الفصل الرابع

المعتقدات الوجدية ذات الشكل السياسي

عندما عادت حماية الآلهة التي تُنال بالأدعية لا تؤيد الإنسان بحث الإنسان عن آمالٍ أخرى، فظنَّ أنه يكشفها في الأوهام السياسية والاجتماعية، وكان الإيمان الأعمى الذي يَصدر عن الروح الوجدية دائمًا أحد العناصر الأساسية لشكل المعتقدات الجديد هذا.

أجل، إن سلطان بعض الخيالات السياسية ذات الشكل الديني هو من القوة كسلطان الأديان أحيانًا، غير أنه وقتيٌّ على العموم، وتوجب هذه المعتقدات السياسية ذات الآمال وذات عدم التسامُح وذات الاحتياج الشديد إلى الانتشار كالعقائد الدينية.

وتمنح المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني أتباعها قوةً عظيمة كما يمنح الدين الجديد، ويُزوِّد التاريخ بأمثلةٍ كثيرة على ذلك، ولا سيما دور الثورة الفرنسية، فما كانت الجمهورية لتستطيع أن تقابل جيوش الملكيات الأوربية المُسِنَّة القوية بغير كتائب سيئة العُدَّة سيئة النظام، ومع ذلك فقد تمَّ لها النصر، وقد نشأ هذا الحادث غير المنتظَر عن كون جنود الثورة ذوي إيمانٍ دينيٍّ عميق بما كانوا قد اعتنقوه من عقائد جديدة، وعند هؤلاء كانت البشرية المُحوَّلة تدخل في طورٍ عامٍ من السعادة، وكانت المجتمعات تعود إلى ذلك الدور الابتدائي الذي يتألف منه عهد مساواةٍ وحرية وإخاء بالغ اليُمن كما يرى النظريُّون الجاهلون شدائد ما قبل التاريخ.

•••

وكذلك يمكن أن يُذكر بين المعتقدات السياسية، الحائزة لِما في المعتقدات الدينية من قوةٍ مُثَبِّتة، شوق بعض الشعوب إلى الصدارة، ويدلُّنا تاريخ نينوى وبابل ورومة في الأزمنة القديمة، وتاريخ إسبانية وإنكلترة وألمانية في الأزمنة الحديثة، وتاريخ الولايات المتحدة في أيامنا على تأثير المثل الأعلى المُكوَّن من هذه الوجدية الجماعية التي تُمثِّلها عبادة الوطن.

واليوم يُمَثَّل أنشط المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني من قِبَل الاشتراكية ومن قِبَل الشيوعية، التي هي طور الاشتراكية الأقصى، ويَعظُمُ سلطانهما كلَّ يومٍ بسبب الآمال التي تُعلَّقُ عليهما، وتُمثِّل الإكليركية الجذرية والإكليركية الشيوعية والإكليركية الكاثوليكية أشكالًا تختلف قليلًا عن الإيمان الوجدي نفسه، مع عدم تعقيب الأهداف عينها.

وتُغرِق الاشتراكية أوربة كما أغرقت النصرانية أوربة منذ ألفَي عام، والاشتراكية تنتشر بسرعةٍ أقل مما انتشرت بها النصرانية لِما تصادمه من عوامل اقتصادية لا عهد للعالم القديم به.

ثم إن المذهب الاشتراكي هو من البساطة ما يجعله سائغًا عند كل ذكاء، وقد أجاد الوزير الاشتراكي الإنكليزي مستر مَكدوُنَلد التعبير عن مبادئه الأساسية حول ذلك بالكلمة الآتية، وهي:

«إن الاشتراكية مبدأ جماعةٍ منظمة نظامية حاملة لواء سلطةِ المجتمع الاقتصادية والمادية، وذلك على وجهٍ يمكن الفرد فيه أن يُحَرَّر من الضغط ويتمتع بحرية نشوئه.»

وهذا المبدأ إذا عُبِّرَ عنه باصطلاحاتٍ عملية دلَّ على إدارة جميع الصناعات تحت رقابة الدولة، أي من قِبَل جَحْفَلٍ من الموظفين، وقد أثبت تطبيق هذا النظام، الذي حُقِّقَ في روسية، أن الإدارة الحكومية أغلى بدرجاتٍ من الإدارة الرأسمالية الفردية من ناحية، وأكثر ضغطًا بدرجاتٍ منها من ناحيةٍ أخرى.

ثم إن الاشتراكية وأختها الشيوعية تنسيان أن الإدارة الحكومية تُعَطِّل الجهد الشخصي بسرعة، تُعَطِّل هذا المصدر لكلِّ تقدُّم.

والأمة إذا ما أضاعت استعدادها للجهد وقعت في انحطاطٍ عميق.

وهكذا تجد الاشتراكية ضدها سُننًا اقتصادية كما تجد سُننًا نفسية، ومع ذلك فإنها تكون من القوة بنسبة الأوهام الوجدية التي تستند إليها؛ ولذلك لا ينبغي أن يُدهَش من انتشارها بسرعة، وتغزو الاشتراكية أُممًا مستقرة كالإنكليز بعد أن خَرَّبَتْ روسية، ولم تستطع بلاد أخرى كإيطالية وإسبانية وبولونية أن تقِي نفسها من تخريباتها إلا بدِكتاتوريَّات فعَّالة.

وللشيوعية — القائمة نظريًّا على تساوي الناس في الرزق كما تقوم الاشتراكية — قوة دعايةٍ أعظم مما لهذه الأخيرة؛ وذلك لاستنادها إلى ضروب الحسد والحقد الشديدَين على شكلٍ آخر.

وإذا عدوت تلك الأمثلة العظيمة البارزة، مكتفيًا بتصفُّح تاريخنا الحديث، اعتقدتَ شأن المعتقدات السياسية على شكلٍ ديني، وما كانت فرنسة ميدانًا له من انقلابات منذ ثورتها الكبرى يؤلف أدلة مؤثرة، وتساعد هذه الانقلابات أيضًا على شعور أكثرية الناس الساحقة باحتياجٍ شديد إلى مَثَلٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ عالٍ بالغٍ من القوة ما يُثَبِّتُ الأفكار ويُوَجِّه السَّير، وذلك على الرغم من شوقهم إلى الحرية.

وإذا كان كثيرٌ من النفوس يعيش مضطربًا حائرًا فذلك لأنه لم يجد بعد مثلًا وجديًّا عاليًا بالغًا من القوة ما يسيطر عليها.

مبدأ توازن المعتقدات السياسية الجديدة والمعتقدات الدينية القديمة أمرٌ أساسي، وهذا المبدأ وحده يستطيع أن يوضح انتشار بعض الحركات المناقضة على الخصوص لمقتضيات الاقتصاد في الزمن الحديث.

وتمثُّل الأديان القديمة دائمًا دورًا مهمًّا في حياة الأمم السياسية، على الرغم من الميل إلى استبدال مختلف المعتقدات السياسية بها، وقد شُوهد ذلك عندما تمرَّدَتْ الألزاس على القوانين الخُرْقِ التي تؤذي معتقداتها الدينية، ولا يزال أقلُّ المسائل اللاهوتية في إنكلترة قادرًا على تحريك الرأي العام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما وقع من مناقشاتٍ عنيفة في البرلمان البريطاني حول الاقتراح القائل بإدخال تغييرٍ طفيف إلى كتاب الصلوات الرسمي.

•••

ويُخيَّل إلى رُسُل المعتقدات السياسية الجديدة المُعَدَّة للقيام مقام المعتقدات الدينية القديمة أن يُدافعوا عن مبادئَ كثيرة التقدُّم، مع أنهم في الحقيقة يعودون غالبًا إلى أشكالٍ من التطوُّر الأدنى قُطعت منذ زمنٍ طويل.

وفي أثناء الثورة الفرنسية على الخصوص يوجد في القضايا الثورية كثيرٌ من المبادئ الرجعية، والواقع ماذا كان يطلب روبِسبِيِر وزملاؤه الغِلاظ؟ كانوا يطلبون العَوْد إلى نُظُم المجتمعات الابتدائية التي رأى أستاذهم جان جاك روسُّو أنها تقضي بالعجب كما افترض، مع أن هذه المجتمعات كانت تُؤلَّف من وحوشٍ لا أثر للحضارة فيهم، وما يطلب الشيوعيُّون اليوم غير الرجوع إلى أشكالٍ من التطور تُركت منذ أزمنة التاريخ الأولى، فعادت لا تُرَاعَى من قِبَل أُناسٍ غير القبائل الدنيا؟

•••

وما بين مقتضيات الاقتصاد والأوهام السياسية ذات الشكل الديني من تناقضٍ لم يُبصره المؤمنون قط، وكُنَّا قد لاحظنا أن ما في المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني من قوةٍ عظيمة يقوم على عدم الاكتراث لِما تستلزمه حياة الأمم من شروطٍ حقيقية، ويَلوح أن هذه الأوهام قد تُصُوِّرَتْ لموجوداتٍ مفتعلةٍ خاليةٍ من الهوى والإرادة، مُعدَّةٍ لاتباع سُبُلٍ متماثلةٍ من المهد إلى اللحد.

وإذ ليس على برامج المصلحين الوجدية أن تُبالي بما يسود العالم من ضروراتٍ فإنها تكون زاخرة بأكثر الآمال إغواءً، وهي تنطوي على بيانٍ عن السلم والاتفاق ونزع السلاح وتساوي الثروات والأحوال، مع عدم اكتراثٍ للحقائق الاقتصادية التي تُقيِّد الحياة الحاضرة بالتدريج تقييدًا وثيقًا.

ويُحرِّك الزمن الحاضر تحريكًا عنيفًا بما بين العوامل الوجدية التي تَقهر الروح البشرية دائمًا، ومقتضيات الاقتصاد التي تنشأ عن تقدم العلم من تناقُض، ولا مِراء في حُلُول الأوهام السياسية محل الوهام الدينية، ولكنَّ كلًّا منهما يصطدم بذات المصاعب التي تنشأ عن تقدُّم المعرفة بالكون.

وفي كل يومٍ يَعظُم الحقيقي الذي هو وليد العلم من غير أن يقدر على القيام مع ذلك مقام غير الحقيقي الذي يحتاج القلب إليه، ولا ريب في أن العاملين الكبيرين: العلمي والديني اللَّذين يُوَجِّهان حياة الناس، سيدومان دوامًا متوازيًا زمنًا طويلًا.

أجل، إن المعارف العلمية غيَّرَتْ ناحية الحضارات المادية تغييرًا عميقًا، غير أن المعتقدات الوجدية دينيةً كانت أو سياسية ظلَّتْ قادرةً وحدها حتى الآن على إيجاد اتحاد المشاعر والأفكار الضروري لثبات الذاتيَّات الجمعية. ولا شكَّ في أن ختام ما بين الحقيقي وغير الحقيقي من صراعٍ عظيمٍ لا يزال يهز العالم سيكون مبدأ حضارات جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤