الفصل الثالث

أصل نشاط الموجودات

حياة الحيوان والإنسان غير الشاعرة

يمكن أن تُرَدَّ علل نشاط الموجودات إلى واحدة: وهي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم، وليس من العبث إذن أن يُدرس تأثير العناصر النفسية المُحركة لأفعالنا في كتابٍ خاص بالتاريخ.

قد يبدو هذا الزعم حول المبدأ الأوَّلِيِّ لكل نشاط ثقيلًا أول وهلة؛ وذلك لمختلف المعاني التي تُعزَى إلى كلمتَي: اللذة والألم.

حقًّا يمكن أن يُعارَض ذلك بأن الإنسان لا يُعنَى بالمرض المعدي، وبأنه لا يُلقي نفسه في الماء أو النار إنقاذًا لصنوِه، عن لذة، غير أن كلمة اللذة تدل في هذه الحال — كما في سواها مما يماثلها — على راحة يُشعَر بها في الحقيقة عند تلبية أحد الواجبات، وعلى العكس يكون الألم عند الامتناع عن القيام بذلك.

وكذلك لا يُرى أول وهلة أي دور يمكن أن تُمثله اللذة في عمل احتضان البيض الذي يكلِّف الطير نفسه به، ولا يُرى أكثر من ذلك فيما تحتمله الحشرة من مشقة لإعداد غذاء الدودة التي تخرج من بيضةٍ لا تراها تُنقَف.١

والحق أن الغريزة التي تدفع إلى مثل هذه الأفعال هي رغبةٌ ثبت أمرها بالوراثة، فيقوم الألم على عدم الخضوع لها.

فاللذة والألم إذن أصل جميع التلقينات التي تُشتقُّ منها أفعال العالم الحي، ويتوقف طبع هذه التلقينات الحتمي على درجة تطوُّر الموجودات، وهي ما يخضع لها الفطري من فوره، أي من غير تفكير، وذلك كما صنع عيسو حين باع حق البكرية بطبقٍ مجهز من العدس، وتُعَلِّم الحضارة ترويض الاندفاعات الضارة معارضة قضاء رغبة حاضرة بصورة نتيجة بعيدة.

وإذا قضى إله قادر على اللذة والألم زالت الحياة عن وجه الأرض بسرعة، فلا يقدر أيُّ داعٍ — ولو كان عقليًّا — على إخراج الموجود الحي من جمودٍ خلي يكون الموت نتيجته المقدرة إذا عاد لا يعرف الجوع ولا العطش ولا الحب ولا أي دافع إلى العمل.

•••

ومع أن القياسات بين حياة الموجودات العضوية وحياة المادة على شيء من التباعُد، فإنه يمكن أن يُقال عند النظر إلى أن الرغبة جذبٌ والألم دفع، أن هذين الحادثَين يُشاهَدان في العالم المادي، والواقع أن القُوَى الفِزيَوِيَّة كالثقل والحرارة والكهربا تتجلَّى بالجذب والدفع في باطن المادة، وبالجذب والدفع يمكن أن يُعَبَّر كذلك عن قِوَامَي العالم، وهما: الحركة، أي القوة، ومقاومة الحركة، أي السكون.

ومع ذلك لا ينبغي أن تُدفع هذه القياسات إلى مدًى بعيد.

ومع ذلك فإن من قلة المعرفة بحياة الموجودات أن يُقتصر على دراسة عناصر نشاطها الأساسية، فاللذة والألم يمكن أن يَصدُرا عن طائفة من العلل، وهذه هي العلل المختلفة: الاحتياجات والأهواء والمشاعر التي يجدُر أن تُعرف إذا ما أريد تعيين أصول الحوادث التي تتألَّف منها لُحمة التاريخ.

•••

كان علم النفس القديم يقتصر على دراسة العقل الواعي، فلم يُبالِ بالعوامل غير الشاعرة التي هي بالحقيقة مصدر جميع أفعال الحيوان حتى الإنسان، وكان ذلك العلم يفصِل الغريزة عن العقل فصلًا تامًّا، وكانت قد ابتُدعت إحدى النظريَّات الدينية التي لا يزال العلم مملوءًا بها تفسيرًا لسير الحيوانات، وذلك أن الطبيعة العطوف أنعمت عليها بقابلية خاصة؛ أي بالغريزة التي تسير بها من غير عقل، وكان يُفَرَّق بين الغريزة والعقل مع القول بأن الغريزة تنطوي على نظام يحمل الحيوانات دائمًا على القيام بالأمور نفسها على وجهٍ ثابت لا يتغيَّر، وكان كثيرٌ من العلماء — ولا سيما ديكارت — يعدُّون الحيوان آلة بسيطة تُكرِّر الأفعال نفسها بلا بصيرة ومن غير أن تستطيع تبديلها.

ونظرية مثل تلك مما لا يمكن الدفاع عنه في الوقت الحاضر، فإذا ما نُظر جيدًا إلى الحيوانات المترجحة بين أرقى ذوات الثُّدِي وأحقر الحشرات وُجد أنها تُغيِّر أفعالها وفق ما تهدف إليه من غرض، وهذه هي صفة العقل البارزة التي تُناقض الغريزة الآلية.

واعتقد كثير من علماء الطبيعة أن من الممكن عَدَّ الغرائز متراكماتٍ بسيطة وراثية، ومن الأحوال كثيرٌ لا يستطيع هذا التفسير أن ينيره، ومنها تلك البصيرة البارعة التي تُصيب بها بعض الزنابير حشرات أخرى بالفالج فلا تُبدي حَراكًا، وتظل هكذا حتى تبلغ دود الزنابير من النمو ما تغتذي معه بها.

أجل، يمكن أن توصف أفعال هذه الطبيعة بالغريزية تمامًا، بَيْدَ أنه يوجد من هذه الأفعال ما يختلف سيره وفق الأحوال، فيبدي من الصفات الأساسية ما هو خاصٌّ بالعقل من حيث النتيجة، وهذا ما جعل بعض علماء الطبيعة — ولا سيما الأستاذ بوفيه — يقول إن الحشرات تعقل كالإنسان، وأصحُّ من ذلك أن يُفترض بالحقيقة كون الحيوان لا يعقِل كالإنسان، ولكنه يملك من طُرُز المعرفة ما يختلف عن طُرُزنا، وتلك هي التي تُعيِّن سلوك بعض البعوض، ولا سيما بعوض البلاد الشمالية، فأُنثاه تحفظ بيضها أسابيع كثيرة عن تَوْرِيصٍ٢ إذا لم تتصرف بماءٍ كافٍ تضمن به حياة صغارها؛ ولذا يكون وضع البيض لديها أمرًا اختياريًّا، وهكذا يُنظر إلى مصلحة النوع البعيدة فقط. وكذلك طبائع النحل لا تدخل ضمن نطاق التعاريف القديمة؛ وذلك لأن النحل لا يُغيِّر مناهج بنائه وادِّخار غذائه على حسب الإقليم فقط، بل يتصف أيضًا باستعدادٍ عجيب لتغيير جنس دوده كما يريد بتغييره تركيب غذائه كيماويًّا، وإذا حدث ما تُحرَم به خليةُ النحل ملكتَها قدَّم النحل من الغذاء ما يُحوِّل به دودةً إلى ملكةٍ جديدة.

والملاحظات التي هي من هذا القبيل كثيرة، ومنها يُعلم أن الغريزة عادتْ لا تُعدُّ ضربًا من الخصائص الثابتة التي تُنعِم الطبيعة بها على الحيوانات عند خلقها، فهي قِسمٌ من تلك القوى غير الشاعرة التي يُمكن أن تُشاهد عند الحيوان وعند الإنسان، قسمٌ من تلك الخصائص التي أخذ العلم يتمثَّل أهميتها فقط.

•••

ويظهر أنه يمكن تقسيم الحياة غير الشاعرة إلى: لا شعور عضوي، ولا شعور فِزيوِي.

ويُبدي اللاشعور العضوي نشاطًا فائقًا ذا طبيعة مجهولة تمامًا، ويقوم بوظائف حيوية كالدورة الدموية والتنفُّس والهضم ونشوء الأعضاء، إلخ، وما يؤدي إليه من أفعالٍ هو من التعقيد — كما ذكرنا — ما لم يَرَ العالم معه بعدُ ظهورَ عِفريتٍ قادر على إدراكه.

ويبدو اللاشعور الفزيوي، المجهول في جوهره كالسابق أيضًا، أساسًا للوظائف الذهنية ويدَّخر عملها، وتُشتقُّ كل تربية من الانتفاع به، وهو لما يتصف به من جمع الانطباعات وحفظها يُزاوَل به كثير من الأمور بلا جهد بعد تعلُّمها بجهد؛ ولذلك تكون التربية فنَّ إدخال الشعوري إلى اللاشعوري كما حاولت بيان ذلك في كتابٍ آخر.

ومع أن العلم لم يتقدم كثيرًا في دراسة اللاشعور فإنه يُقرِّر بالتدريج أنه ينضج في هذا الحقل عواملُ كثيرٍ من الأفعال التي كانت تُعزى إلى العقل وحده، وفي كتابٍ آخر شبَّهتُ الحياة العقلية الخالصة بتلك الجُزيِّرات البارزة على سطح البحار المحيطة، فلا تكون في الغالب غير ذُرًى لجبالٍ عظيمة مغمورة بالبحار، فالجبال العالية غير المنظورة تُمثِّل اللاشعور، وتمثل الذُّرَى الصغيرةُ التي لا تكاد تُرى تلك الحياة الشاعرة.

وتتجلَّى أفضلية الإنسان البالغةُ على الحيوان في كونه استطاع أن يخرج قليلًا من الحياة الغريزية اللاشاعرة التي ظل هذا الأخير غارقًا فيها، وهو إذا ما خرج منها كان ذلك ناقصًا، وليس لزمنٍ طويل مطلقًا.

والحضارة تنفعُ في زجر التلقينات اللاشعورية التي تضرُّ الفرد والمجتمع، والدساتير — ولا سيما الدينيُّ منها — تُجَهِّز برسوم باطنية رادعة، أي بتلقيناتٍ ثابتة قادرة على زجر التلقينات المتقلبة التي تُحرِّكها الشهوات.

•••

ويسيطر على تاريخ الأمم ما بين اندفاعات الحياة العاطفية اللاشعورية ومؤثرات الحياة العقلية الشعورية من صراع، فمن الحياة العقلية تتفجَّر عجائب العلم التي تُعيِّن تقدم الحضارة، ومن الحياة الغريزية تُولد الشهوات وجميع المنازعات التي تُزعج حياة الأمم، وسيبقى الأمر، لا ريب، هكذا حتى اليوم الذي تتخلَّص الإنسانية فيه من الحياة اللاشاعرة الوراثية، فتبلغ من التطور الكافي ما يكون العقل معه مُسيطرًا، ولم تبلُغ هذه المرحلة بعدُ؛ ولذلك يشتمل التاريخ على قليلٍ من الحوادث التي أوحى بها العقل المحض، أجل إن الإنسان أقام مبانيَ وعَيَّن سير النجوم، غير أن تأثير المنطق العقلي ظَلَّ ضعيفًا دائمًا في الأعمال التي تتألَّف منها حياة الأمم.

وها نحن أولاء بعيدون جدًّا من المبدأ القائل إن الحياة اللاشاعرة وقفٌ على الحيوانات، ويكفي أن يُنعَمَ النظر ليُرى أنه يتألف منها أساس حياتنا الفردية والاجتماعية، فمن العادات اللاشعورية تُشتقُّ أخلاقٌ حقيقية، ويقوم ثباتُ الحضارة على عاداتٍ أصبحت لاشعورية.

وتُمثِّل هذه العادات دورًا عظيمًا في حياة المجتمعات، وهي توجِدُ وَحدةَ الفكر والعمل اللَّذَين لا يمكن أن تدوم بغيرهما حضارة، فمتى خسرت أمةٌ ما يوجِّهُ نشاطها من عاداتٍ ارتجَّتْ وفق المصادفة وسقطت في الفوضى، ولولا العادات اللاشعورية التي وجَّهَتْ حياة البشرية ما كان لها تاريخ.

١  نقف الفرخ البيضة: نقبها وخرج منها.
٢  ورصت الدجاجة: وضعت البيض بمرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤