الفصل الرابع

تقلُّب الذاتيَّات الفردية والجماعية

يُعَدُّ ثبات الذاتيَّة من المبادئ النفسية التي توشك أن تزول.

وكانت تُفترض هذه الذاتية وحيدة، فأخذت تبدو بالتدريج مُنَوَّعةً مُركَّبةً من عناصر يمنحها ثبات البيئة وحدةً ظاهرة.

وكان يبدو مبدأ ثبات الذاتية القديم سائغًا بإظهار كل فرد عددًا من الترديدات التي تُكرَّر في الحياة العامة من غير كبيرِ تغيير. ومما لا ريب فيه أنه كان يُلاحَظ ما يطرأ على طبع الفرد عينه من تقلُّب، ولكن جهل طبيعة هذا التقلُّب، وما يصدر عنه هذا التقلُّب من عوامل حقيقية، كان يُوجب وصفه بكلمة «الأهواء» الغامضة.

وكان الوهم حول الذاتية الثابتة يقوم أيضًا على الوهم حول ثبات الجسم ظاهرًا. والواقع أن الذاتية الفزيويَّة التي تصلح أن تكون إطارًا للذاتية الخُلُقيَّة تتحول بشيءٍ من البطء لتوحي بطابع الثبات.

وفي الحقيقة أن الذاتية البدنية تتحول دائمًا، وينشأ ثباتها الوهمي عن نقصٍ في وسائل ملاحظتنا فقط، فلا بُدَّ من انقضاء سنين على العين البشرية لتحقيق ما تدلُّ عليه آلةٌ دقيقةٌ في بضع دقائق.

وسواءٌ علينا أنظرنا إلى الذاتية الفزيوية أم إلى الذاتية الخُلُقيَّة لا نُبصر الموجود عينه مرتين، وما نعرفه عن الناس الذين يحيطون بنا وما يعرفه هؤلاء الناس أنفسهم يَنِمُّ على ذاتيَّاتهم الممكنة فقط.

ومع ذلك فإن من المحقَّق كَون هذه التقلُّبات لا تزيل تأثير الوراثة الثابت، فكلُّ خلية جديدة وارثة لخلية سابقة، وهي تحتفظ بعددٍ من خصائصها كَرهًا، وهذه العناصر الموروثة تمنح الفرد خصائص جِبِلِّية يكون بعضها مشتركًا بين جميع الموجودات في الفصيلة عينها أو العِرق عينه.

وتكون تقلُّبات الذات محدودة لدى الأمم التي ثبت أمرها منذ زمنٍ طويل بمصالح ومعتقدات مشتركة، ومن ثَمَّ يحوز الإنكليز أو الألمان أو الفرنسيُّون، إلخ، في بعض المسائل مجموعة من المشاعر والأفكار المشابهة لِما عند مواطنيهم، ولكن مع اختلافها اختلافًا بَيِّنًا بين أمةٍ وأخرى، وتتحوَّل الذاتية باستمرارٍ لدى الأمم التي لم يَثبُت أمرها، كالصقالبة مثلًا.

وإذا عدوتَ هذا الثبات العميق في بعض عناصر العِرق وجدتَ كثيرًا من تحوُّلات الذاتية يقع بلا انقطاعٍ في أثناء الحياة اليومية، حتى إنه يُمكن أن يُقال إن الفردية اليومية تختلف باختلاف الحوادث وعلى حسب الموجودات التي نعاشرها، وتُعيِّن نفسية هذه الموجودات نفسيَّتَنا، كما تؤدي تقلبات الجو إلى تقلُّبات مقياس الحرارة.

وتُعِين هذه الملاحظات على إيضاح حوادث تظلُّ مبهمة بغيرها، ومن ذلك أننا إذا ما أبصرنا في ذات النهار ذات الشخص يأتي باقتراحاتٍ متفاوتة القيمة أيقنَّا — على الرغم من الظواهر — بأننا كنا بالتتابُع أمام موجودَيْن مختلفَيْن لا يشتركان في غير الصورة.

•••

وتتوقَّف علة تقلُّباتنا الرئيسية على تحوُّل صورنا النفسية، فعنها تصدر آراؤنا ومسرَّاتُنا وآلامنا، ويكون أعظم محسني الإنسانية ملائكةً قادرين على منح الناس قوة يبتدعون بها كما يشتهون صور سعادةٍ نفسية بالغة التأثير، كالتي توجبها الحقائق، وإذا ما أُقنِعَت الموجودات بذلك على هذا الوجه غدت تامة السعادة لِما يَلوح من تحقيق أحلامها، فهي تصير مساويةً لأقوى الملوك من فورها وتسكن أزهى القصور كما تشاء.

ولم يُحَوِّل جميع مؤسسي الأديان، كبُدَّهه (بوذا)، وعيسى، ومحمد، إلخ، العالم إلا لأنهم أنعموا على الناس بقدرةٍ يبتدعون بها صورًا نفسية قريبةً من التي تصدر عن الحقيقة، غير أن هذه الصور كانت موصوفة، ومن ثَمَّ حتمية، ما جعلت النفس مذبذبة بين شقاء دائم ونعيم جازم، وكثيرٌ من الناس لَبَّوْا صورًا نفسية فضحَّوْا بحياتهم نصرًا لأوهامٍ كانت تسيطر عليهم.

يمكن أن يُستنتج مما تقدم كون الصورة النفسية لها من التأثير ما للحقيقة، وأنها تستطيع إبداع ذاتيةٍ جديدة فجأة.

•••

يوجد لذاتِيَّاتنا المُنَوَّعة مصادر مختلفة، وهي: (١) عناصر الأجداد المنتقلة بالوراثة. (٢) العناصر المكتسبة أو المفروضة من البيئة والتربية، إلخ.

وتُشتق من العوامل الإرثية المُقَدَّرة صفات الخُلق البالغة الثبات كَرهًا، والتي تُوجب قوة الأفراد أو ضعفهم، كما توجب قوة الأمم أو ضعفها، وتبقَى ذاتية الأجداد مجهولةً من قِبَل الذاتية المكتسبة وإن أمكنها أن تُنازعها، ويُعدُّ كل موجود حي مقبرةً يرقد فيها أجدادٌ كثيرٌ ليفيقوا أحيانًا ويُبدوا عزائم مُتجبِّرة.

وبما أن نفسيَّتنا المكتسبة التي ثبت أمرها بالتربية والبيئة والمعتقدات الدينية، إلخ، ما استطاعت، لم تحُز صلابة الروح الموروثة عن الأجداد، فإنها تكون عُرضةً لتقلُّبات عظيمة. والواقع أن الذاتية الخُلُقيَّة وهي تمثل ترديدًا لمُركَّباتٍ من ذاتيتنا، وذاتية الأشخاص الذين تقع معهم علاقات، تبدو متحولة، على الخصوص، من الحين الذي تُضطرُّ فيه إلى ملاءمة حوادث مفاجئة.

ويكون التاريخ، في أثناء الأزمات الاجتماعية الشديدة، مملوءًا بتلك التحوُّلات المفاجئة، ومن ذلك أن أبطال الثورة الفرنسية السَّفَّاحين الذين سلبوا ضرائح الملوك وقطعوا رءوس المئات، كانوا في الأوقات العادية من البُرجوازية المسالمين، كانوا من القضاة والموَثِّقِين والمحامين، إلخ، فلما سكنت الزوبعة لم يفقهوا شيئًا من الأعمال التي اقترفوها، وكيف كان يمكنهم أن يدركوا أمرها بعد أن عادت الذاتية المؤقتة التي حملتهم على إتيان تلك المنكرات غيرَ موجودة؟

وتحوُّلاتٌ نفسيةٌ عظيمةٌ كتلك لا تُلاحَظ في أثناء الانقلابات التاريخية كالحروب أو الثورات فقط، بل يُمكن أن تَظهر أيضًا بفعل معتقدٍ دينيٍّ قويٍّ جدًّا أو بفعل أهواءٍ شديدةٍ كالحب مثلًا، وليست الأقوال بل الأفعال هي التي تكشف إذ ذاك عن ذاتية الساعة.

وتنشأ عن معظم الأديان تحوُّلات مفاجئة في الذاتية بالغة من الشدة ما يكفي لحمل المؤمنين على التضحية بحياتهم نصرًا لمثلهم الديني الأعلى.

وتملأُ الذاتيات المفاجئة التي تَظهر بفعل الحب حياة مجتمعاتنا أيضًا، فيُنتفع بها من قِبَل واضعي المآسي في جميع الأزمنة، ويصدُرُ عن كثيرٍ من المؤلفين أمثلةٌ بارزةٌ عن نظرية تعدد الذاتيات مع جهلهم إيَّاها، ومن ذلك على الخصوص قصة سيدة أَفَسُوس المخلَّفة عن العالَم اليوناني الروماني القديم والمفسَّرة في الغالب من قِبَل بترون حتى لافونتِن. ومن ذلك أيضًا رواية ريتشارد الثالث لشكسبير التي تُرى فيها سيدة شريفة تَنسى في بضع دقائق مشاعر حقدها على قاتل زوجها المعبود الذي لم يزل تابوته قائمًا حوالَيْها.

•••

وتقلُّبات الذاتيَّة تلازمها تقلُّبات فِزيولوجية دائمًا.

وكنت منذ حينٍ قد صنعتُ عدة آلاتٍ أنشر صورة بعضها هنا لقياس هذه الأخيرة، والمناهج التي تُستعمل هي من التفصيل ما لا نرى معه بيانها هنا، فبها يتضح تحوُّل الذاتية البالغ.١

والذاتية — فضلًا عن هذه التقلُّبات العادية — تتحول في جميع الأحوال المرضية نتيجةً لبعض الانحرافات في العناصر العصبية، فهذه الحادثات الناشئة عن أصلٍ مرضي تُشاهَد في أدوار التاريخ المضطربة على الخصوص، وذلك لدى التَّبَعة المجاورين لحدود الحماقة، فهم يضربون الرُّصَّاد الذين يبالغون في تأثيرها غالبًا.

ويجب أن يُنتفع بنتائج هذا النهج — ولكن بتحفُّظ — في تفسير الحوادث وفي دراسة رجال التاريخ دراسةً نفسية.

ومن المؤرخين مِثل: مِيشْلِه من أسهبوا كثيرًا في بيان هذا النهج، وقد بالغ بَسكال بعض الشيء حينما قال مؤكِّدًا إن العالم كان يتغير لو كان أنف كليوباترة أقصر مما هو عليه، وإن النصرانية كانت تُخرَّب لولا حَبُّ الرمل في مثانة كرومويل. ومع ذلك فإن مما لا يُنكَر كون تغيُّرات الذاتية تغيُّرًا مرضيًّا قد مثلت دورًا عظيمًا في سلوك كثيرٍ من الملوك، فاذهبْ من قياصرة الرومان إلى شارلكِن، فإلى فليب الثاني الإسباني، تجد أمثلةً كثيرة على ذلك، وذلك إلى أن من الممكن جدًّا أن يكون مثل هذه الانحطاطات قد أدَّى إلى مشاريع زَيَّنَتْ تلك العهود، وفي أيامنا اتفق لبعض الحركات الشعبية كالبُلْشِفية في روسية والشيوعية في فرنسة على الخصوص، دُعَاةٌ ممن تغيَّرَتْ ذاتيَّتهم تغيُّرًا عميقًا بعوامل مَرَضِيَّة.

وتكون تقلُّبات الذات التي تُلاحَظ لدى الأفراد وهم منعزلون أبرز من ذلك كثيرًا في الجموع، كالاجتماعات الشعبية والبرلمانات ومجالس الحرب، إلخ، فهنالك تتكون في كل مرة روحٌ عابرة كنت قد بيَّنت أوصافها عندما درست روح الجماعات.

وبين أظهر ما تتصف به هذه الذاتيَّات الجمعية الموقتة نَعُدُّ سرعةَ التصديق وعدم التسامح والعنف وتعذُّر السير بلا نفوذِ زعيم، وما للجماعة من حالٍ نفسية يُعَبِّدُ ذاتية كل عضو في هذه الجماعة تعبيدًا تتحوَّل به تمامًا، فيمكن المسالم حينئذٍ أن يصبح مفترسًا، والبخيل مبذرًا، إلخ.

وتمثل الذاتية القومية ذاتيةً جمعية ثبت أمرها بعوامل شتَّى، وهي: المعتقدات الدينية والأخلاق والعادات، إلخ. ومن بين مختلف العناصر التي تُعيِّن تاريخ إحدى الأمم تجد ذاتيَّتها القومية، التي تنطوي على ذاتية قادتها وذاتية مَقُوديها، تُعيِّن مجرى مصيرها تعيينًا وثيقًا.

١  يعرض بعض ترديدات النظام العصبي (التي قِيسَتْ بالشوكة المرنة المسجلة للجزء الواحد من المائة) حالًا من التقلُّب ما يسفر معه القياسان المتتابعان عن أرقام يمكن أن تتحول من البسيط إلى المركب تقريبًا، وقد قدم عن ذلك مثال بدوام الزمن الضروري للنظام العصبي حتى يقاوم أحد المُهيِّجات، ويعرض قياس المعادلة الشخصية ذات التقلُّبات، ومع ذلك فقد شاهدت ثباتًا عظيمًا في معدل الملاحظات المتعاقبة، وذلك على أن يقوم هذا المعدل على نحو خمسة عشر من الأرقام. ويؤدي أقل اضطراب إلى تقلُّبات كبيرة في الذاتية البيولوجية، ولا سيما الضغط الشرياني، ومع ذلك فإن هذا الموضوع هو من الاتساع العظيم ما لا يمكن حتى الإلمام القليل به هنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤