الفصل السادس

تعيين معنى الكلمات في دراسة التاريخ

عدم التفاهم بين مختلف النفسيات من أهم عوامل الصراع التي تملأ التاريخ، وهو فضلًا عن ذلك يجعل إدراك الماضي أمرًا صعبًا، ولعدم التفاهم ذلك سببان مهمان، وهما: اختلاف الأمزِجة النفسية، واختلاف اللغات.

وإذ يوجد لكل أمةٍ كما لكل فردٍ استعدادٌ مختلفٌ للتقبُّل، فإن الكلمات نفسها والحوادث نفسها توجب فيهم ردود فعلٍ متباينة.

والأمم يتبع بعضها بعضًا من الناحية الصناعية والتجارية، على حين يوجد بينها من الفروق النفسية التي لا سلطان لها عليها، ما يفصل بعضها عن بعضٍ لزمنٍ طويل.

ولا نصلُ إلى فهم خُلق الأمم ذات المزاج النفسي القريب من مزاجنا إلا بعد عناءٍ كبير، فإذا ما نُظر إلى العروق المختلفة عنا كثيرًا: كالزنوج، والصينيين، إلخ، وُجد من المتعذِّر أن يُنفَذَ إلى مشاعرها وأفكارها.

ويُضاف إلى عدم التفاهم الناشئ عن الفروق بين أمزجة الأمم: عدم التفاهم الناشئ عن تطور معنى الكلمات في غضون الأجيال، فالكلمات تُعاني السُّنَّة العامة التي تحمل جميع عناصر الطبيعة على التغيير، ولا جرم أنها تبقى مع الزمن، غير أن معنى مجموع الألفاظ المجرَّدة يختلف باختلاف الأزمان.

وحينما نعتقد أننا نترجم من اللغات القديمة لم نصنع في الغالب غير استبدالنا بفكرنا الحديث فكرة كان يُعبَّر عنها بكلماتٍ تَغَيَّر مضمونها تغيُّرًا بطيئًا مع الأجيال.

وكانت هذه التفاسير الناقصة مصدر خطأٍ كثير، ومن ذلك أن ساقت رجال الثورة الفرنسية إلى مبادئ بالغة الخطأ حول نُظُم العالم القديم، فلم تكن عند المبدعين الذين كانوا يعتقدون أنهم يستوحون مبادئ اليونان ورومة، مستشهدين في خُطبهم دائمًا بليكورغ وسولون وأفلاطون وبلوتارك، إلخ، أية فكرةٍ صحيحة عن النُّظُم المُعبَّر عنها بألفاظٍ تَغَيَّر معناها تغيُّرًا أساسيًّا.

ومما يُلقي الدهش في نفوس هؤلاء المُصلحين لو كانوا يُطلَعون على الأمر القائل إن الجمهوريات اليونانية كانت على العكس من خيالهم الديموقراطي، ما كانت قائمة على أُلِيغارشياتٍ١ متنازعة بلا انقطاعٍ، وحاكمةٍ في أمةٍ من العبيد ومن زُبُنٍ مُعَبَّدين.

وكانت الحرية والمساواة — ولا سيما الإخاء — كما نتمثَّلها اليوم، من المشاعر التي كان يجهلها العالم القديم، وما كان إغريقي عصر بِرِكلس إلَّا ليُدهَش من المعني الذي نُطلقه عليها.

ولذلك يكون من الضروري عندما ندرس الماضي أن نحاول إعادة المعنى الحقيقي إلى الكلمات المستعملة، غير أنه يصعُب تحقيق هذا الجهد كما يلوح؛ وذلك لأنه إذا كان من الممكن ترجمة كلمةٍ بدقة فإن من المتعذر أن تُثار في النفس ما كانت هذه الكلمة تثيره من الأفكار والمشاعر فيما مضى، فبعض الكلمات التي أصبحت خليَّةً في الوقت الحاضر قلبت روح الناس في سالف الأيام.

وبإعادة المعنى الحقيقي إلى بعض الكلمات استطاع فُستِل دو كولنج أن يُعيد حياة عهد الميروفَنجيين.

واليوم أيضًا يُدرَك عين الكلمات ذات الاستعمال اليومي إدراكًا مختلفًا تمامًا باختلاف عرق من يستعملونها وبيئتهم وتربيتهم، وسيُرى في التعليقات التي نَختِم بها هذا الكتاب مقدار ما يمكن أن تتخذه الكلمات ذات الاستعمال العام، ككلمة الديموقراطية، من معانٍ تختلف باختلاف رجال السياسة الذين يستعملونها يوميًّا.

وفي حقل العلم فقط وبعد جهد قرونٍ قامت في آخر الأمر لغةٌ تُفسَّرُ على نمطٍ واحد تفسيرًا عامًّا، والناس من جميع الأحزاب ومن جميع الأمم المتمدنة يعرفون مضمونًا واحدًا للكلمات الفنية، ويُمثل العلم — على الخصوص — حقل الكمِّي، أي الأشياء التابعة للقياس، مع أن الوجه الوصفي لم يُجاوَز في حقل المشاعر والمعتقدات.

والتاريخ ما دام لم يستطِع الخروج من الوصفي، أي: ما دام لم يستطع الاستناد إلى أُسسٍ علمية حقيقية، فُسِّرَ حصرًا تقريبًا بلغة الكاتب الذي كان يُفسره وبمشاعره ومعتقداته.

١  الأليغارشية: هي حكومة بعض الأسر القوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤