الفصل الثاني

الأوهام السياسية

يظهر الصراع بين مختلف المُثُل العليا في المرتبة الأولى من عوامل انحلال حياة المجتمعات.

وقد رأينا أن المُثُل العليا القادرة على توجيه حياة الشعب لا تدوم في كل وقت، فهي تخسر سلطانها على النفوس في آخر الأمر على الخصوص، لِما تعود غير ملائمةٍ للضرورات الناشئة عن تطوُّر العالم باستمرار، وتُولدُ أوهامٌ جديدة تصطرع مع الأوهام الماضية التي حافظت على نفوذها بفعل الوراثة، وقد قلب هذا الصراع النفسي أوربة منذ ١٥٠ سنة.

وكان تاريخنا الخاص المترجِّح بين الثورة الفرنسية وأيامنا نزاعًا مستمرًّا بين مختلف المُثُل العليا، وكانت نتائجه الأولى ظهور دِكتاتورٍ لا بد منه لإعادة النظام، ثم اشتعال حروب عشرين عامًا بين الأمم الدافعة عن مثلها الأعلى القديم وحُماة المثل الأعلى الجديد.

وقد دام النزاع على الرغم من موت الفاتح ممثِّلًا لخيال الثورة، وما وقع من إعاداتٍ للنُّظُم لم يُفلح في تثبيت المثل العليا السياسية، وظهر بعد انقلاباتٍ اجتماعيةٍ أخرى نشأت عن بلبلةٍ في النفوس دِكتاتورٌ جديد هتفت له سبعة ملايين صوتٍ، وهو إذ لم يعرف اجتناب العَمَايات النفسية التي ذهب أسلافه ضحيةً لها، شاهد ختام دوره بحربٍ طاحنةٍ يجب أن يُبصَرَ أصلُها في العلل البعيدة للمذابح العظيمة التي عاناها العالم.

•••

ويتألف من أغاليط معاهدة الصلح التي خُتمت بها الحرب الأخيرة مثالٌ بارزٌ على ما يمكن أن يكون للأوهام النفسية من نتائج في حياة الأمم، وليس من غير المفيد أن يُبحَثَ في تكوينها.

كان جهل حال ألمانية السياسية تامًّا، وكان هذا البلد العظيم يُعَدُّ إمبراطورية وُحِّدَتْ تمامًا، مع أنها كانت تُؤَلَّف في الحقيقة من ممالك مختلفة أَلَّف بينها دفاعٌ مشتركٌ لحينٍ.

ثم إن امتزاج مختلف الدول في إمبراطورية واحدة لم يقع إلا على عقب الانتصارات الجِرمانية التي تمت سنة ١٨٧١، فقد تذرَّع بسمارك بنفوذه فنال في ذلك الحين موافقة ملوك الممالك الألمانية: بفارية، وسَكسُونية، ووُرْتِنبِرغ، إلخ، على تأليف اتحادٍ يرأسه ملك بروسية ليقوم بإدارة المصالح العسكرية المشتركة بين جميع هذه الدول على الخصوص.

وما كان هذا النظام ليَحرِم البلاد المتحدة استقلالها مطلقًا، ولكنه كان يضعها في الأعمال الحربية وقليلٍ من الشئون العامة تحت إدارة ملك بروسية، الذي اتخذ في البُداءة لقب إمبراطور ألمانية الفخري فقط، وكانت كل واحدة من الدول المتحدة تحتفظ بولي أمرها وبوزرائها وإدارتها، أي باستقلالها الذاتي، وأراد بعض هذه الدول: كبفارية أن يدلَّ على استقلاله جيدًا، فداوم على تمثيله في الخارج بمفوَّضين دِبلُميين.١

ومن الطبيعي أن يُوسِّع الإمبراطور الذي لم يكن غير مديرٍ للمصالح المشتركة سلطاته بالتدريج كما يقع في أحوالٍ مماثلة، فأصبح سيد ألمانية الوحيد في أثناء حرب سنة ١٩١٤ لمدة القتال على الأقل.

وفي البُداءة قُصِرَ سلطانه على تفوُّقٍ بسيط، فاحتُمل بلا حماسةٍ في كل وقتٍ من قِبَل الدول المتحدة، حتى إن كثيرًا من هذه الدول — ولا سيما بفارية — أبدى ثاني يوم الهُدنة ميلًا جليًّا إلى الانفصال.

ولو كان الحلفاء يُدركون وضع ألمانية السياسي الحقيقي حين كتابة معاهدة الصلح لأيَّدوا هذه الميول، ولو فاوضوا مختلف الدول الجرمانية على انفرادٍ وفق شروطٍ تختلف باختلاف هذه الدول لاجتنبوا من فورهم وجود ألمانيةٍ موحدةٍ متوعدةٍ أمامهم.

ولا ريب في أن الدول التي وَحَّدَتْ بروسية بينها موقتًا كانت تهدف إلى الوحدة في آخر الأمر، غير أنه كان لا بُدَّ من انقضاء زمنٍ طويل يُهمَل في أثنائه كلُّ أملٍ في الانتقام بحكم الضرورة.

وبعد أن ساعدت الدِّبلمية الأوربية على قيام مركزيةٍ، كان يجب أن تؤجِّل حدوثها، أساءت إلى نفسها كثيرًا بمنعها ألمان النمسة من الانضمام إلى ألمانية، فلا بُدَّ من وقوع هذا الانضمام الذي يطالب به المغلوبون باسم مبدأ القوميات الوهمي الذي نادى به الغالبون، وسيقع هذا بالتدريج ومن غير عنف حينما تُلغَى الجمارك بين البلدين ويُوَحَّدُ ما بين مصالحهما المشتركة، وهنالك تُدمَج الجمهورية النمسوية في الإمبراطورية الألمانية مع محافظتها على استقلالٍ ذاتيٍّ ظاهر، وذلك كما اتَّفق تمامًا لبفارية وسكسونية ووُرتِنبرِغ، إلخ، التي تؤلف اليوم جزءًا منها.

وعندما يتمُّ هذا الضم تكون ألمانية قد نالت كثيرًا بالحرب، مع أن جميع بلاد أوربة خَرِبَتْ بهذا الصراع الهائل.

ومما يُلاحَظ مع ذلك أن النمسة الفخورَ باستقلالها كانت لا تفكر في الانضمام إلى ألمانية مطلقًا، لو لم يُجَرِّدها صانعو معاهدة الصلح من أجمل ولاياتها لتتألف منها ممالك منفصلةٌ.

ومن النتائج القريبة أو البعيدة لمبدأ الحلفاء الضار الذي صدر عن أوهامهم النفسية: إحداث دويلات متنافسة راغبةٍ في التوسُّع على حساب جيرانها ومُعِدَّةٍ لأوربة حروبًا جديدة بذلك، وذلك فضلًا عن توسُّع ألمانية بضمِّ النمسة إليها.

ويُعَدُّ تقسيم النمسة إلى ممالك منفصلة باسم مبدأ القوميات مثالًا على الخطأ الذي يُقترف بتطبيق مبدأ سيرٍ على أدوارٍ من التاريخ لا قيمة له في غير أدوارٍ أُخرى، وكان يُمكن أن يُلجأ إلى مبدأ القوميات فيما مضى، ولكنه قام مقامه منذ قرون كثيرة مبدأٌ أكثر ملاءمةً للحاجات الجديدة، أي: مبدأ جمع الدول الصغيرة ضِمن دول كبيرة.

ولو كان الألمان غالبين لأمكنهم أن يزعموا، باسم مبدأ القوميَّات، أن بريتانية ونورماندية وأُفِرنية وبورغُونية، إلخ، إذ كانت تشتمل على عروقٍ مختلفةٍ وجب أن تؤلِّف دولًا مستقلة، وبذلك تكون فرنسة قد قُسِّمَتْ كما وقع للإمبراطورية النمسوية في الوقت الحاضر.

•••

ومن بين الأمثلة على نفوذ الأوهام النفسية في التاريخ يُمكن ان تُذكر السياسة التي اتَّبعتها أوربة نحو تركية، هذه السياسة التي تَظهر بين علل الحرب العُظمى.

أجل، ما فَتِئَ بعض ولايات شبه جزيرة البلقان كالبوسنة وبلغارية، إلخ، يُدار منذ فتح القسطنطينية من قِبَل الترك بإدارةٍ عثمانيةٍ شديدة، غير أن هذه الإدارة تتصف بملاءمتها تمامًا لنفسية أهليها من أنصاف البرابرة الخاضعين لقوانينها. والواقع أن تركية وُفِّقَتْ لإقامة سلمٍ تامٍّ بين أممٍ لم تحلم في الماضي بغير تذابُحها وسلب بعضها بعضًا.

ولا جدال في هذه النتيجة، بَيْدَ أنه كان يساور سياسيِّي أوربة الذين استحوَذَ عليهم تخاصُم الصليب والهلال التقليدي من حيث لا يشعرون، خيالُ نزع بعض الولايات من تركية على الدوام، وهكذا قبضت النمسة على البوسنة وقبضت إنكلترة على قبرس، إلخ، وقد أصبحت ولاياتٌ أخرى كبلغارية وصربية على الخصوص مستقلةً.

واتبعت هذه الدول الجديدة عادة أهل البلقان، فلم تلبث أن اشتبكت في صراعٍ مع جاراتها، وكان أقلُّ هذه الدويلات أهميةً يحاول نَيْل عون دولة كبيرة. ومن ذلك أن صربية وضعت نفسها تحت حماية روسية، فرأت هذه الدولة نفسها مُلزمةً بتأييد تلك في نزاعها مع النمسة، وهنالك اشتعلت الحرب التي لم يكن أحدٌ ليتمثَّل بها استمرار الترك على الحكم في البلقان.

إذن فقد انتهى سياسيُّو أوربة إلى النتيجتين الآتيتين بنزعهم من تركية ولاياتها بالتدريج: (١) انفجار الحرب الطاحنة المخربة لأوربة. (٢) توقُّع نشوب منازعاتٍ جديدة بين دويلات البلقان التي أُقيمَتْ على حساب تركية، والتي هي من العجز التام ما لا تسود معه سلمٌ كانت تتمتع بمثله أيام الحكم العثماني.

وقد استمرت أوهام أقطاب الدول السياسية حيال تركية على ما كانت عليه قبل السلم، وقد أمل وزير إنكليزي بالغ القدرة أن يُطْرَد المسلمون من أوربة نهائيًّا، فأغرى بهم الأغارقة الذين كانوا يحتلون إزمير، فلما أبصرت تركية ما يَحيق بها من خطر المحو من خريطة العالم السياسية جمعت ما بقي عندها من الكتائب، وانتهت بعد قتال المستميت إلى طرد بُغاة اليونان من أرَاضيها على الرغم من كثرة عددهم.

وقد تُوِّجَ هذا النصر الباهر بمعاهدة لوزان المُخزية لأوربة كثيرًا، والواقع أن هذه المعاهدة أباحت للترك أن يُخرجوا الأجانب من جميع المراكز التي يَشغلونها في الإدارة العثمانية، وأنها حرمتهم امتيازاتهم الأجنبية التي هي نتيجة عمل قرونٍ كثيرة، وهكذا تغدو إستنبول مدينة تركية حصرًا، مع أنها عادت لا تكون كذلك منذ زمنٍ طويل.

ومن ثَمَّ ترى أن أوهام الوزير الإنكليزي السياسية أدَّتْ من حيث النتيجة إلى منح تركية — هذا البلد الذي قُهِرَ في الحرب العظمى — مركزًا ممتازًا ما كان ليناله من حلفائه الجِرمان لو خرج هؤلاء من هذه الحرب غالبين.

وتدلُّ الأمثلة السابقة دلالة واضحة على أن المدافع إذا كانت تُمَثِّلُ دورًا عظيمًا في حياة الأمم فإن من الممكن أن يغدو دور الأوهام السياسية أكبر من ذلك أيضًا، فتأثيرها الدائم من أكثر ما تُحقِّقه فلسفة التاريخ وقفًا للنظر.

•••

ويتجلَّى اصطراع الأوهام السياسية أيضًا في النزاع بين الأُمميَّة والقومية، وفكرة الوطن التي تُشتقُّ منها.

تَنِمُّ الأممية التي يحلم الطاغية الأحمر بنشرها في العالم بأسره على خطأٍ فاحشٍ في علم النفس، فضلًا عن الوهم السياسي نظرًا إلى التبايُن العميق في مزاج مختلف الأمم النفسي.

وعلى العكس، تبدو القومية التي هي نتيجة ما للأموات من سلطانٍ قويٍّ على الأحياء، آخر عنصرٍ قادر على حفظ حياة الأمة، فإذا ما قهرتها الأممية حُكِمَ على المجتمع الذي تكون القومية قد أُصيبَتْ في صميمه بمثل ذلك الحبوط بالزوال من فوره، ولم يحدث قطُّ أن كان لحب الإنسانية في الأمة من القوة مثل ما يمنحه حب الوطن.

ولا ريب في أن الاشتراكيين الأُمميِّين يقولون موكِّدين للعامل إن وطنه الحقيقي هو طبقته، وإن أفراد الطبقة نفسها إذا كانوا ذوي مصالح واحدةٍ في مختلف البلدان فإن من الواجب أن يتحدوا فيما بينهم غير مبالين بالحدود التي تفصل بعضهم عن بعض، ومع ذلك يكفي أن يُواجَه بين ممثلي ذات الطبقة في مؤتمرٍ، ولكن على أن يكون هؤلاء الممثلون من أممٍ مختلفة ليُرى مقدار ما يفصل بينهم من تباينٍ عِرقي، ولسرعان ما يقضي تبايُن المشاعر والأفكار هذا على المنافع المشتركة، فلا يُعَتِّمُ أولئك أن يتباغضوا كثيرًا عن عدم تفاهمٍ.

وإذا كان قد أمكن مجتمعنا أن يدوم على الرغم من الفوضى الغارق فيها؛ فذلك لأن عوامل الماضي تُمسِك كيان المجتمع القديم على الدوام.

•••

وتدلُّ هذه النظرة الخاطفة في حياة الأمم على أن الأوهام ما انفكَّتْ تُمَثِّلُ دورًا بالغ الأهميَّة في التطوُّر الحديث كما في الماضي، وما فتِئَتْ هذه الملكة الحقيقية للتاريخ، والمسيطرة على الأفكار والعزائم تسود العالم.

وتقوم دراسة الماضي خاصةً على تفسير الأوهام التي ساسَت الأمم، وعلى نتائج مصارعتها للضرورات التابعة لطبيعة الأمور لا لإرادة الرجال.

١  Diplomatiques.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤