الفصل الأول

أشكال التطوُّر الاجتماعي العامة

تاريخ الأمم حافلٌ بالأحوال العَرَضية التي لا يستطيع عقلٌ أن يُبصرها، ولكن نُظُمها وعاداتها تعاني تطوُّرًا منتظمًا انتظامًا كافيًا، وبما أنني كنت قد درسته في كتابٍ آخر١ فإنني أكتفي بإحالة القارئ عليه، ففيه يرى كيف ظهر ونما التملُّك والأسرة والحق والأخلاق ومختلف عناصر الحياة الاجتماعية.

ومعرفة ماضي البشرية حديثة، وبلغ من جهله في زمن الثورة الفرنسية ما كان يُقترح معه اتخاذ المجتمعات الابتدائية قُدوة.

وقد صُحِّحَتْ مراحل التطور الاجتماعي التي قُطعت بالتتابع وفق مناهج متنوعة، ومن أكثر هذه المناهج فعلًا دراسة الأمم الوحشية التي بلغَتْ وجوهًا من التطوُّر مختلفة.

ومع ذلك فإنه يمكن أن يُبصَر بعض أشكال ابتدائية للبشرية بدراسة الولد في السنين الأولى من حياته، فهذا المتمدن المُقبِل إذ يُكرِّر متعاقب المراحل لحياة الأجداد الطويلة، لا يكون في البُداءة سوى موجودٍ مندفع يَجهل الرحمة والحذر ومحبة الآخرين، ولا يُعرف غير قانون الأقوى، ولا يعلم جميع الصفات المفروضة على الإنسان بتكديسٍ من الجهود المكررة في قرونٍ كثيرة، وهو يسير بقسوة الهمجي، وضعفه وحده هو الذي يَحُول دون ظهوره خطِرًا.

وإذا نُظر إلى الولد من الناحية الذهنية جد أقرب إلى الأجداد في العصر الحجري منه إلى آبائه الأدنَين، ويظل ذكاؤه ابتدائيًّا زمنًا طويلًا، ولا تقوم معارفه في بدء الأمر على غير تسلسلٍ غليظ شأن معارف الفطري.

•••

ولا يتم تقدم البشرية في غضون الأجيال إلا بتكديس بطيء من التحوُّلات المختلفة باختلاف شروط الحياة، ومن ذلك أن الأهلين الذين يجهلون الزراعة ولا يعيشون بغير ما يُنتِجه صيدهم، كانوا يرون من الواجب الطبيعي أن يَقتُلوا وأن يأكلوا أحيانًا من يَهرَمُ من أقربائهم، اتِّباعًا لسير العشيرة غير المنقطع.

ومن بين مناهج تصحيح الماضي تبرز الأحاديث والأقاصيص أيضًا، أي تبرز أولى رسوم التاريخ، فهي تكشف عن الضرورات التي عَيَّنَت العادات والنُّظم، ولا سيما الأمومة وتعدد الأزواج من الذكور، وإذا ما قرأنا في إحدى الحماسيَّات الهندية كَوْنَ دَرُوبَدِي الحسناء قد تزوجت أبناء الملك باندو الخمسة، أمكننا أن نستخرج من هذا أن عدد النساء في البلد الذي تمت فيه هذه الاقترانات أصبح أقلَّ من عدد الرجال، كما يُلاحَظ هذا حتى الآن في بقاعٍ كثيرة منعزلة، ككشمير مثلًا.

ومن الطبيعي أن يختلف الزمن اللازم لتحقيق أحد التحولات الاجتماعية بالتطور باختلاف نفسية كل أمة، فعند بعضها تجد دور الحجر المنحوت — الذي هو صفة أوائل ما قبل التاريخ — قد امتدَّ إلى أيامنا، وقد لقيتُ بعض بقايا هذا الدور في أثناء رحلاتي في الهند على الخصوص، فالإنسان إذا طاف في شبه الجزيرة الكبرى هذه أمكنه أن يرى انتشار أدوار الإنسانية المتعاقبة المترجحة بين عصر الكهوف وعصر الهاتف.

وكانت مراحل التطور المدني الأولى بعيدة المدى إلى الغاية، فلم تُجاوز إلا في زمنٍ طويل جدًّا، وكان لا بدَّ للإنسان الابتدائي أن يُكدس جهودًا قبل أن يُحقق تقدمًا كثير البساطة ظاهرًا، كصنع النار، وحرث الأرض وزرعها، وجمع بضع كلمات يتألف منها رسم لغة، إلخ، فلما تمت الخطوات الأولى سار التقدم سيرًا ثابتًا سريعًا. ومع ذلك فإن الزمن الضروري لبلوغ الإنسان الابتدائي درجة أبسط الحضارات يُقدَّر بمدة تترجَّح بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة.

وصار التقدم بالغ السرعة في زمنٍ بالغ الجدة فقط، فقد كان القرن الأخيرة شاهدًا في مختلف فروع المعرفة على اكتشافات أعلى بمراحل من جميع الاكتشافات التي تمت في أثناء تعاقب الأجيال التي سبقته ببطء.٢

وما وقع من تحقيقٍ عن تطور الأمم ظلَّ مجهولًا زمنًا طويلًا، فلم يزل مؤرخون من ذوي الفضل، كرينان، يتصورون إلى وقتٍ قريب كون الأغارقة ظهروا في التاريخ حائزين بغتة حضارة رفيعة، واليوم نعلم أن أمم كَلْدَة ومصر كانت قبل الأغارقة بزمنٍ طويل، قد أنضجت على مهلٍ كل تقدم ظهرت الحضارة الإغريقية إزهارًا له. والحق أنه كان لا بد لإعداد هذه الحضارة من جهود أربعة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة موزعةٍ بين سهول كلدة وضفاف النيل. وكانت الثقافة اليونانية في الأزمنة القريبة من بِرِكلِس تمثل حاصل حضاراتٍ كثيرة صُهرت في واحدة، ففي آسية وشمال إفريقية — لا في بلاد اليونان — كان أصل الحضارة الإغريقية إذن.

ويصبح تطور إحدى الأمم رجعيًّا بعد أن كان تقدُّميًّا، فبهذا الرجوع تُبصر جميع الحضارات ختام دورتها.

وتتجلَّى معلولات مثل ذلك الانحطاط لدى مختلف الأمم — ولا سيما المعاصرون — بالعود من الحياة الفردية إلى الحياة الجمعية، والواقع أن الانتقال من حال الهمج الفطريين إلى الحياة الفردية كان من تقدم البشرية، فالحضارة تميل إلى الزوال إذا ما عاد الإنسان إلى الحال الألبية، أي: إذا ما خضع لعوامل العدد مقدارًا فمقدارًا، وتُعد الاشتراكية والشيوعية التي هي طورها الأخير مَظهرين خالصين لهذا الميل الرجعي.

•••

وعلى العموم تتطور الأمم تطورًا يلائم الضرورات التي توجبها الأحوال، وعندما يصبح مزاجها شديد المحافظة فيَحُول دون تطورها بسرعةٍ كافية لا تتم الملاءمة الضرورية إلا بثورة عنيفة، ومن ذلك حال الثورة الفرنسية التي ألغَتْ آخر امتيازات الأشراف بعد أن عادت لا تُسَوِّغها أية خدمة خاصة.

أجل، إن الثورات تُغَيِّر حال الشعب الحاضرة، ولكن بما أنها لا تستطيع مسَّ الحال الماضية فإن هذا الماضي لا يلبث أن يسترد نفوذه، ويدلُّ تاريخ الانقلابات المتنوعة التي وقعت في فرنسة في القرن الذي عقب الثورة الكبرى على سلطان هذا النفوذ، أي: وطأة القوى الموروثة اللاشعورية التي توجه المشاعر ومن ثم توجه السَّير.

وتدل الثورة الروسية مرة أخرى على أن المبادئ، التي يتم الانقلاب الاجتماعي باسمها، تعود غير مرعية من قِبَل الثوريين الظافرين، وهكذا انتهى الشيوعيون، الذين كانوا يريدون جعل المِلك جمعيًّا، إلى إعادة المِلك الفردي، وقد انتهوا أيضًا إلى الحكم بأساليب الشرطة الإرهابية التي كان يُطبقها القياصرة السابقون.

•••

ومن الطبيعي أن تبدو شروط العيش المادية التي تخضع لها المجتمعات بين العوامل التي تُعيِّن تطور هذه المجتمعات، ومن الطبيعي أن تختلف أساليب العيش باختلاف الأمم الصائدة والزارعة والتاجرة، إلخ.

وكان يلوح عدم استحقاق هذا الأمر الجلي الذي لا جدال فيه لأي إثبات، ومع ذلك فقد انتفع به في وضع المذهب المنعوت بالمادية التاريخية لقيامه على تفسير التاريخ تفسيرًا اقتصاديًّا حصرًا، فبعد أن قرَّرَ واضعو هذا المذهب — كما صُنع غير مرة — أن الحوادث الاقتصادية تفيد الوقائع كثيرًا، قالوا مؤكدين إن جميع حوادث التاريخ المهمة تُشتقُّ من النظام الاقتصادي لحينه، فالحياة الاقتصادية تُفسر الحياة السياسية، حتى الأفكار والمعتقدات.

وقد أدت هذه المبادئ المبسطة التي كان ماركس رسولها الأكبر إلى ديانةٍ جديدة، إلى الشيوعية، وبما أن المذهب الشيوعي يقيم الإدارة الحكومية مقام الجهد الفردي فإنه يعطل كل تقدم، وما تتمتع به الولايات المتحدة التي يقوم الجهد الفردي فيها مقام الإدارة الحكومية خلافًا لذلك من رخاء يدل على ما لتطبيق هذين المبدأين من نتائج مختلفة.

ومن الطبيعي أن تَظهر الأحوال الاقتصادية التي يُعلِّق مذهب المادية التاريخية أهمية كبيرة عليها بين علل تطور الأمم، ولكن من المستبعد أن تكون أهمها.

وكثيرٌ من العوامل الأخرى ما يمثل دورًا أساسيًّا في بعض الأزمنة، كمبدأ القوميات الذي قام عليه إصلاح أوربة بعد الحرب الأخيرة، ومبدأ الوحدة الذي حفز كثيرًا من الدول الصغيرة إلى إقامة إمبراطوريات كبيرة.

ولو وجب أن تُعزى الحوادث التاريخية إلى عِلَّةٍ واحدة كما يصنع أنصار الماركسية اليوم، لأمكن أن يُقال إن بُنيان الأمم الفِزيولوجي — أي: العِرق — أهم من العامل الاقتصادي، ويكفي لاعتقاد ذلك أن يُرى أن العوامل الاقتصادية عينها تؤثِّر تأثيرًا مختلفًا في عروقٍ متباينة، كالبِيض والزنوج، إلخ.

وفي النظريات الشيوعية تُطرح أوضح الوقائع عندما يلوح أنها مناقضة للمذهب، ومن ذلك أن كارل ماركس لا يؤمن بغير سلطان الجماعات، مع أن العالم لا يتقدم إلا بالأخيار، فالبخار والكهربا وجميع الاكتشافات التي حوَّلَتْ حياة الأمم أمورٌ تمَّتْ بعمل أفراد أقوياء، لا بعمل الجماعات على الإطلاق.

وبما أنه لا يمكن أن يُدرَس في هذا الكتاب مختلف المناهج التي يُصحَّحُ بها الماضي تصحيحًا صادقًا، فإننا نقتصر على درس المناهج التي تُزَوِّد فلسفة التاريخ بأسسٍ علمية حقيقية.

١  «الإنسان والمجتمعات، مصدرهما وتاريخهما»، ويقع في مجلدين.
٢  قُدِّرَ بسبعمائة مليون سنة (؟) ما مر من زمن بين ظهور المستحدثات التي تدل على حياة الموجودات الأولى، والتي وجب أن تكون الموجودات الحاضرة قد خرجت منها بعد ما لا يحصيه عد من التحولات، وقدرت بخمسين ألف سنة على العموم مدة ما قبل التاريخ، أي الزمن الذي اقتضاه أجدادنا الأولون ليخرجوا من الحيوانية الأولى، وقدر الزمن الذي مر بين أوائل الحضارات الأولى والزمن الحاضر بما بين سبعة آلاف سنة وثمانية آلاف سنة على الأكثر، ويُعدُّ دور الاكتشافات الكبرى كالبخار والكهربا، إلخ، التي قلبت حياة الأمم حديثًا جدًّا، فهو لا يكاد يبلغ ١٥٠ سنة، فهذه الأرقام تدل على بطء التقدم الأول المتناهي وسرعة التقدم الذي ظهر تتويجًا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤