الفصل الأول

القُوى المبدعة

طبيعة الإنسان وحدود معارفنا الحاضرة

تعاني المبادئ الأساسية التي تَغَذَّى بها الفكر البشري زمنًا طويلًا، وذلك حول أصل العالم وطبيعة الإنسان وقُوى الكون المبدعة، تحوُّلاتٍ تامة، وإذ كان اكتساب معارف علمية جديدة حول هذه الموضوعات يؤدي — على وجهٍ غير مباشر — إلى تحوُّلات مهمة في مبادئنا التاريخية، فإننا نُلَخِّص بعض هذه المبادئ في بضع كلمات، فنقول:

إن أول هذه المبادئ القديمة التي قضى عليها العلم هو ما كان خاصًّا بخلق العالَم، والعالَم هو ما أخرجه مختلف الأديان من العدم طوعًا بإرادة خالق.

وعنعناتٌ متماثلة لدى جميع الأمم كانت تقول كذلك بأن الإنسان خُلق خلقًا خاصًّا فُصِلَ به عن الموجودات الأخرى فصلًا صريحًا، وذلك أن خالقًا قادرًا أنعم عليه بالعقل مع روح خالدة، وأن الموجودات الأخرى لم تَحُزْ غير غرائز آليَّة لتسير في الحياة.

والعلم بعد أن أقصى الأرضَ إلى المرتبة الوضيعة التي تشغلها في العالم لم يُعَتِّم أن ربط الإنسان بسلسلة الموجودات الطويلة التي سبقته.

وقد عَقَبَتْ نظريةُ التطوُّر بالتحولات المتعاقبة قديمَ الأفكار حول التكوين، ذاهبةً من مكروب الأجيال الأولى حتى الإنسان، وهكذا حلَّ مبدأ التقلُّب محل مبدأ الثبات القديم بالتدريج.

وكانت الموجودات الأولى قد كُوِّنَتْ من خلِيَّات بسيطة صغيرة إلى الغاية مشابهةٍ للمكروبات الحاضرة، وهي لم تلبث أن أدت إلى نباتاتٍ أكثر تعقيدًا، ثم إلى حيوانات مختلفة كالزَّحَّافات والأسماك التي كان بعضها من الضخامة والقوة ما يُبيد معه الأخرى، وكان لملوك الخلق المؤقتين هؤلاء وجودٌ ذو ديمومةٍ بالغة الطول أحيانًا، ولكن من غير أن تمتدَّ امتدادًا مُطلقًا، وإذا نُظِرَ إلى الأرقام التي قدَّمها مدير المتحف مسيو إ. بيير وُجد: «أن العقارب وكلاب البحر تَثبُتُ نحو اثني عشر مليون سنة، وأن الخنافس البحرية الكبيرة ترتقي في خمسة عشر مليون سنة ثم تضمحل، وأن خنافس الدقيق أُبيدت في آخر الأمر من قِبَل أصدافٍ أخرى تُعرف بالبِلِمِنْيت.»

وتلوح آلاف سِني الحضارة الثمانية قصيرة الأمد بجانب مثل تلك الأرقام.

وظهر من المباحث الأخرى أنه يجب أن يُضاف ما بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة على الأقل تُعرف بما قبل التاريخ، إلى ما بين ثمانية آلاف سنة وعشرة آلاف سنة تُعرف بسِنِي التاريخ.

وكان لا بُد للإنسان من جميع ذلك الزمن حتى يتخلص ببطءٍ من العالم الحيواني الذي خرج منه، وبما أنه كان يجهل الزراعة والمعادن في ذلك الدور، وبما أنه كان لا يملك من الأسلحة غير قِطَعٍ من الصَّوَّان منحوتةٍ نحتًا غليظًا، وبما أنه لم يكن له من المساكن غير المغاور، فقد رسم مبادئ عظمته القادمة رسمًا خفيفًا.

•••

fig2
شكل ١-١: آلات المؤلف التي يُقاس بها تقلُّب الذاتيَّات البيولوجية المطابقة لتحوُّل الذاتيَّات النفسية.
fig3
شكل ١-٢: مزيج من فن البناء يدل على تأثير العروق الأجنبية، ميدان بهات غاؤن، التقط المؤلف صورته في أثناء رياده نيبال، تدل هذه المباني على المؤثرات الصينية أول وهلة.

وعلى الرغم من جميع الاكتشافات لا تزال توجد — كما يلوح — هُوَّة لا تُملأ بين الحيوان والإنسان، ولا بد من أن تُقطع مسافة جديدة من الفكر ليُعرف هل يختلفان ذكاءً، ويقوم هذا التفاوُت على مقدار هذا الذكاء لا على طبيعته.

وفي العلم الحديث أن الإنسان عاد لا يكون غير آخر حدٍّ لسلسلة طويلة من الموجودات التي ظهرت قبله، وهو إذا كان يفوقها في منطقة الحياة العقلية بَقِيَ مساويًا لها في منطقة الحياة العضوية، وهو لا يمتاز منها إلا قليلًا في منطقة الحياة العاطفية كما نذكر ذلك في فصلٍ آت.

وتلوح الفروق العقلية التي تفصل الإنسان عن الحيوان واسعةً عند مقابلتنا بين المتمدن والحيوانات التي بقيَتْ ضمن دوائر التطور الأدنى، وتزول الفروق أو تخف على الأقل إذا لم يُقابَل بين الحيوانات والإنسان الحاضر، بل بينها وبين أجداده الذين عاشوا في الكهوف قرونًا طويلة، وذلك في وَسط ذوات الثُّدِيِّ التي كانوا لا يمتازون منها إلا قليلًا.

ويلوح أن المجتمعات الابتدائية التي تألفت من أجدادنا الفطريين لم تكن حائزةً لبنيةٍ أرقى كثيرًا من البنية التي أظهرتها المباحث الحديثة في مختلف مجتمعات الحيوان.

والعلم، بعد أن أهمل دراستها زمنًا طويلًا، انتهى إلى اكتشافه فيها بِنْياتٍ مُحْكمةً جدًّا وسُنَنًا خُلقيةً وثيقة إلى الغاية، وبعض القابليَّات التي تنمُّ على أوجهٍ من الذكاء كان الإنسان يجهلها فيدعوها بالغريزة عن عدم إيضاح للأمر، ولا يبدو كثيرٌ من مجتمعات الحيوان أدنى من بعض العشائر الابتدائية، كعشائر إفريقية الوسطى مثلًا.

وكانت الهُوَّة التي افتُرِضَتْ بين مجتمعات الإنسان ومجتمعات الحيوان تنشأُ، إذن، عن نقص الملاحظة فقط.

•••

كانت المبادئ القديمة عن خلق العالم وطبيعة الإنسان تُشتقُّ من المعتقد العام لدى جميع الأمم وفي جميع أدوار تاريخها، القائل إن الأرض والبشرية كانتا تُسَيَّران من قِبَل موجوداتٍ عُلوية مسيطرة على الكون.

وفي أيامنا انتهى الفكر الديني والفكر العلمي إلى اتباع اتجاهين مختلفين اختلافًا بَيِّنًا، ففي المبادئ التقليدية يُوَجِّهُ العالَمَ دائمًا آلهةٌ مهيمنون مُجيرون، وفي المبادئ العلمية اسُتْبِدَل بهؤلاء الآلهة الشخصيين قُوًى غير شخصيةٍ يُمكن تذليلها.

وكثيرٌ من المشاهدات يُثبت أن التقلُّب والتحوُّل كانا شرطين ضروريَّين لجميع عناصر الكون، بَدءًا من الصخرة التي كان يلوح تحدِّيها لسير الأزمان حتى النجوم الساطعة التي تتلألأ ليلًا، فالطبيعة لا تعرف السكون، وما كان الموت نفسه ليضع حدًّا لِما يعانيه جميع الموجودات من تحوُّلات مستمرة تُعدُّ شروطًا أساسية لتطوُّرها، وكان الموت إذا ما نُظر إليه علميًّا، أي إذا ما قُطِعَ النظر عن المعتقدات الدينية، يلوح فيما مضى فَنَاءً نهائيًّا، ويصبح الموت شكلًا جديدًا للحياة إذا ما نُظر إلى النظريات الجديدة التي تَعُدُّ الشخصية مجموعةً من الذاتيات الموروثة عن الأجداد.

•••

والكون — كما يتمثله العلم في الوقت الحاضر — يلوح مؤلَّفًا من سلسلة ضروراتٍ تُعَيِّنُ تطور الموجودات والحوادث.

وشأن الوجوب كعنصر مبدع يبدو في جميع حوادث الطبيعة.

ومع ذلك فإن هذا المبدأ الحديث لا يطابق مبدأ القَدَر القديم مطلقًا، وإنما يعني أن كل حادثة مُعيَّنة ببعض العلل تعيينًا وثيقًا فقط.

ويتحول الفحم الأسود إلى ألماسٍ ساطع بحكم الضرورة إذا ما ظهر بعض شروط البيئة، ويصبح الماء مائعًا أو جامدًا أو بخارًا بفعل بعض العوامل الثابتة.

ومع ذلك فإن مبدأ الوجوب هذا لا يتضمن تبسيطًا للحوادث، وفي الحقيقة أن تفسيرها أكثر تعقيدًا مما في الزمن الذي كانت الحكمة الربانية تُقدِّم فيه إيضاحًا شاملًا للأشياء.

والعلم، إذ يعجز عن الإبداع، يستطيع فقط أن يُنظم الضرورات التي تُعَيِّن حدوث الموجودات أو الأشياء، وهكذا يعالج أمر الحرارة والكهربا والحياة من غير أن يعرف شيئًا عن طبيعتها، وأما عن الإيضاحات فيقتصر العلم على القول:

إن الحرارة قوة مجهولة في جوهرها قادرة على تمديد الأجسام، فتُقاس بدرجة هذا التمدُّد، وإن الثقل قوة مجهولة في جوهرها قادرة على جذب الأجسام، فيُقاس بطاقة هذا الجذب، وإن الكهربا قوة مجهولة في جوهرها، قادرة على إحداث بعض النتائج الضيائية الحارَّة، إلخ، فتُقاس أيضًا بشدة هذه النتائج، فهذه المشاهدات تدل على حد معارفنا، ولا يزال حقل العلل مُغلقًا.

•••

وكان علم الهيئة لا يُحصي غير بضعة آلاف من الكواكب في الفَلَك، فاكتشف الملايينَ منها، ويزيد هذا العدد كل يوم بزيادة إتقان مناهج الرصَد، وتُدفع حدود الكون إلى الوراء دائمًا، والآن يجب أن يُفترض الكون بلا حدود، أي بلا أول ولا آخر.

وهل العالم مُسَيَّر بجبرية مطلقة ملخَّصة بفرضية لبلاس القائلة: يستطيع ذكاءٌ كافٍ أن يقرأ في السديم جميعَ الحوادث المتعاقبة في التاريخ؟ لا مناص من السَّير كما لو كانت هذه الفرضية غير موجودة وإن أُثبِتَتْ.

والنجوم إذ تعاني سُنَّة التطوُّر التي تقضي على كل شيءٍ بالتحوُّل، تواجه أطوارًا من النشوء بحكم الضرورة متفاوتة إلى الغاية، ومنذ الآن يلوح على ما يُحتمل كون الموجودات التي تسكن سطحها، قد جاوزت أيضًا أدوار نشوءٍ متفاوتة، ولا ريب في أنه يوجد بينها مَن ذكاؤه بالنسبة إلى ذكاء الإنسان كذكاء الإنسان بالنسبة إلى ذكاء الحشرة.

وبما أن السلطان المطلق من خصائص العلم المطلق فإنه يجب أن تكون قدرة تلك الموجودات غير محدودة، وبما أنها تستطيع أن تطَّلع على الماضي بسهولة كالتي تطلع بها على المستقبل، فإنها تحوز معارف لا نكاد نُبصر مداها.

ففي سر تلك المناطق البعيدة، الذي لا يُدرَك، يمكن الإيمانَ الديني في أيامنا أن يضع الآلهة الذين لم تَستغنِ الروح البشرية عنهم قط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤