الفصل الثالث

اصطراع المبادئ الحديثة في المساواة وزيادة التفاوُت في الذكاء

تُعَدُّ الحاجة إلى المساواة من مميزات الزمن الحاضر، والحقيقة هي أن هذه الحاجة قديمةٌ قِدَم العالم.

وتجد هذه الحاجة باديةً منذ فجر التاريخ في قصة قتل هابيل من قِبَل قابيل الذي حَسَدَ أخاه على نصيبه، ثم تُعَدُّ الحاجة إلى المساواة أهمَّ سببٍ في سقوط أعظم الحضارات، ولا سيما حضارةُ اليونان والرومان.

واليوم تجد هذا الميل الأصيل إلى المساواة في نزاعٍ صريحٍ مع مقتضيات التطوُّر الحديث الذي يؤدي إلى تبايُن الناس بدلًا من تساويهم.

وإذا كانت المساواة سُنَّة الأمم الابتدائية فإن التفاوُت نتيجةٌ لازمة لتقدُّم الحضارات، واليوم ترى مختلف طبقات الأمة عينِها على درجاتٍ بالغة التفاوت، والواقع أن المجتمع الحديث يتألف بسبب ارتقائه فقط من أُناسٍ يُذَكِّرون بالأدوار المتعاقبة التي جاوَزتها البشرية، وهي: زمن المغاور، والقرون الوسطى، وعصر النهضة، إلخ.

•••

ومهما تكن قيمة مبدأ المساواة النفسية فقد صار أساس النُّظُم الديموقراطية، وهو يُمثِّل دورًا عظيمًا في السياسة الحاضرة.

ولمَّا حلَّت النصرانية محل السلطة الرومانية قام الأمل في مساواةٍ سماوية مقام الحاجة إلى المساواة الدنيويَّة لبضعة قرون، وقد حوَّل الإيمان بهذه المساواة القادمة حياة الأمم في جميع القرون الوُسطى، ومع ذلك فقد ذَوَى هذا الإيمان بالتدريج، فلاح الصراع الأبديُّ بين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، وبين القادر ولعاجز، ذلك الصراع الذي هزَّ العالم كثيرًا.

وتُعَدُّ الثورة الفرنسية من أهم المحاولات التي بُذلَتْ للوصول إلى المساواة الاجتماعية التي سجَّلها التاريخ، وإذ لم يجرؤ نظريُّوها على الجدال في التفاوُت الطبيعي الواضح أمره فقد اكتفوا في البُداءة بتوكيدهم في «إعلان حقوق الإنسان لسنة ١٧٨٩»: «أن الناس يُولدون ويبقون أحرارًا متساوين في الحقوق.»

ولمَّا حلَّتْ سنة ١٧٩٣ تقدموا خطوةً إلى الأمام، فزعموا في تصريحٍ جديدٍ أذاعوه: «أن جميع الناس متساوون طبيعةً.»

وأخيرًا أُلقِيَ مبدأ المساواة في العالم فاستولى على النفوس شيئًا فشيئًا.

ومن بين الشعار الثوري: «الحرية والمساواة والإخاء» ترى مبدأ المساواة وحده هو الذي استمرَّ على النمو، ومبدأ الإخاء وإن حافظ على شيءٍ من النفوذ لم يلبث أن أضاع قوته، وقد داومت الأمم ورجال السياسة على امتداحه، مع أن تعاقُب الحروب الكثيرة دلَّهم على مَوطن الخطر في اعتقاده.

وأما الحرية فقد نزع تقدُّم الحضارة منها في كل يوم إمكان بقائها، فقد أُحيط الإنسان من مهده إلى لحده بشبكةٍ من الأنظمة والقهر والالتزامات تستعبده مقدارًا فمقدارًا، وكلُّ رفاهيةٍ أوجدتها الحضارة تؤدي إلى تعقيدٍ في الحياة جديد، ومن ثمَّ إلى تعبيدٍ جديد. وفي كل يومٍ تَعْظُمُ مجموعة النظم والقوانين التي تُعطِّل آخر ما بقي من قوة المبادرة، ومن شأن انتصار الاشتراكية الحكومية إزالة كل أثرٍ للحرية.

وفي اليوم الذي يُحَقَّقُ فيه الاشتراع الخيالي بأكداسٍ من القوانين والأناظيم، يظهر واضحًا ما بين مبدأ المساواة ومبدأ الحرية من تباينٍ عظيم.

•••

وما فَتِئَ مبدأ المساواة بين أفراد الأمة الواحدة وبين مختلف العروق أيضًا، يؤدي إلى كثيرٍ من الانقلابات.

فباسم هذا المبدأ على الخصوص اكتَوَت الولايات المتحدة بحرب الانفصال الأهلية التي اشتعلت لإلغاء الرق، وقد دامت هذه الحرب أربع سنين وكادت تقضي على تلك الجمهورية العظيمة، وفي ذلك الزمن البعيد قليلًا على الخصوص عُدَّتْ جميع العروق متساوية، ظلَّتْ الولايات المتحدة مُفَتَّحة الأبواب لأنواع المهاجرين، خلا الصينيِّين واليابانيِّين الذين يعملون راضين بأجورٍ أقلَّ من أجور العمال الأمريكيين، فيقومون بمزاحمة خطِرَة، لا لأنهم من عروقٍ متأخرة.

ومما ذكرت سابقًا أن مديري السياسة الأمريكية رجعوا اليوم عن مبدأ المساواة القديم بين الناس، فهم قد انتهوا إلى الاعتراف بان اختلاط العروق المتفاوتة، الذي لم تُدرِك أمريكة اللاتينية خَطَره بَعْدُ، كان مصيبةً على الأمة لتحديد مستواها في الحضارة حتمًا، واليوم إذ اعتُرف عن تجربةٍ بأن من المتعذر أن يُمَثَّل١ ملايين الزنوج الثلاثة عشر الذين يقيمون بالولايات المتحدة، فإنهم عُزلوا عن البِيض تمامًا.

•••

ومن الممتع كما هو واضحٌ أن تُعَيَّن الفروق التشريحية التي يُشتقُّ منها ما يَفصل بين الناس من تفاوتٍ نفسي، غير أن العلم لم يبلغ من التقدُّم ما يصل به إلى هذه المعرفة. ومع ذلك فإن من الثابت كما يظهر كون الذكاء في العالم الحيواني على نسبة ثِقَل الدماغ الموزون مباشرةً أو المستنبط من حجم الجمجمة، وهكذا قُضيَ بالبحث في أن نمو الذكاء في النوع البشري يكون على نسبة ثِقَل الدماغ.

وإذا أُهمل كثيرٌ من الشواذ لاح ثبوت هذه النسبة على العموم. وقد أُتيحَ لي سابقًا أن أقابل في متحف باريس بين مجموعةٍ من جماجم مشاهير الرجال، كبوالو ولافونتِن وديكارت، إلخ، فوجدتُ أن حجم دماغهم كان يختلف عن حجم دماغ الرجل المتوسط، كاختلاف دماغ هذا الأخير عن دماغ القرد الكبير.

وبين الملاحظات التشريحية الممتعة التي جمعتُها في مذكرةٍ خاصة يبدو الأمر الآتي الذي ألمعتُ إليه في غضون هذا الكتاب، وهو أن أفضلية أحد العروق الحقيقية تقوم على حيازته عددًا من أرباب الذكاء الرفيع لا تحوزه العروق الدنيا، ولو كُتب النصر للبلشفية في بلدٍ متمدن كبير فأدَّى ذلك إلى إهلاك جميع الأدمغة التي تجاوز المستوى المتوسط — كما وقع في روسية — لعاد هذا البلد إلى درجةٍ منحطَّةٍ من الحضارة في سنينٍ قليلة.

وليس مبدأ التفاوُت النفسي بين العروق الذي قال به الأنغلوسَكْسُون هو ما عليه الأمم اللاتينية مطلقًا.

وفي أمر هذا التفاوُت بين مختلف العروق أثبتت المشاهدة إثباتًا كافيًا كون كثيرٍ منها — كالزنوج والبوروج (الحمر)، إلخ — لا يستطيع أن يُجاوِز مستوًى مُعَيَّنًا من الثقافة، ويساعد انحطاط جمهورية هايتي التي يسكنها الزنوج حصرًا على بيان كَون كلِّ عِرقٍ لا يقدر أن يبلغ غير درجةٍ من الحضارة مناسبةٍ لدماغه.

•••

وما انفكَّ شأن الذكاء يَعظُم بما أوجبته الحضارات الحديثة من تعقيدٍ في العلم والصناعة، وقد نشأ عن هذا وجود أهميةٍ للتفاوُت الذهني أعظم في الوقت الحاضر مما كان له بدرجات، وتصبح الفروق الدماغية بين الأفراد والعامل والمهندس، مثلًا، كبيرة ولا يمكن إلا أن تزيد، والحق أن المجتمعات تسيرُ نحو تفاوُتٍ متزايد على الرغم من فوزِ المبادئ الديموقراطية ظاهرًا.

وإذا كان هذا التفاوُت لا يبدو جليًّا بعدُ؛ فذلك لأن سلطان الجموع يُلقي وهمًا حول قدرتها.

ومبادئ المساواة لم تحوِّل السياسة الحديثة وحدها، بل تُغَيِّر نظريات التربية أيضًا، فبما أن التفاوُت بين أفراد البلد عينه لا ينشأ عند نظرية التربية إلا عن فروق التربية، فإنه يَكفي لبلوغ المساواة أن يُنعَم على جميع الأولاد بالتربية عينها، فمن مثل هذا الوهم خرج مبدأ المدرسة الواحدة.

وتكون ألمانية أقرب إلى الحقائق كأمريكة، فتُقْدِم بالعكس على تزويد الولد بتربيةٍ ملائمةٍ لأهليَّاته النفسيَّة.

وتنِمُّ مساواة النظريين الوهمية، التي يزعمون أنها تَرُدُّ جميع المواطنين إلى مستوًى واحد، على تهديدٍ بالانحطاط، لا على حالٍ تقدُّمي.

•••

وينطوي مبدأ المساواة البسيط نظريًّا على عناصر مُعَقَّدَةٍ ومتناقضةٍ أيضًا.

والواقع أن الحقائق المستترة تحت هذه الكلمة إذا ما حُلِّلَتْ أُبصر أن مبدأ المساواة يقترن باحتياجٍ شديدٍ إلى التفاوُت على العموم، فإرضاءُ هذا الميل المضاعَف من أعظم المصاعب التي تَقرَعُ الحكومات، ولم تمضِ أعوامٌ كثيرة بين الزمن الذي كان روبِسبِيِر يساوي فيه بين الناس تحت ساطور المِقصلة والزمن الذي أعادت الإمبراطورية فيه ألقاب الشرف.

وكان نابليون على علمٍ تامٍّ بحقيقة مبادئ المساواة، فقد قَبِلَ منه أصلب اليعاقبة عُودًا قبول فرحٍ بلغ درجة الهذيان، ألقابَ شرفٍ ازدَرَوْها أيَّما ازدراءٍ منذ بضع سنين، ولكن في الظاهر وفي أيامنا تُثبِتُ كثرة مُلتمسي أوضع الأوسمة التي هي وليدة التفاوُت، مقدار اقتران الحاجة إلى التفاوُت بالحاجة إلى المساواة.

وإذا كان حُماة مبدأ المساواة لا يُبصرون الحاجة إلى التفاوُت وراء أشواقهم إليه في كل وقتٍ، فإنهم يعتقونه مع ذلك عند النظر إلى جماعةٍ، فكلمة «دِكتاتورية الصعلكة» تنطوي بحكم الضرورة على تفاوُتٍ بالغٍ بين أفراد فريق الصعاليك ومن ليسوا منه.

والاشتراكية والشيوعية مدينتان بقوتهما لمبدأ المساواة، ومع ذلك فإن من الممكن ألا يكون مثل هذه القوة غير موقت؛ وذلك لأن المساواة، أي الحقد على الأفضليَّات، أي الهدف المشترك بين جميع الديموقراطيَّات، كان يؤدي بما لا مفرَّ منه، إلى نهاية هذه الديموقراطيَّات.

والعالم في حال الحضارات الحاضر بلغ من شدة التعقيد ما يحتفظ عدم القابلية معه بسلطانٍ مكتسب وقتيًّا، وهذا من الوضوح ما تُدركه عناصر الصعلكة المثقفة إدراكًا جيِّدًا، وكان من تعبير بعضهم عنه في الأسطُر الآتية بجلاءٍ ما أنقلها معه هنا أيضًا لسدادها، وإن كنتُ قد استشهدتُ بها في أحد كتبي:

مبادئكم خياليةٌ، فهي تمنح قوة الدولة القسرية ما لا تنطوي عليه من قيمةٍ إبداعية … لن تُخرِجوا مجتمعًا كاملًا بين عشيةٍ وضُحاها، ولن تُنْعِموا على العُمَّال بقدرةٍ على إدارة الإنتاج والمقايضة، أجل، ستكونون سادة الساعة، وستقبضون على جميع السلطة التي كانت بالأمس خاصةً بالبُرجوازية، وستُكدِّسُون مراسيم فوق مراسيم، ولكنكم لن تأتوا بالمعجزات، ولن تجعلوا من العمال أُناسًا قادرين على القيام مقام الرأسماليِّين بغتةً.

وعلى العموم عُدَّتْ أحزاب فرنسة الكبيرة مُواصِلَةً للثورة الفرنسية ومُلْهَمَةً من مبادئها. ومن دواعي الرثاء لها أن يُواصِل التطوُّر سيره ضمن معنًى مخالف لمبادئها في المساواة مخالَفَةً تامة.

١  Assimiler.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤