوية توقف في أبدان الرهبان الحركة وتثير في نفوسهم الغيظ والحِدَّة، ومثل غربان جائعة في أقفاص ضيقة كانوا يرتجفون غضبًا وأسنانهم تصرف بشدة، مترقبين من رئيسهم إشارة ليمزِّقوه تمزيقًا ويسحقوه سحقًا، حتى إذا ما انتهى من كلامه وسكت سكوت العاصفة بعد تكسيرها الأغصان المتشامخة والأنصاب اليابسة، صرخ الرئيس بهم قائلًا:

اقبضوا على هذا المجرم الشقي وانزعوا منه الكتاب وجرُّوه إلى حجرة مظلمة من الدير، فمن يجدف على مختاري الله لا يُغفر له ها هنا ولا في الأبدية. فهجم الرهبان على يوحنا هجوم الكواسر على الفريسة، وقادوه مكتوفًا إلى حجرة ضيقة، وأقفلوا عليه بعد أن نهكوا جسده بخشونة أكفهم ورفس أرجلهم.

في تلك الغرفة المظلمة وقف يوحنا وقفة مُنتصر توفَّق العدو لأسره، ونظر من الكوة الصغيرة المطلة على الوادي المملوء بنور النهار، فتهلَّلَ وجهه وشعر بلذَّةٍ روحية تُعانق نفسه وطمأنينة مُستعذبة تمتلك عواطفه، فالحجرة الضيقة لم تسجن غير جسده.

أما نفسه فكانت حُرة تتماوج مع النسيم بين الطلول والمروج، وأيدي الرهبان التي آلمت أعضاءه لم تمس عواطفه المستأمنة بجوار يسوع الناصري. والمرء لا تعذبه الاضطهادات إذا كان عادلًا، ولا تفنيه المظالم إذا كان بجانب الحق، فسقراط شرب السم مبتسمًا، وبولس رُجم فارحًا، ولكن هو الضمير الخفي نخالفه فيوجعنا، ونخونه فيقضي علينا.

وعلم والدا يوحنا بما جرى لوحيدهما، فجاءت أمه إلى الدير مُستعينة بعصاها، وترامت على أقدام الرئيس تذرف الدموع وتُقبِّل يديه ليرحم ابنها ويغتفر جهله. فقال لها بعد أن رفع عينيه نحو السماء كمُترفِّع عن العالميات: «نحن نغتفر طيش ابنكِ ونسامح جنونه، ولكن للدير حقوقًا مقدسة لا بد من استيفائها.»

نحن نسامح بتواضعنا زلَّات الناس، أما اليشاع العظيم فلا يسامح ولا يغفر لمن يُتلفون كرومه ويرتعون زرعه.»

فنظرت إليه الوالدة والدمع ينسكب على وجنتيها المتجعدتين بأيدي الشيخوخة، ثم نزعتْ قلادة فضية في عنقها ووضعتها في يده قائلة: «ليس لديَّ غير هذه القلادة يا أبتاه، فهي عطية والدتي يوم اقتراني، فليقبلها الدير كفارة عن ذنوب وحيدي.»

فأخذ الرئيس القلادة ووضعها في جيبه، ثم قال ووالدة يوحنا تُقبل يديه شكرًا وامتنانًا: ويلٌ لهذا الجيل، فقد انعكستْ فيه آيات الكتاب، وأصبح الأبناء يأكلون الحصرم والآباء يدرسون. اذهبي أيتها المرأة الصالحة وصلي من أجل ابنكِ المجنون لتشفيَه السماء وتُعيد إليه صوابه.

وخرج يوحنا من أسره ومشى ببطءٍ أمام عجوله بجانب أمه المنحنية على عصاها تحت أثقال السنين، ولمَّا بلغ الكوخ قادَ العجول إلى معالفها وجلس بسكينة قُرب النافذة يتأمل باضمحلال نور النهار.

وبعد هُنيهة سمع والده يهمس في أذن أمه هذه الكلمات: «كم عارضتيني يا سارة عندما أقول لكِ أن ولدنا مختل الشعور، والآن أراكِ لا تعترضين لأن أعماله قد حققت كلامي، ورئيس الدير الوقور قد قال لكِ اليوم ما قلتُهُ أنا منذ سنين.»

وظل يوحنا ناظرًا نحو المغرب حيث الغيوم المتلبدة متلونة بأشعة الشمس.

١  هو دير غني في شمالي لبنان واسع الأراضي، يُدعى دير اليشاع النبي، يقطنه عشرات من الرهبان المعروفين بالحلبيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤