مختاراتٌ من كتب المؤلف السابقة حول بعض المسائل التي جاءت في هذا الكتاب

يتضمن التاريخ معرفة مختلف العلوم التي لم يكن غير جمعٍ لها في الحقيقة، ولو قُصر على بصرٍ سطحيٍّ بالأمور المدونة في الكتب.

ويدلُّ البحث، الذي هو أعمقُ من الذي رضي به الإنسان في ألوف سِنِي الحضارة الست، على أن العالم بالغ التعقيد، ومما وُفِّقَ له هذا البحث على الخصوص إيجاد بعض صُوًى١ ساطعةً في غابة الحوادث المُظلمة.

وتُعدُّ معرفة تفسير العالم الصادرة عن المختبرات أمرًا ضروريًّا لإدراك التاريخ.

ومباحث على النفس — أي: العلم الذي يُفسَّر به تكوين الأعمال — هو ما يجب ذكره على الخصوص؛ ولذلك وجدنا من المفيد أن ننقل بعض مختاراتٍ من الكتب التي نشرناها حول فصولٍ مختلفة من هذا العالم.

القوى الموجِّهة للعالَم وإيضاح الحوادث

«يلوح العالم، البسيط إلى الغاية في الزمن الذي كان الآلهة يُسيطرون فيه على مجراه، أكثر تعقيدًا مقدارًا فمقدارًا، وذلك كلما بحث العلم عن الأسباب، فقد أصبحت الحوادث البسيطة ظاهرًا، كسقوط الحجر وكهربة قضيب من الصمغ، مسائل يتعذَّر على العالم حلُّها.»

«ويعدل العلم الحديث عن اكتشاف عنصرٍ ثابت في العالم، أي: صورة ثابتة في مجرى الحوادث، وكلُّ شيء زال مناوبة، حتى إن المادة، التي هي آخر عنصرٍ كان يُعتقد إمكان الاعتماد عليه، خسرت أبديَّتها، وهكذا يعقب الثبات عدمه، فتقوم تقلُّبات التوازُن الدائمة مقام السكون.»

«ويتقهقر السبب الأول للأشياء في لانهاية منيعة، والصلات بين الحوادث وحدها هي ما يُمكن أن يُعرَف.»

«والعلم إذ يترك الإيضاحات الكثيرة الاختصار يقيم الآن تجمُّع ما لا حدَّ له من العلل الدقيقة إلى الغاية مقام النواميس العامة الكبرى، والعلم يُعَلِّم أن العالَم الفزيوي والعالم البيولوجي والعالم الاجتماعي من عمل ذاتيَّات بالغة الصغر تكون غير مؤثرة إذا بقيَتْ منفردة، ولكنها تكون قويةً جدًّا عندما تقترن. ومن الدقائق التي لا حدَّ لصغرها ظهرت القارَّات ونبتت الغلَّات وقامت الحياة، ويبقى مختلف الذاتيَّات كالذرات الفِزيَوِيَّة والخلِيَّات الحية والوحدات البشرية، إلخ، لا عمل له إذا لم تأتِ قُوًى موجِّهة لتُوجِب أعماله وتُقَنِّي أفعاله.»

«ولا يُهِمُّ كثيرًا كون العناصر المقصودة من الحقل الفِزيوي أو الحقل البيولوجي أو الحقل الاجتماعي، فلا بد من وجود عوامل مدبِّرةٍ لتوجيهها دائمًا، وتتحول العناصر الفردية إلى غُبار لا طائل فيه عندما تعود غير متأثرة بهذه العوامل.»

«وفي خليَّات الجسم العضوي ينطوي التوجيه المدبِّر على الحياة، وينطوي سكونه على الموت، وعين هذه السُّنَّة أمر وحدات الموجود الاجتماعي.»

«وفي الدائرة النفسية نرى تعاقُب القوى الموجِّهة، كالمعتقدات والمثل الأعلى، إلخ، وذلك من غير أن تزول مطلقًا.»

«أجل، يمكن أن تُغَيِّر اسمها، ولكن مع بقائها دائمًا ولا بد في التوجيه بالإيمان، من السيف أو العلم أو الفكر في جميع وجوه التاريخ، فحرمان المجتمع قُوًى موجِّهةً أو إخضاعه لقوًى تابعةٍ للهوى مترجحة دائمًا، يعني الحكم عليه بالهلاك» (روح السياسة).

غير المنتظَر في التاريخ

«يسيطر غير المنتظر على التاريخ.

أجل، كان يمكن الرجل البصير أن يَنِبئ قبل الحرب بانحلال النمسة، وكذلك بانحلال روسية وتركية على ما يُحتمل، ولكن كيف كان يمكنه أن يتصور مصيبة ألمانية الهائلة بغتةً؟ كانت ألمانية قد بلغت أوج القدرة، وكان العالم يلوح مهدَّدًا بمعاناة سلطانها، ثم غُلبت في كل مكانٍ فانهارت في بضعة أسابيع بين الخِزي والحزن.»

«ويؤدي توالي الانقلابات هذا إلى غَدٍ هائل لا ريب، ولكن ما يكون هذا الغد؟ وفي النمسة ما يُصبح مثلًا هذا النقع من الأمم الصغيرة المتخاصمة التي خرجت من الدولة العظمى بعد أن جمعت بينها في قرونٍ من الجهود كثيرةٍ؟»

«وإذا كانت دروس الماضي صالحةً لتكون دليلًا أمكن أن يُقال إن أوربة مهددةٌ بحروب تذكرنا بما اشتعل منذ القرون الوسطى، وذلك ليؤلَّف من الدول الصغيرة ما انحلَّ اليوم من الإمبراطوريَّات العظيمة.»

«بَيد أن العالم بلغ من التطوُّر ما لا تكفي معه سنن ماضٍ بسيط جدًّا لإيضاح مستقبلٍ كثير التعقيد، وقد ظهر بعض المبادئ الجديدة، وباسم هذه المبادئ ستُعاني النظم والمعتقدات تحوُلاتٍ غير منتظرةٍ لا ريب» (روح الأزمنة الحديثة).

العوامل النفسية

«تتحول جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الناس كالعوامل الاقتصادية والتاريخية والجغرافية، إلى عوامل نفسيةٍ في آخر الأمر.»

«ويسيطر على هذه العوامل أنواعٌ للمنطق مختلفة.

وما حدث من عدم قدرةٍ على حلِّ ما بين هذه الأنواع من تأثيرٍ متقابل أساء كثيرٌ من المؤرخين به إيضاح بعض الأدوار، ولا سيما دور الثورة.»

«والواقع أن العنصر العقلي الذي يُذكر على العموم كوسيلةٍ للإيضاح كان أضعف عملًا، فهو وإن أعدَّ الثورة الفرنسية لم يبدُ في غير أوائلها.»

«ولسرعان ما توارى العامل العقلي أمام عامل العنصرين: العاطفي والديني.»

«وهنالك أصبح شأن العوامل الدينية عظيمًا، فقد ألقت بذور التعصُّب في الجيوش ونشرت المعتقد الجديد في العالم.»

«ولا تجد في حياة البشر دورًا قَدَّمَ سلسة تجارب كهذه جُمعت في وقتٍ بالغٍ ذلك القِصَر.»

«وتُسَوِّغ المجالس الثورية جميع ما تعرفه روح الجماعات من سُنن، فالجماعات إذ تندفع وتخاف فإنه يُسيطر عليها عددٌ قليل من الزعماء، وتسير غالبًا على ما يخالف عزائم كل واحد من أعضائها على انفراد.»

«وكان المجلس التأسيسي ملكيًّا، فقضى على الملكية القديمة، وكان المجلس الاشتراعي إنسانيًّا، فأغضى عن وقوع مذابح سبتمبر، وكان مسالمًا فألقى فرنسة في حروبٍ هائلة. ووقع مثل هذه المتناقضات في زمن مجلس العهد، فقد كانت أكثريَّتُه الساحقة ترفض العنف، وكانت مؤلَّفة من فلاسفة عاطفيين يُمَجِّدون المساواة والإخاء والحرية، ومع ذلك فقد أدَّى هؤلاء إلى استبدادٍ هائل.»

«ومن النادر — كما قال بوسُّويه — ألا يعمل الفكر البشري لغاياتٍ تُباين مقصده فضلًا عن سبقها إياه.»

«وعلى الرغم من تناقض الظواهر لا تكون منازعات المستقبل صراعًا بين المصالح الاقتصادية فقط، بل مصادمة بين الأوهام النفسية أيضًا» (روح الثورات).

أنواع المنطق المسيطرة على التاريخ

«يوجد — خلافًا لما يشتمل عليه علم النفس الكلاسيُّ من معارف — أنواعٌ للمنطق تختلف عن المنطق العقلي اختلافًا كبيرًا، ومنها المنطق الديني والمنطق العاطفي على الخصوص.»

و«وتبلغ هذه الأنواع من الاختلاف ما لا يمكن معه الانتقال من أحدهما إلى الأخرى.»

«وعلى المنطق العقلي تُبنى جميع أشكال المعرفة، ولا سيما العلوم الصحيحة.»

«وعلى المنطق العاطفي والمنطق الديني تُبنى معتقداتنا، أي: أهمُّ العوامل في سير الأفراد والأمم.»

«ويهيمن المنطق العقلي على منطقة الشعور، حيث يُؤتَى بتفسير أفعالنا.»

«وفي منطقة اللاشعور التي تسيطر عليها المؤثرات العاطفية والدينية تنضج عللها الحقيقية.»

«وتدلُّ المشاهدة على أن المجتمعات تُقاد بالمنطق العاطفي والمنطق الديني على الخصوص، وأن المنطق العقلي لا يؤثر فيها ولا يُحوِّلها مطلقًا» (روح السياسة).

الإرادة الشاعرة والإرادة غير الشاعرة

«إن الحوادث التي تُدْرَك بالشعور هي انعكاسٌ لكيانٍ نفسيٍّ باطنيٍّ لا نعرفه، وفي هذا الكيان تنضج أهمُّ بواعث السير.

وتنشأ الإرادة عن نضج البواعث هذا، وهي تبدو على شكلين: الإرادة الشاعرة، وهي التي قال بها علماء النفس، والإرادة غير الشاعرة.»

«وتنطوي الإرادة الشاعرة على التفكير الحر وعلى النقاش في الدوافع الخارجية، واللاشعور في الإرادة اللاشاعرة هو الذي يُفكِّر من أجلنا، وهنالك ينتهي الحكم تام التكوين إلى ميدان الشعور الذي يتقبَّله على العموم وإن كان يستطيع رفضه.»

«وتتجلَّى الإرادة الشاعرة على شكل شهوات واندفاعاتٍ تُعَدُّ أدلَّاء اعتيادية للسير، وبما أنه ليس لدى معظم الناس دليل غير إرادتهم اللاشاعرة، فإن هذه الإرادة هي التي يجب أن يُؤَثَّر فيها لتسييرهم.»

«وإذا ما استقرَّت الإرادة غير الشاعرة لدى الشعب بما فيه الكفاية منحته قوة عظيمة. ومما أُحسِنَتْ ملاحظته كون جميع الأمم يُقاد بالقُوى الغريزية التي تُشتقُّ من عِرقها.»

«فبإحداث عزائم غير شاعرةٍ في روح الجماعات يوجِّه قادة الناس الجموع كما يشاءون» (معارف نفسية عن الحرب).

شأن اللاشعور في حياة الأمم

«يُعدُّ اللاشعور في معظمه بقيةً موروثةُ عن الأجداد، وتقوم قوته على كونه يُمثِّل تراثًا لسلسلةٍ طويلةٍ من الأجيال، يُضيف كلُّ واحدٍ منها شيئًا إليه.»

«ويكون اللاشعور دليلًا لنا في معظم أفعال حياتنا اليومية، وتقوم التربية على ترويض اللاشعور خاصةً، ومنه يتألف رأس مالٍ نفسي حقيقي.»

«وعن اللاشعور تصدر المعاينة التي هي أصل الإلهامات العبقرية» (الآراء والمعتقدات).

صفات الجماعات الأساسية

«يجب أن يُذكر بين صفات الجماعات سرعة تصديقها الذي لا حدَّ له، وحساسيَّتها البالغة وعدم تبصُّرها وعجزها عن التأثُّر بالبرهان، ويتألَّف من التوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ وسائل وحيدةٌ لإقناعها تقريبًا، ويمكن أن تُحمل الجماعة على تصديق كل شيء، فليس لديها شيءٌ مستحيل.»

«والإنسان في الجماعة يهبط كثيرًا في سلم الحضارة، فهو يصير من البرابرة، ويُظهِر ما يتصفون به من عيوبٍ ومحاسن، أي يُبدي عُنفًا خاطفًا كما يُبدي حماسةً وبطولة.»

«والجماعة في الحقل العقلي تكون دون الإنسان وهو منفرد دائمًا، والجماعة في الحقل الأدبي والعاطفي قد تكون أعلى منه.»

«والجماعة تأتي عملًا إجراميًّا بعين السهولة التي تأتي بها عملًا زُهْدِيًّا.»

«وتأثير الجماعات عظيمٌ في الأفراد الذين تتألف منهم، ففيها يصبح البخيل مبذرًا والملحد مؤمنًا والصالح مجرمًا والجبان بطلًا.»

«والأمثلة على مثل هذه التحوُّلات كثيرة في التاريخ، ولا سيما في دور الثورات.»

«وتؤدي الروح الفردية والروح الجماعية إلى أعمالٍ شديدة الاختلاف، فالأثريُّ يُصبح إيثاريًّا باندماجه في جماعه، فيُضَحِّي بحياته في سبيل قضيةٍ اعتنقتها الجماعة التي يكون جزءًا منها.»

«والجماعات لا تتمثل الحكومات إلا على شكل استبدادي، وفي هذا سرُّ هُتافها للطغاة دائمًا.»

«ثم إن الحكومة الشعبية لا تعني حكومةً يقوم بها الشعب، بل حكومة يقوم بها زعماؤه.»

«وتبعُدُ الحكومات الحاضرة في معظم البلدان من أن تكون شعبيةً حقًّا، فهي تُمثِّل حكومةً من الزعماء فقط.»

«والدولة العصرية مهما يكن رئيسها ورثت في نظر الجماعات وزعمائها ما كان يُعزَى إلى قدماء الملوك من سلطانٍ ديني، وذلك عندما كانت الإرادة الإلهية مُتجسِّدة فيهم.»

«وليس الشعب وحده هو المشبع من الاعتماد على قدرة الحكومة، فجميع مشترعينا مشبعون منه أيضًا.»

«ولم ينتهِ سياسيُّونا إلى إدراكهم أن النظم إذ كانت معلولاتٍ لا عِللًا لا تنطوي على فضيلةٍ في ذاتها» (روح الثورات).

استعمال الأسلحة النفسية

«تشتمل الأسلحة النفسية على قدرةٍ أرفع من المدفع في الغالب، غير أن استعمالها صعبٌ.»

«ولا يمكن استعمال مفتاح العوامل النفسية إلا بكثيرٍ من المهارة.»

«وما كان من عجز الألمان في الحرب الأخيرة عن استعمال الأسلحة النفسية أدَّى إلى قيام أعظم الأمم ضدهم، وفي مقدمتها إنكلترة التي كان من السهل ضمان حيادها، ثم إيطالية والولايات المتحدة.»

«ومن أفظع الأغاليط النفسية التي اقترفها الألمان هو اعتقادهم أن جميع الناس يخضعون لعوامل واحدة، ولم يكن لما تتألف منه أسلحتهم النفسية المهمة من تهديدٍ وهول ورشوة نتيجةٌ غير تدفُّق ثلاثة ملايين متطوعٍ من الأرض الإنكليزية، وغير نسف حياد الولايات المتحدة الذي كان على ألمانية أن تعمل على حِفظِه بأيِّ ثمنٍ كان» (روح الأزمنة الحديثة).

تأثير الماضي في حياة الأمم

«لتغيير النظم السياسية تأثيرٌ ضعيف إلى الغاية في حياة الأمم، فمزاج الناس النفسي، لا نُظُمهم، هو الذي يُعيِّن تاريخهم.»

«وبما أن الحال الحاضرة لأي موجودٍ كان مُعَيَّنةٌ بتراث أحواله الماضية، فإن ما يمكن تحقيقه من تحوُّلٍ في كل جيلٍ ضئيلٌ في كل وقت.»

«وليست التغيُّرات المطلقة التي تحلم بها الأحزاب السياسية أمرًا يمكن تحقيقه» (تقلُّبات الساعة الحاضرة).

ثبات المركَّبات النفسية التي تتألف الأخلاق منها وتَحوُّل هذه المركبات

«يمكن المركَّبات التي تتألف الأخلاق منها أن تكون شديدة الارتباط أو ضعيفة الملاط.»

«ويطابق المركبات المتينة أقوياء الأفراد الذين يَثبتون على الرغم من تقلُّبات الأحوال، كالإنكليز مثلًا.»

«ويطابق المركبات السيئة الملاط ذوو الأمزجة النفسية الرخوة المترددة المتقلبة كالصقالبة مثلًا.»

«حتى إنها تتغير في كل ساعةٍ بفعل أخفَّ العوامل إذا لم تُوَجِّهها بعض مقتضيات الحياة اليومية كما تُقَنِّي ضفاف النهر مجراه.»

«والذاتية بلا صلابة تكون بلا ثبات، والذاتية بلا لَيانٍ تعجز عن ملاءمة تحولات البيئة الناشئة عن تقدم الحضارة.»

«وفرط اللَّيَان في الروح القومية يحفز الأمة إلى ثوراتٍ متصلة، وفرط الصلابة يحول دون تقدُّمها ويسوقها إلى الانحطاط، وتزول الأنواع الحية كما تزول العروق البشرية عندما تثبت في ماضٍ طويل ثباتًا عظيمًا، فتصبح عاجزةً عن ملاءمة شروط الحياة الجديدة.»

«وقليل من الأمم من استطاع إقامة توازن مُحكم بين الصفتين المتناقضتين: الصلابة واللَّيَان.»

انتشار المعتقدات والعدوى النفسية

«تتألف من العدوى النفسية ظاهرةٌ نفسيةٌ تكون نتيجتها تقبُّل بعض الآراء والمعتقدات قبولًا غير إرادي، وبما أن اللاشعور مصدرها فإنها تتمُّ من غير أن يشترك فيها أيُّ برهانٍ كان.»

«وتُلاحَظ العدوى لدى جميع الموجودات المترجحة بين الحيوان والإنسان، ويسيطر عملها الواسع على التاريخ، والواقع أنها تمثل العنصر الجوهري في انتشار الآراء والمعتقدات.»

«وتكون قوتها من العظم في الغالب ما تحمل الإنسان معه على العمل ضد أكثر مصالحه وضوحًا.»

«وهي تحول الأشخاص المسالمين إلى محاربين باسلين، وهي تُحَوِّل أبناء الطبقة الوسطى الهادئين إلى متمذهبين طاغين.»

«وليس تماسُّ الأفراد ضروريًّا ليؤدي إلى العدوى النفسية، فيمكن أن تنشأ عن الكتب والجرائد البرقية، وعن الشائعات وحدها أيضًا …»

«وتنتقل المشاعر الحسنة والسيئة بالعدوى، وفي هذا سرُّ أهمية القرين في التربية.»

«وتكون العدوى النفسية من القوة الكافية ما تُعَبِّدُ معه جميع العقول …»

«ومتى عُرف نظامها معرفةً جديةً امتُلك أحد المفاتيح المهمة لعوامل التاريخ الأساسية» (الآراء والمعتقدات).

المثل الأعلى والعقل في حياة الأمم

«تغيير مبدأ سعادة الفرد أو الأمة، أي مثله الأعلى، يعني تغيير مبدئه في الحياة، ومن ثمَّ تغيير سيره.»

«وليس التاريخ غير قصص الجهود التي يبذلها الإنسان لإقامة مثلٍ عالٍ ثم لهدمه عندما يبلغه فيبصر بطلانه.»

«ويُعَدُّ الشك، الممكن لدى بعض الأفراد، شعورًا لا عهد للجماعات به، فالجماعات تحتاج إلى مثلٍ عالٍ مبدعٍ للآمال.»

«ويحتاج قيام المجتمع على أساسٍ متينٍ إلى حيازة مثلٍ عالٍ مشترك، سواءٌ أكان هذا المثل الأعلى دينيًّا أم عسكريًّا أم شيئًا آخر، وهنالك فقط تُولد الروح القومية، وتبقى الأمة حتى تكوينها نقعًا من البرابرة يستطيع أن يلتحم لوقتٍ تحت إمرة رئيس، ولكن من غير تماسُكٍ دائم.»

«ويتم الانتقال من البربرية إلى الحضارة باعتناقٍ مثلٍ عالٍ مشترك.»

«وتعود الأمم إلى البربرية عند انحلال الروح القومية، فقد هلك الرومان حينما زالت من قلوبهم عبادة رومة والنظم التي عيَّنَتْ عظمتها.»

«وفي أيامنا أضاعت المثل العليا القديمة سلطانها، فقد استُبدل بها حقدُ حسدٍ على جميع الأفضليَّات، وبالتدريج تُمثِّل الأماني الشعبية صِراعًا ضد تفاوُت الذكاء والثراء.»

«وفي كل وقتٍ كان شأن العقل في حياة الأمم دون شأن المثل الأعلى، وفي كل وقتٍ جُعلت هذه الخاصية خادمةً لأقل ما يُدافَع عنه من الاندفاعات العاطفية والدينية.»

«ولم تَقُم الآراء والمعتقدات التي تألَّف منها مثلٌ عالٍ ضد العقل، بل قامت مستقلةً عن كل عقل» (الآراء والمعتقدات).

العوامل الحديثة في تطوُّر الأمم

«مميزات الزمن الحاضر الحقيقة هي؛ أولًا: إقامة سلطان العوامل الاقتصادية مقام سلطان الملوك والقوانين. ثانيًا: اشتباك المصالح بين الأمم التي كانت منفصلة، فلم يكن عند بعضها ما تستعيره من بعض.»

«ويصبح تأثير الحكومات العظيم في الماضي أكثر ضعفًا في كل يومٍ أمام العوامل الاقتصادية التي تزيد أهميةً، والآن تخضع الحكومات للضرورات الحاضرة وعادت لا تقود.»

«ووُلد مع تقدُّم العلم والصناعة والصِّلات الأُممية سادةٌ بالغو القدرة يجب على الأمم وملوكها أن يُطيعوهم» (روح السياسة).

مقتضيات العدد

«لا تعرف الأمزجة النفسية الابتدائية جورًا ولا باطلًا ولا مستحيلًا، وبما أن الأكثرية تتألف منها فإن الإنسان يُلزَم بمعاناة أهوائها التي يُفسِّرها عبيد العَدد» (روح السياسة).

نزاعٌ حديث بين الجماعة والصفوة

«لم يُمكن الاعتناء في الزمن القديم إلا بإفقار الأمم الأخرى، كما صنع الرومان.»

«ومن الصعب في الوقت الحاضر أن يغتني الإنسان من غير أن يزيد الرخاء العام في الوقت نفسه، وهذا الاغتناء الجماعي مدينٌ لنفوذ الصفوة، فما كانت الحضارات الحديثة التي أوجدها خيار الناس لتعيش وتنمو بغيرهم.»

«وما كان هؤلاء الأخيار ألزم في زمن لزومهم في الوقت الحاضر، ومع ذلك فإنهم لم يُحتملوا بصعوبة احتمالهم في الوقت الحاضر.»

«ومن المشاكل الحاضرة أن يُنتهَى في وقتٍ واحدٍ إلى إعاشة الأخيار الذين لا يستطيع بلدٌ أن يبقى بغيرهم، مع أن عددًا كبيرًا من العمال يَوَدُّ لو يسحق هؤلاء الأخيار بصولةٍ كالتي أبداها البرابرة لتخريب رومة فيما مضى …»

«ويزول الخلاف يوم تشعر الجماعات بمصالحها الحقيقية، فتُبصر أن تَوَارِي الخيار أو ضعفهم يؤدي بسرعةٍ إلى فقرها أولًا ثم إلى هلاكها ثانيًا» (روح السياسة).

شأن الرأي العام في حياة الأمم

«سيطر الرأي العام على العالم دائمًا، ولكنه لم يُسيطر عليه في زمنٍ كما في الوقت الحاضر.»

«وكان نابليون قد أبصر تأثير الرأي العام العظيم، وعنده أن للرأي العام سلطانًا لا يُقهَر ولا يُقاوَم كما لسلطان الدين.»

«ومن يُصبح سيدًا للرأي العام يمكنه أن يسوق أمةً إلى أكثر الأعمال بطولةً، كما يمكنه أن يسوقها إلى أكثر المغامرات مخالفةً للصواب.»

«وعرف أعاظم أقطاب السياسة في كلِّ وقتٍ أن يُوَجِّهوا الرأي العام، ويقتصر محترفو السياسة الوُضعاء على اتباعه» (روح الأزمنة الحديثة).

تأثير الروح الشعبية في الحكومات

«اليوم يُتَمَلَّق الشعب ذو السيادة كما كان يُتَمَلَّق أسوأ المستبدين، وتجد شهواته الصاخبة ورغباته الطائشة مُعجبين وعابدين.»

«وعند محترفي السياسة الخادمين للعوام لا وجود للوقائع، ولا قيمة للحقائق، فيجب على الطبيعة أن تخضع لأهواء العدد» (روح السياسة).

الروح الجذرية والروح اليعقوبية

«الروح الجذرية الحديثة قريبة تمامًا من الروح اليعقوبية في زمن الثورة الفرنسية، فاليعقوبيُّ ليس عقليًّا في الحقيقة، بل مؤمنٌ، ويبعد اليعقوبي من إقامة معتقده على العقل، فيكسب براهينه العقلية في معتقده، ولا يتأثر اليعقوبي بالمعقول مطلقًا مهما كان هذا المعقول صائبًا.»

«وبما أن نظره إلى الأمور قصير إلى الغاية دائمًا فإنه لا يبيح له مقاومة ما يُسَيِّره من الاندفاعات العاطفية القوية.»

«والواقع أن اليعقوبي متدين أقام آلهتَه الجدد مقام آلهته المسنين، وإذ إن اليعقوبي مشبع من قدرة الكلمات والصِّيَغ فإنه يعزو إليهما سلطانًا دينيًّا، وهو لا يتقهقر مطلقًا أمام أعنف التدابير خدمةً لهؤلاء الآلهة الكثيري الاطِّلاب» (روح الثورات).

تطوُّر المبادئ الثورية الكبرى تقدم الاستبداد الحديث

«لم يدخل الإنسان في دورٍ من الحرية ولا الإخاء، وبما أن الحرية نُبذَتْ من قِبَل الاشتراكيين وأنصار الحكومية، فإنها عادت لا تمثل غير رمزٍ حائرٍ، وبما أن الحرية دُحرت من قِبَل جميع المدافعين عن نزاع الطبقات فإن الإخاء يبقى وهمًا بلا نفوذ.»

«وبين الثالوث الثوري المنقوش على جُدرنا دائمًا ترى المساواة أن سلطانها وحده هو الذي يَعظُم، وبما أن المساواة أصبحَتْ إله الأزمنة الحديثة فإنها ستستمر لا ريب على طرد الملوك من عروشهم وطرد الآلهة من زُونهم،٢ وذلك إلى اليوم الذي تَهلِك فيه بدورها لعجزها عن تحقيق أماني الأمم.»

«وما انفكَّ جميع الخطباء السياسيين منذ أوائل الثورة الفرنسية حتى أيامنا، يُعلنون في خُطبهم حقدهم على الاستبداد وحبهم للحرية.»

«وعلى العكس يكشف تاريخ هذا الدور عن مقتٍ عظيم للحرية، ولا سيما حرية الآخرين، كما يكشف عن ميلٍ إلى الاستبداد.»

«وتدور جميع المعارك السياسية حصرًا تقريبًا حول معرفة أيِّ الأحزاب سيمارس هذا الاستبداد وأية طبقاتٍ من المواطنين ستحتمله» (روح السياسة).

١  الصوى: جمع الصوة، وهي الحجر الذي يكون دليلًا في الطريق.
٢  الزون: الموضع تُجمع فيه الأصنام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤