الفصل الرابع

روح النقد في التاريخ

رأينا في الفصول السابقة مقدار الارتياب في تفسير الوقائع التاريخية القديم، حتى التي تُعَدُّ أكثرها شهرة.

وكان يجب للحكم فيها في بدء الأمر أن تُحذَف العوامل القومية والدينية والسياسية التي تُعَيِّن معظم الأحكام حذفًا تامًّا، وما كُتب في مُختَلَف البلدان من مؤلَّفات حول الحوادث نفسها يشتمل — بفعل سلطان تلك العوامل — على تقديراتٍ مختلفة أشد الاختلاف.

وفي المؤلفين تؤثر المُبتسرات١ الدينية على الخصوص وإن اعتقدوا تخلصهم منها، وهكذا انتهى كثيرٌ من المؤرخين مثلًا إلى آراءٍ شديدة الخطأ حول قيمة الحضارة الإسلامية، ويظل التحامُل على العالم الإسلامي السابق مُستعصيًا حتى الوقت الحاضر، فيحتاج تاريخ القرون الوسطى إلى تجديدٍ في جميع أجزائه الخاصة بانتقال الحضارة القديمة إلى الأزمنة الحديثة.

ويهدف مؤرخون كثيرٌ إلى التخلُّص من التفاسير الشخصية، فيريدون تأليف حوادث زمنٍ ما تأليفًا مُجدَّدًا بسلسلةٍ من البطاقات مشتملةٍ على مقتطفاتٍ من الوثائق، أي الشهادات، وسنُبيِّن في فصلٍ آتٍ نقص هذه الوسيلة في الاستقصاء.

•••

وكلما كَمَلَتْ مناهج دراسة التاريخ شُوهِد تعيين معظم الحوادث بسلسلةٍ من العلل الخفية، ولا يُحَدِّث التاريخ عنها مطلقًا، مع أنها هي التي توجِد التاريخ.

وينشأ أحد مصادر الخطأ الكبرى في تفسير الحوادث الماضية عن محاولة المؤلفين إيضاح الوقائع بأفكار الحاضر بدلًا من تقديرها وفق أهواء كل زمن ومشاعره المتقابلة.

وليس العمل سهلًا، فيجب مثلًا أن يُوصَل إلى إدراك روح المؤمن المسيطر عليه اعتقاده، وإدراك كون روح البارون الإقطاعي المهددة حياته دائمًا غير مشابهة لروحنا، وإدراك روح الثوري المنوَّم بأحلامه، إلخ. وكيف يكون تأثُّر الرجل في أيامنا بالمناقشات حول العناية الربانية التي هزَّت الفرنسيين المثقفين هزًّا عنيفًا في زمن اليَنْسِنْيُوسية؟ وكيف تُنتحل حال رجال القرون الوسطى ورجال الهَول النفسية؟ لا ريب في كون العالِم المحقق يَشعر في مكتبه بكثيرٍ من المشقة حتى يُبصر الضرورات التي حملت سِيلَّا وماريوس على إهلاك ألوف المواطنين من الرومان، وحملت قيصر على عبور نهر الرُّوبِيكون، وشارل التاسع على معاناة إرادة الشعب التي تُعَدُّ سببًا حقيقيًّا لمذبحة السان بَرتِلْمِي.

ويجب لحسن إدراك معنى هذا الحادث التاريخي أو ذاك أن يُوصَل إلى إحياء ما يمكن أن يُدعى «روح الزمن»، هذه الحساسية المتقلبة إلى الغاية والمؤثرة حينًا ثم الدارسة المخلوعة حينًا آخر.

وتتحول فرنسا في الدور القصير الممتد بين آخر عهد لويس السادس عشر وإعادة الملكية تحوُّلًا أعظم مما في عهدَيْ لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر.

•••

واليوم يُمكن أن تُبيَّن، على الرغم من كل تقدُّم علمي حديث، درجة تجرُّد المناهج المُتَّخَذَة لتعيين الحقائق التاريخية من روح النقد، وذلك بالاستقصاء الطويل الغالي الذي أمر به الريشتاغ، وصولًا إلى معرفة عِلل هزيمة الألمان، وكانت اللجنة التي فُوِّضَ إليها هذا الاستقصاء مؤلَّفة من رجال فُضلاء، وقد عمل هؤلاء ثمانية أعوام وأنفقوا مبالغ طائلة، فكانت النتيجة التي وصل إليها هي: «أنه يجب أن تُعزى عِلل الهزيمة إلى تفوُّق الحلفاء الحربي والاقتصادي، وأنه لا يمكن أن يُنسَب أيُّ خطأٍ إلى قادة الألمان.»

إن هذه النتيجة مُختلفٌ فيها؛ لأنه إذا كان من الصعوبة الشديدة أن يُصاغ رأيٌ قاطع عن علل هزيمة الألمان فإن من الممكن أن يُلاحَظ صدورها عن عاملٍ نفسيٍّ أساسي — لا ريب — غفلت عنه اللجنة، وهو ضياع الثقة بالنصر النهائي. وكان ضياع الثقة هذا ينشأ عن نقص بصيرة إمبراطور ألمانية الذي أدت أغاليطه النفسية إلى تدخُّل جيش أمريكي يزيد كل يوم، وكان الشأن الحربي لهذا الجيش الذي ارتُجل على عجلٍ في حكم المعدوم، ولكنه كان بالغ النفوذ، فلم يلبث أن قُطِعَ أمل مَدَنِيِّي الألمان والجيش الألماني من نَيل نصرٍ على مثل هذا الجمع، فغُلبت ألمانية في آخر الأمر بعواملٍ نفسيةٍ أكثر تأثيرًا من المدافع.

•••

ومهما يبقَ من نقصٍ في المناهج التاريخية التي تُشتقُّ منها أحكامنا فإنها حقَّقَتْ تقدُّمًا جديرًا بالذكر مع ذلك، ويُشاهَد هذا التقدُّم عند المقابلة بين الآراء الحاضرة في بعض النظم كالإقطاع مثلًا، وما كان يُصاغ في موضوعه من آراءٍ منذ نحو نصف قرنٍ من قِبَل كُتَّابٍ كثيرين، ولا سيما المؤرخ المشهور غيزو، فقد قال:

«لم تشعر الشعوب بغير الحب والشكر حينما كانت تُقام الحصون الإقطاعية، فهي لم تُبْنَ ضدها بل من أجلها. وكانت هذه الحصون مركزًا عاليًا يقوم بالحراسة فيه حُماةٌ يترقَّبون العدو، وكانت مستودعًا أمينًا لمحصولاتها وأموالها، وكانت إذا ما وقعت غاراتٌ ملجأ لنسائها وأولادها ولأنفسها. والحق أن كل حصنٍ قوي كان ينطوي على سلامة كُورةٍ.

وعادت الأجيال الحديثة لا تدري ما الخطر ولا الحاجة إلى النجاة.»

إذن: كان النظام الإقطاعي ضرورةً في زمن ظهوره، أي في زمن الغزوات، وكانت الخِدَم التي يقوم بها تُسَوِّغ التكاليف المفروضة مبادلة، ولم يُمقَتْ هذا النظام إلا بعد أن صار غير نافع، فزعم أنه يحافظ على امتيازات لم يبقَ ما يُسَوِّغها. وقد جاء زمنٌ أنقذ الإقطاع فيه فرنسة التي تخلَّتْ عنها السلطة المركزية، ثم جاء زمن عاد الإقطاع لا ينفع فيه لغير البَغْي على البلد، وهذا الذي جعله ممقوتًا.

•••

والتاريخ، فيما عدا الحوادث الصغيرة التي يختلف تفسيرها بكل اتجاه جديد، يتألف من آراءٍ عامة، لا تلبث أن تستقرَّ حول كل دور، فهذه الآراء العامة هي التي تُعرِّفنا الكتب بها.

وقد تنوَّعَتْ هذه الآراء كثيرًا لفقدان روح النقد، حتى إنه يُرى عند عدم النظر إلى غير الحوادث التي وقعت منذ ١٥٠ سنة، أن هذه الحوادث أدت إلى أكثر التفاسير تناقُضًا حول تكوينها ونتائجها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جاء في تاريخ الثورة الفرنسية التي عُدَّتْ في ثلاثة أرباع قرن حادثًا عجيبًا لإصلاحها جميع شئون الحياة، فقد حرَّرَتْ فرنسة من نِير الطغاة، وألغت الامتيازات، ووضعت من المبادئ الجديدة ما يكون به مختلف الشعوب سعيدًا باعتناقها، وصارت المذاهب الثورية دستور العالم بفضل حربٍ دامت عشرين عامًا في طول أوربة وعرضها.

وقد بقي هذا المبدأ، الديني حقًّا، عن دورٍ من أكثر أدوار التاريخ شؤمًا، ثابتًا لا يتزعزع، إلى أن أوجبت مناهج النقد الدقيق التي حمل لواءها مؤرخون كثير، ولا سيما تِين، استبدال الحقيقة بالأوهام، وهنالك رُئيَ أن الامتيازات التي ألغتها الثورة الفرنسية كانت سائرة نحو الزوال قبل حدوثها، وأن المساواة أمام القانون كانت تُوشِكُ أن تُفرَض في كل مكان، وهناك رُئي أيضًا مقدار الوهم في الإكليل المجيد الذي كان المؤرخون الروائيُّون يُتوِّجون به هذا الدور، فقد رُدَّ «غيلان العهد» إلى نِسب عادلة وظهر المستوى وضيعًا جدًّا، بعد أن ثَبَتَ أن أوهامهم كانت كبيرة وأن أحكامهم كانت حقيرة.

أجل إن الثورة الفرنسية أوجدت مساواةً في حقوق المواطنين لا عهد للماضي بمثلها، غير أنها قضت على كل استقلال في الحياة الإقليمية البالغة النشاط فيما سلف، فصار لا يُتصوَّر اليوم وجود مجلس للمديرية أو وجود مجلس عام مثلًا يقاوم الأوامر الصادرة عن وزارة الداخلية، وكانت مقاومة مختلف البرلمانات للأوامر الملكية — ولا سيما رفض الموافقة على ضرائبٍ جديدة — من عادات العهد السابق اليومية، ويكفي للدلالة على ذلك أن يُذكر من بين ألف مثالٍ وضع برلمان غِرينوبل الذي رفض الخضوع للمراسيم الملكية. وإليك العبارة التي ذكرت بها إحدى الصحف هذا الحادث منذ عهد قريب:

حدث في سنة ١٧٦٠ أن حَمَلَ محافظ دُوفينه الكونت مَرسيو بالقوة على تسجيل مرسوم ملكي يفرض ضرائب جديدة، وحدث في سنة ١٧٦٣ أن جَرُؤ برلمان دوفينه على إقامة تظاهرات تجاه السلطة الملكية، وحدث في سنة ١٧٨٦ أن رفض مُجدَّدًا تسجيل مرسوم، وحدث في سنة ١٧٨٧ أن دعت الحكومة أعيان الولاية إلى اجتماع لإحباط عمل البرلمان، فأعلن هذا البرلمان للملك وللأمة خيانة من يشترك في ذلك الاجتماع، فأُبعد القضاة في سنة ١٧٨٨، وكان سفرهم سببًا لعصيان الأهلين، ويجتمع الأعيان في دار بلدية غرينوبل، ويقررون الاحتجاج على تعدِّي البلاط، ويطالبون بحفظ امتيازات البرلمان الدُّوفيني.

ويُذعَر البلاط فيرسل كتائب، وهنالك يقيم ممثلو الطبقات الثلاث بقلعة فيزيل التي تدخل في التاريخ.

ثم إن استقلال القضاء كان في العهد السابق أوسع بمراحل مما في الوقت الحاضر، ويمكن أن يُحكم في هذا بالأمر الآتي الذي جاء في إحدى الصحف الكبرى، والقائل — على حسب تقرير وزير العدل مسيو راوُول بِيرِه — إنه تلقَّى في بضعة أشهر ٨٠٠٠ رسالة من رجال البرلمان يلتمسون فيها أوسمةً أو ترَقِّيًا للقضاة.

ويُذكر تحرير الفلاحين كإحدى النتائج الكبرى التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية، ولكن مثل هذا التحرير قد تمَّ من قِبَل حكوماتٍ ملكية في البلدان الأخرى، ومن ذلك أن لوحظ بحقٍّ كون حكومة فينه الإمبراطورية قد حققت تحرير الفلاحين هذا، وكونها جعلت التجارة والمواصلات عصرية في هُنغَارية، وفي أيامنا أتت رومانية مثل هذا التطوُّر من غير أن تقع أية حركة ثورية.

وهل يكون للأمة عوض في تعجيل إصلاح، كان يُحقَّق مع الزمن تحقيقًا غريزيًّا، مما تكون قد عانته من عنفٍ وتخريبٍ نتيجة لثورة تهدف إلى إنجاز ذلك الإصلاح بسرعة؟ يتوقف على الجواب عن هذا السؤال ما يمكننا أن نُصدر من أحكامٍ حول الثورة الفرنسية وحول عصر الانقلابات التي تُعدُّ أصلًا لها.

أجل إن الحماسة العمياء السابقة حول ذلك الدور دامت زمنًا طويلًا، ولكنها ضعفت في أيامنا كما يلوح، وتُسَوِّغ روح النقد استنباط معارف كثيرة من هذه الأزمة الكبرى، ولا سيما ما يجب على الأمم الراغبة في اجتناب الثورات من أن تُلائم بالتدريج مقتضيات الزمن الجديدة التي تنشأ عن تحولات العالم المتصلة.

•••

وتساعد الملاحظات السابقة على بيان مقدار ما تتحول به مبادئ التاريخ القديمة بظهور روح النقد.

فبينا كان مؤرخو الماضي يُفسِّرون الحوادث على حسب مشاعرهم الشخصية ومعتقدات زمانهم، يعتنق مؤرخو الوقت الحاضر بالتدريج مبدأ الضرورات التي تُقَيِّد العالم، وسواءٌ أكانت هذه الضرورات حربية أم دينية أم اقتصادية فإنها تختلف باختلاف الزمن، فيقوم عمل المؤرخ على تعيين الضرورات التي تؤثر في الأمم في مختَلَف مراحل تطوُّرها.

وتُمَهَّد مصاعب تلك التفسيرات بعض التمهيد بفضل الوثائق التي تُلقِي شيئًا من اليقين على حوادث الماضي، فالكتب الحجرية كالمباني والتماثيل والخطوط، وكذلك المؤلفات التي يُفترض أنها وليدة الخيال الخالص، كالأقاصيص والروايات والأحاديث زاخرةٌ بالمعارف الدقيقة، فقد صدر التاريخ الصحيح عن وثائق لم يُبحث عنه فيها.

١  Préjugés.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤