الفصل الثالث

مصادر الخطأ في التاريخ

ما يمكن تَبَصُّره وما لا يمكن

اليوم يعترف المؤرخون — على العموم — بما لمناهج البحث القديمة من قيمة ضعيفة، ومن ذلك ما قاله مسو سنيوبوس في كتابٍ لخَّص فيه دروسه التي ألقاها في السُّربون: «تقوم مبادئ التاريخ على ما لم نشاهد من وقائع موصوفة بعباراتٍ لا تدع لنا عرضها عرضًا دقيقًا.»

وما كان الأمر ليظهر غير هذا، فبما أن الملاحظات التي انتفع بها في الماضي مجردةٌ من قواعد قويمةٍ فإنها لا تدل على غير آراء مؤلفيها.

ويجب أن تنمو روح النقد في التاريخ قبل أن تُقَوَّم الأغاليط القديمة، ولا سيما تعيين ما يكون عامًّا في الأحوال الخاصة.

والأمر كما لاحظ فُستل دوكولَنج القائل: «ولكن روح النقد منذ ١٥٠ سنة كانت تقوم في الغالب على عادة الحكم في الأمور القديمة من حيث احتمال وقوعها، أي من حيث مطابقتها لما نراه ممكنًا أو قريبًا من الصدق، وإذا أُدرِكَتْ روح النقد على هذا الوجه لم تكن أمرًا غير الرأي الشخصي أو العصري القائم مقام رأي الماضي الحقيقي، فحُكِمَ وفق الشعور ومنطق الأشياء اللذين لم يُوضَعا قط وفق المنطق المطلق، ولا وفق عادات الشعور العصري.»

ولا يوجد غير عدد قليل جدًّا من ذوي النفوس النفَّاذة بعض الشيء من يستطيع أن يُفسِّر الوقائع، أي: أن يَميز الأفكار تحت الكلمات والمشاعر تحت النصوص، وأن يُفرِّق بين العوامل الحقيقية للحوادث التي يَقُصُّها كثيرٌ من المؤلفين من غير أن يُدركوها، وقد جدَّد فُستِل دوكولَنج الذي استشهدتُ به جميع تاريخ العصر الميروفنجي مع بعض الخلاصات القصيرة التي لم يُبصر أسلافه شيئًا منها على الإطلاق.

•••

وبدأ المؤرخون المعاصرون يُدركون ضعف قيمة الوثائق التي كُتب التاريخ استنادًا إليها.

أجل، ظلَتْ سذاجتهم عظيمة، ولكن من غير أن تُساوي سذاجة أسلافهم في القرون الوسطى حين كانوا يَعُدُّون من الحقائق جميع الأوهام التي يَرْوونها، وقد كان عندهم من الاستعداد العجيب ما يستخرجون به من أي نص أبعد التفاسير من الحقيقة وما يُبيِّنون به أدعى المستحيلات إلى الدهش.

وقد كان حتى القرن السادس عشر يُعلَم كحقيقةٍ لا جدال فيها كون الفرنسيين من نسل فرَنكوس بن هِكتور، الذي فرَّ من حصار تِرْوادة، وكون اسم عاصمة فرنسة من اسم باريس بن بريام، وكون الترواديين بنوا المدينة الفرنسية تِروا، وأن محمدًا كان كردينالًا فغضب لعدم انتخابه بابا؛ فصار مُلحِدًا وأقام دينًا جديدًا، وأن يهوذا كان قد قتل أباه ليتزوج أمه، إلخ.

ومن الواضح أننا أقلُّ سذاجة في الوقت الحاضر، ولكن مع بقاء العلم التاريخي سلبيًّا على الخصوص، ويُدرِك هذا العلم تقريبًا أن من المتعذِّر حدوث بعض الأمور كما كان يُقَصُّ خبرها، وذلك من غير أن يُحسِن معرفة الوجه الذي وقعت به.

•••

ومهما تكن درجة المؤرخ من اللَّقَانة فإنه يصعُب عليه أن يتخلص من العوامل الناشئة عن عقائده السياسية والدينية، ولا سيما المشاعر الصادرة عن البيئة التي يعيش فيها، فالمؤرخ يختار من الوقائع غالبًا ما يلوح أنه يُسَوِّغ به أفكاره وأهواءه وعقائده حاذفًا غيره.

قال سِنيوبوس أيضًا: «والواقع أنه يقوم بين النص والنفس الميَّالة التي تقرؤه صراعٌ فظيع، وتأبى النفس إدراك ما يناقض رأيها، والنتيجة العادية لهذا الصراع أن تخضع النفس لصراحة النص، ولكن الذي يقع هو أن النص يُذعِن وينثني ويَرضى بالرأي المبتسر الذي يُساور النفس …»

حتى إن الوقائع المودعة في الوثائق لو كانت صحيحة جدًّا لم يتألف منها غير موادَّ لبناء يجب أن يُقام فيما بعدُ، وتكون الاستعلامات الكثيرة عن الحوادث التاريخية الحديثة نسبيًّا متناقضة، ومن المحتمل أن يُكتشف فيها دائمًا تسويغًا لرأيٍ ما، ولا شيء في التاريخ أسهل من تأييد رأيٍ مخالف لذلك، وهذا ما يكاد يتعذَّر في العلوم، حيث لا قيمة لقضيةٍ إلا عند تسويغها بالملاحظة أو التجربة.

قال مسيو بواسيه: «لا يرغب علماؤنا الشُّبَّان أن يزعجوا أنفسهم كثيرًا بتكرار ما قيل قبلهم بعد أن يقضوا أيامًا كثيرة في المكتبات ومخازن المستندات مطالعين الأوراق القديمة، وهم يرون أن طُرفة الآراء شاهدةٌ على عمق الأبحاث، فيحاولون إعادة الاعتبار إلى من حُكِمَ عليهم من الأعيان، جاعلين فخرهم في تبديل الآراء الدارجة.»

وهكذا أمكن أن يُقرَّر كون نِيرون خير الأبناء وأكثر الأباطرة إنسانيةً، وكون روبسبيِر رجلًا كثير الحلم نَزُوعًا إلى جعل الناس يعتنقون أفكاره بالإقناع، وهكذا يحاول أساتذة شُبَّان أيضًا أن يثبتوا لنا كون جان دَرْك ولويس الرابع عشر لم يتصفا بأية مزية كانت، وأن دُبلِكس لم يكن غير دسيسٍ خسيس، إلخ، ويسعى آخرون أن يثبتوا لنا كون شكسبير وكُرْنِي ولارشْفُوكُلْد قد اقتبسوا أفكار كُتَّابٍ سابقين فقط.

•••

واليوم نرى ببطء — ولكن مع اطمئنان — كون دراسة التاريخ تُصبح من عمل العلماء، مع أنها كانت من عمل الأدباء فقط، ويقوم التدقيق التاريخي مقام أهواء الخيال.

والعلم هو الذي يُسَوِّغ على الخصوص ترك الأفكار الغريبة المنتشرة في زمن روسُّو عن صلاح الإنسان صلاحًا أصليًّا، وعن كمال المجتمعات الفطرية، أي ترك هذه الأفكار التي وجَّهت مُحرِّكي الثورة الفرنسية.

وقد استطاع علم المستحاثات وعلم وصف الإنسان برسمهما تطور الإنسان جسمًا وذهنًا أن يستبدلا بالمباحث الأدبية وثائق صادقة يتلاشى أمامها جميع تفصيلات رجال البيان.

وعاد لا يبقى للمؤرخين حصرًا غير حل النصوص والمخطوطات، وليس هذا عملًا غير نافع تمامًا لا ريب، ولكن ما أشدَّ شحوبه بجانب النتائج التي تُسفر عنها استقصاءات العلم الحديث!

وفي التاريخ حلَّ مبدأ التطوُّر التدريجي محل التحوُّلات المتقطعة والمفاجئة، والأمر كما لاحظه مسيو سِنيوبوس حول الزمن المعروف بعصر النهضة، فقد قال: «إذا كانت قد وُجدت نهضةٌ في الفنون لم يُمكن وقوعها في غير عهد شارلمان في القرن التاسع، لا في القرن السادس عشر، فقد جُدِّدَ المأثور في القرن التاسع وعاد غير منقطع، ولا تُبعث الفنون والآداب، ولكنها تُوَاصل تطورها، حتى إن فن البناء بلغ أعلى مراتب إبداعه وقوته في فرنسة في أوائل القرن الثالث عشر مع الفن القوطي.»

•••

وتسيطر على الحادثات العلمية سُنن وثيقة تجعل إدراك الأمور قبل وقوعها أمرًا سهلًا، وهكذا يمكن أن تُعيَّن حركة السيارات ومحلُّها في زمنٍ ما، وأن يُعيَّن تاريخ الكسوف الصحيح، إلخ.

ولا يعرف التاريخ مثل هذا الإحكام، فالعلل التي توجب الحوادث هي من الكثرة — ومن البُعد أحيانًا — ما يُحظَر عليها معه مثل تلك البصائر حول علم الفلك.

ومعرفةُ المستقبل، وإن كانت تتعذر في الأحوال الخاصة التي تتكرر على وجهٍ واحد نادرًا، تُصبح سهلةً نسبيًّا حول الأحوال الجمعية، ومن ذلك أن علم الإحصار وُلد من تطبيق هذا المبدأ، وتبدو نبوءاته من الصحة كنبوءات علم الفلك، أجل، لا يمكن تعيين الوقت الذي يموت فيه فردٌ من جيلٍ ما، غير أن وضع جداول عن الوفيات يؤدي إلى تحديد عدد من يموتون من أفراد ذلك الجيل في كل سنة، وفي الغالب يَسمح انتظام بعض الحوادث الاجتماعية بأن يُنبَّأ بها منذ إحلال البصائر عن الجمع محلَّ البصائر عن الفرد.

وإذا عَدَوْتَ تلك البصائر عن الجمع وجدت من البصائر ما يُمكن وصفه بالبصائر النفسية، فلم تكن هنالك ضرورةٌ مثلًا إلى أن يكون الإنسان ذا نظر ثاقب ليرى نمو شبح بونابارت وراء الاضطرابات الثورية، ولا ليُحِسَّ أن وعيد الاشتراكيين في سنة ١٨٤٨ أدى إلى ظهور دِكتاتور جديد استُقبل مثل منقذ.

وهذه التقديرات النفسية سهلة نسبيًّا، ومنها ما صُغته بنفسي قبل الحرب عندما قلت مؤكِّدًا في كتابي «روح السياسة»: إن حربنا القادمة مع ألمانية هي — خلافًا لجميع ما ينادي به دعاة الإنسانية — «ستكون صراعًا فاقد الرحمة، فتُخَرَّب به ولايات بأسرها، فلا يبقى قائمًا فيها شجرٌ ولا حجر ولا بشر.» وفي كتابٍ آخر أبديتُ الأسباب التي استندتُ إليها في هذه النبوءة.

•••

وفي بعض الأحيان يُمكن أن تُبصر الحوادث الخاصة قبل وقوعها إذا ما كانت نتيجةً مُحتملة لحوادث سابقة، فلو كان لدى قَتَلَةِ قيصر حِسٌّ تاريخيٌّ أدق مما عندهم لأدركوا أن القيصرية لم تكن من صُنع قيصر، بل نتيجة منازعاتٍ اجتماعية وحروبٍ أهلية ومَقَاتل أمر بها سيلَّا وماريوس، وسلسلةٍ من الاضطرابات كانت تحمِل كل مواطن أن يرجو ضمان حياةٍ هادئة له.

وإذ أَعمت رجالَ السياسة أوهامُهم السياسية فإنهم يَبدون على العموم مُجرَّدين كثيرًا من مزية البصر في الأمور، ولو كان ذلك حول أقرب الحوادث، وإذ لم يُدرِك المعتقِد العالَم إلا من خلال روح معتقده السياسي أو الديني المشوه فإنه يعيش ضمن دائرةٍ خيالية ويظل غريبًا عن الحقائق.

وأربعةٌ من خمسة ملوك حكموا في فرنسة في غضون القرن التاسع عشر ذهبوا ضحية عدم التبصُّر الناشئ عن أغاليط نفسية.

ويتألف من معظم الحوادث العظيمة في غضون الحرب الأخيرة، كمعركة المارن، والتدخُّل الأمريكي، والخيانة الروسية، والانكسار الألماني، وزعامة الولايات المتحدة، سلسلة أمور لم تخطر ببال إنسان، فغير المنتظَر في هذا الدور هو الذي سيطر على التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤